- ندوات تلفزيونية
- /
- ٠31برنامج الإيمان هو الخلق - قناة سوريا الفضائية
تقديم وترحيب :
أيها السادة المشاهدون ، سلام الله عليكم ورحمته وبركاته ، وأهلاً ومرحباً بكم في هذه الحلقة من برنامجكم الإيمان هو الخلق .
ويسعدنا أن نكمل مشوارنا وطريقنا معًا ، وأن نتفيّأ وإياكم في ظل العلم والإيمان بمعية الأستاذ الدكتور محمد راتب النابلسي ، أستاذ الإعجاز العلمي في القرآن والسنة في كليات الشريعة وأصول الدين في دمشق .
أهلاً وسهلاً بكم أستاذ .
بكم أستاذ علاء ، جزاكم الله خيراً .
الأستاذ علاء :
تذكير :
سيدي الكريم ، تحدثنا في حلقات سابقة ، وأنا في كل بداية حلقة أحاول أن أجمل بعض العناوين التي تحدثنا فيها منذ بداية هذا البرنامج ، تحدثنا عن مقومات التكليف ، وكانت على التوالي : الكون ـ العقل ـ الفطر ـ الشهوة ـ ثم الاختيار ـ فالشرع ـ فالوقت ـ .
1 – الشهوة :
وتوقفنا ملياً عند كل محطة حتى وصلنا عند الشهوة ، وأفردنا للشهوة أربع حلقات ، وذكرنا أن الشهوة كما تفضلتم هي قوة كامنة ، هذه القوة الكامنة إما أن ترفع بالمرء إلى المراتب العلية إذا استخدمت الاستخدام الصحيح والسليم .
إن قوة انفجار البنزين في المحرك إذا كان البنزينُ ضمن الأنابيب المخصصة ينتج عنها حركة السيارة ، وبالتالي ينتح عنها النقل والانتقال بشكل آنٍ ومريح ، ولو كان هذا الانفجار خارج أنابيب ، وخارج السرنديرات ، وخارج البسطونات إن صح التعبير ، وخارج المفحم السيارة لانقلب إلى حريق أحرق ، وكارثة ألمت وأخذت مَن حولها .
كذلك الشهوة عندما تنفجر دونما قيود ، ودونما ضوابط تجرف صاحبها ، وتنهي حياته ، وتنهي مكانته .
2 – العدالة:
وتحدثنا عن العدالة ، العدالة التي فيها الميزان والدقة والنظر للإنسان ، كيف أنها تذهب هذه العدالة ، وتسقط بتصرفات معينة ، فإما أن تخرم ، أو أن تخدش ، أو أن تجرح هذه العدالة بتصرفات ، فإذا ما انخلع عنها الإنسان ، أو تجنبها عادت العدالة إلى وضعها السوي .
لكن سيدي الكريم الآن ، إنسان آثر أن يتبع شهوته ، وآثر أن ينجرف وراءها ، وآثر أن يركض ، ويحلق وراء خيالاتها ، الله ماذا يفعل بالعبد إذا اختار هذا الطريق ؟
الدكتور راتب :
ما مصيرُ العبدِ إذا اختار طريق الانجراف مع الشهوة ؟!
بسم الله الرحمن الرحيم ، الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين .
1 – لم يُخلَق الإنسان من أجل العذاب :
أستاذ علاء ، بادئ ذي بدء : هناك وهم عند بعض الناس أن الله خلق الإنسان ليعذبه ، والحقيقة عكس ذلك الله عز وجل يقول :
﴿ وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى الْجَنَّةِ ﴾
خُلقنا للجنة ، خُلقنا ليرحمنا ، خُلقنا ليسعدنا ، لكن الذي يشقينا هو الجهل ، والجهل أعدا أعداء الإنسان ، والجاهل يفعل في نفسه ما لا يستطيع عدوه أن يفعله به .
