- الفقه الإسلامي / ٠5العبادات الشعائرية
- /
- ٠4الزكاة
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيّدنا محمد الصادق الوعد الأمين، اللهم لا علم لنا إلا ما علَّمْتنا إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علِّمنا ما ينْفعنا وانْفعنا بِما علَّمتنا وزِدْنا عِلماً، وأَرِنا الحق حقاً وارْزقنا اتِّباعه، وأرِنا الباطل باطِلاً وارزُقنا اجْتنابه، واجْعلنا ممن يسْتمعون القول فَيَتَّبِعون أحْسنه، وأدْخِلنا برحْمتك في عبادك الصالحين.
مصارف الزكاة :
1 ـ للفقراء و المساكين :
أيها الأخوة الأكارم، وصلنا في موضوع الزكاة إلى باب من أبواب الزكاة وهو مصارف الزكاة، وتحدَّثنا في الدرس الماضي عن أنَّ مِن مصارف الزكاة الفقراء والمساكين، ثمّ قلنا إنَّ الغزالي سئل عن القويّ من أهل البيوتات الذين لم تَجر عادتهم بالتَّكَسُّب بالبَدَن هل له أخذ الزكاة من سَهم الفقراء؟ فقال: نعم، وهذا صحيح جار على أنَّ المُعتبَر حِرْفةٌ تليق به لِقَوله عليه الصلاة والسلام:
(( ارْحَموا عزيز قَومٍ ذلّ، وغنيّ افْتقر، وعالم ضاع بين الجهال...))
فلا نُكلِّف هذا الذي كان غَنِيًّاً فافتقر أن نُجْبِرَهُ على عملٍ لا يليق به.
من يملك النصاب يصِحُّ أن يأخذ من مال الزكاة:َ
شيءٌ آخر، وهذه نقطة دقيقة جدًّاً في الزكاة، قد يكون في بيتك مبلغٌ من المال قد يزيدُ عن النِّصاب، كأن يكون لك أربعون ألف ليرة، وأنت مُقْدِمٌ على زواج، وعليك أن تشتري بيتًا ثمنه مئتا ألف ليرة مثلاً، نقول لك: هذا المبلغ عليه زكاة، ولكنَّك بِحُكم مواجهتك مصاريف كبيرة جدًّاً من شِراء بيتٍ، هذا الذي يملكُ نِصابًا وعليه تَبِعات خطيرة يجوز أن يأخُذ من مال الزكاة، نأمرُهُ أن يؤدِّي زكاة المال الذي بحَوْزتِهِ ثمَّ نُعطيه من مال الزكاة بِقَدر حاجته، ولكن إذا كتبَ عقْدَ شِراء بيت، ومعه مئتا ألف ليرة في البيت، وفي العقد عليه أن يدفع أربعمئة ألف بعد شهر، فهذا المبلغ الذي بِحَوزته في البيت ليس عليه زكاة، أما قبل كتابة العقد فالمبلغ هذا تَجِبُ فيه الزكاة، وإن كان هذا الإنسان مالك النِّصاب يصِحُّ أن يأخذ من مال الزكاة إن كانت عليه تَبِعاتٌ لا قِبَل له بِتَحَمُّلها.
قال النووي رحمه الله تعالى: "ومن كان له عقار أي بيت، ينقصُ دَخلُهُ عن كِفايَتِهِ فهو فقير يُعطى من الزكاة تمام كفايته، ولا يُكلَّفُ بيعه، فهذا الإنسان على الرَّغم من أنَّ له بيتًا غاليَ الثَّمَن يسكنه يجوز له أن يأخذ من مال الزكاة، ماذا نقول له: بِعِ البيت!!
أشرنا في الدرس الماضي أنّ إعطاء الزكاة يكون بِلُطف، وأنّ عبارة خُذْ فهذه زكاة مالي!! هذه لا يقبلها إنسان عنده كرامة، ولكن المُتَسَوِّلون يقبلونها، أما المؤمنون فلا يرضونها إلا إذا جاءتْ على شَكل مَقبول.
