الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا، إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا، وزدنا علماً، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين.
العبادات معلَّلةٌ بمصالح الخلق:
أيها الإخوة المؤمنون؛ مع الدرس الثاني والستين من دروس سورة البقرة، ومع الآية الثالثة والثمانين بعد المئة، وهي قوله تعالى:
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (183)﴾
الإمام الشافعي رحمه الله تعالى له مقولةٌ رائعة يقول: "العبادات معلَّلةٌ بمصالح الخلق"، ففرقٌ بين العبادة والطقْس، الطقس حركات، وسكنات، وتمتمات، وإيماءات لا معنى لها، وضعها رجال الأديان الوضعيَّة كي يجذبوا عقول الناس وقلوبهم، إلا أن العبادات من عند خالق الأرض والسماوات معللةٌ بمصالح الخلق، فلأنّ الإنسان خُلِق ليعرف الله، ولأن الإنسان خُلق ليحْمل نفسه على طاعة الله، ولأن الإنسان خُلق ليتقرّب إلى الله، فالله سبحانه وتعالى جعل من هذه العبادات وسائل للتقريب إلى الله عزَّ وجل، فلا خيرَ في دينٍ لا صلاة فيه، ولا خيرَ في دينٍ لا صيام فيه، ولا خيرَ في دينٍ لا حجَّ فيه، ولا خيرَ في دين لا زكاة فيه.
حينما يقول الله عزَّ وجل: ﴿كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ﴾ معنى ذلك أن الإنسان هو الإنسان، وأن الله واحدٌ لا شريك له مهما تعددت الاتجاهات، ومهما اختلف أهل الأديان، ومهما تقاتلوا الإنسان واحدٌ، هو الإنسان، والله واحد، أيْ خصائصه واحدة، قوانينه واحدة، بُنَى نفسه واحدة، سِماته واحدة، لذلك: ما كان حلالاً عندنا ينبغي أن يكون حلالاً عند غيرنا في الشرائع السابقة الدين واحد بالمناسبة.
الدين واحد أما الشرائع فمختلفة:
قد تستغربون أن الله سبحانه وتعالى وصف أنبياءه واحداً وَاحداً بأنه مُسْلِم، أي الدين هو أن تستسلم لله، أن تخضع له، الدين هو غاية الخضوع وغاية الحب، والدين معرفة وطاعة وسعادة، هذا هو الدين، فالدين واحد، الشرائع مختلفة، كل أمَّة لها ظروفها، أما أنه على مستوى الأصول فالأصول واحدة، والدليل: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾ إلا أن الله سبحانه وتعالى شرَّفنا وكرَّمنا بنبينا محمدٍ صلى الله عليه وسلَّم، فهو آخر الأنبياء وخاتَمهم، وشريعته آخر الشرائع، لذلك تولَّى الله بذاته حِفظَ دينه.
﴿ إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ (9)﴾
فمن لوازم حِفظ دينه حِفظ قُرآنه، ومن لوازم حِفظ قرآنه حِفظ سُنَّة نبيِّه، الصيام عندنا كما أنزله الله هو إلى الآن كذلك، أما هناك أديان أخرى، أو يوجد شرائع أخرى أصابه تعديلٌ، وتبديلٌ، وإطالةٌ، وحسمٌ، وقصرٌ إلى أن أصبح صياماً غير الذي كَلَّف الله به هؤلاء الأقوام السابقة.
على كل ما دام الإنسان هو الإنسان، وما دام خالق الأكوان واحداً لابد من أن تتحد الشرائِع، ووحدة المصدر دليل وحدة الفروع، فإذا كانت هذه الأديان، أو هذه الشرائع من عند الله عزَّ وجل ينبغي أن يكون فيها توافقٌ وانسجام، وهذه الآية تؤكّد هذه الناحية: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾ .
من فوائد رمضان أنَّه يقوي الإرادة:
لعلَّ موضوع الصيام موضوعٌ طويل، لكنه بشكلٍ مختصر قد يَعرفُ الإنسان الحقيقة وقد تَضْعُف نفسه عن تطبيقِها، قد يعرفُ الخير، وقد لا يتَّجه إليه، وقد يعرف الشر وينجذب إليه، قد يعرف ما ينفعه فلا يُقبل عليه، وقد يعرف ما يضره فينسحبُ إليه، ماذا نسمي هذه الحالة؟ حالة ضعف إرادة، بالضبط كما لو رأيت طبيباً يدخِّن، يمكن أعلم إنسان بمضار التدخين هو الطبيب، ومع ذلك قد يدخن، أي هو ضَعُفت إرادته عن أن يتعامل مع معقولاته، ومع مسلَّماته، فلعلَّ الصيام جعله الله تقويةً لإرادتنا.
