- الفقه الإسلامي
- /
- ٠3موضوعات متفرقة
الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على سيدنا محمد ، الصادق الوعد الأمين ، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا ، إنك أنت العليم الحكيم ، اللهم علمنا ما ينفعنا ، وانفعنا بما علمتنا وزدنا علماً ، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه ، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه ، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه ، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين .
آداب المتعلم :
1 ـ تطهير القلب :
درسنا اليوم في عرض وشرح بعض الفصول المختارة من إحياء علوم الدين ، ونحن في باب العلم ، تحدثنا عن فضيلة العلم ، وعن فضل العلم ، وعن فضل التعلُّم ، وعن فضل التعليم في الدروس الثلاثة السابقة . وفي الدرس الماضي تحدثنا عن آداب المتعلِّم ، وكان أول هذه الآداب تطهير القلب .
والأدب الثاني ، وقبل أن ننتقل إلى الأدب الثاني من آداب المتعلِّم يقول الغزالي : " إني أرى جماعةً من العلماء الفقهاء المحققين برزوا في الفروع والأصول - أي في فروع الفقه وفي أصوله - وعدّوا من جملة الفحول ، وأخلاقهم ذميمة لم يتطهَّروا منها ، فيقال : إذا عرفت مراتب العلوم ، وعرفت علم الآخرة ، استبان لك أن ما اشتغلوا به قليل الغناء من حيث كونه علماً ، وأما غناؤه من حيث كونه عملاً لله تعالى إذا قُصد به التقرُّب إلى الله تعالى ، لقد سبقت إلى هذا إشارة ، وسيأتيك فيه مزيدٌ وبيانٌ ، وإيضاحٌ إن شاء الله تعالى " هذا رأيٌ صائب ، لو أن الإنسان تعمَّق في الأصول والفروع ، وبرَّز فيها يعد عند الناس من جملة الفحول ، ولم يطهر قلبه من الأخلاق الذميمة ؛ من الحسد ، والعُجب ، والكبر ، والاستعلاء ، وتضخم الذَّات ، إن هذا الذي حصَّل تلك الفروع ، وهاتيك الأصول ، وبرع فيها وتعمق ، ووصل إلى أدق الجزئيات، وحفظ ، واستعلى ، ولم ينظر إلى قلبه ليطهره ، إن هذا لا ينفعه شيء في الآخرة ، كما لو أن إنساناً اختصَّ في اختصاصٍ معيَّن وبرع فيه ، اختص في الطب مثلاً ، في الحقوق ، في الآداب ، وصار له مؤلَّفات كبيرة جداً ، وصار اسمه شائعاً على الألسن ، ولم يطهر قلبه ، ولم يعرف ربه ، فإن هذا كله لا يجديه شيئاً .
إذاً هذا العلم الشريف يحتاج إلى تطهير قلب حتى يغدو شريفاً .
2 ـ أن يقلل طالب العلم علائقه من الاشتغال بالدنيا :
الوظيفة الثانية : يقول الإمام الغزالي : " أن يقلل طالب العلم علائقه من الاشتغال بالدنيا "
العارفون بالله لهم عبارات ثابتة : " العلائق عوائق " . أي إنسان لا يوجد عنده وقت ، داخل في خمسين مشروعاً ، وعنده خمس أو ست شركات ، ومشغول من الصباح إلى المساء لو كان هذا الإنسان طيباً ، لو كان فيه خير ، لو كان عنده استعداد ، لكن لا يوجد لديه وقت . الآن إذا إنسان أراد أن يصبح طبيباً غير معقول أن يكون موظَّفاً ، إذا كان موظفاً دوانه من الساعة الثامنة إلى الساعة الثانية والنصف ، فيصل إلى البيت الساعة الثالثة والنصف منته، يريد أن يأكل للرابعة والنصف ، يرتاح ساعتين ، انتهى النهار ، لو عنده رغبة جامحة أن يكون طبيباً ، هذه تحتاج إلى وقت ، و إلى أن يكون مثقَّفاً ثقافة عالية . فما لم يكن هناك وقت فراغٍ كافٍ لطلب العلم فالأمر مستحيل ، إذاً نحتاج إلى وقت فراغ .
وعندما يقتطع الإنسان من أثمن أوقاته وقتاً ليتعرَّف في هذا الوقت إلى الله عزَّ وجل لم يضع عليه شيءٌ في الدنيا ، هنا البطولة ، هنا يختلف المؤمن بالله عن المعتقد ، المعتقد لا تسخو نفسه أن يضيع هذا الوقت في طلب العلم ، المعتقد لا تسخو نفسه أن يمضي ساعتين في أيام المواسم ، يقول لك : بيع مثل النار ، أنا الآن أحتاج لساعة كي أصل ، والدرس ساعة ، وساعة لأرجع ، أكون بعت بخمسة آلاف ليرة في هذا الوقت . المعتقد لا تسخو نفسه أن يضيِّع وقتاً من أوقاته في طلب العلم ، لكن المؤمن إيماناً صحيحاً يرى أن العبد إذا ضيَّع من وقته ، أو إذا استهلك من وقته وقتاً لمعرفة الله عزَّ وجل ، فالله سبحانه وتعالى لابدَّ من أن يعطيه الدنيا قبل الآخرة :
(( مَنْ شَغَلَهُ الْقُرْآنُ وَذِكْرِي عَنْ مَسْأَلَتِي أَعْطَيْتُهُ أَفْضَلَ مَا أُعْطِي السَّائِلِينَ ))
صاحب محل تجاري ، وفي منطقة حساسة ، وعليه إقبال شديد ، الظاهر أن صديقاً له قال له : ألا تحج يا رجل ؟ قال له : والله لا أستطيع أن أحج ، إذا حججت سيذهب كل زبائني ، لا أستطيع أن أغلق أربعين يوماً ، بلغني أن هذا الإنسان أصابه مرض عُضال ألزمه الفراش أربعة أشهر في البيت ، لهذه الكلمة التي قالها ، لا تستطيع أن تحج لكي لا يخف دخلك؟ أربعة أشهر ابتلاه الله بمرضٍ وهو يعلم أن فيه خيراً لعله يصحو . لذلك العلائق عوائق .
أول شيء ، طبعاً هذا الأدب له شطرين ، أول شطر تحتاج إلى وقت فراغ ، الشطر الثاني تحتاج إلى صفاء نفسي يعينك على فهم الحق ، لو إنسان مخاطر مخاطرات كثيرة في أعماله الشخصية ، ودائماً تحت ضغط أو قلق معيَّن ، هذا القلق المستمر ، وهذا الخوف ، وهذه المخاطرات لا تسمح له أن يستوعب العلم ، ولا تسمح له أن يتمثَّل العلم ، ولا تسمح له أن يتعمَّق في العلم .