الحقيقة أن الله عز وجل في بعض الآيات الكريمة قال :
﴿ إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ ﴾
خلقهم ليرحمهم ، والآية التي أمامنا :
﴿ وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى الْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ بِإِذْنِهِ وَيُبَيِّنُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ ﴾
وفي آية أخرى :
﴿ وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلَامِ ﴾
يدعوك الله إلى سلام مع نفسك ، وإلى سلام مع من حولك ، وإلى سلام مع ربك ،
﴿ وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلَامِ ﴾
﴿ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ﴾
والإنسان مخير ، إذاً : الأصل أن الإنسان مخلوق للسعادة في الدنيا والآخرة .
﴿ وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ ﴾
﴿ مَا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ ﴾
العذاب غير مقصود ، تماماً لو أسسنا مدرسة رائعة جداً ، فيها كل الوسائل الفعالة ، أما حينما يقصر الطالب ، وحينما لا يؤدي واجباته يعاقب ، فإذا قال هذا الطالب الغبي : إن هذا البناء أنشئ كي يعذلنا ، هو أُنشئ كي يخرج قادة للأمة ، كي يتعلم الطالب ، كي يتربى كي يتهذب .
إذاً : القصد من خلق الإنسان إسعاده ، الأصل السعادة ، والعذاب طارئ ، طارئ وعلاج مؤقت .
2 – خيار الإنسان مع الإيمان خيارُ وقتٍ :
كما تفضلتم قبل قليل ، لو أن الإنسان آثر شهوته ، لكن قبل أن نتابع هذا الموضوع هناك موضوع دقيق جداً ، نحن بعد حين سوف نصل إلى أن الإنسان مخير ، لكن أؤكد لك أستاذ علاء وللإخوة المشاهدين أن الإنسان مخير في ملايين الموضوعات خيار قبول أو رفض ، قد تعرض عليه تجارة فلا يرى منها جدوى كبير ، فيخطب فتاةً فلا تعجبه أخلاقها قد يرى بيتاً يراه ضيقاً ، وبمنطقة ليست جيدة ، وسعره غالي ، أنت مع مليون موضوع في الحياة معك خيار قبول أو رفض ، إلا مع الإيمان الخيار خيار وقت ، خيار الإنسان كما هو على الشاشة مع الإيمان خيار وقت ليس غير ، فإما أن تؤمن في الوقت المناسب ، وتنتفع بإيمانك ، فتسلم وتسعد في الدنيا والآخرة ، وإما أن تؤمن بعد فوات الأوان ، عندئذٍ :
﴿ لَا يَنْفَعُ نَفْساً إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْراً قُلِ انْتَظِرُوا إِنَّا مُنْتَظِرُونَ ﴾
أنا مؤمن أشد الإيمان أن كل إنسان حينما يأتيه ملك الموت يكشف الحقائق التي جاء بها الأنبياء عبر التاريخ .
﴿ فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ ﴾
فرعونُ صورةٌ من واقع الإيمان بعد فوات الأوان :
الحقيقة تكشف للجميع ، ولكن بعد فوات الأوان ، وأكبر دليل على ذلك فرعون ، وهذه صورته على الشاشة ، هذا أكفر كفار الأرض ، الذي قال :
﴿ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى ﴾
والذي قال :
﴿ مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي ﴾
والذي قتل أبناء بني إسرائيل ، واستحي نساءهم ، وفعل ما فعل ، وظلم ، وتجبر .
