- الفقه الإسلامي / ٠5العبادات الشعائرية
- /
- ٠5الحج
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيّدنا محمد الصادق الوعد الأمين، اللهم لا علم لنا إلا ما علَّمْتنا إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علِّمنا ما ينْفعنا وانْفعنا بِما علَّمتنا وزِدْنا عِلماً، وأَرِنا الحق حقاً وارْزقنا اتِّباعه، وأرِنا الباطل باطِلاً وارزُقنا اجْتنابه، واجْعلنا ممن يسْتمعون القول فَيَتَّبِعون أحْسنه، وأدْخِلنا برحْمتك في عبادك الصالحين.
عرفة لقاء حميم و اتصال وثيق بالله عز وجل :
أيها الأخوة الأكارم، مع اللقاء الخامس من دروس مناسك الحج، وفي الدرس الماضي فيما أذْكر أنْهَينا موضوع الوُقوف بِعَرَفات، وبيَّنْتُ لكم أنَّ الحجّ عرفة، وأنَّ عرفة لِقاءٌ حميم، واتِّصال وثيق، وأنَّ الله سبحانه وتعالى ما دعا عباده إلى البيت الحرام إلا لِيُكْرِمَهم ولا سيَّما في هذا المَشْهد العظيم، وقلتُ لكم: إنَّه من وقف في عرفات ولم يغْلب على ظَنِّه أنَّهُ قد غفِرَ له فلا حجَّ له، لأنَّ الحج كما روى البخاري :
(( مَنْ حَجَّ لِلَّهِ فَلَمْ يَرْفُثْ وَلَمْ يَفْسُقْ رَجَعَ كَيَوْمِ وَلَدَتْهُ أُمُّهُ ))
والحج المَبْرور الذي لا لغْوَ فيه، ولا رَفَث، ليْس له جزاءٌ إلا الجنَّة.
والإنسان بِإمْكانه أن يَصِحَّ وُقوفه بِعَرَفات إذا وُجِدَ بها من زوال اليوم التاسع إلى فجْر اليوم العاشر، أما إذا وُجِدَ بعَرَفات قبل الغُروب فيجب أن يبْقى إلى ما بعد الغُروب ولو بِلَحَظات فإذا غرَبَتْ شمْسُ يوم عرفة انْطَلَق الحجاج إلى مُزْدَلِفَة.
الخروج من عرفات إلى مزدلفة :
وكما قلنا: المناسك شيء، والخِبْرات شيءٌ آخر، والحُجاج جميعاً يتزاحمون وقْتَ الغُروب للخروج من عرفات إلى مُزْدَلِفَة، وَجَدْتُ أخواننا رُؤساء الأفواج يؤخِّرون الخروجَ، ولا سيَّما إذا كانت سياراتهم تحت سَيْطَرَتِهم إلى ما بعد الساعة العاشِرَة ليْلاً، وعندئِذٍ تجدون أنَّ الطرقات قد أصْبَحَتْ مَعْقولة، وكُنَّا ننتقل في سَاعة واحدة من عرفات إلى مزْدلفة، إلا في العام الماضي فَهُوَ أمر اسْتِثنائي، فقد بلغ عدد الحجاج أربعة ملايين !! الآن نحن في الحج، وهناك عِدَّة مذاهب، والحقيقة لا تجد رَوْعَةَ اخْتِلافِ الفقهاءِ إلا في هذا الموْقف، لأنَّكَ لو تَصَوَّرْتَ مليون حاج تحَرَّكوا وِفق مذْهبٍ واحِدٍ لَهَلكوا ! فالمذْهب المالكي يُجيز أن تنْطلق من مُزْدلفة قبل مُنتصف الليل، والمذْهب الشافعي يُجيز أن تنْطلق من مُزْدلفة بعد مُنتصف الليل، والمذْهب الحنفي يُوجب البقاء إلى بعد صلاة الفجْر، فالحُجاج لو انْقسَموا وِفْق هذه المذاهب لأصْبح عددهم قليلاً، والأمر فيه بَحْبوحة، وفي الحج يُمْكن أن تُفْتي بالأسْهل، لأنَّ النبي عليه الصلاة والسلام حجَّ معه عَشْرة آلاف، أما الآن فملايين! وهناك ظُروف جَدَّتْ الآن، فإذا اخْتار الإنسانُ بعضَ المذاهب التي من شأنها أن تُيَسِّر على الحاج وعلى أهْله، فَمَن كان معه أهل ؛ زَوْجة، أو أمّ، أو أخت، هل هم كُثُر يا تُرى ؟! هناك فَتْوى من رسول الله صلى الله عله وسلَّم من كان له أهل فيجوز له أن ينطلق من مزدلفة بعد منتصف الليل على المذْهب الشافعي، فإذا قَلَّد الإمام الشافعي فلا شيء عليه، وهو على العَيْن والرَّأس.