من يقتطع من وقته وقتاً لمعرفة الله فالله يحفظه و يوفقه :
الإمام أبو حنيفة رضي الله عنه يقول : " والله لو كُلفت شراء بصلة ما تعلمت مسألة " . القصة أنه عندما توقن أنه يوجد إله رزاق ، وأنت الآن ستلتفت لمعرفته من أجل أن تنجو من عذابه يوم القيامة ، من أجل أن تسكن في جنةٍ عرضها السموات والأرض ، إذا كنت هكذا تفعل ، فإن الله سبحانه وتعالى سيرزقك أضعاف ما يرزق هذا الذي انقطع إلى الدنيا ، هذه البطولة ، هذا لا يعرفه إلا المؤمن ، أي أنه لا يضيع عليك شيء ، اجعل هذا الكلام في ذهنك:
(( مَنْ شَغَلَهُ الْقُرْآنُ وَذِكْرِي عَنْ مَسْأَلَتِي أَعْطَيْتُهُ أَفْضَلَ مَا أُعْطِي السَّائِلِينَ ))
أي إذا أنت استهلكت ساعة زمان لمعرفة الله ، يمكن أن يوفر الله عليك عشرات الساعات ، يمكن أن يُعطَّل شيء بآلة من آلات عملك تكلفك ثمانين ساعة ، لا يوجد من قطعها تذهب إلى بيروت ، تذهب إلى الأردن ، تذهب إلى هنا و هناك و لا يتجد ، يذهب وقتك ، وجهدك ، وأموالك ، وتستهلك زمناً طويلاً ، فلو أنت بذلت من وقتك الثمين وقتاً لمعرفة الله عزَّ وجل ، لا يضيع عليك شيء .
حتى أن بعض الفقهاء قال : " حضور مجالس العلم زكاةٌ للوقت " . إذا إنسان ابنه شرب دواء لا يأخذه إلا الكبار ، أخذه على مشفى الأطفال ، يحتاج إلى خمس أو ست ساعات مرافقة معه ، يقول لك : من الساعة العاشرة إلى الساعة الثانية مساء حتى انتهينا ، غسيل معدة وما شاكل ذلك ، خمس ساعات ، أي أن الله عزَّ وجل قادر بكل ثانية أن يُذهب لك مئة ساعة من وقتك ، مع الألم ، والانزعاج ، ودفع المال ، والترجي ، وبذل ماء الوجه ، فعندما يقتطع الإنسان من وقته الثمين وقتاً لمعرفة الله عزَّ وجل . .
﴿ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا﴾
أنت الآن بأعيننا ، فإنك بحفظنا وتوفيقنا . .
﴿ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ﴾
بهذا الموضوع القصص أكثر من أن تُحصى ، إذاً العلائق عوائق ، معنى العلائق عوائق أي تحتاج ..
﴿ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ﴾
إلى وقت فراغ ، وتحتاج إلى صفاء ، الاقتصاد في المعيشة خيرٌ من بعض التجارة، الكلام دقيق جداً ، لم يقل : خيرٌ من التجارة بل خيرٌ من بعض التجارة ، أي أن التجارة فيها قلق شديد ، فيها خوف ، فيها مخاطر ، والله إذا ضغط الإنسان مصروفه بحيث لا يضطر إلى هذه المخاطر ، وصار عنده صفاء ، فإذا قرأت قرآناً صباحاً ، واستوعبت على الله عزَّ وجل كلامه ، بسبب أنك صافي النفس ، والله هذا الصفاء لا يقدَّر بثمن ، كله ماض . .
(( وَهَلْ لَكَ يَا بْنَ آدَمَ مِنْ مَالِكَ إِلا مَا أَكَلْتَ فَأَفْنَيْتَ أَوْ لَبِسْتَ فَأَبْلَيْتَ أَوْ تَصَدَّقْتَ فَأَمْضَيْتَ ))
وما سوى ذلك ليس لك ، الذي لك المستهلكات ، أما الأرصدة فليست لك ، المستهلكات لك واستهلكتها ، والأرصدة ليست لك لكنك سوف تحاسب كيف جمعتها ؟ وكيف أنفقتها ؟ فالمستهلكات هي لك وهي مستهلكات ، حديثٌ دقيقٌ جداً :
(( وَهَلْ لَكَ يَا بْنَ آدَمَ مِنْ مَالِكَ إِلا مَا أَكَلْتَ فَأَفْنَيْتَ ، أَوْ لَبِسْتَ فَأَبْلَيْتَ ، أَوْ تَصَدَّقْتَ فَأَمْضَيْتَ ))
3 ـ ألا يتكبر على العلم ولا يتأمر على المعلم :
الشيء الثالث ، الأدب الثالث من آداب طالب العلم ألا يتكبر على العلم ، ولا يتأمَّر على المعلِّم ، بل يُلقي إليه زمام أمره بالكليَّة في كل تفصيل . أحياناً يقول لك أحدهم : الموضوع الفلاني ما قولك فيه ؟ هذا قولي فيه . فيقول لك : قالوا غير ذلك . أنت اعتمد على واحد ، أنت امنح ثقتك لإنسان ، إما أن تمنحه ثقتك أو لا تسأله ، لا أريد أن أسألك وأقول لك : كلامك غير صحيح . هذا ليس من الأدب في شيء ، أنت اسأل واسمع الجواب ، إذا أعجبك طبقه ، لم يعجبك اتركه ، لا يوجد إلزام ، العالم لن يتبعك إلى البيت ويقول لك : ماذا عملت بكلامي؟ أنت اسمع سألته سؤالاً قال لك : هذه حرام ، فتقول : هذه أفتوا فيها . ما دام أفتوا فيها، طبقها على ذمتهم .
قال لي أحدهم : هذه صار فيها فتوى ـ بالمئة خمسة الربا فيها فتوى ـ قلت له : لابأس . قال : هذه فيها فتوى . قلت له : لابأس ما دام فيها فتوى ، ولكن أنا خائف يوم القيامة ألا تجد مفتيك الذي أفتاك ، هذه أصعب شيء ، يمكن هذا الذي قال لي : بالمئة خمسة لا تجده، هذه صعبة جداً إذا اعتمدت عليه ، ووضعتها بذمته وبرقبته ، وجئت إلى الحساب ، أين هذا ؟ أنا قلت لك يا عبدي أنه بالمئة خمسة مسموح فيها ؟ يا رب هناك إنسان وهو فلان الفلاني سألناه وقتها وقال : لابأس . أين هو؟ أحضروه . ما وجدته ، ماذا ستفعل في نفسك ؟ لذلك النبي الكريم قال :
(( اسْتَفْتِ قَلْبَكَ وَاسْتَفْتِ . . . وَإِنْ أَفْتَاكَ النَّاسُ وَأَفْتَوْكَ ))
الله عزَّ وجل فرز لك مفتياً خاصاً ، خاص لك هو الضمير ، الإثم لا ترتاح إليه والبر تطمئن نفسك إليه ، لمجرَّد أنك تسأل فأنت قلق ، إذاً هذا الذي تفعله ليس صواباً ، من يسأل إذا واحد شرب كأس ماء ؟ أخي حرام ؟ لا ، من في الأرض يسأل عن شرب الماء أحرامٌ هو أم حلال ؟ هذا بديهي ، والطعام كذلك ، والزواج كذلك ، وشراء منزل كذلك ، وشراء فرش للنوم كذلك ، وشراء أشياء أساسية كذلك .
