- تفسير القرآن الكريم / ٠1التفسير المختصر
- /
- (006) سورة الأنعام
الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين .
الحياة الدنيا دار ابتلاء لا دار استواء :
أيها الأخوة الكرام ؛ الآية الثالثة عشرة بعد المئة من سورة الأنعام وهي قوله تعالى:
﴿وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوّاً شَيَاطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ * وَلِتَصْغَى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَلِيَرْضَوْهُ وَلِيَقْتَرِفُوا مَا هُمْ مُقْتَرِفُونَ﴾
هذه الآية أيها الأخوة ؛ تحل مشكلات عديدة ، كلكم يعلم أن في الأرض مذاهب وضعية ، مذاهب ما أنزل الله بها من سلطان ، مذاهب قد بنيت على أنه لا إله ، وهذه المذاهب لها كتب ، ولها مؤلفات ، ولها دعاة ، ولها قوى تحميها . فربنا سبحانه وتعالى لماذا سمح لهؤلاء أن يعرضوا هذه الأفكار المضلة الضالة ؟ أليس بيد الله كل شيء ؟ يقول الله عز وجل - وهذا من سنته في خلقه - :
﴿وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوّاً ﴾
لولا العدو لما ارتقى النبي صلى الله عليه وسلم ، ولما ظهر جهاده ، ولما ظهر فضله ، الإنسان من دون خصومات ، من دون معارضات ، لا يرقى ، أي لا يسعى ، لا يُمتن، لا يظهر فضله .
﴿وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوّاً ﴾
يروى أن في المناجاة التي جرت بين سيدنا موسى عليه وعلى نبينا أفضل الصلاة والسلام ، وبين الله عز وجل ، سيدنا موسى كليم الله هكذا تروي الكتب ، لا ندري مبلغ هذا من الصحة ، لكن له مغزى قال : يا ربي لا تبقي لي عدواً ، قال : يا موسى هذه ليست لي :
﴿مَنْ كَانَ عَدُوّاً لِلَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ فَإِنَّ اللَّهَ عَدُوٌّ لِلْكَافِرِينَ ﴾
طبيعة الحياة حلبة صراع بين الحق والباطل ، بالصراع يرقى المؤمن ، وتقام الحجة على الكافر . طبيعة الحياة دار ابتلاء لا دار استواء ، لا دار تشريف ، دار تكليف ، هذه حقيقة الحياة .
الحكمة من أن يكون لكلّ نبي عدو :
الله سبحانه وتعالى كان من الممكن أن يبعث النبي عليه الصلاة والسلام في بلدة كلها مؤمنون ، لا يوجد غير سيدنا الصديق ، وسيدنا عمر ، وسيدنا عثمان ، وسيدنا علي ، وسيدنا طلحة ، و الزبير ، أحباب وأصحاب وإخوان ، لا يوجد مشكلة ، لا يوجد بدر ، ولا أحد، ولا الخندق ، ولا يوجد يهود ، ولا يوجد شيء ، لماذا ؟
﴿وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوّاً شَيَاطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ﴾
الإنسان بالعدو يجتهد ، بالعدو يرقى ، بالعدو يظهر صدقه ، بالعدو يظهر ثباته ، بالعدو يقيم الحجة عليه ، بالعدو لعله يهديه إلى الله . لو تأملنا في الحكم التي وراء أن يكون لكل نبي عدو ، لوجدنا العجب العجاب ، هذه نقطة .
﴿وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوّاً شَيَاطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ﴾
خصائص التقديم في القرآن الكريم :
التقديم في القرآن له خصائص ، ما قدم الله شياطين الإنس على شياطين الجن ، إلا لأن شياطين الإنس أخطر من شياطين الجن ، إنسان لطيف ، يحمل شهادة عالية ، لبق ، أفكاره كلها إلحادية ، أفكاره إباحية ، أفكاره دنيوية ، هذا بجلسة يدعوك إلى غداء ، يلاطفك يؤنسك ، تفضل ، ثم يقول لك : حتى الآن أنت قابض الدين ؟ أين عقلك ؟ هذا أخطر من الشيطان .
﴿وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوّاً شَيَاطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ﴾
ما قدم الله شياطين الأنس على شياطين الجن إلا لأنهم أخطر .
