- الفقه الإسلامي / ٠5العبادات الشعائرية
- /
- ٠4الزكاة
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيّدنا محمد الصادق الوعد الأمين، اللهم لا علم لنا إلا ما علَّمْتنا إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علِّمنا ما ينْفعنا وانْفعنا بِما علَّمتنا وزِدْنا عِلماً، وأَرِنا الحق حقاً وارْزقنا اتباعه، وأرِنا الباطل باطِلاً وارزُقنا اجْتنابه، واجْعلنا ممن يسْتمعون القول فَيَتَّبِعون أحْسنه، وأدْخِلنا برحْمتك في عبادك الصالحين.
الزكاة ليْسَت في عَيْن المال بل في الذِمَّة :
أيها الأخوة الأكارم، وصلنا في موضوع الزكاة إلى مجموعة من الموضوعات التي تُكَمِّلُ هذا الموضوع؛ من هذه الموضوعات وُجوب الزكاة في الذِمَّة لا في عين المال! مثلاً؛ لو أنَّ إنسانًا يملِكُ مالاً يَعْدِلُ النِّصاب، ولم يدفع زكاة ماله لِسَنتين، ثمَّ أراد أن يدْفع الزكاة، فلو دَفَع زكاة عامٍ واحِدٍ لقلَّ المال عن النِّصاب، وبهذا لا يَجِبُ عليه أن يدْفع زكاة العام الذي قبل الماضي، فما الحلّ؟ الحلّ عند العلماء أنَّ الزكاة ليْسَت في عَيْن المال بل في الذِمَّة، أي تَجِب الزكاة في ذِمَّة الرجل لا في عَين ماله، فلو أنَّه لم يدْفعَ زكاة عامَين، وكان مالهُ قدْر النِّصاب تمامًا لوَجَب أن يَدْفع الزكاة عن عامَين سابِقَين، ولو قلَّ النِّصاب.
الشيء الآخر أنَّه لو كان لإنسان عشرة آلاف ليرة، لا تَجِبُ الزكاة في هذه العشرة آلاف بالذات، هذه العشرة آلاف عليها زكاة تقدر بألفين وخمسمئة، فالمبلغ لو دفعهُ من مكان آخر لصحَّ، فلو أنَّ واحدًا جاءَهُ مبلغٌ هِبَةً، فَدَفَعَ من الهِبة زكاة هذا النِّصاب لصحّ، لأنَّ الزكاة ليْسَت في عَين المال بل في ذِمَّة الرَّجل، ولو أبقاها كما هي ودفع المال من مال آخر لَصَحَّ ذلك، فالموضوع أنَّ الزكاة ليْسَت في عَين المال بل في ذِمَّة الرَّجل.
تأخير الزكاة لا يُسْقِطها :
شيءٌ آخر هو أنَّ تأخير الزكاة لا يُسْقِطها، من مضى عليه سنون ولم يُؤدِّ زكاة ماله لَزِمهُ إخراج الزكاة عن جميع السَّنوات السابقة سواءٌ عَلِمَ وجوب الزكاة أو لم يعلم، وسواءٌ كان في دار الإسلام أو دار الحرْب، فَحَقُّ الله تعالى أَحَقُّ أن يُقضى، ومن كان عليه زكاة عن أعوامٍ سابقة يجِبُ أن تؤدَّى بالعَدل والتَّمام.