فإذا انطلقنا من عرفات إلى مزدلفة، سواء انطلقنا بعد المغرب أو بعد العِشاء، وعلى كُلٍّ المذْهبُ الوسطُ بين الأحناف والمالكِيَّة، لا بدّ أن تنطلق من مزدلفة بعد منتصف الليل، والمَبيت بِمُزْدلفة واجب إلا أنَّهُ يمْكن أن تُمْضي شَطْراً من الليل، وعند الشافعي أن تُمْضي نِصْف الليل، وعند المالكي تمضي جُزْءًا من الليل، وعند الأحْناف مُعْظم الليل، فإذا كان الإنسان معه أهله فأرْوَع طريقة أن تنطلق من مزدلفة بعد أن تصلي المغرب والعِشاء جمْع تأخير، وتلتقِط حصِيات جمْرة العقبة، وتنطلق بعدها إلى مُزْدَلِفة بعد منتصف الليل، إلى أين ننطلق؟ مزدلفة كُلُّها مَوْقف، وإذا كان معك بَحْبوحة فانْطلق إلى المَشْعر الحرام، والدعاء الذي كان يدْعوه عليه الصلاة والسلام: " اللهم كما أوْقفْتنا فيه، وأرَيْتنا إياه، وفِّقْنا لِذِكْرِك كما هَدَيْتنا، واغفر لنا وارْحمنا كما وَعَدتنا، لقولك وقولُك الحق:
﴿فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ وَإِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ ﴾
والدعاء الذي ينبغي أن تُكْثِروا منه في هذا الموقف: " اللهم آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حَسَنة وقِنا عذاب النار.
هناك طريق عام، وإذا بقِيَ الإنسان في الطريق العام فإنَّ نِسْبة التَّلوُّث عاليَةٌ، تَصَوَّر عشْرة آلاف سيارة لا تقف مُحَرِّكاتها، فإذا أمْكَنَكم أن تتوَغَّلوا إلى الداخل فإنَّكم سَتَجِدون الجوّ ألْطف، فاجْلِسوا ساعة أو أكثر، أينما وقفْتَ بِمُزدلفة فالوُقوف مقْبول، فهي كُلُّها مَوْقف، المُهِمّ أن تقْضي هذا الوقت بالذِّكْر والدعاء وصلاة المغرب والعِشاء، والْتِقاط سبْع حَصَياتٍ لا تَقِلّ عن حَبَّة الحمّص، ولا تزيد عن حَبَّة الفول المِصْري، ويُسَنُّ أن تغسِلوا هذه الحَصَيات إذا أمْكن، ويُسَنُّ أخْذ أكثر من سبْع حَصَيات للاحْتِياط، فالسنَّة أن تلتقط الحصيات من مزدلفة لِجَمرات العقبة، أما الباقي فَمِن مِنى.
الانطلاق من مزدلفة إلى منى :
الآن ماذا نفعل إذا انْطلقنا من مزدلفة إلى مِنى ؟ أوَّلاً: مِنى فيها ثلاث جمرات: الجَمْرة الصُّغْرى، والوُسْطى، والكُبْرى أو جَمْرة العقبة، الجَمْرة الصُّغْرى من جِهَة عرفات، والكُبرى من جهة مكَّة، أنت في طريقك من مزدلفة إلى مكَّة تبدأ بالجمرة الصغرى فالوُسْطى فالكُبْرى، إلا أنَّك في صبيحة العيد، أو ليلة العيد، أو بعد منتصف ليلة العيد مُكَلَّفٌ أن ترْمي جمْرة العقبة أو الجمْرة الكُبْرى فقط، أما رَمْيُ بَقِيَّة الجَمَرات فهذا يكون في اليوم الثاني والثالث والرابع من أيام العيد، فنحن الآن من أجْل أن نرْمي جمْرة العقبة فقط.