4-الإذعان لنصيحة العالم إذعان المريض للطبيب :
لكن هناك شبهات ، بعضهم يقول لك : هذه حلال ، هذه صورة وليست حقيقة ، وهذا صدى وليس بصوت . وبعضهم يقول لك : حرام ، هذا يثير الفتن ، يحرك المشاعر السُفلى في الإنسان ، يسيء العلاقة بين الزوجين ، يوعي ، أو يكسب الوعي المبكِّر للأطفال ، يوعي في موضوعات هم بعيدون عنها بعداً كبيراً قبل الأوان بكثير ، هذا يسبب انحرافات شخصية عند الشباب والشابَّات ، يقول لك : هذا صورة ، وهذا صدى . .
(( اسْتَفْتِ قَلْبَكَ وَاسْتَفْتِ . . . وَإِنْ أَفْتَاكَ النَّاسُ وَأَفْتَوْكَ ))
فالمشكلة أن طالب الفتوى إما أن يصر على جوابٍ معين ، هذا يجب ألا يستفتي أحداً ، لأنه إذا جاءت الفتوى كما يريد رحَّب بها ، فإن جاءت على خلاف ما يريد رفضها واتَّهم الذي أعطاه إيَّاها بالجهل ، مثل هذا المُصر على شهوةٍ معينة لا ينبغي أن يسأل ، لكنك إذا سألت يجب أن توطِّن نفسك على أن تستجيب للجواب ولو عاكس شهواتك .
فقال الغزالي : " ألا يتكبَّر على العلم ، ولا يتأمَّر على المعلم ؛ بل يلقي إليه زمام أمره بالكلية في كل التفاصيل ، ويذعن لنصيحته إذعان المريض الجاهل للطبيب المشفق الحاذق"
أحياناً يأتي مريض مثقف ثقافة طبية نوعاً ما وليس له ثقة بالطبيب ، يتعبه كثيراً ماذا وصفت لي يا دكتور ؟ يقول له : حب مسكِّن . هل هذا الحب له مضاعفات ؟ لا ليس له مضاعفات . أنا قرأت أن له مضاعفات ، يقول له : لابأس لا تأخذه إذاً . معي وجع رأس كثير ، يقول له : حيرتني نقول لك : خذ هذا الحب تقول : له مضاعفات ، اترك الحب تقول : رأسي يوجعني . هذا المريض المثقف ثقافة وسطاً يتعب الأطباء كثيراً ، أما إذا كان المريض جاهلاً مع طبيب حاذق جداً سلَّم له القياد ، وأعطاه أدوية مدروسة فيها علم ، وفيها خبرة ، وفيها حكمة ، واستعلمها ونجح وشفي . قال الشعبي : " صلَّى زيد بن ثابت على جنازةٍ فقرِّبت إليه دابةٌ ليركبها، فجاء ابن عبَّاس - ابن عم رسول الله عليه الصلاة والسلام رضي الله عنه - فأخذ بركابه ، فقال زيد : خلي عنه يا بن عم رسول الله . فقال ابن عباس : هكذا أُمرنا أن نفعل بالعلماء والكبراء . فقبَّل زيد بن ثابت يده وقال : هكذا أُمرنا أن نفعل بأهل البيت "
إن المعلم والطبيب كلاهما لا ينصحان إذا هما لم يكرما
* * *
التملق في طلب العلم محمود :
وقال صلى الله عليه وسلَّم :
(( ليس من أخلاق المؤمن التملق ولا الحسد إلا في طلب العلم ))
التملق ليس من أخلاق المؤمن ، لكن التملق في طلب العلم محمود ، أي إذا تواضع الإنسان ، قدم تحية لشيخه ، هناك شخص يكون فظاً في معاملته ، فظاً في سلامه ، فظاً في نظراته ، هذا لا يليق بطالب العلم . .
(( ليس من أخلاق المؤمن التملق ولا الحسد إلا في طلب العلم ))
5-عدم التكبر على المعلم :
توجد فكرة ثانية لطيفة جداً ، قال : " لا ينبغي لطالب العلم أن يتكبَّر على المعلم ومن تكبره على المعلم أن يستنكف عن الاستفادة إلا من المرموقين المشهورين " أي إذا لم يكن اسم هذا العالِم تسير به الركبان ، ملء الشرق والغرب ، لا يجلس في مجلسه . هذا غير معروف ، هذا متى صار عالِماً ؟ متى تعلَّم ؟ من علَّمه ؟ إذا لم يكن له اسم مرموق في المشرقين والمغربين لا يجلس في مجلسه . يقول الإمام الغزالي : " هذا الوضع يشبه إنساناً واجه سبعاً مخيفاً في الغابة ، وبحث عن مخلص ، فأصر على رجل مشهورٍ يخلصه من هذا السبع " أنت تريد أي شخص يخلصك لا يهمك شهرة هذا الدليل الذي ينجيك من هذا السبع المفترس ، طبعاً جهنم كالسبع المفترس فأي إنسان استطاع أن ينجيك من هذا العذاب فأنعم به وأكرم إن كان مشهوراً أو غير مشهور ـ فالحكمة ضالة المؤمن يغتنمها حيث يظفر بها ، ويتقلد المنة لمن ساقها إليه كائناً من كان .
العلم حربٌ للفتى المتعالي كالسيل حربٌ للمكان العالي
* * *
6-من آداب مجالس العلم إلقاء السمع و الإنصات :
ربنا عزَّ وجل قال :
﴿ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ ﴾
إلقاء السمع من أدب مجالس العلم ، لذلك النبي الكريم كان قدوتنا ، كان أصحابه الكرام إذا جلسوا عنده كأن على رؤوسهم الطير من السكينة والوقار ، قال :
(( تعلموا العلم ، وتعلموا للعلم السكينة والوقار ))
فمن آداب المتعلِّم إلقاء السمع والإنصات ، من حق الأخ على أخيه أن يستمع له .
وتراه يصغي للحديث بسمـعه وبقلبه ولعلَّـــه أدرى به
* * *
أحياناً الإنسان يتكلَّم آية يأتي آخر و يكملها عنه ، شيء بديهي أن تعرف هذه الآية ، إذا أحدهم أكمل عنه الآية ، و الآخر أكمل عنه الحديث يتشوش هذا المتكلم . النبي الكريم أثناء صلاته أحدهم قرأ خلفه ، فلما سلَّم قال :
(( مَالِي أُنَازَعُ الْقُرْآنَ ))
الإنسان يبدأ بآية يكملها عنه آخر ، يبدأ بحديث يكملها عنه أحدهم ، أنا أحفظها انتبهوا لي ، أنا حافظ هذه الآية ، بهذه الحالة صار هناك اضطراب ، فلذلك حسن الإصغاء . .