لو أنّ أحدهم كانت له أربعون شاةً، وزكاة هذه الأربعين شاةٌ واحدة، الأولى أن يدْفعَ أحد هذه الشِّياه زكاة ماله، فإذا تعذَّر كأن حال الحول عليها، وقد بعثها إلى البادية، فَدَفع ثمن هذه الشاه لَجَازَ ذلك، فالأولى أن تُدْفع الزكاة مِن عين البضاعة، ومن عَين المال، فإن تعذَّر ذلك يجزئه أن يَدْفَعَ قيمة هذا الشيء، قال عليه الصلاة والسلام: عَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعَثَهُ إِلَى الْيَمَنِ وَقَالَ لَهُ:
((خُذِ الْحَبَّ مِنَ الْحَبِّ وَالشَّاةَ مِنَ الْغَنَمِ وَالْبَعِيرَ مِنَ الْإِبِلِ وَالْبَقَرَةَ مِنَ الْبَقَرِ))
الزكاة واجِبةٌ في العَيْن ولا يُعْدَلُ عنها إلى القيمة إلا في العُذْر :
وقال الشَّوكاني: الحقّ أنَّ الزكاة واجِبةٌ في العَيْن، أيْ عَينُ البِضاعة ولا يُعْدَلُ عنها إلى القيمة إلا في العُذْر، هذا في الأرياف، فالقمح لو أعطيتهُ إلى فلاَّح لكنت قد أعطَيتَهُ شيئًا ثمينًا، فإذا أديت زكاة مالك من القمح قمحًا لكان هذا عَوْنًا للفقير، ولو أعْطَيْتَ الفلاَّح مئة ليرة وألف ليرة قد تكون الأمور صعبة في الريف، لذا الأولى أن تُدْفَعَ الزكاة مِن عَين المال فإن تَعَذَّر ذلك يُعْدل عن المال إلى قيمته، وهذا موضوع آخر، غير موضوع الذّمة والعَين، فلو أنّ واحدًا معه عشرة آلاف ليرة، ووضَعها في صندوق حديدي، واسْتَحَقَّت الزكاة، جاءَهُ مبلغ آخر، وقد أقرضَهُ لإنسانٍ فردَّ له القرْض فدَفَع زكاة العشرة آلاف من القرض لَصَحَّ ذلك، لأنَّ الزكاة لا تجِبُ في عَين المال بل في الذمة، أما موضوعنا هنا فبالنِّسبة للمحاصيل والثِّمار والشِّياه، فهذا الأولى أن يُدْفَعَ من عَين المال، فإن تعذَّر تُدْفَعُ قيمة الشيء ويصِحُّ هذا من المسلم.
روى البخاري أنَّ معاذًا قال لأهل اليمن:
(( قَالَ مُعَاذٌ رَضِي اللَّه عَنْه لِأَهْلِ الْيَمَنِ ائْتُونِي بِعَرْضٍ ثِيَابٍ خَمِيصٍ أَوْ لَبِيسٍ فِي الصَّدَقَةِ مَكَانَ الشَّعِيرِ وَالذُّرَةِ أَهْوَنُ عَلَيْكُمْ وَخَيْرٌ لِأَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهم عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْمَدِينَةِ وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهم عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَمَّا خَالِدٌ فَقَدِ احْتَبَسَ أَدْرَاعَهُ وَأَعْتُدَهُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهم عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَصَدَّقْنَ وَلَوْ مِنْ حُلِيِّكُنَّ فَلَمْ يَسْتَثْنِ صَدَقَةَ الْفَرْضِ مِنْ غَيْرِهَا فَجَعَلَتِ الْمَرْأَةُ تُلْقِي خُرْصَهَا وَسِخَابَهَا وَلَمْ يَخُصَّ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ مِنَ الْعُرُوضِ))
الفِرار من الزكاة هو الاحتيال بالهروب منها :