انْطلقنا من مزدلفة على المذْهب الشافعي بعد منتصف الليل، أو انطلقنا من مزدلفة قبل منتصف الليل على المْذهب المالكي، على كلٍّ الأفضل المذْهب الشافعي لِمَن معه أهْل، لأنَّهُ عَمَلِياً الحجاج مليون وسبعمئة ألف أو أكثر، فعلى المذْهب الحنفي ينطلقون بعد الفجر، فيَكون الازْدِحام شديدًا، وقد حَدَّثني مَرَّةً أخٌ كريم فقال: أردْتُ أن أُطَبِّق المْذهب الحنفي فاسْتَغْرق الوقت مِنِّي سبْع عشرة ساعة مِن منى إلى مكَّة، وضاعَتْ علينا صَلَوات، ونَدِمْتُ نَدَماً شديداً، لأني لم أُقَلِّد المذْهب الشافعي، فالانطلاق بعد منتصف الليل، لا سيَّما مَن كان معه أشْخاص مُتَقَدِّمون في السنّ أو نِساء فالأوْلى أن ينطلق بعد منتصف الليل، وعلماء أجِلاء وكُثُر يفْعلون هذا، ثمَّ إنَّ الشاب الذي ليس معه أغْراض، وليس معه أهل، فليس هناك أفْضل من المَشْي ففي العام الماضي اسْتغرقنا من عرفات إلى مزدلفة والمسافة عشْرة كيلو متر سبْع عشرة ساعة بالسيارات! فكم يمكن أن تقضِيَها مشيًا؟ في ساعتين أو أكثر بقليل، لذلك الآن هناك تفْكير بِوَضْع قِطارات من تحت الأرْض بِشَكل دائري للتَّخَلّص من موضوع التَّلَوُّث، ويكون المسار من منى إلى عرفات، ومن عرفات إلى منى، ومجموع المسافة بين مكَّة وعرفات خمسة وعشرون كيلو متراً.
أعمال يوم عيد الأضحى :
أمّا أعمال يوم عيد الأضْحى، فإما ليلة الأضْحى لِمَن انْطلق بِمنتصف الليل، أو يوم الأضْحى لِمَن انطلق بعد صلاة يوم الفجْر: أوَّلاً: رَمْيُ جَمْرة العقبة، ثانياً: ذَبْحُ الهَدْي لِمَن أراد الهَدْي، ثالثاً: الحلْق أو التَّقْصير، رابعاً: طواف الإفاضة، وهو رُكنُ الحجّ الأعظم.
فهذه الأعمال إذا فعَلْتَها ينبغي أن تفْعلها بالتَّرْتيب، وهي عند الأحناف واجب، وضَعْ في ذِهْنِك أنَّ كلمة واجب إذا تَرَكْتَهُ لَزِمَكَ الدَّم، والرُّكْن إذا ترَكْتَهُ بطل حجُّك، والسنَّة إذا تَرَكْتها فقد أسأتَ، والمُسْتَحَبّ إذا ترَكْتَهُ فقد تَرَكْتَ الأوْلى، والترتيب في بقِيَّة المذاهب سُنَّة، فمَن لم يأخذ به فقد ترك السنَّة، ولا شيء عليه.
والأفضل المُبادرة إلى رَمْي جمْرة العقبة، ويُسَنُّ أن تُرْمى بعد طُلوع الشَّمْس وارْتِفاعها بِمِقْدار رُمْحٍ، فلو تَعَسَّر ذلك فله وقْتٌ آخر، حتى غُروب شمْس ذلك اليوم، ويمكن أن ترْمي جمْرة العقبة حتى غُروب ذلك اليوم من دون كراهة، ولك أن ترْمِيَها حتى اليوم الثاني من العيد مع الكراهة، أما إذا أخَّرْتَ رَمْي جمْرة العقبة بعد اليوم الثاني من العيد فلَزِمَك الدّم، فنحن كما اتَّفقْنا لو أنَّك خرجْت من مزدلفة في منتصف الليل، فعليك أن ترْمِيَها بعد منتصف الليل مباشرةً، ولن تجد الازْدِحام في هذا الوقْت، فَرَمْيُ الجمار في هذا الوقت تجد فيه ازْدِحاماً مَعْقولاً، فالذي معه زوْجته فالوقت مناسب له، واحْذر أنْ تأخذ زوْجتك في أوْقات الازْدِحام، إذْ يمكن أن تُزاحِم زوْجتُك في هذا الرَّكْب، وهذا لا يجوز، فعلى الإنسان أن يكون واقِعياً، وبالذات في رَمْيِ الجمار أنا أُفَضِّل أن يكون ليلاً، وكذا في اليوم الثاني والثالث من أيام العيد.