وبالمناسبة : ولكل عصر فرعون ، هذا فرعون حينما أدركه الغرق ماذا قال ؟ الآية :
﴿ وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ بَغْياً وَعَدْواً حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ ﴾
فرعون أسلم ، لكن بعد فوات الأوان ، الله عز وجل قال :
﴿ آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ * فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً ﴾
أستاذ علاء ، رجل من كبار علماء الرياضيات في أمريكا ، اسمه جفري لانك ، أستاذ رياضيات في جامعة سان فرانسيسكو ، والقصة ذكرتها مختصرة سابقاً ، جاءته فتاة شرق أوسطية محجبة حجابا كاملا ، وتحضّر دكتوراه في الرياضيات ، أرسلها إليه أستاذه في قضية عويصة في الرياضيات ، يقول جفري لانك : لما نظرت إلى هذه الفتاة شعرت أنها قديسة ، لأنها محجبة ، ونساء أمريكا في الصيف شبه عرايا ، قدرت علمها ، وقدرت عقيدتها ، ودون أن أشعر وجدت نفسي أني بحاجة أن أقدم إليها أي خدمة ، وله كلمة رائعة : ولم أجرؤ أن أحدق في وجهها ، وعكفت من توي على قراءة القرآن ، قرأ القرآن ، وصل إلى آية ، وكأنه عثر على خطيئة في هذا الكتاب السماوي هي الآية التالية:
﴿ فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً ﴾
له صديق حميم اسمه موريس بوكاي ، وله مشرحة في باريس اتصل به ، وقد ألف كتاب حول تطابق العلم مع الكتب المقدسة ، على كلٍ قال له : كيف يقول القرآن :
﴿ فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ ﴾
وقد غرق ؟ فقال له ، وكأنها صاعقة نزلت على رأسه ، قال له : فرعون الذي جاء ذكره في القرآن رممت جثته بيدي ، في مشرحة باريس ، وسوف نري الإخوة الكرام مرة ثانية صورة فرعون ، هذا فرعون هو الذي غرق ، وآثار الملح في فمه ، ورممه موريس بوكاي مدير مشرحة باريس ، الله عز وجل قال :
﴿ فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً ﴾
وعندما أدركه الغرق قال :
﴿ قَالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنْ الْمُسْلِمِينَ ﴾
الله أجابه فقال :
﴿ أَالْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ ﴾
أي الإيمان الآن لا ينفعك .
إذاً : أنا أريد أن أقول خيار الإنسان مع الإيمان ليس خيار قبول أن رفض ، كأي شيء آخر ، خيار الإنسان مع الإيمان خيار وقت فقط .
الأستاذ علاء :
من هنا نتبين حديث النبي عليه الصلاة والسلام :
(( ما لم يغرغر ))
فإما أن يؤمن في الوقت المناسب ، وينتفع بإيمانه ، وإما أن يؤمن بعد فوات الأوان ، الإيمان حاصل ،
﴿ فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ ﴾
الآن نعود إلى موضوع هذا اللقاء الطيب .
مثلما قالت العرب : لات ساعة مندم ، يعني الندم لم يعد ينفع ، والإيمان في هذا الوضع في هذا الوقت لم يعد ينفع .
الدكتور راتب :
ولات ساعة مندَم :
لي تعليق بهذه المناسبة :
الإنسان أحياناً يرتكب جريمة قتل ، ويحال إلى المحكمة ، محكمة الجزاء تصدر قرارا بإعدامه ، القرار يرفع إلى محكمة النقض ، يصدق ، يرفع إلى رئاسة الجمهورية ، يصدق ، يحدد يوم لإعدامه ، يساق إلى المشنقة ، هذا الإنسان وصل إلى طريق مسدود ، له أن يبكي ، وله أن يضحك ، وله أن يتماسك ، وله أن يترجى ، وله ألا يرجو أحداً ، مهما فعل فلا بد من أن يعدم ، فقد وصل إلى طريق مسدود ، لذلك لا يفيد لا الألم ، ولا الحزن ، ولا التجلي ، ولا الأكل ، ولا الضحك الهستيري ، أي شيء يفعله لا بد من أن يُعدم ، يعني وصل إلى طريق مسدود .
التوبةَ التوْبةَ قبل فوات الأوان :
أنا الذي أتمناه على كل أخ كريم ألا يصل مع الله إلى طريق مسدود ، ما دام القلب ينبض فالأمل كبير .
عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ : سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ : قَالَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى :
(( يَا ابْنَ آدَمَ ، إِنَّكَ مَا دَعَوْتَنِي ، وَرَجَوْتَنِي غَفَرْتُ لَكَ عَلَى مَا كَانَ فِيكَ وَلَا أُبَالِي ، يَا ابْنَ آدَمَ ، لَوْ بَلَغَتْ ذُنُوبُكَ عَنَانَ السَّمَاءِ ، ثُمَّ اسْتَغْفَرْتَنِي غَفَرْتُ لَكَ وَلَا أُبَالِي ، يَا ابْنَ آدَمَ ، إِنَّكَ لَوْ أَتَيْتَنِي بِقُرَابِ الْأَرْضِ خَطَايَا ، ثُمَّ لَقِيتَنِي لَا تُشْرِكُ بِي شَيْئًا لَأَتَيْتُكَ بِقُرَابِهَا مَغْفِرَةً ))
﴿ قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً ﴾
(( لله أفرح بتوبة عبده من العقيم الوالد ، ومن الضال الواجد ، ومن الظمآن الوارد ))
﴿ وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ ﴾
﴿ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ ﴾
بل إنّ أبلغ صورة للتائب هذا الأعرابي الذي ركب ناقته يقطع بها الصحراء ، وعلى ناقته طعامه وشرابه ، جلس ليستريح ، فأخذته سنة من النوم ، استيقظ فلم يرَ الناقة ، فأيقن بالموت المحقق ، وبكى ، وبكى ، وبكى ، حتى نام ثانية ، فأفاق فرأى الناقة أمامه فاختل توازنه ، قال : يا رب أنا ربك ، وأنت عبدي ، علق النبي على هذه الكلمة قال : لله أفرح بتوبة عبده من ذلك البدوي بناقته .
إذا رجع العبد العاصي إلى الله نادى منادٍ في السماوات والأرض ، أن هنئوا فلاناً فقد اصطلح مع الله .
إذا رجع العبد إلى الله قبل الله توبة ، وأنسى حافظيه ، وبقاع الأرض كلها خطاياه وذنوبه ، التائب حبيب الله ، ما دام القلب ينبض ، فإذا توقف القلب أغلق باب التوبة ، عندئذٍ كفرعون ،
﴿ أَالْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ ﴾
﴿ فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً ﴾
والله مرة قرأت أدعية أربعة في كتاب تركت في نفسي أثراً كبيراً :
اللهم إني أعوذ بك أن أكون عبرة لأحد من خلقك .
اللهم إني أعوذ بك أن أتزين بشيء يشينني عندك .
اللهم إني أعوذ أن أقول قولاً فيه رضاك ألتمس به أحد سواك .
اللهم أعوذ بك أن يكون أحد أسعد مما علمتني مني .
أي أنا أعلم الناس ، أوضح ، أبين ، أحلل ، أعمق ، ولا أطبق ، ويأتي من طبق ، وسمع يسبقني يوم القيامة ، أن يكون أحد أسعد بما علمتني مني .
لذلك الدعاء المناسب : اللهم إني أعوذ بك أن أكون عبرة لأحد من خلقك .
الإنسان إما أن يستجيب ، وكأنه جالس في مقعد في مسرحية ، يرى على خشبة المسرح ما يرى ، أما إن لم يستجب فلا بد من أن يجر إلى خشبة المسرح ، وتكون له مشكلة كبيرة ، ويكون عبرة للمشاهدين ، نسأل الله أن يكون لنا مقعد مع المشاهدين فقط ، لا أن نجر إلى خشبة المسرح .
الأستاذ علاء :
الآن سيدي الكريم ، كما تفضلت الإنسان آثر الشهوة ، والله عز وجل له طريقة في التعامل مع هذا الإنسان ، كما قلت بأن مسألة ملايين القضايا للإنسان له أن يقبل ، أو أن يرفض ، إلا مسألة الإيمان فهي مسألة وقتية ، إما أن يقبلها في الوقت المناسب ، وإما أن يجيء بها بعد فوات الأوان .