﴿ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ ﴾
أي عنده استعداد . .
﴿ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ ﴾
7-على المتعلم ألا يستسلم و يطبق ليصل إلى ما يريد :
شيءٌ آخر : قال بعضهم : " عندما ساق لنا ربنا عزَّ وجل قصة سيدنا الخضر مع سيدنا موسى عليه السلام ، هذه قصة دقيقة جداً "
﴿ قَالَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً * وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلَى مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْراً ﴾
النبي الكريم مثلاً جاءه رجل وقال : " إن أخي استطلق بطنه " . فقال له : "اسْقِهِ عَسَلا " . فأسقاه عسلاً ، وجاء له ثانيةً وقال له : " لقد أسقيته عسلاً فلم يزده إلا استطلاقاً -صار معه إسهال زيادة - قال له : " اسْقِهِ عَسَلا " . فجاءه ثالثاً وقال له : " لم يزده العسل إلا استطلاقاً . قال له :
(( صَدَقَ اللَّهُ وَكَذَبَ بَطْنُ أَخِيكَ ))
وبعدها تبيَّن أن الإنتانات المعوية المسبِّبة للإسهالات تحتاج إلى أشربة حلوة من أجل أن تمنع هذه الإسهالات ، وبعد ذلك شفي الرجل . فالإنسان أحياناً تأتيه نصيحة لا تعجبه، يناقش فيها ، الخبير هكذا يصنع ، الآن إذا إنسان مثلاً قال لك : أحدهم خرط المحرك وقال : تحتاج إلى روداج ألفين كيلو متر . إذا ما اقتنعت بهذا الشيء وخالفته ، وصار معك خلل بالمحرك بعد شهر أو شهرين أنت السبب ، أنت ما اقتنعت ، أنت لا تقنع ، هذا كلام خبير، فعندما يسلِّم الإنسان قياده لإنسان خبير ، لو كانت النصيحة لم تعجبه ، أو ما توضَّحت له ، أو ما قبلها ، أو ما استساغها ، هذا كلام خبير .
فإذا أراد إنسان أن يتعلَّم ضرب الآلة الكاتبة لوحده من دون معلِّم ، مثلاً يريد كلمة محمد أين الميم يدور عليه ثم يضربها ، بعدها الحاء ينظر هكذا لم يجدها وبعدها يجدها فيضربها ، هذا لو بقي لوحده خمس سنوات إذا كان عليه أن يكتب صفحة يحتاج إلى ساعة ونصف ، إذا ذهب إلى مكتب تعلم آلة كاتبة يلزموه أن يستعمل عشرة أصابع دفعة واحدة ، فيها صعوبة بالغة ، لكن بعد فترة تجده يكتب على الآلة الكاتبة وعينه على الورقة أي أن الصفحة في ربع ساعة تكون منتهية .
فقد قالوا بالتربية : الطرق التي تقاومها النفس هي المفيدة . إنسان جلس ليقرأ ، يفتح كتاباً ويقرأ وهو مضجع ، أو على مقعد وثير ، أو في حديقة ، يقرأ ، يقول لك : والله اليوم أنهيت سبعين صفحة . هذه الدراسة لا قيمة لها ، وأغلب الظن أنه بعد سبعة أيام ينسى ثلاثة وثلاثين بالمئة مما قرأ ، بعد سبعة أيام أخرى لا يبقى في ذهنه مما قرأ إلا عنوان الكتاب ، مع انطباع أنه كتاب جيد أو سيئ . لكن لو قعد ووضع الكتاب على الطاولة ، وفتح دفتراً ، وقرأ فقرة لخصها على الهامش ، وضع خطوطاً ، وطرح سؤالاً ، وأجاب إجابة ، وناقش فكرة ، يمكن يقرأ بالساعة صفحتين ، لكن هذه الدراسة نهائية للامتحان مرة واحدة ، بقدر ما تبذل من جهد ترسخ المعلومات .
فأحياناً تتلقَّى نصيحة ممن يعلمك قد لا تروق لك ، هذا الذي كلَّفناه أو علَّمناه الضرب على الآلة الكاتبة بعشرة أصابع قد يضجر ، يتضايق ، أخي على مهلكم عليَّ هل يجب أن أستخدم العشرة معاً ؟ بالعشرة معاً ، أعرف أشخاصاً خلال عشر سنوات يتحسَّنون ، يحتاج إلى ساعة ونصف أو ساعتين لكتابة صفحة ، لأنه يبحث على الحرف أين هو موجود ، كل حرف يبحث عنه ، فالطرق الناجحة دائماً تقاومها النفس ، والطرق غير الناجحة تستسيغها النفس ، لأن الإنسان يحب الأسهل ، يحب الأريح ، فالذي يقرأ من دون أن يلخص ، من دون أن يناقش ، مرت فكرة معقدة تركها ومشى ، تجاوزها ، بهذه القفزات المعقد بقي معقداً والصعب بقي صعباً ، والكتاب مجموعة عقد أنت لم تحلها ، لذلك أنَّى لهذا الطالب أن يستفيد ؟ الإنسان إن لم تعجبه الطريقة ، إن لم ترق له عليه أن يستسلم وأن يطبِّق ، هذا من فوائد العلم . .
﴿ قَالَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً * وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلَى مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْراً ﴾
8-عدم الإكثار من الأسئلة في غير وقتها :
بعدها الله عزَّ وجل قال :
﴿ قَالَ فَإِنِ اتَّبَعْتَنِي فَلَا تَسْأَلْنِي عَنْ شَيْءٍ حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْراً ﴾
فإذا كان بمصالح مثلاً . . . هذه نظفها ، لماذا ننظفها ألن نغسلها مرة ثانية ؟ تنظيفها له معنى يظهر العيوب . إذا كان هناك تلميذ يريد أن يتعلم مصلحة ، وكلَّما قال له معلِّمه : هذه افعلها . لماذا أفعلها ؟ . إنسان راح يشتري عبداً وجد عبداً رخيصاً جداً ، ويظهر عليه أنه ذكي استغرب كيف رخيص وذكي ؟ قال له : والله هذا هكذا . قال : معنى هذا أنه لقطة . اشتراه وجاء به إلى البيت ، قال له : أحضر لنا كأساً من الماء ، فهذا العبد تأمل فيه وقال له : أنا الآن سأقوم من مكاني ، أحضر لك كأس ماء ، أعطيها لك ، وأرجع لمكاني ، أنت قم واشرب وارجع لمكانك ، هذا هو سبب رخص هذا العبد . .