الله عزَّ وجل أحلَّ لنا الطيبات وحرَّم علينا الخبائث، أحلَّ لك أن تأكل، وأن تشرب، وأن تنام، وأن تقترن بزوجتك، لكنه في نهار رمضان حرَّم عليك ما أباحه لك في غير رمضان؛ حرَّم عليك الطعام والشراب، وسائر المُفطرات، من أجل ماذا؟ قال بعض العلماء: من أجل أن تقوى إرادتك، أنت في رمضان تركت المُباحات فلأن تَدَع المحرمات من باب أولَى.
هل تصدقون أن إنساناً في رمضان يُطلق عينيه في الحرام؟ إنْ فعل هذا فلا معنى لصيامه، ترى الناس في رمضان يغضّون أبصارهم، ويضبطون ألسنتهم، ويرتادون المساجد، وتراهم في رمضان يصلّون الفجر في مَسجد، فلعلَّ الله عزَّ وجل حينما فرض علينا الصيام كي نألف ترك المُباحات، فلأن نقوى في رمضان على ترك المحرَّمات من باب أوْلَى، حملك على ترك المباحات، في رمضان حرَّم عليك أن تشرب كأس الماء وليس في الأرض شريعةٌ تحرِّمه، في رمضان ممنوع أن تشرب، ممنوع أن تأكل، ممنوع أن تقترِب بمن سمح الله لك بالاقتراب منها في رمضان، فأنت في هذا الوقت تركت المباحات، تركت الذي أحلَّه الله لك، فتجد نفسك قوياً على ترك ما حرَّمه الله عليك، فهذه واحدة من فوائد رمضان، يقوي الإرادة.
شهر رمضان يحجِّم الإنسان ويقوي به معاني العبوديَّة لله عزَّ وجل:
الإنسان أيها الإخوة قد يعيش في وَهْم، قد يكون قوي البُنية، كثير المال، فهو واهمٌ أنه إنسان قوي يفعل ما يريد، يأتي رمضان فهذا الإنسان الكبير الذي له شأنٌ خطير، والذي يهابه الناس، وينصاعون لأمره هو نفسه مفتقر لكأس ماء، وإذا صام الإنسان في أشهر الصيف الحارة والطويلة بدءاً من الظهر كل خواطره كأس ماء، كأس عصير، قد تكون شخصاً مهماً جداً، ولك مكانة كبيرة أشعرك بعبوديَّتك لله عزَّ وجل، أشعرك أنك مفتقرٌ إليه، أشعرك أن وجودك متوقفٌ على إمداده، فلولا هذه اللقيمات التي تأكلها، وهذا الماء الذي تشربه لانعدمت حياتك.
إذاً تعريفٌ آخر لهذا الشهر الكريم: إنه يُحَجِّم الإنسان، يضعه في حجمه الحقيقي، يُقوّي فيه معاني العبوديَّة لله عزَّ وجل، يعرِّفه بضعفه، أنت ضعيف، أنت مفتقر لكأس ماء، مفتقر للُقيمات.
والقصة التي نرويها كثيراً أن بعض الخلفاء سأله وزيره قال: يا سيدي بِكَمْ تشتري هذا الكأس من الماء إذا مُنِعَ منك؟ قال: بنصف مُلْكِي. قال: فإذا مُنِعَ إخراجه؟ قال: بنصف مُلكي الآخر، إنسان مفتقر لشربة ماء، فأنت في رمضان تقوى إرادتك على طاعة الله، لأن الله حَمَلَك على تركِ المُباحات، المألوفات التي لا تحرِّمها شريعة، فلأن تَدَعَ المحرَّمات فهذا من باب أولى.
والنقطة الثانية: أنك في رمضان تشـعر بقيمة إمداد الله لك، أنت عبدٌ، الإنسان يوجد في جسمه أجهزة دقيقة جداً، أدق قناةٍ في الجسم قناة الدمع، هذه لو سُدَّت مع أنها ليست خطيرة لكن هذا الدمع يفيض دائماً على وجنتيك، أنت مضطر إلى منديل تمسح الدمع دائماً، هذا الدمع قلوي ربما أثَّر على خديك فأصاب الجلد بالالتهاب، لو أن قناة الدمع سُدَّت لأصبحت حياة الإنسان لا تطاق، أحياناً الإنسان يجور في قصّ ظفره قليلاً، فإذا وضع يده في شيءٍ حامض شعر بحُرقة، معنى هذا الأعصاب معيَّرة تعييراً دقيقاً جداً، أعصابك معيَّرة، أجهزة الهضم، والإفراز، والدوران، والأعصاب، والجهاز الحركي، لو إنسان دقق في أجهزته، في عظامه، في عضلاته، في جهازه الهضمي، في عمل الكبد، في عمل البنكرياس، شيء لا يصدَّق، فهذا كله يعمل بانتظام وأنت في غفلةٍ عن هذا النظام الدقيق.