2 ـ العاملون على الزكاة :
البند الثالث من مصارف الزكاة، وهم العاملون على الزكاة، وهم الذين يُولِّيهم الإمام أو نائبُهُ العملَ على جمعها من الأغنياء وهم الجباة، ويدخل فيهم الحفظة لها، والكَتَبة لِدَواوينها، ويجب أن يكونوا من المسلمين لكي لا يكونوا مِمَّن تحرم عليهم الصّدقة، فإن كانوا من غير المسلمين لا يستحِقُّون هذا المبلغ، وإن كانوا مِمّن تحرم عليهم الصَّدَقة لا يجوز أن يُعْطَوا مِن مال الزكاة، من هم الذين تحرم عليهم الصَّدَقة؟ آل النبي عليه الصلاة والسلام، وهم بنو عبد المطَّلب.
(( فعن المطَّلب بن ربيعة والفضل ابن العباس انطلقا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلّم، قال: ثمَّ تكلَّم أحدنا فقال: عن عَبْدَ الْمُطَّلِبِ بْنَ رَبِيعَةَ بْنِ الْحَارِثِ حَدَّثَهُ قَالَ: اجْتَمَعَ رَبِيعَةُ بْنُ الْحَارِثِ وَالْعَبَّاسُ بْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ فَقَالَا وَاللَّهِ لَوْ بَعَثْنَا هَذَيْنِ الْغُلَامَيْنِ قَالَا لِي وَلِلْفَضْلِ بْنِ عَبَّاسٍ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَكَلَّمَاهُ فَأَمَّرَهُمَا عَلَى هَذِهِ الصَّدَقَاتِ فَأَدَّيَا مَا يُؤَدِّي النَّاسُ وَأَصَابَا مِمَّا يُصِيبُ النَّاسُ ))
من علامات نبوَّته أنَّه صلى الله عليه وسلم كان يقبل الهَدِيّة، ولا يقبل الصَّدَقة، إلا أنَّ النبي صلى الله عليه وسلّم قال:
(( لَا تَحِلُّ الصَّدَقَةُ لِغَنِيٍّ إِلَّا لِخَمْسَةٍ لِغَازٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوْ لِعَامِلٍ عَلَيْهَا أَوْ لِغَارِمٍ أَوْ لِرَجُلٍ اشْتَرَاهَا بِمَالِهِ أَوْ لِرَجُلٍ كَانَ لَهُ جَارٌ مِسْكِينٌ فَتُصُدِّقَ عَلَى الْمِسْكِينِ فَأَهْدَاهَا الْمِسْكِينُ لِلْغَنِيِّ ))
فهؤلاء هم العاملون عليها وهم الموظّفون، يؤدِّي عملاً يأخذ نصيبهُ مُقابل عمله، أو رجل اشتراها بِماله، فلو أنَّ الزكاة هي شاته، يجوز أن يأخذ هذه الشاة، فهو أخذها شراءً، ولم يأخذها هِبةً، أو غارماً، فقد يملك الإنسان أملاكًا غير منقولة ولكن عليه ديوناً، والدَّيان ألحَّ عليه فهذا الغارِم، ولو كان بِحُكم الشّرع غنِيًّا يملكُ أموال غير منقولة، كالأراضي والبيوت، إلا أنَّ عليه دَينًا نَقْدِيًّاً يجوز لِهذا الغارم أن يأخذ من مال الزكاة، أو غازٍ في سبيل الله، أو مِسكينٍ تصدّق عليه منها فأهدى منها لِغنيّ، فهذا الغني الذي قُدِّمَت له هديَّةٌ بعضٌ من الزكاة، وهذا لا غاز في سبيل الله، وهذا الغارم المديون، وهذا الذي اشتراها بِماله، والعامل عليها، هؤلاء الأغنياء الخمس يجوز لهم أن يأكلوا من الزكاة.
