- تفسير القرآن الكريم / ٠1التفسير المختصر
- /
- (006) سورة الأنعام
الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين .
عطاء الله ابتلاء وحرمانه دواء :
أيها الأخوة الكرام : يقول الله سبحانه وتعالى في كتابه العزيز :
﴿وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ ﴾
وفي آية أخرى وصف الله كتابه الكريم بأنه شفاء لما في الصدور .﴿وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ﴾
معنى هاتين الآيتين أن الإنسان في الحياة الدنيا قد يقف أمام ظاهرة محيرة ، مثلاً : لو أن شخصاً ذهب إلى بلاد الغرب ، لرأى بلاداً جميلة ، وأمطاراً غزيرة ، وأبنية شاهقة ، وحدائق غناء ، ودخلاً مرتفعاً ، ورأى كل وسائل الرفاء متوافراً لدى أي إنسان ، ورأى مع ذلك انحرافاً خطيراً ، زنى ، شذوذ ، مخدرات ، تبادل زوجات ، زنى محارم ، وهم أقوى ، وهم الأقوياء ، والأغنياء ، والمسيطرون على العالم كله ، ينشأ عنده سؤال : يا رب ما بال هؤلاء يزدادون قوة وسيطرة واستبداداً للشعوب وهم في أحط دركات الفسق والفجور ؟ أين الله ؟ إذا نشأ هذا التساؤل فهذه مشكلة ، قد يختل لها توازن المؤمن ، كيف أن القرآن الكريم شفاء لما في الصدور ، دققوا في هذه الآية الكريمة في سورة الأنعام في الآية الثانية والأربعين قال تعالى :﴿وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ * فَلَوْلَا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا وَلَكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ * فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ * فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ﴾
فلما نسوا ما ذكروا به ، وذكرناهم ، وذكرناهم تارة بالبأساء ، وتارة بالضراء ، وتارة بالخوف ، فلما نسوا ما ذكروا به فتحنا عليهم أبواب كل شيء ، ليس باباً واحداً ، ولكن أبواباً ، وليس شيئاً واحداً ، ولكن أبواب كل شيء ، هل من آية أكثر شمولاً واتساعاً من هاتين الكلمتين ؟ أي الغنى مع البلاد الخضراء ، مع الأمطار الغزيرة ، مع الدخل المرتفع ،﴿فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ ﴾
هذا كلام رب العالمين :﴿ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ * فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾
المؤمن أحياناً يختل توازنه حينما يرى كافراً فاجراً فاسقاً منحلاً قوياً مسيطراً ، ربنا سبحانه وتعالى يقول :﴿لَا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلَادِ * مَتَاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ ﴾
في آية أخرى يقول الله عز وجل :﴿فَأَمَّا الْإِنْسَانُ إِذَا مَا ابْتَلَاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ﴾
هذه مقولته :﴿وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلَاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ﴾
يقول الله عز وجل ،﴿كَلَّا﴾
كلا أداة نفي وردع ، أي هذا ليس صحيحاً ، هذه مقولتكم ، هذا وهمكم ، هذا ظنكم ، ليس عطائي إكراماً ولا منعي حرماناً ، عطائي ابتلاء وحرماني دواء ، فإذا أعطى الله عبداً مالاً ، أو جاهاً ، أو قوة ، أو ذكاء ، أو وسامة ، هذه لا قيمة لها ، هذا العطاء موقوف على نوع استعماله ، فإذا أنفق ماله في طاعة الله ، انقلب المال إلى نعمة ، وإذا أنفق قوته في نصرة المظلوم ، انقلبت القوة إلى نعمة ، وإذا أنفق ذكاءه في الدعوة إلى الله ، انقلب ذكاءه إلى نعمة ، أما إذا أنفق ماله فيما لا يرضي الله صار المال نقمة ليس نعمة ، إذا أنفق جاهه فيما يغضب الله صار الجاه نقمة لا نعمة ، إذا أعمل فكره اللماح فيما لا يرضي الله صار هذا الذكاء وبالاً على صاحبه . فالنعمة الحقيقة هي النعمة التي تنفق فيما ترضي الله :﴿فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ ﴾
﴿لَا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلَادِ * مَتَاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ * لَكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ﴾
بطولة الإنسان أن يكون على منهج الله :
قارون حينما خرج على قومه في زينته :
﴿ فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ قَالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ * وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً وَلَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الصَّابِرُونَ ﴾
فأنت أمام مظاهر البذخ والغنى والقوة والسيطرة ، أنت كمؤمن ممتحن قد يختل التوازن إذا رأيت أن هذا يزداد قوة ، ومناعة ، وسيطرة ، وهو في أحط الأحوال في الوحول ، فلئلا يختل توازنك تأتي هذه الآيات لتطمئنك . البطولة أن تكون على منهج الله ، كفاك على عدوك نصراً أنه في معصية الله ،﴿لَا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلَادِ ﴾
﴿وَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصَارُ﴾
فالإنسان كلما رأى مظاهر القوة ، مظاهر الغنى ، يتمتع بها إنسان ، بعيد عن الدين، غارق بالمعاصي والشهوات ، لا ينبغي أن يختل التوازن ، يقول : ما بال هؤلاء المؤمنين فقراء مستضعفين ؟الغنى والفقر بعد العرض على الله ، والإنسان كلما كان إيمانه قوياً يزداد ثقة بوعد الله .