﴿ وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلَى مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْراً ﴾
﴿ قَالَ فَإِنِ اتَّبَعْتَنِي فَلَا تَسْأَلْنِي عَنْ شَيْءٍ حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْراً ﴾
وربنا عزَّ وجل قال :
﴿ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ ﴾
سيدنا علي له قول شهير ، يقول رضي الله عنه : " إن من حق العالِم ألا تكثر عليه السؤال " . أحياناً يكون الدرس منتهياً ، انتهاء الدرس يعني أن هذا الإنسان الذي يتكلَّم بذل طاقة كبيرة ، الاستماع سهل ، أما التكلُّم فهو تكثيف الجهود كلها في موضوع محدد مبرمج ، شواهد ، شرح ، تعليل ، انتقال من فكرة إلى فكرة ، مع اللغة ، وسلامة اللغة ، ودقة الحرف ، دقة الحركات الأخيرة ، فعندما ينتهي الإنسان من الدرس كأنه ليمونة وعصرتها ، لم يعد فيها شيء ، تعال اسأله سؤالاً دقيقاً جداً في موضوع الرضاعة ، أو في المواريث ، هذه الطاقة استنفذها ، تحتاج إلى وقت آخر ، يكون في وقت آخر مرتاحاً تسأله ، وبعد ذلك هو يكون مهتماً بالمصلين ، ومن غير المعقول إن كان يريد أن يسلِّم على الناس أن تسأله سؤالاً ، يريد أن يجاوبك عن سؤالك ويكون السؤال كبير جداً ، ويترك الناس كلهم ولا يسلم عليهم ، وهم واقفون ينتظرون أن يسلم عليهم من أدبهم ، ومن مودتهم ، ويعطيك جواباً لموضوعك الخاص ، هذا غير معقول فوقت السلام ليس وقت سؤال .
أنا غير منتبه للسؤال لأن الجو جو سلام ، أحدهم ينتظر ليسلِّم تجد الموقف في منتهى المودَّة ، ومنتهى المحبة ، ألا يجب أن تقابل هذا الودود بمودة مثلها ؟! هذا يأتي ويسألك سؤالاً بالمواريث ، وهذا يريد سؤالاً بالرضاعة ، تتركهم كلهم وتجاوبه .
9- إجلال العالم و التأدب معه و تعظيم حرمته :
سيدنا علي يقول : " ألا تكثر عليه السؤال - طبعاً في وقت غير السؤال- ولا تعنته في الجواب - أعطاك جواباً ولم يعجبك فقلت : ولكن ليس صحيحاً أستاذ هكذا ، أحدهم أفتى بغير ذلك ، أخي لا تبالغ ، والله حيرتمونا يا أخي ، هذه - ولا تعنته في الجواب ، ولا تلح عليه إذا سكت- مثلما تريد اعمل . لا احك لي - ولا تأخذ بثوبه إذا نهض ، ولا تفشي له سراً ، ولا تغتابن أحداً عنده ، ولا تطلبن عثرته " . الإنسان لا يغلط ؟ جل الذي لا يخطئ . . اللهم إني بشر أنسى كما ينسى البشر .
الإنسان أحياناً يكون في موقف ، له دعاء يدعوه مليون مرة في حياته وينسى ، الله يُري الإنسان ضعفه . . "اللهم إني تبرأت من حولي وقوتي والتجأت إلى حولك وقوتك يا ذا القوة المتين " . الإنسان ضعيف ، من قال لك إنني لا أغلط ؟ من قال لك ذلك ؟ أغلط وأغلط وأغلط لكن المؤمن مذنب تواب ، ما عنده غلط عن قصد ، هناك غلط علمي و غلط أخلاقي ، الغلط الأخلاقي هو أن تعرف الحقيقة وتحيد عنها ، هذا غلط خطير جداً ولا يفعله إلا فاسق ، أما المؤمن فيغلط ، والنبي الكريم - طبعاً التعليم لنا - قال :
((اللهم إني بشر أنسى كما ينسى البشر ))
ممكن أن ينسى الإنسان ، ينسى فكرة ، ينسى حديثاً ، ينسى تتمة حديث ، فهنا يقول سيدنا علي : " . . . ولا تأخذ بثوبه إذا نهض ، ولا تفشي له سراً ، ولا تغتابن أحداً عنده ، ولا تطلبن عثرةً له ، لكل جوابٍ كبوة ، ولكل حسامٍ نبوة ، ولكل عالمٍ هفوة " . . كفى المرء نبلاً أن تعدَّ معايبه . يكون المدرب مثلاً ملازم أول ، مثلاً لغة أجنبية ، أو اختصاص دقيق جداً ، مثلاً ملازم أول خبير بالألغام ، وجمعوا ضباط الفرقة كلها وتلقوا بعض التعليمات منه ، فقد يكونوا عمداء وألوية ، إذا دخل هذا المدرب النقيب يقفون له كلهم ، يا ترى هم أقل منه رتبة ؟ هم أعلى منه رتبةً ؟ لكن هذا الوقوف لمعلوماته في هذا المجال ، فلذلك الاحترام ليس لذات الإنسان ولكن لمقامه الذي أقامه الله به . " ولا تجلس أمامه وإن كانت له حاجةٌ سبقت القوم إلى تنفيذها " . هذا هو الأدب الثالث من آداب طالب العلم .
الأدب الأول : تطهير القلب .
والأدب الثاني : التحرر من العلائق لأنها عوائق .
والأدب الثالث : عدم التكبر على من تتعلَّم منه .
* * *
الرجوع للينابيع الأولى الصافية في معرفة الحقائق :
والآن إلى بعض الأحاديث الشريفة .
بسم الله الرحمن الرحيم يقول عليه الصلاة والسلام - الحديث دقيق وله إشارات دقيقة - قال :
((تسْمَعُونَ وَيُسْمَعُ مِنْكُمْ وَيُسْمَعُ مِمَّنْ سَمِعَ مِنْكُمْ ))
وانتهى الحديث . .
((تسْمَعُونَ وَيُسْمَعُ مِنْكُمْ وَيُسْمَعُ مِمَّنْ سَمِعَ مِنْكُمْ ))
ففي بعض تفسيرات هذا الحديث أن الحق الصرف الذي لا شائبة فيه ، والذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه ، في هذه الأجيال الثلاثة ؛ جيل النبي صلى الله عليه وسلم وصحابته الكرام ، وجيل التابعين ، وجيل تابعي التابعين ، وبعد ذلك قد يدخل في الإسلام ما ليس منه ، قد تأتي بعض المبالغات ، قد تأتي بعض التأويلات غير الصحيحة ، قد تأتي بعض الشطحات ، قد تفسر بعض الآيات تفسيراً ما أراد الله بها ذلك ، قد توجَّه بعض الأحاديث توجيهاً لم يرد بها النبي الكريم ذلك ، قد توضع بعض الأحاديث ، والنبي صلى الله عليه وسلَّم بريء، وقد وقد .