عن عبد الله أنَّه قَدِم على عمر بن الخطاب رضي الله عنه من الشام فقال: ألَمْ أُخْبَرُ أنَّك تعمل على عمل من أعمال المسلمين فَتُعطَى عليه عمالةً فلا تقبلها، فقال: أجل، إنَّ لي أفراسًا، وأعْبدًا، وأنا بِخَير، وأُريد أن يكون عملي صدقةً على المسلمين، فقال عمر: إنَّي أردْتُ الذي أردْتَ، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يُعطيني المال فأقول: يا رسول، أعْطِهِ من هو أفقر إليه مِنِّي، وإنَّه أعطاني مرَّةً مالاً فقلتُ: أعْطِهِ من هو أحوج إليه مِنِّي، فقال عليه الصلاة والسلام: ما آتاك الله عز وجل من هذا المال من غير مسألةٍ ولا إشرافٍ فَخُذْهُ أو تموَّلْهُ أو تصدَّق به، فإذا عَمل الواحد على أموال الزكاة، هذا الرجل عبد الله بن السَّعدي حينما عُرِض عليه نصيبُهُ من الزكاة لأنَّه عمل عليها رفض أن يأخذ شيئًا، فإذا ألحَّ عليك إنسان أن تأخذ حاجةً وأنت لسْتَ بِحاجة، فإن علمتَ أقرباءً لك بِحاجته فَخُذْه لهم فالخِيار لك؛ إما أن تكون بِحاجة فتموَّل هذا المال، وإن لم تكن بِحاجة فأعْطِهِ من هو أحْوجُ منك، ولا بدّ أن يعلم المؤمن أنَّ التمنُّع فوق الحدّ المقبول ليس من أخلاق المؤمن، والنبي عليه الصلاة والسلام قال:
(( مَنْ وَلِيَ لَنَا عَمَلًا وَلَيْسَ لَهُ مَنْزِلٌ فَلْيَتَّخِذْ مَنْزِلًا أَوْ لَيْسَتْ لَهُ زَوْجَةٌ فَلْيَتَزَوَّجْ أَوْ لَيْسَ لَهُ خَادِمٌ فَلْيَتَّخِذْ خَادِمًا أَوْ لَيْسَتْ لَهُ دَابَّةٌ فَلْيَتَّخِذْ دَابَّةً وَمَنْ أَصَابَ شَيْئًا سِوَى ذَلِكَ فَهُوَ غَالٌّ ))
الآن تغيَّر الزمان والحديث هذا له وضْع خاص! ولا يُنْكر تبدُّل الأحكام بِتَغَيُّر الأزمان، وكما قلتُ قبل قليل إنَّ النبي عليه الصلاة والسلام إنَّما أباح اكتِساب الخادم والمسكن من عمالته التي هي أجر مثله، فمجموع ثمن هذه يجب ألا يزيد على أجْر مثله، وليس له أن يرتفق بِشَيءٍ سِواهما.
3 ـ المؤلفة قلوبهم :
البند الرابع من مصارف الزكاة هم المؤلَّفة قلوبهم، هذا البند دقيق جدًّاً وهم الجماعة الذين يُرادُ تأليف قلوبهم، وجمعها على الإسلام، أو تثبيتها عليه، فإما لِضَعف إسلامهم، أو كفّ شرِّهم عن المسلمين، أو جلب نفعٍ في الدِّفاع عنهم، والعلماء قسَّموا المؤلفة قلوبهم إلى قسمين: مسلمون وكفار.
المؤلفة قلوبهم قسمان :
1 ـ المسلمون :
أما المسلمون فقَوْم من سادة المسلمين وزعمائهم، لهم نظراء من الكفار إذا أُعْطُوا رُجِيَ إسلام نظرائهم، فلعلَّ هذا الكافر الذي هو نظير المسلم يطمعُ إذا أسْلم أن يأخذ كما أخذ المسلم، فهذا مباح في رأي الفقهاء، كما أعطى أبو بكر رضي الله عنه عديّ بن أبي حاتم مع حُسْن إسلامه لِمَكانته من قومه، وهذا تأليفًا لِقَلبه، وتشجيعًا لِمَن هم نُظراؤُهُ أن يُسلموا مثله.