الآن مثلا ربنا عز وجل قال :
﴿إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفاً ﴾
وقال :
﴿ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ ﴾
المرأة كيدها أشدّ من كيد الشيطان ، لأنه ليس لك عند الشيطان حاجة ، لكن لك عند هذه المرأة حاجة ، فإذا استغلت حاجتها لك ، ودعتك إلى معصيةٍ ، أو إلى مخالفةٍ ، فقد كانت عدوةً لك . إذاً :
﴿وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوّاً شَيَاطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ﴾
دققوا في الباطل :
﴿يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً﴾
كلام منمق ، كلام محبب أحياناً ، قد يكون هناك أدلة واهية ، أمثلة ، لقطات ، أسلوب أدبي ، عرض شيق ، هذا معنى .
﴿زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً﴾
توظيف الشر للخير المطلق :
أما الحكمة فالله عز وجل دائماً وأبداً يوظف الشر للخير المطلق ، الشر شر ، لكن هو شر نسبي ، بمعنى أن صاحبه أراد الشر ، لكن الله سبحانه وتعالى يوظف هذا الشر ، للخير المطلق ، كيف ؟ الظالم سوط الله ، الظلم شر ، ينتقم به ثم ينتقم منه .
﴿وَكَذَلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضاً﴾
إنسان أراد أن يسرق ، هذا شر ، لكن الله سبحانه وتعالى يسوقه إلى من ماله حرام، فالله أخرج لهذا الإنسان شهوته الشريرة وأدّب هذا الذي كسب مالاً حراماً في وقت واحد .
الشر المطلق ليس له وجود ، هناك شر نسبي ، الشر النسبي في نفوس أصحاب الشر ، لكن شرهم يوظف للخير ، فهذا الباطل ، الإلحاد ، النظرية الوجودية ، نظرية دارون مثلاً ، أفكار فرويد ، أفكار هؤلاء الطغاة ، الذين قلبوا المفاهيم ، فرويد جعل الإنسان كتلة جنس وإنسان آخر جعل الإنسان مادة فقط ، لا شيء غير المادة ، وإنسان جعل اللذة هي كل شيء ، وإنسان رأى أنه ليس لهذا الكون إله ، هذه النظريات الهدامة .
المؤمن محصن لا يتأثر بالباطل :
﴿وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوّاً شَيَاطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ﴾
أخواننا الكرام ؛ أوضح ما يفسر هذه الآية . إنسان يعطى لقاح مثلاً ، كوليرا ، ما هو لقاح الكوليرا ؟ هي جراثيم الكوليرا ، حينما ندخل هذه الجراثيم إلى الجسم ، عندنا جهاز مناعة ، جهاز المناعة هائل جداً ، مؤلف من ثلاثة أقسام : قسم استطلاعي . . . قسم مخبري . . . قسم مقاتل . . . فعندما يدخل جرثوم الكوليرا إلى الجسم ، الاستطلاع يكشف حقيقة هذا الجرثوم ، ويأتي إلى المراكز ، ليبلغ عن ترتيب هذا الجرثوم ، المراكز اللمفاوية في الجسم تُصنع المصل المضاد لهذا الجرثوم ، الآن عندنا عنصر مقاتل ، يحمل هذه الأسلحة ويمضي بها إلى هذا الجرثوم ويحاصره ، ما الذي حصل ؟ صار هناك مناعة عند الإنسان ، مناعة أي أدَرب على مواجهة الهجمة الشرسة لهذا الجرثوم .
وهذا الذي يكون تماماً حينما تطرح نظرية هدامة ، فكر منحرف ، فكر علماني ، نظرية أساسها المادة ، نظرية أساسها المصلحة ، نظرية أساسها اللذة ، نظرية أساسها اللحظة الراهنة . قال : هذه لقاحات . . . فالمؤمن يسارع إلى أن يرد عليها ، فيرقى عند الله ، وغير المؤمن يقع في حيرة ، فيسأل ، فيأتي الجواب ، والذي في نفسه مرض يقبلها ، ينطلق إلى شهواته ، لذلك ربنا سبحانه وتعالى يسرع له بالمعالجة ، وقد تقام الحجة على من ابتدعها فيتوب إلى الله ، أي الذي نراه شراً هو في الحقيقة خير .