أي مثل نبع ماء صاف جداً ، فنبع بردى عند النبع الماء صاف يُشرب ، يجوز أن يشرب منه في سهل الزبداني ، يجوز عند وادي بردى أن تشرب ، لكن اذهب عن عين الفيجة ، عين الخضراء ، لا يُشرب ، عند دمر والهامة ، عند دمشق أصبح لونه غامقاً ، عند جوبر وحرستا وزملكا الماء صار لونه أسود ، فكلما ابتعدنا عن النبع تأتي رواسب سيئة تفسد صفاء الماء ، لذلك الآن الحل الوحيد أن ترجع للينابيع الأولى الصافية ؛ كتاب الله ، وسنة رسوله . النبي الكريم هكذا أخبرنا :
((تسْمَعُونَ وَيُسْمَعُ مِنْكُمْ وَيُسْمَعُ مِمَّنْ سَمِعَ مِنْكُمْ ))
لذلك قال أحد الأئمة الكبار : " ما جاءنا عن صاحب هذه القبة الخضراء فعلى العين والرأس ، وما جاءنا عن صحابته فعلى العين والرأس ، وما جاءنا عن سواهم فنحن رجالٌ وهم رجال ، نأخذ وننتقي من أقوالهم ما يناسب القرآن الكريم وسنة النبي العظيم " . أما والله قرأت بكتاب أصفر هذه الفكرة ، قد تكون مخالفة لآية قرآنية ، لمجرَّد أنك تقرأها في الكتاب ليس هذا حجة ، فما أكثر الباطل الذي طُبِع في كتب ، الباطل طُبع في كتب ، أشهر فكرة أن أحد الأئمة الكبار قرأ كتاب لشيخ فرأى أشياء لا يعقل أن تصدر عنه ، لذلك هناك أُناس كفَّروا الشيخ هل يقول هذا في كتابه ؟ وقع في شك ، إلى أن التقى بعالمٍ من علماء مكة المكرَّمة ، وبثَّه شكواه .
قال : فدخل هذا العالِم إلى غرفته وجاءني بنسخةٍ من الكتاب بخط يد الشيخ . قال : " وقابلنا ما في الكتابين ، فلم أجد فيها شيئاً مما أنكره قلبي فعلمت أنها دسَّت عليه ودسَّها الزنادقة " . قال : " ولقد دسُّوا على الإمام أحمد بن حنبل جملةً من العقائد الزائغة ، وضعوها تحت وسادته قبيل وفاته ، ولولا ثقتي بالإمام أحمد بن حنبل لاتهمت عقيدته " ولقد دسوا على الإمام أبي حامد الغزالي في الإحياء . ولقد دسوا على الإمام الفيروزبادي - صاحب القاموس - قال : " ولقد دسّوا عليَّ وأنا حيٌ أرزق كتاباً في تكفير أبي حنيفة وأنا منه بريء فلما عاتبني به - ذكر اسم الذي عاتبه - قلت : والله ما ألَّفت هذا الكتاب وإذا وقع بيدك فأحرقه "
هذا النص ثمين جداً ، لأن الإنسان عندما يجد شيئاً يتناقض مع كمال الله عزَّ وجل ، مع كمال الأنبياء بكتاب أصفر ، لا تحمِّلها كثيراً ، ما أكثر الدَّس على العلماء الكبار ، أما تأخذ موقفاً غير صحيح ، تكفِّر العالِم فهذا لا يجوز ، هذا موقف غير علمي ، لا تكفره ولا تقبل هذه الأفكار ، لأن الذي يقول الحق لا يقول الباطل ، مستحيل ، إنسان يحمل دكتوراه بالرياضيات يقول لك : واحد وواحد ثلاثة . مستحيل ، ولو وجدتها في كتابه فهي مدسوسةٌ عليه قولاً واحداً . هذا الموقف موقف من أرقى المواقف ، لا نقول : الشيخ كافر كما فعل بعضهم ، كفَّروه جهاراً ، ولا نرضى بما قاله في كتابه مما يخالف الكتاب والسنة .
فمثلاً قال : " خضُّت البحر الذي وقف بساحله الأنبياء " . أيعقل أن يسبق الولي الأنبياء كلهم؟! الله عنده مراتب ، عنده مقامات ، الرسل في قمَّتهم النبي صلى الله عليه وسلَّم ، الأنبياء، الأولياء ، أما ولي يخوض بحر وقف بساحله الأنبياء فهذا لا يكون ، هذا مدسوسٌ عليه رضي الله عنه ، إذاً :
((تَسْمَعُونَ وَيُسْمَعُ مِنْكُمْ وَيُسْمَعُ مِمَّنْ سَمِعَ مِنْكُمْ ))
هؤلاء ثلاثة أجيال الحق صاف فيها ، وبعدها دخل في الإسلام ما ليس فيه .
الحدود :
ويقول عليه الصلاة والسلام :
(( تَعَافَوُا الْحُدُودَ قَبْلَ أَنْ تَأْتُونِي بِهِ فَمَا أَتَانِي مِنْ حَدٍّ فَقَدْ وَجَبَ ))
أي إذا وقع إنسان بمخالفة وأنت سترته ، لا يوجد مانع ، أما إذا بلَّغتها للقاضي ، والقاضي لم يقم عليه الحد ، لا عفا الله عنه إن عفا .
إذا بلغ هذا الحد القاضي فعليه أن يقيمه ، أما إذا تلافيته أنت ، وشعرت أن هذا الإنسان قد ندم ، وسترته ، فلعلَّ هذا فيه خير ، ضبط أحدهم متلبساً بالسرقة في عهد عمر رضي الله عنه ، فقال : " والله يا أمير المؤمنين هذه أول مرة " . قال له : " كذبت إن الله لا يفضح من أول مرة " هو يعرف معاملة الله للعباد ، لأن الله ستير لا يفضح من أول مرة .
هناك إنسان يعمل على الصندوق فاجأه شركاؤه ، مئتان وخمس وستون ورقة لم يسجلهم ، باع بيعة ووضعها في جيبه ، قال : هذه أول مرة . لا هذه الثالثة ، إذا كانت أول مرة ، الله كريم يعطيك مهلة لتتوب ، يجعلك في مكانتك ، فهذه كانت السرقة الثالثة ، فهذا الشخص الذي ضُبط متلبساً بالسرقة في عهد عمر ظهر أنها ثامن مرة ، الله ستير ، فإذا إنسان وقع بمشكلة وأنت سترته لا يوجد مانع ، أما إذا رُفِعَتْ إلى القاضي . .لا عفا الله عنه إن عفا ، إحقاقاً للحق وإقامةً للنظام العام .
يُسنُّ لداخل المسجِد أَنْ يتعاهد نعلهُ :
الحديث الأخير يقول عليه الصلاة والسلام :
(( تعاهدوا نعالكم عند أبواب المساجد ))
أي أن الإنسان إذا كان بنعله طين ، يجب عليه أن يزيله قبل أن يدخل ، وإذا دخل يضع الحذاء بشكل مقبول ، أي مقابل بعضه ، ويمسكه بيده اليسرى ، هذه من السنة . .