وضُعفاء الإيمان من المسلمين، مُطاعون في أقوامهم، كأن يكون زعيم قبيلة وكلمته نافذة، وله سيطرة، لكنَّه ضعيف الإيمان، فإذا أعْطيتَهُ شيئًا من مال الزكاة لعلَّه يثبتُ في إيمانه، ويزداد قربًا من الدِّين، فَيُرْجى من إعطائهم تثبيتهم، وقوَّة إيمانهم، ومناصحتهم في الجهاد وغيره كالذين أعطاهم النبي صلى الله عليه وسلم العطايا الوافرة من غنائم هوازن، فإما أن يكون زعيمًا مسلمًا، وإما أن يكون ضعيف الإيمان له مكانة في قومه من أجل ثبات إيمانه.
وقوم من المسلمين في الثُّغور، وحدود البلاد، يُعطَون لما يُرجى مِن دِفاعهم عمَّا وراءهم من المسلمين إذا هاجمهم العدوّ، هذا تعويض جبهة فهذا الصِّنف له أن يأخذ شيئًا إضافيًّا من مال الزكاة تثبيتًا له وتشجيعًا له ومكافأةً له على يقظتِهِ.
الفقهاء المعاصرون قالوا: على حدود الدُّوَل الإسلاميَّة، إذا كان هناك جاليات أو فئات من الناس قد تميل إلى الكفار، وقد تنضمّ إليهم، فينبغي أن نُعْطِيَهم العطايا من أجل أن نزيد ارتِباطهم بالمسلمين، فهذه المساعدات يجب أن تُعطى للدُّول الضَّعيفة التي على الحدود كي لا تنضمّ إلى دُوَل كافرة، أو لكي لا تدخل تحت حِمايتها.
البند الرابع الآن هم قَومٌ من المسلمين يُحتاج إليهم لِجِباية الزكاة، وأخذها مِمَّن لا يُعطيها بِنُفوذهم وتأثيرهم، هؤلاء إذا استخدمناهم، وجبَيْنا عن طريقهم الزكاة كُفينا مؤونة الحرب، فلو لم نستخدِمهم لَوَجَب أن نُحارب هؤلاء الذين منعوا الزكاة، فهؤلاء الذين يتوسَّطون لِجَبي الزكاة مِمَّن لهم نفوذ على من عليه دفعها هؤلاء يستحِقُّون شيئًا من مال الزكاة، فأشياء قد تكون صالحة لهذا الزمان، وأخرى قد لا تكون صالحة.
2 ـ الكفار :
أما الكفار فهم قِسْمان، من يُرْجى إيمانهُ بِتأليفه، كافرٌ تُعطيه مالاً وترجو بهذا المال أن يؤمن، كصَفْوان بن أُميَّة الذي وهب له النبي عليه الصلاة والسلام الأمان يوم فتح مكَّة، وأمهله أربعة أشهر لِيَنظر في أمره، ويختار في نفسه، وكان غائبًا، فحضر، وشَهِد مع المسلمين غزوة حُنين قبل إسلامه، وأعطاه النبي عليه الصلاة والسلام من هذه الغزوة.