الإنسان حينما يفتقرُ إلى الله يتولاَّه الله وحينما يستغني عن الله يتخلَّى الله عنه:
إذاً أنت في رمضان تشعر أن الله سبحانه وتعالى امتنَّ على عباده بهذا الطعام والشراب، لذلك قال تعالى واصفاً الأنبياء:
﴿ وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَيَمْشُونَ فِي الْأَسْوَاقِ وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ وَكَانَ رَبُّكَ بَصِيرًا (20)﴾
كلامٌ دقيق، أيْ هم مفتقرون في وجودهم إلى شيءٍ يُضاف إليهم، أما ربنا عزَّ وجل:
﴿ قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (1) اللَّهُ الصَّمَدُ (2)﴾
وجوده لا يُستمدُّ من شيءٍ آخر، وجوده صمداني، وجوده ذاتي، أما أنت فمفتقر إلى الطعام، مفتقر إلى الهواء، مفتقر إلى الماء، مفتقر إلى اللباس، مفتقر إلى المأْوَى، مفتقر إلى زوجة، مفتقر إلى وَلَد، وإذا أردنا أن نعدِّد ما أنت مفتقرٌ إليه سنجد ملايين مملينة، مفتقر إلى من يقصُّ لك شعرك، مفتقر إلى أداةٍ تقصُّ أظافرك، مفتقر إلى من يخيط لك ثيابك، هكذا، إذاً كأنك فـي رمضان تـعرف حجمك الحقيقي، وتعرف ضعفك.
ولا تنسوا أيها الإخوة أن الإنسان حينما يفتقرُ إلى الله يتولاَّه الله، وحينما يستغني عن الله يتخلَّى الله عنه، "من اتّكل على نفسه أوكله الله إياها" .
والدرسان الشهيران درس بدر، ودرس حُنين، في بدر أعلن المؤمنون افتقارهم إلى الله فنصرهم، وفي حُنين قال أحدهم: لن نُغْلَبَ من قِلَّة، فتخلَّى الله عنهم:
﴿ لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ (25)﴾
عندما قَبِل الإنسان حمل الأمانة أصبح في خطر:
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾ أيْ تتقون غضبَ الله، تتقون معصيته، تتقون شقاء الدُنيا، تتقون عذاب الآخرة، أي أنت أمام خطر، كلمة اتّقى أي يوجد خطر، اتّقى من وقى، والوقاية من الخطر، ولأنك قَبِلت حمل الأمانة فأنت في خطر:
﴿ إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا (72)﴾
لأنَّك قَبِلت حمل الأمانة فأنت في خطَر، عندما يركب الإنسان طائرة هناك احتمال أن تسقط، الأصل في خطر، هو بين السماء والأرض، وهذا الإنسان الذي قَبِلَ حمل الأمانة إنه إن سما عقله على شهوته أصبح فوق الملائكة، وإن سمَت شهوته على عقله أصبح دون الحيوان، لأنك إنسان معنى ذلك أنك قَبِلت حَمل الأمانة، ولأنك قبِلت حمل الأمانة إما أن ترقى إلى أن تكون فوق الملائكة، وإما أن يسقط الإنسان لا سمح الله ولا قدَّر فيكون دون الحيوان، هذه هي، فنحن في خطر.
الإنسان بالأساس فيه شهوات:
﴿ زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ (14)﴾
فيه شهوات، معنى الشهوة أي قوة دافعة؛ إنسان بلا طعام ولا شراب يصبر يوماً أو يومين، بعد ذلك إن رأى طعاماً اندفع إليه ليأكله، ليُحافظ على وجوده، فالشهوة قوة دافعة، هذه القوة الدافعة يمكن أن تُلبَّى بزاوية مفتوحة جداً، هناك منهج إلهي أعطاك زاوية محدودة، أنت تلبِّي حاجة الجوع بطعامٍ تشتريه من مالٍ اكتسبته بطريقٍ مشروع، هذا هو.
فأنت في شهوات، هذه الشهوات لولا العلم لأصبحت قِوى مدمِّرة، لأصبحت قوى عدوانيَّة، هذا الكأس قد لا يشتهي لو أبقيتَه سنواتٍ وسنواتٍ على المنضدة لا يتحرَّك، أما أنت حركي، كائن من لحم ودم، فيك شهوات، لابد من أن تتحرك كي تأْكُل، هذه الحركة من يضبطها؟ منهج الله عزَّ وجل، لذلك جاءت الشرائع افعل ولا تفعل، الآن العالَم كله يتحرَّك ليأكل، لكن كيف يتحرَّك؟ قد يعتدي، قد يسرق، قد يحتكِر، قد يُقيم تجمُّعات اقتصادية يعيش هؤلاء في ترفٍ ما بعده ترف، وتعيش الشعوب في فقرٍ ما بعده فقر، حركة لأخذ كل شيء.