(( تعاهدوا نعالكم عند أبواب المساجد ))
* * *
قصة إسلام طلحة بن عبيد الله التَيْمي :
والآن إلى قصةٍ من قصص الصحابة الكرام رضوان الله عليهم ، الصحابي هو : طلحة بن عبيد الله التَيْمي .
كان طلحة بن عبيد الله التيمي يمضي مع قافلةٍ من قوافل قريشٍ في تجارةٍ له إلى بلاد الشام ، فلما بلغت القافلة مدينة بصرى ، هبَّ الشيوخ من تجار قريش إلى سوقها العامرة يبيعون ويشترون ، وعلى الرغم من أن طلحة كان شاباً حدثاً - بالمناسبة قالوا : العالِم شيخٌ ولو كان حدثاً ، والجاهل حدثٌ ولو كان شيخاً - ليس له مثل خبرتهم في التجارة ، إلا أنه كان يملك من حدة الذكاء ونفاذ البصيرة ما يتيح له منافستهم ، والفوز من دونهم بأفضل الصفقات ، وفيما كان طلحة يروح ويغدو في السوق التي تموج بالوافدين من كل مكان ، حدث له أمرٌ لم يكن سبباً في تغيير مجرى حياته كلها فحسب ، وإنما كان بشيراً بتغيير سير التاريخ كله ، فلنترك الكلام لطلحة بن عبيد الله ليروي لنا قصته المثيرة .
قال طلحة : " بينما نحن في سوق بصرى إذ راهبٌ ينادي في الناس : يا معشر التجار سلوا أهل هذا الموسم أفيهم أحد من أهل الحرم ؟- أي مكي - وكنت قريباً منه فبادرت إليه وقلت : نعم أنا من أهل الحرم ، فقال : هل ظهر فيكم أحمد ؟ فقلت : ومن أحمد ؟ فقال : ابن عبد الله بن عبد المطلب ، هذا شهره الذي يظهر فيه وهو آخر الأنبياء ، يخرج من أرضكم الحرم ، ويهاجر إلى أرضٍ ذات حجارةٍ سود ، ونخيلٍ وسباخ ، فإياك أن تُسبق إليه يا فتى ، قال طلحة : فوقعت مقالته في قلبي ، فبادرت إلى مطاياي فرحَّلتها ، وخلَّفت القافلة ورائي ، ومضيت إلى مكة - هو كان في مكة - فلما بلغتها قلت لأهلي : أكان من حدثٍ بعدنا في مكة ؟ أي بعد سفرهم .
قالوا : نعم ، قام محمد بن عبد الله يزعم أنه نبي ، وقد تبعه ابن أبي قحافة - أي سيدنا الصديق - قال طلحة : وكنت أعرف أبا بكر فقد كان رجلاً سهلاً ، محبباً ، موطَّأ الأكناف - أي ليِّن الجانب - وكان تاجراً ذا خُلقٍ واستقامة ، وكنا نألفه ونحب مجالسه لعلمه بأخبار قريش ، وحفظه لأنسابها ، فمضيت إليه وقلت له : أحقاً ما يُقال من أن محمد بن عبد الله أظهر النبوة وأنك اتبعته ؟ قال : نعم . وجعل يقص عليَّ من خبره ، ويرغِّبني في الدخول معه ، فأخبرته خبر الراهب ، فدهش له ، وقال : هلمَّ معي إلى محمد صلى الله عليه وسلَّم لنقصَّ عليه خبرك ولتسمع ما يقول ، ولتدخلن في دين الله ، فقال طلحة : فمضيت معه إلى محمدٍ صلى الله عليه وسلَّم فعرض عليَّ الإسلام وقرأ عليَّ شيئاً من القرآن . . . " .
أي إذا إنسان قال لصديقه : تعال احضر مجلس علم . هذا الله عزَّ وجل ألهمه ، خيرٌ ساقه الله إليه ، لا ترد طلباً ، هذا الطلب ليس من هذا الصديق بل هو من الله عزَّ وجل ، يمكن أن يكون حضور مجلس علم سبب لسعادتك في الدنيا والآخرة ، يمكن أن تكون استجابتك لهذا الطلب انعطافاً خطيراً في حياتك من الشقاء للنعيم ، من الضياع للهدى ، من الحزن إلى السعادة . .
"..... فشرح الله صدري إلى الإسلام ، وقصصت عليه قصة راهب بُصرى ، فسرَّ بها سروراً بدا على وجهه صلى الله عليه وسلَّم ، ثم أعلنت بين يديه شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله ، فكنت رابع ثلاثةٍ أسلموا على يدي أبي بكرٍ رضي الله عنه "ـ
ثبات طلحة بن عبيد الله على دينه :
وقع إسلام الفتى القرشي على أهله وذويه وقوع الصاعقة ، وكان أشدهم جزعاً لإسلامه أمُّه ، فقد كانت ترجو أن يسود قومه لما يتمتَّع به من كريم الشمائل ، وجليل الخصال، وقد بادر إليه قومه ليثنوه عن دينه ، فوجدوه كالطود الراسخ الذي لا يتزعزع ، هذه البطولة أن تأخذ موقفاً مصيرياً كالصخر . .
قالت له : يا بني لا آكل شيئاً حتى تكفر بمحمد - لسيدنا سعد - فقال في هدوء : "يا أماه لو أن لكِ مئة نفس فزُهقت واحدةً واحدة ما كفرت بمحمد ، فكلي إذا شئتِ أو لا تأكلي " وبعدها أكلت ، عندما رأته متيناً انتهى الأمر ، أما إن كنت متضعضعاً فالأمر مختلف .
فلما يئسوا من إقناعه بالحسنى لجؤوا إلى تعذيبه والتنكيل به ، حدَّث مسعود بن خراشٍ قال : " بينما كنت أسعى بين الصفا والمروة إذا أناسٌ كثر يتبعون فتىً أوثقت يداه إلى عنقه ، وهم يهللون وراءه ، ويدفعونه في ظهره ، ويضربونه على رأسه ، وخلفه امرأةٌ عجوزٌ تسبه وتصيح به . فقلت : ما شأن هذا الفتى ؟ قالوا : هذا طلحة بن عبيد الله صبأ عن دينه وتبع غلام بني هاشم - التاريخ يعيد نفسه - فقلت : ومن هذه العجوز التي وراءه ؟ قالوا : هي الصعبة بنت الحضرمي أم الفتى " .
أي إذا إنسان عرف الله عزَّ وجل ووجد معارضة في البيت ، إذا كان سيستجيب للمعارضة فهو استجاب للشقاء الأبدي ، أما البطولة فأن تبقى صلباً ، وأن تأخذ بيد الذين يعارضونك إلى الله ورسوله ، إن رأوك صلباً ، وإن رأوك قد تبدَّلت تبدلاً جذرياً ، وأنك تمتعت بمكارم الأخلاق أحبوك ، ثم ساروا معك .
ثم جعلت الأيام تدور ، والأحداث تتلاحق ، وطلحة بن عبيد الله يزداد مع الأيام اكتمالاً ، وبلاؤه في سبيل الله ورسوله يكبر ويتعاظم ، وبره بالإسلام والمسلمين ينمو ويتسع .