الدكتور راتب :
الرافضُ للإيمان يحتقر نفسَه ، وينزل بها عن مستوى البهيمة :
هنا تعليق آخر ، التعليق الآخر : أنت حينما ترفض شيئاً ترفضه احتقاراً ، قد ترفض عملا ، تجارة ، سفرا ، زواجا ، تحتقر هذا الذي عُرض عليك ، إلا مع الإيمان حينما ترفض الإيمان ، أو حينما يرفض الإنسان الإيمان ، إنما يحتقر نفسه .
﴿ وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ ﴾
لكن الإنسان حينما يرفض أن يؤمن بخالقه ، وأن ينصاع لمنهجه ، وأن يسلم بطاعته ، وأن يسعد بقربه ، حينما يرفض هذا هبط مستواه عن مستوى يليق به ، أصبح كالدابة ، إنهم :
﴿ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ ﴾
﴿ مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَاراً ﴾
﴿ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ ﴾
﴿ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ ﴾
﴿ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ ﴾
الإنسان إذا لم يبحث عن ربه ، وعن منهج ربه ، ولن يتقرب إلى ربه ، هبط عن مستوى إنسانيته ، لذلك ركب الإنسان من عقل وشهوة ، ركب الملَك من عقل بلا شهوة ، وركب الحيوان من شهوة بلا عقل ، والإنسان ركب من كليهما ، فإن سما عقله على شهوته أصبح فوق الملائكة ، وإن سمت شهوته على عقله أصبح دون الحيوان .
كيف يعالج الله من آثر الشهوة الحرام ؟!
الآن أستاذ علاء ، الإنسان آثر الشهوة ، ولم يعبأ بمنهج الله ، بل آثر الجانب المحرم منها ، لأنه ليس في الإسلام حرمان إطلاقاً ، في الإسلام تنظيم ، وما من شهوة أودعها الله في الإنسان إلا وجعل لها قناة نظيفة تسري خلالها ، لكنه آثر الشهوة ، فكيف يعالجه الله عز وجل ، الله عز وجل لطيف ، ورحيم .
المرحلة الأولى : الهداية البيانية :
أول مرحلة يخضع لها الهداية البيانية ، أنت صحيح ، معافى ، قوي ، شاب ، لك زوجة ، أولاد ، تستمع إلى خطبة في مسجد ، إلى ندوة في التلفزيون ، تقرأ كتابًا ، تسمع شريطًا ، تتابع مناظرة ، الدعوة البيانية تكفل الله بها .
﴿ إِنَّ عَلَيْنَا لَلْهُدَى ﴾
وحيثما جاءت كلمة ( على )مع لفظ الجلالة تعني الإلزام الذاتي ،
﴿ إِنَّ عَلَيْنَا لَلْهُدَى ﴾
بل لئلا نقلق على أحد يقول الله عز وجل مطمئناً لنا :
﴿ وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْراً لَأَسْمَعَهُمْ ﴾
لو في الإنسان واحد بالمليار من الخير لأسمعه الحق ، هذا تكفل الله به ، هذا هو الإلزام الذاتي ،
﴿ إِنَّ عَلَيْنَا لَلْهُدَى ﴾
﴿ وَعَلَى اللَّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ ﴾
الله عز وجل تولى هداية الخلق ، المنهج أمامنا الكون يدله على الله ، والقرآن يدله على الله ، والأحداث تدله على الله ، والتربية النفسية كذلك ، الله أرسل أنبياء ، وبعث مرسلين ، وأنزل كتبًا ، وهناك دعاة ، الهدى مبذول ، هناك من يقول : حتى يهديني الله ، الله عز وجل هداك ، وانتهى الأمر ، عليك أن تستقبل هذا البث من جهاز الاستقبال ، البث قائم ، الهداية قائمة ، فلو أن إنسانا آثر شهوته ، ولم يعبأ بمنهج ربه عالجه الله بالهداية البيانية .