وكان النبي عليه الصلاة والسلام قد استعار سِلاحه يوم خرج إلى حنين وقد أعطاه النبي إبِلاً كثيرة مُحَمّلة، كانت في وادٍ، فقال: يا محمّد، هذا عطاءُ من لا يخشى الفقر، وقال: والله لقد أعطاني النبي صلى الله عليه وسلَّم وإنَّه لأبغضُ الناس إليّ! فما زال يُعطيني حتَّى إنَّه لأحبُّ الناس إليّ، فالإنسان بالعَطاء يمكن أن يميل قلبه، أعرفُ شخصًا يُعادي الدِّين عِداءً شديدًا، وفي أيِّ مجلسٍ يجلسه يتهجَّم على الدِّين وينتقص منه، ويُبيِّن عيوب المؤمنين، إلى أن أُصيب بِمَرضٍ عُضال لا يملكُ ثمن الشِّفاء والعمليَّة، فدخل إلى بعض المساجد، وجمَّعوا له مالاً يستطيع به أن يُقيم العمليَّة في دولةٍ أجنبيَّة، وعاد لِيُلازِمَ هذا المسجد، ويدافِع عن الدِّين!! فالإنسان يميل قلبه بالإحسان، وبه تتغيَّر قناعاته، وتتبدّل عقائده، والإنسان عبد الإحسان، عَجِبتُ لِمَن يشتري العبيد لِيُعتقَهُم بِماله، كيف لا يشتري الأحرار بِإحسانه؟! لذلك أربعة أخماس الدَّعوة إلى الله إحسانٌ للخَلْق، إذا أحْسَنْتَ إليه مال قلبهُ إليك، وتعلَّق بك وبِمَبدئِكَ، وتعلَّق بِعقيدتك، وبِقِيَمِكَ، وتعلَّق بدينك، لذلك الكلام ليس وراءه إلا الكلام، ولكنَّ الأعمال الطيِّبة هي التي تبثّ المواقع في النفوس.
النبي عليه الصلاة والسلام قال: "بُعِثْتُ بِمُداراة الناس"، فأعظم شيءٍ بعد الإيمان بالله التودُّد إلى الناس، والعربُ فتَحوا القلوب بإحسانهم قبل أن يفتحوا البلاد بِسُيوفهم، وهذا الدَّرس لنا، قال تعالى:
﴿ فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ ﴾
إذا أردْت أن تهدي زوجتك لا تَكُن قاسيًا معها، فقَسْوَتُك معها تزيدها منك نفورًا، وكذا مع أولادك، يا داود ذَكِّر عبادي بإنعامي عليهم فإنَّ النفوس جُبِلَت على حبّ مَن أحْسنَ إليها، وبغض من أساء إليها، وأنت لن تستميل هذه القلوب إلا بالمودَّة، والإحسان، والعَطْف، والحِلم، والصَّبر، وعلِّموا ولا تُعنِّفوا فإنَّ المعلِّم خير من المعنّف، قال لي أخ: كنتُ طفلاً صغيرًا فدَخَلتُ إلى بعض المساجد لأُصلِّي، فخرج من الصلاة فلم يجِد حِذاءهُ! تألَّم وصار يبكي، فكان هناك رجل يصلي، له دكان أمام الجامع رقَّ لي وأخذني إلى دُكانه، واشترى لي حذاءً جديدًا، فقال: والله الذي لا إله إلا هو منذ ذلك الوقت ما تركتُ الصَّلاة، ثَمَنُ هذا الحِذاء فعَلَ في قلبهِ فِعْل السِّحْر.
البند الآخر في الكفار هو مَن يُخْشى شرّه فَيُرْجى بإعطائِهِ كفَّ شرِّه، النبي عليه الصلاة والسلام قال: من يقطع لسان فلان؟ فهناك من فهم القطع الحقيقي! أما صحابي آخر فكان فهمه أرقى، فذهب إلى ذاك الأخ وأحْسن إليه، فكان إحسانه لهذا الرجل البذيء والمتهجِّم قطْعٌ لِلِسانِهِ، قال لي شخص: لي جارٌ سيّئ، يعلو عليّ بالصِّياح، ويرمي عليّ الأوساخ، ويتهجّم على أولاده، فأرْسَلَ له هدِيَّة، وثاني أسبوع هديّة ثانية، وكذا في الثالث، فأصبح هذا الجار كالملائكة!! فطريق الإحسان أسْرع وأجْدى وأكثر فعاليَّة من طريق العُدوان، فأنت بإحسانك للشرير تكفّ شرّه عنك.
قال ابن عباس: "إنَّ قومًا كانوا يأتون النبي عليه الصلاة والسلام فإن أعطاهم مدحوا الإسلام، وقالوا: هذا دينٌ حسن، وإن منعَهم ذَمُّوا وعابوا! فكان يقطعُ ألسنتهم بالإحسان إليهم، فأصبح الحاصل أنّ الكفار نوعان نوعٌ يُرْتجى إيمانهم كصَفوان بن أُميَّة، ونوعٌ يُتَّقى بالعطاء شرُّهم، كهؤلاء الذين إن أُعْطوا رَضُوا، وإن منِعُوا سَخِطوا!