الألقاب التي لقّب بها طلحة و قصة كل لقب :
أطلق عليه المسلمون لقب الشهيد الحي ، ودعاه النبي عليه الصلاة والسلام بطلحة الخير، وطلحة الجود ، وطلحة الفيَّاض ، ولكلٍ ومن هذه الألقاب قصة لا تقل روعةً عن أخواتها .
أما قصته في الشهيد الحي فكانت يوم أحد ، حين انهزم المسلمون عن رسول الله صلى الله عليه وسلَّم ، ولم يبقَ معه غير أحد عشرَ رجلاً من الأنصار ، وطلحة بن عبيد الله من المهاجرين ، وكان النبي عليه الصلاة والسلام يصعد هو ومن معه في الجبل ، فلحقت به عصبةٌ من المشركين تريد قتله ، فقال عليه الصلاة والسلام :
((مَنْ يَرُدُّهُمْ عَنَّا وَلَهُ الْجَنَّةُ أَوْ هُوَ رَفِيقِي فِي الْجَنَّةِ . . . .))
فقال طلحة : أنا يا رسول الله ، فقال عليه الصلاة والسلام : " لا مكانك " - أي الزم مكانك - فقال رجل من الأنصار : أنا يا رسول الله - قال : " نعم أنت " -فقاتل الأنصاري حتى قُتِل ، ثم صعد النبي عليه الصلاة والسلام بمن معه فلحقه المشركون . .
فقال : " ألا رجلٌ لهؤلاء ؟ فقال طلحة : أنا يا رسول الله ، قال عليه الصلاة والسلام : " لا مكانك " - الزم مكانك - فقال رجل من الأنصار : أنا يا رسول الله ، قال : " نعم أنت " ثم قاتل الأنصاري حتى قُتل ، وتابع النبي صعوده فلحق به المشركون ، فلم يزل يقول مثل قوله ، ويقول طلحة : أنا يا رسول الله فيمنعه النبي ويأذن لرجلٍ من الأنصار حتى استشهدوا جميعاً ، ولم يبقَ معه إلا طلحة ، فلحق به المشركون فقال لطلحة : " الآن معاً "
يظهر أنه رآه أشجع إنسان فتركه للأخير ، لأصعب موقف ، وكان النبي عليه الصلاة والسلام قد كُسِرَت رباعيته ، وشجَّ جبينه ، وجُرحت شفته ، وسال الدم على وجهه ، وأصابه الإعياء ، فجعل طلحة يكرُّ على المشركين حتى يدفعهم عن رسول الله صلى الله عليه وسلَّم ، ثم ينقلب إلى النبي فيرقى به قليلاً في الجبل ، ثم يسنده إلى الأرض ، ويكر على المشركين من جديد ، وما زال كذلك حتى صدَّهم عنه وحده ، قال أبو بكرٍ : " كنت أنا وأبو عبيدة بن الجرَّاح بعيدين عن رسول الله صلى الله عليه وسلَّم فلما أقبلنا عليه نريد إسعافه قال : " اتركاني وانصرفا إلى صاحبكما " - سيدنا طلحة - فإذا طلحة تنزف دماؤه وفيه بضعٌ وسبعون ضربةً بسيفٍ ، أو طعنةً برمحٍ ، أو رميةً بسهمٍ ، وإذا هو قد قُطِعَت كفُّه وسقط في حفرةٍ مغشياً عليه - إنه قاوم مجموعة بأكملها - وكان النبي صلى الله عليه وسلَّم يقول بعد ذلك :" من سرَّه أن ينظر إلى رجلٍ يمشي على الأرض قد قضى نحبه فلينظر إلى طلحة بن عبيد الله" .
وكان الصديق رضوان الله عليه إذا ذُكرت أُحُد يقول : " هذا يومٌ كله لطلحة " هذه قصةٌ نُعِت بها طلحة بالشهيد الحي .
أما تلقيبه بطلحة الخير وطلحة الجود فله مئة قصةٍ وقصة ، من ذاك أن طلحة كان تاجراً واسع التجارة ، عظيم الثراء ، فجاءه ذات يومٍ مال من حضرموت ، مقداره سبعمئة ألف درهم ، فبات ليلته وجلاً جزعاً محزوناً ، فدخلت عليه زوجته أم كلثوم بنت أبي بكرٍ الصديق وقالت : ما بك يا أبا محمد لعله رابك منا شيء ؟ قال : لا ، ولنعم خليلة الرجل المسلم أنتِ ، ولكن تفكَّرت منذ الليلة وقلت : ما ظن رجلٍ بربه إذا كان ينام وهذا المال في بيته ؟ قالت : أين أنت من المحتاجين من قومك وأخلائك ؟ فإذا أصبحت فقسِّمه بينهم فقال : رحمكِ الله إنك موفقةٌ بنت موفَّق .
الآن في هذه الآيام إذا كان الزوج يريد أن يدفع صدقة تقيم زوجته قيامته : نحن أولى أولادك أولى بهذا المال ، الناس لهم الله . .
قالت له : امض لما أردت . فقال لها : إنك موفقةٌ بنت موفَّق ، ولما أصبح جعل المال في صررٍ وجفان وقسَّمه بين فقراء المهاجرين والأنصار . وروي أيضاً أن رجلاً جاء إلى طلحة بن عبيد الله يطلب رفده ، وذكر له رحماً تربطه به ، فقال طلحة : " هذه رحمٌ ما ذكرها لي أحدٌ من قبل - قرابة جديدة ما سمعت بها - وإن لي أرضاً دفع لي فيها عثمان بن عفان ثلاثمئة ألف ، فإن شئت خذها ، وإن شئت بعتها لك بثلاثمئة ألف وأعطيتك الثمن ؟ فقال الرجل : بل آخذ ثمنها . فأعطاه إياها .
هنيئاً لطلحة الخير والجود هذا اللقب الذي خلعه عليه النبي عليه الصلاة والسلام .
النبي الكريم كان قدوة ، واد من غنم مرَّ به رجل من زعماء القبائل قال له : " يا محمد لمن هذا الوادي ؟ " قال له : " هو لك " ، قال : " أتهزأ بي ؟ " قال : " هو لك " ، فقال : " أشهد أنك رسول الله تعطي عطاء من لا يخشى الفقر " . النبي الكريم قال :
(( ثَلاثَةٌ أُقْسِمُ عَلَيْهِنَّ وَأُحَدِّثُكُمْ حَدِيثًا فَاحْفَظُوهُ قَالَ : مَا نَقَصَ مَالُ عَبْدٍ مِنْ صَدَقَةٍ))
الله الغني ، والله الكريم ، هؤلاء الذين فتحوا العالم كانت هذه أخلاقهم ، هذه شجاعتهم ، وهذا كرمهم ، وهذه استقامتهم ، وتلك محبتهم لنبيِّهم .