النقطة الدقيقة هي أن الإنسان أودِعَت فيه الشهوات، صار إنساناً متحركاً، هذه الحركة من يضبطها؟ تصوَّر لو أن مركبة تنطلق بسرعة عالية، لو لم يوجد فيها سائق، لا يوجد فيها مقود الحادث حتمي، الحادث محقَّق، حتمي.
فيا أيها الإخوة؛ كلمة ﴿لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾ أيْ أنت في خطر، كلكم يرى ويسمع إنسان يسرق، إنسان يزني، إنسان يقتل، إنسان يغتصب، إنسان يحتال، إنسان يدلِّس، يوجد حركة واسعة جداً كلها على أساس المعاصي والآثام لأن الإنسان يريد أن يأكل أَطيب الطعام، وأن يسكن أجمل بيت، وأن يركب أجمل مركبة، وأن يقترن بأجمل زوجة، إذا لم يكن هناك منهج، لا يوجد قناة نظيفة لهذه الحركة صار هناك عدوان.
فيا أيها الإخوة؛ شهر رمضان من أجل أن تُرَشَّد هذه الحركة بمنهجٍ قويم، كيف تُرشَّد هذه الحركة؟
1 ـ أول وقاية من السقوط عن طريق البيان:
إما بمنهجٍ بياني افعل ولا تفعل، أو بذوقٍ رفيع، أو بمشاهدةٍ لحقائق الأشياء، الإنسان أحياناً يملك قدرة رؤية صحيحة، هذه الرؤية تمنعه من أن يسقط،
تماماً كما لو أنك تركب مركبة والطريق وعر جداً، فيه حُفر كبيرة، وفيه وديان سحيقة، وفيه أكمات، والليل مظلم، الآن منهج الله هو المصباح الذي يُريك الأكمة، والعقبة، والحفرة، وكل الأخطار، فمادام أنت حريصاً على سلامتك بحسب فطرتك ومعك مصباحٌ كشَّاف كشف لك أبعاد الطريق، فأنت في سلام، ولذلك أول وقاية من السقوط عن طريق البيان.
2 ـ الوقاية الثانية عن طريق الذوق:
هناك وقاية ثانية عن طريق الذوق، كلَّما اتصلت بالله عزَّ وجل نَمَت أحاسيسك الأخلاقيَّة، فتأبى الموقف اللاأخلاقي؛ تأبى العدوان، أما حينما تنمو مشاعرك الإيمانية إلى درجة أعلى تشاهد الحقيقة، لذلك الأنبياء الكرام:
﴿ وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلَا أَنْ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ (24)﴾
المؤمن يوجد عنده رؤية صحيحة، المؤمن يرى الحقيقة؛ يرى ما وراء الكسب الحرام، يرى ما وراء الزنا، يرى ما وراء العدوان، يرى أن هناك إلهاً عظيماً، يرى أنه سوف يُحَاسب، وسوف يُعاقب، هذه الرؤية تجعله ينضبط بمنهج الله عزَّ وجل.
فلذلك ﴿لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾ أيْ تتقون الخَطَر؛ خطر الشقاء في الدنيا، وخطر الشقاء في الآخرة، خطر أن يكون الإنسان معرَّضاً لسخط الله، خطر أن يكون الإنسان معرَّضاً لعدل الله، "لا يخافن العبد إلا ذنبه ولا يرجون إلا ربَّه" ، لأنك من بني البشر فأنت في خطر، لأنك قَبِلت حمل الأمانة، والأمانة نفسك التي بين جَنْبَيْك:
﴿ قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا (9) وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا (10)﴾
فإذا انتبهت إلى هذه الناحية، جعلت من الشرع موجِّهاً لك، وشعرت من اتصالك بالله عزَّ وجل نوراً يهديك سواء السبيل.
التقوى تكون بالنور أو بالبيان:
يا أيها الإخوة الكرام؛ لأنك إنسان أنت في خطر؛ خطر هذه الشهوات التي أودعت فيك، في خطر أن تدفع الإنسان إلى السقوط، فصار الصيام من أجل أن تتصل بالله، ومـن أجل أن تقوى على طاعته، ومن أجل أن تستنير بنوره.
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (28)﴾
إذاً التقوى تكون بالنور، أو بالبيان، أنت إما أن يقال لك: هنا يوجد منعطف خطر، بياناً، أو أن ترى هذا المُنعطف، لابد من أن تتقي الوقوع في هذا المنعطف.
﴿أَيَّاماً مَعْدُودَاتٍ﴾ لحكمةٍ إلهيةٍ بالغة جُعِلَ هذا الصيام أياماً معدودات في شهر رمضان.