الآن مع مثل دقيق جداً :
أنت مدير شركة ، وعندك رغبة أن تعين موظفًا ، تعلن في الصحف عن حاجتك إلى موظف ، تختار واحدًا من هؤلاء ، تخضعه للتجريب ستة أشهر ، دور مدير المؤسسة أن يحصي على هذا الموظف الجديد أخطاءه فقط ، تأخر ، فعل ، لكن لو أن ابنك أمامه فهذا موضوع آخر ، قلب ، رحمه ، تتابعه على كل خطأ ، أول خطأ يرتكبه ، تعال يا بني ، هذا خطأ صوابه كذا ، الرحمة تقتضي التربية ، كنظام مؤسسة ، فيها تجريب ستة أشهر ، إنْ كانت أخطاءه كثيرة صرفناه ، أما إن كان هذا الموظف ابنك فأنت حريص على نجاحه في العمل .
هذا موضوع متابعة ، الله عز وجل رحيم بنا ، إن اتخذنا قراراً سليماً لمصلحتنا ، ولمصلحة مستقبلنا الأخروي ، الله عز وجل ملء قلبنا انشراحاً .
﴿ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَان وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ ﴾
وإذا اتخذ الإنسان قراراً خاطئاً تأتي معالجة الله عز وجل ، المعالجة تأتي بهذه الآية :
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ ﴾
في قرآنه .
﴿ وَلِلرَّسُولِ ﴾
في سنته .
﴿ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ ﴾
يعني إذا دعاكم إلى الحياة التي تليق بكم ، إلى الحياة التي خلقتم من أجلها ، إلى حياة القيم ، إلى حياة القلب ، إلى حياة الاتصال بالله ، إلى حياة البطولة ، إلى حياة التضحية ، إلى حياة أن تكون علماً من أعلام الدين ،
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ ﴾
الآن :
﴿ فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ ﴾
أنت على خطيين لا ثالث لهما ، إما أن تستجيب لله عز وجل ، وإما أن يستجيب الإنسان لهواه ، عقل وشهوة ، مبدأ وشهوة ، هدف بعيد ، ومغنم قريب ، هذه هو الخيار الصعب للإنسان ، فحينما يختار هدفاً بعيدا ، ويختار السعادة الأبدية يفلح .
تماماً كالطالب بين أن يلعب مع أصدقائه وبين أن يدرس ، الدراسة متعبة جداً ، لكن أمامه مستقبل ، قد يكون طبيباً ، مهندساً بعمل متألق ، يشتري بيتًا ، يتزوج ، يقتني مركبة ، فهو حينما يقبل على الدراسة بذهنه تكون هذه النتائج الطيبة .
مرة سألوا طالبًا حقق الدرجة الأولى في الثانوية في الفرع العلمي ، سأله المحاور بالصحيفة : ما سر نجاحك ؟ قال : لأن ساعة الامتحان لم تغادر مخيلتي ولا ثانية ، إذاً :
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ ﴾
هذه المرحلة مرحلة الهدى البياني ، وأنت صحيح معافى ، تحتاج إلى أن تستجيب لله عز وجل ، وسوف نكمل هذه في الحلقة القادمة إن شاء الله .
الأستاذ علاء :
بقي في محطتنا المحطة العلمية ، ماذا اخترت لنا سيدي اليوم ؟
الدكتور راتب :
خَلْقُ الإنسان : مع البويضة والنطفة :
نحن اخترنا ( فيلماً )تصويرا لخلق الإنسان ، هذا يحتاج إلى خمس حلقات ، عرضنا حلقتين في اللقاء السابق ، في النهاية تستطيع مئات النطف الوصول إلى البويضة ، غير أنه لم ينتهِ السباق حتى الآن ، فلا تقبل البويضة إلا نطفة واحدة فقط ، ولهذا يبدأ السباق الجديد .
عائقان أمام النطفة وطريقُ اجتيازهما بسلام :
هناك عائقان مهمان جداً أمام النطف :
العائق الأول : الطبقة الحامية التي أشير لها .
والعائق الثاني : القشرة المتينة للبويضة .