هناك أشخاص يَفِرُّون من الزكاة، فإذا الواحد كان معه نِصاب الزكاة، وقبل حُلول رمضان اشترى حاجةً، كان يشتري ثُريَّا، فهذه الثريَّا حينما اشْتراها نقصَ المال عن النِّصاب فهربَ من الزَّكاة، وأنا لا أنسى قِصَّةً سَمِعتها، وهي أنَّ شابًّا توهَّم أنَّه إذا قلعَ أسنانه كلَّها يُعْفى من الخِدمة الإلزامِيَّة، فذهب لأوَّل طبيب فأبى، وإلى الثاني، إلا أن وجدَ طبيبًا نزَعَ له كل أسنانه!! فلما ذهب لِيُقدِّم أوراقه علموا تهرُّبَهُ من الخِدمة فَعُوقِبَ بِمُضاعفة الخدمة العسكريَّة فخسِر أسنانه، وضوعفَت له الخدمة!! وقد رأيْتُهُ بأُمِّ عيني، فإذا الواحِد فرَّ من الزكاة فالله تعالى يُعاقبُهُ عِقابًا شديدًا لأنّ هذا احْتِيالٌ على الله تعالى، لذا أبو حنيفة والشافعي رضي الله عنهما قالا: تسقط عنه الزكاة، ولكنَّ هذا يُعدُّ إساءةً ومعصِيَةً يستحِقُّ عِقاب الله من جهة أخرى، فأنت نفَذت من هنا، وعلِقْت من طرفٍ ثان، فالإنسان مع الله عز وجل مشكلته صَعبة، فأنت إن نفذْت من الزكاة فوجِئْت بِصِحَّتك، وقفت الكلية، ضاقت شرايين القلب، تلف المال، فالزكاة مع الله أن تُطبعَهُ لا أن تحتال على شرْعِهِ، والاحتِيال على شرعه أشدّ أنواع الغباء، فالفِرار من الزكاة هو الاحتيال بالهروب منها بِإنقاص المبلغ عن الحدّ الأدنى للنِّصاب، وربُّنا عز وجل قال:
﴿ إِنَّا بَلَوْنَاهُمْ كَمَا بَلَوْنَا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ إِذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّهَا مُصْبِحِينَ * وَلَا يَسْتَثْنُونَ * فَطَافَ عَلَيْهَا طَائِفٌ مِنْ رَبِّكَ وَهُمْ نَائِمُونَ ﴾
هذه القصَّة رائعة جدًّاً، فأصحاب البساتين عندهم محاصيل وأشجار مُثْمِرة مِمَّا لذَّ وطاب، فهم صمَّموا ألا يدْفعوا زكاة هذه المحاصيل، فطاف عليها طائف من ربِّك وهم نائمون! جاءها صقيع في الليل فأصْبحت كالصريم! فأنت بَخِلْتَ باثنين ونصف بالمئة من مالك فإذا بالمال يذهب كليًّاً، وهذه هي الخسارة الكبرى، وعلى كلٍّ للفقهاء آراء دقيقة في هذا الموضوع، فلو أنَّ إنسانًا أراد أن يَحْرم زوجته من الميراث ففي مرض الموت طلَّقها، فالطلاق هنا لا يقع، فالزَّواج يثبت وتأخذ المرأة نصيبها من الميراث، وهذا طلاق الفارّ، فهو يريدُ أن يفِرَّ من ميراث زوجته، ومن قتل مُورّثه اسْتِعجالاً بالإرث عاقبَهُ الشَّرْع بِحِرمانه من الإرث، فالقاتل لا ميراث له.
مصارف الزكاة :
ننتقل الآن إلى موضوع هامّ جدًّاً، ولا يوجد واحدٌ من الحاضرين لا يَعنيه ألا وهو مصارف الزكاة، كيف يدْفعُ زكاة ماله؟ مصارف الزكاة ثمانية أصناف حصرها الله سبحانه وتعالى في قوله تعالى:
﴿ إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاِبْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ﴾
إنّما تُفيد الحصْر، عن زيادة بن الحارث قال: أتَيْتُ النبي عليه الصلاة والسلام فبايَعْتُهُ فأتى رجل فقال: أعطِني من الصَّدقة، فقال عليه الصلاة والسلام: إنَّ الله عز وجل لم يرْض بِحُكم نبيّ ولا غيره في الصَّدقات حتَّى حكم فيها هو بِنفسه، فإن كنت من تلك الأجزاء أعطيتُك..." ثمانية مصارف للزكاة، إذا انْطبقَت أحد هذه المصارف على رجل اسْتَحَقَّ الزكاة أما إن لم تنطبق فلم يستحقها.