انتهاء نصيب المؤلَّفة قلوبهم لأنَّ الله عز وجل أعزَّ دينه :
الأحناف وحدهم ذهبوا إلى أنَّ فهْم المؤلَّفة قلوبهم قد سقط وانتهى بِإعزاز الله لِدينه، فقد جاء عُيَيْنة بن حُصَين والأقرع بن الحارث وعباس بن مرداس وطلبوا من أبي بكر نصيبهم فكتب لهم به، ونصحهم أن يذْهبوا إلى عمر لِيَأخذوا موافقته، فقد كان وزيره، فجاؤوا عمر فأبى أن يُعْطِيَهم ومزَّق الرُّقْعة! وقال: هذا شيءٌ كان النبي صلى الله عليه وسلّم يُعطيكم إيَّاهُ تأليفًا لكم على الإسلام، وقد أعزَّه الله الآن، وأغناه عنكم، فإن ثبتُّم على الإسلام فلكم، و إلا فبيننا وبينكم السَّيف، فرجعوا إلى أبي بكر وقالوا: الخليفة أنت أم عمر؟! بذلْت لنا الخط فمزَّقَهُ عمر، وأرادوا أن يوقعوا بينهما، فقال رضي الله عنه: هو إذا شاء، فوافق أبو بكر عمر، ولم ينكر أحد من الصحابة، كما أنَّه وافق عثمان وعلي رضي الله عنهما، فهناك من قال: هذا اجتهاد من عمر بن الخطاب، ورأى أنَّه ليس من المصلحة إعطاء هؤلاء بعد أن ثبَّت الله الإسلام، ولا ضرر من ارتِدادهم فهذا جبلة بن الأيْهم جاءَ مسلمًا فرحَّب به عمر بن الخطاب، وفرِحَ بإسلامه، وأثناء الطواف بدوِي داس طرف ثوبِهِ فانخلَعَ إزاره عن كتفه فالتَفت جبلة إلى هذا البدَوي وضربهُ ضربةً هشَّمَتْ أنفه، فاشتكى هذا البدَوي إلى عمر، فاستدعى عمر بن الخطاب جبلة وقال: أصحيح ما اشتكى هذا الفزاري الجريح؟ فقال جبلة: لسْتُ مِمَّن يُنكِر شيَّا أنا أدَّبتُ الفتى أدْركتُ حقِّي بيَدَيّ، فقال عمر: أرْضِ الفتى، لابدّ مِن إرضائه، ما زال ظفرك عالقًا بِدِمائه أو يُهْشمنَّ الآن أنفُك وتنال ما فعلتْهُ كفُّك، فقال: كيف ذاك يا أمير هو سوقةٌ وأنا عرش وتاج؟ كيف ترضى أن يَخِرَّ النَّجم أرضًا، فقال عمر: نزَوات الجاهليَّة، ورياح العنجهيّة قد دفنَّاها، أقمنا فوقها صرْحًا جديدًا، وتساوى الناس لدينا أحرارًا وعبيدًا، فقال جبلة: كان وهمًا ما جرى في خَلَدي، عالم نبنيه كلّ صدع فيه بشبا السيف يُداوى، وأعزّ الناس بالعبد بالصُّعلوك تساوى، فالأحناف ذهبوا إلى أنّ نصيب المؤلَّفة قلوبهم قد انتهى لأنَّ الله عز وجل أعزَّ دينه.