خُلق في النطفة أنظمة خاصة لاجتياز هذين العائقين ، فهناك الأسلحة المخفية التي خبأتها النطف تحت طرف الدرع الصلب وقد ظهرت إلى هذه اللحظة ، إنها أكياس الأنزيم المذوبة ، هذه الأكياس ستثقب العائق الأول التي على أطراف الأول ، أي الطبقة الحامية لإذابتها ، فعندما تجتاز النطفة هذه الطبقة ، وتتقدم فيها يتآكل درعها شيئاً فشيئاً كما يرى ، ثم يتفتت ويتبعثر ، إما تفتت الدرع ، هذا هو جزء من الخطة الكاملة الواجبة التنفيذ ، لأنه بفضل هذا التفتت ستبدأ أكياس الأنزيم الثانية الموجودة داخل النطفة للظهور ، وهذا يؤمّن اجتياز آخر عائق يواجه النطفة ، ألا وهو ثقب قشرة البويضة ، هذه الصورة أخذت من مجهر إلكتروني .
والآن تشاهدون هذه الأحداث من خلال صور الملتقطة على المجهر الإلكتروني ، فللنطفة درع أحمر يذوب تدريجياً ، وتجتاز النطفة قشرة البويضة إلى الداخل ، اتحاد النطفة والبويضة غير محصور بهذا فقط ، ففي لحظة وصول النطفة إلى قشرة البويضة تتحقق معجزة أخرى ، فجأة تدخل النطفة بنفسها تاركة وراءها ذيلها الذي أوصلها إلى هنا ، وهذا مهم جداً ، لأنها إن لم تقم النطفة بهذا العمل فيدخل الذيل المتحرك إلى خلية البويضة كما نرى ويخربها .
إن تخلي النطفة عن ذيلها يشبه عمليات مكوك الفضاء ، والصاروخ الدافع له ، حيث يتخلى المكوك عن المحركات ، وخزانات الوقود والطاقة ، عندها لم يكن لها حاجة في أثناء انفصاله عن الغلاف الجوي ، الذي يجري في الفضاء تماماً يجري في هذه النطفة حينما تدع ذيلها وتدخل .
كيف تكون نطفة صغيرة بهذا الحساب الدقيق كله ، بقيام النطفة بهذا الحساب عليها أن تعرف أنها وصلت إلى آخر الطريق ، وأنها لم تعد بحاجة إلى الذيل بعد الآن ، غير أن النطفة جهاز بيولوجي لا تشعر بما حولها ، ولا تملك أي عقل أو أي علم ، الخالق سبحانه وتعالى نسق فيها أيضاً نظاماً دقيقاً يحقق انعزال الذيل عنها في الوقت الصحيح والمناسب ، تقوم النطفة التي تركت ذيلها خارجاً بثقب البويضة ، وتصنع فيها الصبغيات من خلال ذلك الثقب .
هكذا يتم المعلومات الوراثية ، ونتيجة عمل مئات الأنظمة المختلفة المستقلة بعضها عن بعض بنظام متناسق ، تم إيصال المعلومة الوراثية العائدة لجسم الرجل إلى البويضة في جسم المرأة ، وكما نرى لا مكان لأية مصادفة في اتحاد النطفة مع البويضة ، بل تحقق ذلك بفضل تصميم وخطة كافيتين ، هذه الحوادث التي تحققت دون أن يدركها الإنسان ، وهذا الدقيق لكل مرحلة من هذه المراحل ، إنما هي دلائل واضحة على عظمة الله جل جلاله .
وفي كل شيء له آية تدل على أنه واحد
***
ولهذا الموضوع متابعات إن شاء الله في حلقات قادمة .
الأستاذ علاء :
خاتمة وتوديع :
لا يسعنا أعزائي المشاهدين إلا أن نشكر الأستاذ الدكتور محمد راتب النابلسي ، أستاذ الإعجاز العلمي في القرآن والسنة في كليات الشريعة وأصول الدين في دمشق .
شكراً لكل ما شرحت ، ولكل هذه الإيضاحات ، نعد السادة المشاهدين بأننا سنكمل إن شاء الله في الحلقات القادمة ، إلى اللقاء دكتور .