1 ـ للفقراء و المساكين :
أوَّلاً: للفقراء والمساكين، وهم المحتاجون والمساكين الذين لا يجدون كِفايتهم فعلى هذا المبدأ الذي له بيت ثمنه يقدر بمليوني ليرة، ولكن لا يجد ما يكفيه للقوت هو من المساكين، لأنَّ بيته هذا مستهلك، وقد اشتراه في الستِّينات، فالزكاة لا تقصر على المُتسَوِّلين، وتدَع المؤمنين الذين هم قِمَّة في العِفَّة في صَون ماءِ وُجوههم؛ هذا ليس من الحِكمة في شيء، وقد تقدَّم أنَّ القَدْر الذي يصير به الإنسان غَنِيًّا قَدْرُ النِّصاب، متى لا يجوز أن يدفعَ رجلٌ زكاة ماله آخر؟ إذا ملَكَ النِّصاب، ما هو النِّصاب؟ تحدَّثنا عنه وهو مئتا درهم من الفضَّة، أو ثلاثة وثمانون غراماً من الذهب، مجموعهم تقريبًا عشرة آلاف إلى خمسة عشر ألفاً على قدر سِعر الذَّهب، فإذا الواحد فوق مسكنه ومطعمه ومشربه ومركبه وحرفته وآلات حرفته كان يملك فائضًا عشرة آلاف ليرة عليه أن يدفع الزكاة، لذا من لم يكن له فائض على هذه الأشياء هذا لا تجب عليه الزكاة، فهذا معاذ روى عن النبي عليه الصلاة والسلام:
((عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِي اللَّه عَنْه أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعَثَ مُعَاذًا رَضِي اللَّه عَنْه إِلَى الْيَمَنِ فَقَالَ ادْعُهُمْ إِلَى شَهَادَةِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَنِّي رَسُولُ اللَّهِ فَإِنْ هُمْ أَطَاعُوا لِذَلِكَ فَأَعْلِمْهُمْ أَنَّ اللَّهَ قَدِ افْتَرَضَ عَلَيْهِمْ خَمْسَ صَلَوَاتٍ فِي كُلِّ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ فَإِنْ هُمْ أَطَاعُوا لِذَلِكَ فَأَعْلِمْهُمْ أَنَّ اللَّهَ افْتَرَضَ عَلَيْهِمْ صَدَقَةً فِي أَمْوَالِهِمْ تُؤْخَذُ مِنْ أَغْنِيَائِهِمْ وَتُرَدُّ عَلَى فُقَرَائِهِمْ ))
فالذي تُؤخَذ منه هو الغني، والذي تُردّ إليه هو الفقير، الذي لا يملكُ القدْر الذي يملكه الغني، فَتَعريف الفقير هو الذي لا يملكُ قدْر النِّصاب، وليس هناك فرق بين الفقراء والمساكين، طبعًا هناك توجيه قرآني وهي أنَّ الله تعالى ذكر مرَّة الفقراء والمساكين، وذكر مرَّةً الفقراء، وذكر مرَّةً المساكين، فكيف نجْمع بينهم؟ إذا تفرَّقا اجتمعا، وإذا اجتمعا اختلفا، فإذا الله تعالى قال: الفقراء والمساكين فالفقراء نوع والمساكين نوع، وإذا تفرَّقا اجتمعا، والنبي عليه الصلاة والسلام عرَّف بِدِقَّة من هم الفقراء والمساكين فقال عليه الصلاة والسلام:
((لَيْسَ الْمِسْكِينُ الَّذِي تَرُدُّهُ التَّمْرَةُ وَالتَّمْرَتَانِ وَلَا اللُّقْمَةُ وَلَا اللُّقْمَتَانِ إِنَّمَا الْمِسْكِينُ الَّذِي يَتَعَفَّفُ وَاقْرَءُوا إِنْ شِئْتُمْ يَعْنِي قَوْلَهُ ( لَا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا ) ))
فالمُتسوِّل في الطريق هذا ليس مِسكينًا، اقرؤوا إن شئتم قوله تعالى:
﴿ لِلْفُقَرَاءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِي الْأَرْضِ يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُمْ بِسِيمَاهُمْ لَا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ ﴾
فالمسكين هو المتعفِّف، والذي لا يملك إلا قوت يومه، فإن جاءتْهُ عمليّة جراحيّة لم يكن قد وضع حسابها! قال لي شخص: أدخل إنسان زوجته إلى المستشفى، واتَّفق مع الطبيب على اثني عشر ألف ليرة، فطالَتْ العمليَّة ثلاث ساعات فقال له: ثمانية وعشرون ألفًا!! فهذا له عِزَّة وكرامة، ولا يسأل الناس، وله بيت، ومركبة، ولكن لا يتوفَّر له هذا المبلغ! لذلك بعض العلماء أَفْتَوا أنَّه يَجِبُ أن تقول لِمن يأخذ زكاة مالك: هذه زكاة مالي، لكنَّ الإمام أبا حنيفة رضي الله عنه قال: يجوز أن تُدْفَعَ الزكاة على شَكل هَدِيَّة، فلو كان لك قريب رقيق الحال، ومبلغ الزكاة ثمانمئة ليرة، فإذا ذهب إلى هذا القريب وأعطاه المبلغ قد يرفضُهُ، ولكن لو ذهَب بالعيد وأعطى كلّ واحِدٍ من أولاده مئة مئة على أنَّها هدِيَّة، فلا أحدَ يشعر بشيء!! وكذا لو كان على وشك زواج، لذا ليس من الأدب الإسلامي أن تقول له: هذه زكاة مالي، خُذها!! فالإنسان يجِبُ أن يدفعَ زكاة المال مُتلطِّفاً، أقْسم لي رجل أنّ واحدًا دَفع زكاة ماله لأحدٍ وقال له: هذه زكاة مالي فرفض ذاك الشَّخص أن يُكلِّمَهُ عامين!! فالعلماء قالوا: إذا رضي الفقير أن يأخذ منك فله فضْل عليك.