حديث الإفك مثلاً ، جاء في بالي هذا المثل ، أليس الحديث عن السيدة عائشة عمل خطير جداً وعمل شرير ؟ قال :
﴿إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ لَا تَحْسَبُوهُ شَرّاً لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ﴾
له مؤديات ، ظهر كمال النبي صلى الله عليه وسلم ، ظهرت قيمة الوحي ، تأخر الوحي في تبرئة السيدة عائشة شهراً ، لو أن الوحي شيء من فعل النبي لأتى بآية بعد ساعة ، وبرّأ السيدة عائشة . بقي النبي ينتظر شهراً ، ليس في إمكانه أن يبرئها ، ولا أن يثبت الشيء ، ظهر الوحي كياناً مستقلاً عن النبي عليه الصلاة والسلام ، والصحابة امتحنوا ، بعضهم ظن في نفسه خيراً ، بعضهم انزلق ، بعضهم روج ، فلذلك الذي تراه في الحياة محض شر ، الحقيقة شر نسبي ، هو فعلاً ظاهره شر ، لكن حقيقته قد يكون فيه خير .
أحياناً الإنسان تكون هذه النقطة مرتاحاً منها ، يقرأ كتاباً يجد فيه شبهة ، يخطئ ، يسأل عالماً ، يسأل عالماً ثانياً ، يسير لطلب العلم ، ينضم لمجالس العلم ، يرتقي ، لولا هذه الشبهة التي ألقيت لما انطلق هذا المؤمن لمعرفة الله ، ولما انطلق إلى متابعة الحق . لذلك ربنا عز وجل قال :
﴿وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوّاً شَيَاطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ﴾
أي هناك حكمة بالغة .
﴿فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ * وَلِتَصْغَى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ﴾
إذاً لا يصغي للباطل إلا من كفر بالآخرة ، لا يتأثر بالباطل إلا من أراد الدنيا فقط، لا يقنع بالنظريات الهدامة إلا من أراد الشهوة ، المؤمن لا يتأثر ، المؤمن محصن لا يتأثر بالباطل .
تعلق إرادة الله بالحكمة المطلقة :
لذلك :
﴿وَلِتَصْغَى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ﴾
في نفسه شهوة ، هذه الشهوة . يجيب وبعدها يعالجه الله عز وجل ، كل هذه الخيرات من هذا الشيء ، أحياناً تأتي ذبابة على محصول القطن ، محصول القطن هذا يعيش منه خمسة آلاف إنسان ، يأتي المهندس يبحث عن مضاد حيوي ، يسافر ، يتحرك ، شغل الناس ، فالظاهر ذبابة ، أما الحقيقة فصار هذا باباً للرزق ، رب ضارة نافعة . أيضاً هذه النظريات الهدامة إذا رأيتها تنتشر ، لا يوجد إنسان يضر إنساناً ، لكن لا يستجيب لها إلا ضعاف النفوس ، وهؤلاء يستجيبون لها ثم يعالجون من قبل الله عز وجل ، فالعالم يرد ، والمؤمن يسأل ، والضعيف يتردد ، تكون حافزاً له على مزيد من الإيمان .
قالوا مثلاً : إنسان عاق الوالدين ، جاء إنسان سبّ له أبوه ، قامت الحمية في نفسه وردّ عليه ، صار باراً بوالديه ، لولا هذا الاستفزاز لما كان باراً بوالديه ، كان هو عاق الوالدين . أحياناً يسافر الإنسان إلى أوربا و يكون ضعيف الدين ، يتهمون دينه الإسلامي اتهامات خطيرة جداً، تنشأ عنده نخوة إسلامية ، يقرأ يرد يسأل يصبح مؤمناً ، لولا هذه التهمة الطارئة لما سارع إلى الإيمان . إذاً نهاية الدرس : كل شيء وقع أراده الله ، وكل شيء أراده الله وقع ، وإرادة الله متعلقة بالحكمة المطلقة ، وحكمته المطلقة متعلقة بالخير المطلق ، والدليل :
﴿قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ﴾
ما قال والشر .
﴿بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ﴾