جواز إعادة سهم التَّأليف عند الحاجة إليه :
لكن هناك مناقشة لطيفة جدًّاً، قال: ولكن هذا اجتهاد من عمر، أنَّه رأى ليس من المصلحة إعطاء هؤلاء بعد أن ثبَّت الله الإسلام، وأنَّه لا ضر يُخشى من ارتِدادهم، وكون علي وعثمان لم يعطِيا أحدًا من هذا الصِّنف لا يدلّ على ما ذهبوا إليه من سقوط سهم المؤلَّفة قلوبهم، فقد يكون ذلك لِعَدم وجود الحاجة إلى أحدٍ من الكفار، وهذا لا يُنافي ثبوته لِمَن احتاج إليه من الأئمَّة على أنّ العمدة في الاستدلال هو الكتاب والسنة، وقد روى أحمد ومسلم عن أنس أنَّ النبي عليه الصلاة والسلام لم يكن يُسأل شيئًا على الإسلام إلا أعطاه:
((عَنْ أَنَسٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لمْ يَكُنْ يُسْأَلُ شَيْئًا عَلَى الْإِسْلَامِ إِلَّا أَعْطَاهُ قَالَ فَأَتَاهُ رَجُلٌ فَسَأَلَهُ فَأَمَرَ لَهُ بِشَاءٍ كَثِيرٍ بَيْنَ جَبَلَيْنِ مِنْ شَاءِ الصَّدَقَةِ قَالَ فَرَجَعَ إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يَا قَوْمِ أَسْلِمُوا فَإِنَّ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهم عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُعْطِي عَطَاءً مَا يَخْشَى الْفَاقَةَ ))
إذًا لو صار الإسلام ضعيفًا وأصبحت الحاجة ماسّة إلى رجل يُدْفعُ شرُّه، أو يجلبُ خيره، أو يُرجى إيمانه، أو يُستعانُ به رجَعَ الحكم كما كان من قبل فهذه مناقشة لطيفة.
الشافعي له رأي وسط، فقال: لا يجوز أن تتألَّف كافرًا، أما الفاسق فَيعطى من سَهم التأليف رجاء أن يستقيم.
والظاهر أنّه يجوز أن يبقى هذا السَّهم عند الحاجة إليه، وهو أدقّ رأي فإذا كان في زمن الإمام قومٌ لا يُطيعونه إلا للدنيا، ولا يقدِرُ على إدخالهم تحت طاعته إلى بالقسر والغلب فله أن يتألَّفهم، ولا يكون لانتشار الإسلام تأثيرٌ لأنَّه لم ينتفع في خصوص هذه الواقعة، فالحلّ الوسط انَّه يجوز أن يُعاد سهم التَّأليف عند الحاجة إليه، ورأي الشافعي أنَّ الكافر لا يُتَأَلَّف قلبه أما أبو حنيفة فرأيهُ أنَّ التأليف سقط بإعزاز الله للإسلام.
4 ـ في الرقاب :
البند الآخر، وفي الرِّقاب، فهؤلاء الذين هم في حيِّز العبوديَّة، يجوز أن نُعْطِيَهم من مال الزكاة شيئًا يشترون بها حُريَّتهم، فعن البراء قال: جاء رجل إلى النبي عليه الصلاة والسلام فقال:
((عَنِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ قَالَ جَاءَ أَعْرَابِيٌّ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ: عَلِّمْنِي عَمَلًا يُدْخِلُنِي الْجَنَّةَ فَقَالَ لَئِنْ كُنْتَ أَقْصَرْتَ الْخُطْبَةَ لَقَدْ أَعْرَضْتَ الْمَسْأَلَةَ أَعْتِقِ النَّسَمَةَ وَفُكَّ الرَّقَبَةَ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَوَلَيْسَتَا بِوَاحِدَةٍ قَالَ لَا إِنَّ عِتْقَ النَّسَمَةِ أَنْ تَفَرَّدَ بِعِتْقِهَا وَفَكَّ الرَّقَبَةِ أَنْ تُعِينَ فِي عِتْقِهَا وَالْمِنْحَةُ الْوَكُوفُ وَالْفَيْءُ عَلَى ذِي الرَّحِمِ الظَّالِمِ فَإِنْ لَمْ تُطِقْ ذَلِكَ فَأَطْعِمِ الْجَائِعَ وَاسْقِ الظَّمْآنَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ فَإِنْ لَمْ تُطِقْ ذَلِكَ فَكُفَّ لِسَانَكَ إِلَّا مِنَ الْخَيْرِ ))
و:
(( ثَلَاثَةٌ حَقٌّ عَلَى اللَّهِ عَوْنُهُمُ الْمُجَاهِدُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمُكَاتَبُ الَّذِي يُرِيدُ الْأَدَاءَ وَالنَّاكِحُ الَّذِي يُرِيدُ الْعَفَافَ قَالَ أَبمو عِيسَى هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ ))
أيُّها الشباب، الناكح المتعفِّف الذي يرجو بالنِّكاح العفاف حقٌّ على الله عَونُهُ، لذا النبي عليه الصلاة والسلام ما شكا إليه رجلٌ ضيقَ ذات يدِه إلا قال له: اِذْهب فتزوَّج!!