﴿أَفَمَنْ وَعَدْنَاهُ وَعْداً حَسَناً فَهُوَ لَاقِيهِ كَمَنْ مَتَّعْنَاهُ مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ هُوَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنَ الْمُحْضَرِينَ ﴾
أقوى الناس من رضي الله عنه :
هذه الآيات أسوقها لكم كي يزداد المؤمن ثقة بربه ، لأن الله سبحانه وتعالى إذا رضي عنك فأنت أقوى الناس ، وأنت أغنى الناس ، وأنت أسعد الناس ، أنت المتفوق ، وأنت الفائز ، وأنت الرابح ، وأنت الناجح ، وأنت الفالح ، وأنت الذكي ، وأنت العاقل :
﴿وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً﴾
أي المؤمن عندما يكون على منهج الله تماماً ، ويرى أحداً فاقه في الدنيا إذا شعر بالحرمان فو الله الذي لا إله إلا هو هذا ضعف كبير في إيمانه ، من أوتي القرآن فرأى أن أحداً أوتي خيراً منه فقد حقر ما عظمه الله ، أتاك الله القرآن ، أتاك الله الحكمة ، جعلك على صراط مستقيم ، جعلك في خدمة الخلق ، ألا يكفي الإنسان أن يقيم نفسه وفق هذه القاعدة ؟ إذا أردت أن تعرف مقامك فانظر فيما استعملك .من استهلك حظه في الدنيا وفق ما يرضي الله فقد فاز بعطاء الله :
ما دورك في الحياة ؟ هناك أعمال مربحة جداً ، قائمة على أخذ ما في أيدي الناس، أو على إيذاء الناس ، أو على تخويف الناس ، هذه الأعمال لو درت عليك ألوف الملايين ، لا تعبأ بها ، اجعلها تحت قدمك ، ابحث عن رزق حلال ، ابحث عن رزق يرضي الله عز وجل ، ابحث عن خدمة للخلق ، لأن هذه الدنيا زائلة ، فهذا شيء أساسي في الدين ، إذا رأيت إنساناً قوياً ، مسيطراً ، يزداد قوة ومناعة ، وهو في أحط الدركات ، في الوحول ، في المعاصي ، في الآثام ، في الكفر ، في الفسق ، في الفجور ، لا ينبغي أن تقول : هذا الله أعطاه ، الله ما أعطاه شيئاً ، هذا ليس عطاء ، إذا أعطاك الله حظاً من حظوظ الدنيا فاستهلكته فيما يرضي الله هذا هو العطاء .
لا حسد إلا في اثنتين ، رجل أتاه الله علماً فهو يعلمه للناس ، ورجل أتاه الله مالاً فهو ينفقه في طاعة الله ، هؤلاء الشخصان لك أن تغبطهما ، أما أن تغبط غنياً على غناه ، سوف تسأل عن كل درهم كيف اكتسبته وكيف أنفقته .
يحشر الأغنياء أربع فرق يوم القيامة ؛ فريق جمع المال من حرام وأنفقه في حرام ، هذا حسابه سريع جداً ، يقال : خذوه إلى النار . فريق جمع المال من حرام - عنده ملهى - أنفقه في حلال ، اشترى بيتاً وتزوج ، يقال : خذوه إلى النار ، لأن فيه فقرة حرام ، فريق جمع المال من حلال - تجارة مشروعة - وأنفقه في حرام ، على النوادي الليلية ، فيقال : خذوه إلى النار. جمعه من حرام وأنفقه في حرام إلى النار . جمعه من حلال وأنفقه في حرام إلى النار. جمعه من حرام وأنفقه في حلال إلى النار . وفريق جمع المال من حلال وأنفقه في حلال ، قال : هذا حاسبوه ، هذا قفوة فاسألوه ، هل تاه بماله على عباد الله ؟ هل نسيَ فرضاً أو واجباً ؟ هل قال جيرانه : يا رب لقد أغنيته بين أظهرنا فقصر في حقنا ؟ يقول عليه الصلاة والسلام :
((فما زال يسأل ويسأل - تركهم يسألونه ، وأمامه حساب طويل- حتى ما من ميت إلا وروحه ترفرف فوق النعش تقول : يا أهلي يا ولدي لا تلعبن بكم الدنيا كما لعبت بي ، جمعت المال مما حلّ وحرم فأنفقته في حله وفي غير حله ، فالهناء لكم والتبعية علي))
من كانت مقاييسه وفق طاعة الله فقد فاز وربح :
أيها الأخوة الكرام ؛ العبرة أن تكون في طاعة الله :
﴿إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ﴾
العبرة أن تكون على منهج الله ، العبرة أن تكون فيما يرضي الله . الإمام الجنيد سئل: من هو الولي ؟! أهو الذي يطير في الهواء ؟ قال : لا ، قالوا : أهو الذي يمشي على سطح الماء ؟ قال : لا ، قال : الولي كل الولي الذي تجده عند الحلال والحرام ، البطولة أن يجدك الله حيث أمرك ، وأن يفتقدك حيث نهاك ، هذا الولي . فالإنسان أحياناً يتألم لخلل مقاييسه، إذا مقاييسه فيها خلل يتألم ، أما إذا كانت مقاييسه وفق طاعة الله عز وجل ، وأن الآخرة هي الدار الحقيقية ، وأن الجنة هي المغنم الكبير ، وأن الله سبحانه وتعالى سميع بصير ، وعليم بأحوال عبده ، يقول الله عز وجل :﴿فَلَا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ فَتَكُونَ مِنَ الْمُعَذَّبِينَ * وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ * وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ * فَإِنْ عَصَوْكَ فَقُلْ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ * وَتَوَكَّلْ عَلَى الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ * الَّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ * وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ * إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ﴾