مِقدار ما يُعطى الفقير من الزكاة :
الآن عندنا نقطة دقيقة، وهي مِقدار ما يُعطى الفقير من الزكاة، لو أنَّ واحدًا زكاة ماله ألف ليرة، يُقسِّمهم خمسينات، ويعطيهم لِعِدَّد من الناس!! ماذا تفعل هذه؟ اللحم سعرهُ سبعون ليرة! فالعلماء يقولون: يَجِبُ أن تُعْطِيَ عطاءً يكفي، فإما أن تُعْطِيَ مبلغًا مقبولاً أو لا تعطي.
مِن مقاصِد الفقير كفاية الفقير، وسدّ حاجته، فَيُعطى من الصَّدقة بالقَدر الذي يُخرجِهُ من الفقر إلى الغنى، قال عمر رضي الله عنه: "إذا أعْطَيتُم فأغنوا"، والإمام مالك لم يجعل للمِقدار الذي يُدفع للفقير حدًّاً، قال: يُعطى من له المسكن والخادم والدابة الذي لا غِنى له عنه، فالذي له مسكن أو دابة يستعين بهما على متاعب الحياة هذا لا يُعَدُّ غَنِيًّاً، فالفقهاء قالوا: يُعطى من له خادم ومسكن ودابَّة!!
هل يَحِلّ للفقير أن يسأل ؟
الآن السؤال: هل يَحِلّ للفقير أن يسأل؟ هناك فَتوى، وهناك تقوى!
((عَنْ قَبِيصَةَ بْنِ مُخَارِقٍ قَالَ تَحَمَّلْتُ حَمَالَةً فَأَتَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَسْأَلُهُ فِيهَا فَقَالَ أَقِمْ يَا قَبِيصَةُ حَتَّى تَأْتِيَنَا الصَّدَقَةُ فَنَأْمُرَ لَكَ قَالَ ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَا قَبِيصَةُ إِنَّ الصَّدَقَةَ لَا تَحِلُّ إِلَّا لِأَحَدِ ثَلَاثَةٍ رَجُلٍ تَحَمَّلَ حَمَالَةً فَحَلَّتْ لَهُ الْمَسْأَلَةُ حَتَّى يُصِيبَ قِوَامًا مِنْ عَيْشٍ أَوْ سِدَادًا مِنْ عَيْشٍ وَرَجُلٍ أَصَابَتْهُ جَائِحَةٌ فَاجْتَاحَتْ مَالَهُ فَحَلَّتْ لَهُ الْمَسْأَلَةُ حَتَّى يُصِيبَهَا ثُمَّ يُمْسِكَ وَرَجُلٍ أَصَابَتْهُ فَاقَةٌ حَتَّى يَشْهَدَ ثَلَاثَةٌ مِنْ ذَوِي الْحِجَا مِنْ قَوْمِهِ قَدْ أَصَابَتْ فُلَانًا فَاقَةٌ فَحَلَّتْ لَهُ الْمَسْأَلَةُ حَتَّى يُصِيبَ قِوَامًا مِنْ عَيْشٍ أَوْ سِدَادًا مِنْ عَيْشٍ فَمَا سِوَى هَذَا مِنَ الْمَسْأَلَةِ يَا قَبِيصَةُ سُحْتٌ يَأْكُلُهَا صَاحِبُهَا سُحْتًا ))