5 ـ الغارمون :
والغارمون هم الذي تحمَّلوا الدُّيون، وتعذَّر عليهم أداؤُها، وهم أقسامٌ فَمِنهم من تحمَّل حمَّالةً، أو ضَمِن دَينًا فَلَزِمَهُ، فهؤلاء يجوز أخذهم من مال الزكاة، أو المستدين لِحاجة ماسَّة، أو في معصِيَةٍ تاب منها، فهؤلاء جميعًا يأخذون من مال الزكاة ما يفي ديونهم فقط، والنبي عليه الصلاة والسلام يقول:
(( إِنَّ الْمَسْأَلَةَ لَا تَحِلُّ إِلَّا لِأَحَدِ ثَلَاثٍ ذِي دَمٍ مُوجِعٍ أَوْ غُرْمٍ مُفْظِعٍ أَوْ فَقْرٍ مُدْقِعٍ ))
الأوّل التصق بالتراب، والثاني عليه دَين كبير، والثالث عليه أداء الديَّة.
وروى مسلم عن أبي سعيد:
(( أُصِيبَ رَجُلٌ فِي عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي ثِمَارٍ ابْتَاعَهَا فَكَثُرَ دَيْنُهُ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَصَدَّقُوا عَلَيْهِ فَتَصَدَّقَ النَّاسُ عَلَيْهِ فَلَمْ يَبْلُغْ ذَلِكَ وَفَاءَ دَيْنِهِ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِغُرَمَائِهِ خُذُوا مَا وَجَدْتُمْ وَلَيْسَ لَكُمْ إِلَّا ذَلِكَ))
اشترى ثمارًا بمئة ألف، فإذا هي كاسدة، فصار عليه أن يدفع الثمن لِصاحب البستان، ولم يدفع ثمن هذه البضاعة، هذا يجوز له أن يأخذ من مال الزكاة، وقد ساقني هذا الموضوع إلى موضوع التأمين، فقد سألني اليوم شخص، فقلتُ له: التَّأمين حرامٌ قَولاً واحدًا لأنَّ الأمن لا يُباع ولا يُشْترى، والأمْنُ بيَدِ الله، ومن باعك الأمْن فقد باعك شيئًا لا يملِكُهُ أما التأمين الإجباري فهذا سقط اختيارُكَ فيه، ولكنَّ الإسلام أباح التأمين التعاوني، لو فرضنا أنَّ بأحد أسواق المدينة مصلحة من المصالح إذا اتَّفق تجار مؤمنون وقرَّروا أن يدفعوا واحداً بالمئة من ثمن بضائعهم باستمرار ويضعونها في صندوق، فإذا تلف مال أحدٍ منهم، أو احترق دكانه، أو فلَّس، يأخذ هذا الإنسان من هذا الصُّندوق، وهذا جائز في الإسلام، وهو عمل طيب فالتأمين محرّم لأنَّهم يأخذون الشيء من دون عِوَض.
ذكر لي أحدهم أن بعض التجار متَّفِقون فيما بينهم أن إذا أُصيب أحدهم بِنَكبة يقدِّمون له المساعدة الكافية، هكذا الأصول، وهذا هو الإسلام، إلا إذا كان الشيء احتيالياً، كما يجري الآن، وفي درس قادم إن شاء الله نتابع مصارف الزكاة.