﴿ أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (184)﴾
الله عزَّ وجل جلَّ في علاه قال:
﴿ لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلَانَا فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ (286)﴾
وهو وحده يعرف وسْع النفسِ، فلذلك ربنا عزَ وجل هو وحده يعطي الرخَص، أما أن تعتقد أنك وحدك تعرف وسعة نفسك فهذا خطأٌ خطير جداً.
علَّة الإفطار في رمضان السفرُ أو المرض:
الله عزَّ وجل هو وحده يعلم وسْعَ النفس، لذلك هنا:
﴿فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ﴾ أيْ علَّة الإفطار في رمضان السفرُ أو المرض، مُطلق السفر ومطلق المرض،
أما لو قلنا: العلة هي المشقة، كل إنسان له طاقة، هناك من يسافر ثماني ساعات دون أن يَشُقَّ عليه ذلك، وهناك من يسافر ساعة فيُحرَج، فحتى لا يصير فوضى في الشرع مطلق السفر ومطلق المرض يُجيز الإفطار في رمضان.
﴿وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ﴾ هذه النقطة الدقيقة: هذا الذي يُطيق الصيام مع السفر وأفطر، أو يُطيق الصيام مع المرض وأفطر، هذا ينبغي أن يدفعَ فديةً عن إفطاره، أو هذا الذي بلغ سناً متقدمةً جداً وشَقَّ عليه الصيام يصوم مع مشقةٍ بالغة.
هناك نقطة دقيقة: الإنسان أحياناً يفعل الشيء وعنده احتياط، أحياناً يمشي الإنسان ساعة، هذه الساعة تستنفذ كل قِواه، نقول: هذا أطاق المشي، لكن هذا المشي استنفذَ كل طاقته، أحياناً يمشي الإنسان ساعة، وفي قدرته أن يمشي عشر ساعات، النقطة الدقيقة أنك أنت إما أن تصوم والصيام يستنفذ كل طاقتك، وإما أن تصوم والصيام يستنفذ بعض طاقتك، فإن كان الصيام قد استنفذ كلّ طاقتك فهذا مما ينطبق عليه قوله تعالى: ﴿وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ﴾ أي يعمل إنسان في فرن بأيام الصيف وجهاً لوجهٍ مع النار، في حالات كثيرة جداً يشقّ على الإنسان الصيام، قال: هذا يدفع فديةً عن إفطاره، أو الذي سافر وأفطر، وكان يُطيق الصيام في السفر، أو مَرِض فأفطر وكان يطيق الصيام مع المرض، هاتان الحالتان إما من يجهَد في الصيام، أو الذي يُطيق الصيام مع السفر فأفطر، على هذين النموذجين ﴿فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ﴾ وإذا أطعمت أكثر من مسكين، أي أقله إطعام مسكين ولا حدَّ لأكثره: ﴿فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ﴾ .
حينما يودي بك الصيام إلى الخطر فالإفطار واجب:
لكن: ﴿وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ﴾ أيْ إذا أفطر الإنسان بعذر ضعيف، أو من غير عذر لا يجزئه صيام الدهر، فربنا عزَّ وجل مع أنه أعطانا بعض الرُّخَص، لكنه ينصحنا أنك إذا أطقت الصيام فعليك أن تصوم، ﴿وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ﴾ لكنَّ الفقهاء قالوا: حينما يودي بك الصيام إلى الخطر فالإفطار واجب.
قد يقول أحد المؤمنين الأتقياء: أنا أُفَضِّل الصيام، لكنه مصاب بقرحة، أو مصاب بأمراض تحتاج إلى أدوية أساسية في حياته، فالذي إذا صام تفاقم مرضه، أو تأخَّر شفاؤه، أو شعر بمشقةٍ لا تُحتمل هذا الأولى أن يُفطر، أحياناً يوجد سفر يستمر اثنتين وعشرين ساعة، يسير مع الشمس، فقد تخرج من دمشق الفجر، والنهار يستمر أكثر من أربع وعشرين ساعة، لأنك تسير مع الشمس، فقد يشق عليك أن تبقى بلا طعامٍ وأنت في سفر هذه المدة الطويلة.