الحمالة أن ينشب خلاف أو قضيّة قتل أحيانًا فأهل القرى كانوا يدفعون دِيَّة، فإذا الواحد دخل في قضيَّة لِيَحُلّ الخلاف، وكلَّفه ثمنًا باهظًا، فقُبيْصَة رضي الله عنه قال: تحمَّلتُ حمالة، فالذي يدخل في صلح بين الناس، ويكلّفه أن يدفع بعدها له أن يسأل الناس، والجائحة مصيبة تُتْلف المال كأن يحترق المحلّ، فهذا كذلك له أن يسأل الناس حتى ينتهي من مشكلته، ورجل أصابته فاقة يحلّ له السؤال حتى يصيب قِوامًا من عَيش، ففي مثل هذه الحالات الثلاثة يجوز لك بِنَصّ الحديث الشريف أن تسأل الناس فإن سألت وأخذْت ما تحتاج كان عليك أن تكفّ عن السؤال، وعليك أن تتجنَّب السؤال إلا للضرورة، لذا المحتالون هم مسؤولون عن تهرّب الناس من العمل الصالح، أذكر مرَّة إنساناً سألني مبلغاً لعمليّة جراحيّة للعين، فرقَّ قلبي له، وجمَّعنا له مالاً لا بأس به، فهمسَ أحدهم في أُذُني أنَّه محتال! فقلتُ له لما جاءني: أين تُريد أن تُجري العمليَّة؟ فقال: خارج القطر! فقلتُ له: نحن جاهزون لِدَفع تكلفة العمليَّة فقط داخل القطر، حينها ولَّى هاربًا!! فالجمعيات الخيريّة الآن لها خبرات واسعة في مجال احتِيال هؤلاء، والإنسان المُحتال هو الذي يمنع الماعون.
أحدهم كان يركبُ فرسًا فرأى رجلاً ينْتَعِلُ رمال الصحراء المحرقة في أشهر الصيف الحارة، فرقَّ له وقال: ارْكب ورائي، وما إن ركب وراءهُ حتَّى دفعهُ نحو الأرض، فقال له صاحب الفرس و هو يهرب بالخيل عن بُعْد: لقد وَهَبْتُ لك هذا الفرس ولن أسأل عنها بعد اليوم، ولكن إيَّاك أن يشيع هذا الخبر في الصحراء، فإذا شاع تذهب المروءة، وبِذاهب المروءة يذهب أجمل ما في الصحراء، فَكُلّ الذين يسيئون لأصحاب المعروف هؤلاء يمنعون الماعون.
((عن عُبيد الله بن عديّ قال أخبرني رجلان أنهما أتيا النبي عليه الصلاة والسلام في حجَّة الوداع وهو يقسم الصَّدقة فسألاه منها فرفع فينا البصر وخفَّضَهُ، فرآنا جَلْدَين، وقال: عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَدِيٍّ قَالَ أَخْبَرَنِي رَجُلَانِ أَنَّهُمَا أَتَيَا النَّبِيَّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ يَسْأَلَانِهِ الصَّدَقَةَ قَالَ فَرَفَعَ فِيهِمَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْبَصَرَ وَخَفَضَهُ فَرَآهُمَا رَجُلَيْنِ جَلْدَيْنِ فَقَالَ إِنْ شِئْتُمَا أَعْطَيْتُكُمَا مِنْهَا وَلَا حَظَّ فِيهَا لِغَنِيٍّ وَلَا لِقَوِيٍّ مُكْتَسِبٍ ))
لذا سئل الإمام الغزالي عن القويّ من أهل البيوتات الذين لم تجر عادتهم بالتَّكَسُّب بالبَدَن هل له أخذ الزكاة من سَهم الفقراء؟ فقال: نعم! فالذي من عائلة غنيّة يصعب عليه اقتناء عمل دون مستواه، وإن شاء الله في درس قادم نتابع الحديث.