الله عزَّ وجل خلق الكون ونوَّره بمنهجه وهو القرآن:
على كل الذي يُطيق الصيام مع السفر وأفطر فعليه فدية، يطيق الصيام مع المرض وأفطر فعليه فدية، أو أنَّ الذي يستنفذُ الصيام كل طاقته بعض العلماء قالوا: وعلى الذين لا يطيقونه، لو أنك قلت: يطيقونه أي أخذ كل طاقتك، أو أنت قد تصوم ومعك بقية طاقة، يوجد إنسان بعمر معين يشتغل ساعة يتعب، هذا مع التقدم بالسن الطاقة تقل فقد تستنفذها في ساعة، أما الشاب فقد يعمل أربع ساعات، ولديه إمكانية أن يعمل عشر ساعات أُخَر، فهذا الموضوع متعلِّق بوضع كل إنسان، يقول الله عزَّ وجل:
﴿ شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (185)﴾
قال بعض العلماء: في هذا الشهر أُنْزِلَ فيه القرآن، أي بدأ نزوله في رمضان، أو في هذا الشهر نزل هذا القرآن من اللوح المحفوظ إلى السماء الدنيا، لأن القرآن نزل على ثلاثٍة وعشرين عاماً، فكيف نوفِّق بين هذه الآية وبين أن القرآن نزل منجَّماً؟ قال العلماء: القرآن الكريم بدأ نزوله في رمضان، أو أنه نزل من اللوح المحفوظ إلى السماء الدنيا في رمضان، ﴿هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ﴾ أي الله عزَّ وجل خلق الكون ونوَّره بمنهجه، نوَّره بهذا القرآن.
الله عزَّ وجل خَلَق الإنسان وأعطاه شهوات وأقام له منهجاً:
أحياناً تجد آلة، أزرار وحركات، معها نشرة، فهذه النشرة مهمة جداً، بهذه النشرة بإمكانك أن تستعملها، فكما أن الله عزَّ وجل خلق نَوَّر، لذلك هناك آيتان:
﴿ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ (1)﴾
هذه واضحة:
﴿ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجًا (1)﴾
معنى ذلك أن الكون كلُّه في كفَّة، والقرآن في كفَّة، مثل تركيبي: آلة معقدة جداً كمبيوتر تحليل، ثمنه ثلاثون مليوناً، كل تحليل بألفي ليرة، تضع نقطة دم على هذا الجهاز تأخذ سبعة وعشرين تحليلاً بضغطة واحدة على الزر، وكل تحليل بألفي ليرة، وهناك من يحتاجه بالمئات، أي أنت ممكن أن تحصل في اليوم على مئة ألف ليرة من هذا الجهاز، لكن الشركة التي أرسلت لك هذا الجهاز نسيت أن ترسل لك كُتيِّب الاستعمال، الآن دقِّق: إن استعملته بلا توجيهات الصانع أتلفته، وإن خفت عليه جمَّدت ثمنه، أليس هذا الكُتيِّب الصغير بأخطر من الجهاز؟ هناك من يركب الطائرة ويذهب ليأتي بهذا الكتيِّب، هناك حالات دقيقة جداً، قد يكون هذا الكتيب تعليمات الصانع، تعليمات التشغيل والصيانة أخطر من الجهاز، جهاز إلكتروني من الممكن أن يصاب بالعطب لأتفه خطأ، فأنت حرصك على سلامة هذا الجهاز، وعلى حسن مردوده تستعمله وَفق التعليمات، فلذلك الله عزَّ وجل خَلَق الإنسان، أعطاه شهوات، عمل له منهجاً: افعل ولا تفعل.
والله شيء مؤلم جداً أن هذا الدين العظيم أصبح عندهم خمس عبـادات شعائريِّة؛ صوم، وصلاة، وحج، وزكاة، وإعلان الشهادة، انتهى الأمر، أما الدين فيه أكثر من مئة ألف بند، الله عزَّ وجل ذكر عن الموازين فقال:
﴿ فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (102)﴾
هناك ميزان لحرفتك، ميزان لزواجك، ميزان لعملك، ميزان لأفراحك، ميزان لأتراحك، ميزان لإقامتك، ميزان لكسب مالك، هذه كلها موازين، هل عرفت هذه الموازين؟!
الله عز وجل أمر الناس بالعبادات الشعائرية وبيَّن لهم التعليل:
فيا أيها الإخوة الكرام؛ هذا الشهر الكريم الذي: ﴿أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى﴾ الهدى افعل، وهناك تعليل، الله عزَّ وجل علَّل، مثلاً قال لك:
﴿ خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلَاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (103)﴾
أمرك بالزكاة أعطاك التعليل، قال لك: ﴿تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ﴾ تطهِّر الغني من البُخل، والفقير من الحقد، وتزكّي نفس الغني فيشعر بعمله العظيم في تلبية حاجات الفقراء والمساكين، وتُزكي نفس الفقير فيشعر بقيمته في المجتمع، هناك تشريعٌ إلهي وجَّه الناس إلى معاونته، قال لك:
﴿ اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ (45)﴾
أمرك بالصلاة التي هي هُدى وبيَّن لك التعليل، ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾ بيَّن لك التعليل.
الحج:
﴿ جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَامًا لِلنَّاسِ وَالشَّهْرَ الْحَرَامَ وَالْهَدْيَ وَالْقَلَائِدَ ذَلِكَ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَأَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (97)﴾
يجب أن تعلم أن الله يعلم، هذا في الحج، وفي الصيام كي تتقي، وفي الزكاة كي تطهر وتنمو، وفي الصلاة كي تبتعد عن الفحشاء والمنكر، هذا الذي وقع.
الشهر هو الهلال وهو ثلاثون يوماً:
إذاً:
﴿وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ﴾ طبعاً الشهر هو القمر، وهذا باللغة اسمه: استخدام، أيْ أنا حينما أرى القمر ينبغي أن أصوم،
ولكن هناك تفصيلات دقيقة جداً في كُتب الفقه يجب أن تصوم مع المجموع، وأن تُفطر مع المجموع، فقد ورد أن:
(( عن أبي هريرة: الصوم يوم تصومون، والفطر يـوم تفطرون، والأضحى يوم تضحون. ))
وعندنا مشكلة تصادفنا كل سنة في أول يوم في رمضان، وهي: يا أخي صيامنا صحيح، لا ليس صحيحاً، نحن صمنا على القمر أم على الدول المجاورة؟ أنت مهمتك أن تصوم مع المجموع، وانتهى الأمر، حتى إن العلماء لو أنك رأيت القمر وأنت في مجتمع، لم تثبت هذه الرؤية، عليك أن تبقى مع المجموع، ﴿فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ﴾ فهذا الشهر الشهرُ هو القمر، كيف يُصام القمر؟ هذا باللغة، قال: هذا أسلوب اسمه: الاستخدام، تأتي بكلمة، تعيد عليها ضميراً على معنىً آخر من معانيها، فطبعاً الشهر هو الهلال، والشهر هو ثلاثون يوماً، فأول معنى: ﴿فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ﴾ رأى الهلال ﴿فَلْيَصُمْهُ﴾ على الشهر، ثلاثون يوماً.
رمضان من أجل الهدى والتكبيرات في العيد هي تكبيرات الهداية:
﴿وَمَنْ كَانَ مَرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ﴾ الله عزَّ وجل رفع الحرج عن أمة سيدنا محمد صلى الله عليه وسلَّم، الدين يسر: ولا يغلب عسر يسرين إن مع العسر يسراً إن مع العسر يسراً، والأمر إذا ضاق اتسـع، أحياناً تجد إنساناً يصلي قاعداً، يصلي مستلقياً، وقد يصلي بحركة أجفانه، أو بهزِّ رأسه، لكن بالطبع كل صلاة يوجد لها مبرِّر، الضرورة تقدَّر بقَدَرِها.
﴿وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ﴾ في رمضان، ﴿وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ﴾ الآن هنا موضع الشاهد: معنى هذا أن رمضان من أجل الهدى، أن تهتدي إلى الله عزَّ وجل، وأن تقوى إرادتك، وأن تعرف عبوديتك لله عزَّ وجل، أيْ أن تُعرِّف نفسك بضعفك أمام الله عزَّ وجل، وأن تقوى إرادتك، معنى ذلك أنك اهتديت إلى الله عزَّ وجل، وما هذه التكبيرات في العيد إلا تكبيرات الهداية، ﴿وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ﴾ .
أعيادنا تأتي عقِب عبادات كُبرى:
إخواننا الكرام؛ من قال: الله أكبر في أول أيام العيد، وأطاع مخلوقاً، وعصى خالقاً ما قالها ولا مرة ولو ردَّدها بلسانه ألف مرَّة، بالواقع أنك أطعت القوي في نظرك، لو أنك تعرف الله عزَّ وجل أن بيده كل شيء ما عصيته، لذلك: ﴿وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ﴾ دائماً الأعياد عندنا -نحن المسلمين-تأتي عَقِب عبادات كُبرى، عقِب عبادة الصيام يأتي عيد الفطر السعيد، وعقِب الحَج، وهو العبادة التي فُرِضَت في العمر مرة واحدة يأتي عيد الأضحى المُبارك، العيد أي عُدْتَ إلى الله، اصطلحت معه، ﴿وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ﴾ أي هذا رمضان كله من أجل القُرب، لذلك ملخَّص هذا الشهر:
﴿ وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ (186)﴾
أي أنت تصوم من أجل أن تقترب إلى الله، أنت تصلي كي تقترب، تحج كي تقترب، تدفع زكاة مالك كي تقترب.
ليس بين الله وبين عباده حجاب في الدعاء:
﴿وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي﴾ أكثر من عشر آيات:
﴿ وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ (222)﴾
﴿ يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ (219)﴾
﴿ يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ وَلَا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (217)﴾
أكثر من عشر آيات يسألونك، قل، والجواب، إلا هذه الآية الوحيدة: ﴿وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي﴾ لا يوجد " قل" ، قال بعض علماء التفسير: استنبط العلماء من هذا أنه ليس بين الله وبين عباده حجاب في الدعاء، أخي اعمل لي استخارة، لم ترد في السنة أبداً، اعمل لنفسك استخارة، ليس بينك وبين الله حجاب.
الله تعالى يعلم سرنا وعلانيتنا:
﴿وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ﴾ .
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (24)﴾
وهو:
﴿ وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ (16)﴾
ونحن أقرب إليه من حبل الوريد، لا تخفى عليه خافية:
﴿ وَإِنْ تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى (7)﴾
يعلم سرّك ويعلم ما خفيَ عنك.
الآية التالية تبين شروط الدعاء المستجاب:
﴿فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ﴾ استنبط علماء التفسير من هذه الآية شروط الدعاء المُستجاب: أن تؤمن بالله، وأن تستجيب له طائعاً، وأن تدعوه مخلصاً.
إيمان استجابة دُعاء بإخلاص، إلا أن العلماء استثنوا رجلين من هذه الشروط، من هما؟ المُضَّطر والمظلوم، فقالوا: المضطر يستجيب الله له لا بحال الداعي، وقد يكون غير مسـتجيب لله، بل يستجيبُ الله له بحال المَدعو وهو الرحمة، والمظلوم يستجيب الله له لا بحال الداعي وقد يكون غير ملتزمٍ، بل يستجيب الله له باسم العَدْلِ، الله عزَّ وجل يستجيب للمضطر والمظلوم.
﴿ أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الْأَرْضِ أَئِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ (62)﴾
هذه حالة، ﴿وَيَكْشِفُ السُّوءَ﴾ والحالة الثانية:
(( عن ابن عباس: اتق دعوة المظلوم فإنه ليس بينها وبين الله حجاب. ))
هناك رواية أخرى: اتقوا دعوة المظلوم ولو كان كافراً.
إخواننا الكرام؛ الدعاء هو العبادة، ﴿وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي﴾ هذه الياء ياء النسَب، ياء النسب أي نُسِبَ العباد إلى الله نِسبة تشريف، هذا ابني، هذا المحل لي، أي يوجد ياء النسب، الله عزَّ وجل نسب عباده إلى ذاته العليّة نسبة تشريف، ﴿وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي﴾ .
بالمناسبة: العِباد جمع عبد الشكر، بينما العبيد جمع عبد القَهر، أي كل واحد منا عبد لله مقهور بوجوده، واستمرار وجوده، وعمل أجهزته إلى الله، أما إذا عرف الإنسان الله طواعيةً، وأقبل عليه، واستجاب لأمره، وأحبَّه، وعاش في كنفه فهذا عبد الشكر، فلذلك عبد الشكر يُجمع على عباد.
﴿ وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا (63)﴾
أما عبد القهر فيُجمع على عبيد:
﴿ مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ (46)﴾
﴿وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي﴾ هؤلاء الذين عرفوني، وأحبوني، وأطاعوني، ﴿فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ﴾ إلى الدعاء الصحيح.
شهر رمضان فرصة للتعرف إلى الله سبحانه والتقرب منه:
أيها الإخوة؛ قضية الصيام وهي فرصةٌ سنويةٌ كي ينتقل الإنسان نقلةً نوعيةً إلى الله عزَّ وجل، فإذا حرص على صيام هذا الشهر، يقول عليه الصلاة والسـلام:
(( عن أبي هريرة: مَنْ صَامَ رَمَضَانَ إِيمَاناً وَاحْتِسَاباً غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ، وَمَنْ قَامَ لَيْلَةَ الْقَدْرِ إِيمَاناً وَاحْتِسَاباً غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِ. ))
أي ما كان بينك وبين الله يُغْفَر في رمضان، رجع من ذنوبه كيوم ولدته أمه، وهذه فرصة، وينبغي أن نستعِدَّ لها قبل رمضان، السبب إن أردت أن تكون في هذه النقطة بسرعة مئة، ليس بإمكانك أن تقف عندها على الصفر فجأةً ترفعها للمئة، إذاً ينبغي أن تنطلق قبل مسافة بحيث يؤدي التسارع إلى سرعة مئة في هذه النقطة، إذا أراد إنسان أن يصطلح مع الله في أول يوم برمضان يمكن أن يمضي أياماً وأسابيع قبل أن تصح صلاته مع الله عزَّ وجل، فالأولى أن يبدأ استعداده لرمضان في وقتٍ مُبَكِّر حتى يأتي هذا الشهر عبادة كاملة يقفز فيها الإنسان قفزتين، قفزةً في معرفته بالله عزَّ وجل، وقفزةً في القرب منه: ﴿وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ﴾ .
الملف مدقق