التوكيل في الرمي :
أمّا مسألة التَّوْكيل في الرّمي، فالمرأة لها أن تُوَكِّل، إلا أنَّ الرجل لا يجوز له ذلك عند الأحناف، وهناك حجاج لا يفقهون فلِسَبَبٍ تافِهٍ يُوَكِّلون، حَدَّثني أخٌ صديق فقال: هناك أخوة مُقيمون بالمملكة، كيف يَحُجُّون؟ يُصَلون العصْر في جدَّة يوم عرفات، ويركبون سيارتهم وينطلقون إلى مكَّة والطريق فارغ، يطوفون لوحدهم - لأنَّ الحجاج كلهم بعرفات - طواف القدوم، ثمَّ السَّعْي، وينطلقون بعدها إلى عرفات قُبيل المغرب بِقَليل، ويجْلِسون أوَّل صفٍّ فإذا مضى عليهم غُروب الشَّمْس، عادوا إلى مزدلفة، وقَلَّدوا الإمام مالك، وخرجوا منها بعد المغرب بقليل - من مزدلفة - ولم يرْجُموا وإنما وكَّلوا، وطافوا طواف الإفاضة لوحْدهم، وانتهى الحج كلُّه في ثلاث ساعات !!! هذه المناسك يجب أن تُعَظِّمها، قال تعالى:
﴿ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ ﴾
ويُسَنُّ الوقوفُ لِرَمْي جمْرة العقبة جاعِلاً مكَّة عن يساره، ومزدلفة عن يمينه، ويسْتقبل الجمرة بِوَجْهه، وعلى الحاج أن يلاحظ ألاّ يكون اتِّجاهه في أثناء رمْي الجمرة نحو مكَّة إنما الاتِّجاه نحو رمْي جمرة العقبة، ورمي هذه الجمرة لا يصحّ إلا كذلك، بل يجب أن يكون مَوْقفه بِعَكْس اتِّجاه طريق مكَّة.
ويجب أن يرمي سبع حَصَياتٍ واحدة فواحدة، فلا يجوز أن ترْمِيَها دُفعةً واحدة وهذا مَنسك ؛ وهو أنَّك عاهَدْتَ الله على مُعاداة الشِّيطان، فهذا السُّلوك رمْزي، فَبَعْد الحج كُلَّما وَسْوَسَ لك الشِّيطان تتذَكَّر أنَّك رَمَيْت الشيطان بهذه الحَصَيات ؛ وهو سُلوك رمْزي راقٍ.
ولو وُضِعَتْ الحصاة في الجمْرة وضْعاً لم تَصِحّ، ويُشْترط أن يقصِدَ بِرَمْيِه جمْرة العَقَبة، فلو رمى حصاةً بِقَصْدٍ آخر فسَقَطَتْ في الجَمْرة لم تَصِح، لأنَّ العبادات أساسها النِّيَّة أما المُعاملات فتَصِحّ بلا نِيَّة. وعند السادة الشافعِيَّة لا بدّ أن ترْمي بالأحجار، أما عند السادة الأحناف فيُمْكن أن ترْمي بالكَدَر، بل إن لم تجد أخذتَ قَبْضةَ تُرابٍ مكانَ الحصاة، ويكون الرَّمْيُ باليد، ولا يصِحُّ إلا بها. فإذا شَكَّ في إصابة المَرْمى لم تُحْسَب تلك الحصاة، لذلك فالأولى أن يقترِب الإنسان إذْ لا يُعْقل أنَّ الإنسان في الحج يُرْمى عليه الحجر أو النعل! ولو أصَبْتَ المَرْمى ثمَّ تدحْرَجَت حتى خرجت من المرمى صَحَّ رَمْيُك، ويرفع الحاج عند الرَّمْي يده حتى يُرى باطن الإبط وبياضه، أما المرأة فلا، ومع أوَّل حصاةٍ ترميها في جمرة العقبة تُقْطع التَّلْبِيَة، ويبْدأ التَّكْبير، فالتَّلْبِيَة من ساعة الإحرام ؛ لَبَّيْك اللهم لبَّيْك، إلى رَمْي جمْرة العقبة، وبعدها تقف التَّلْبِيَة لِيَبْدأ بعدها التَّكْبير.
فلو عجز الحاج عن الرَّمْي لِمَرَضٍ أو مانع شَرْعي لا يزول طيلة أيام التَّشْريق جاز أن يُنيب من يرْمي عنه، بِشَرْط أن يكون مَن ينوب عنه قد رمى عن نفْسِه، وينوي النائبُ الرَّمْيَ عن فلان، فهذا ممكن إذا كانت المرأة كبيرةً، أو الإنسان عاجزًا، كما أنَّهُ يَصِحُّ الرَّمْي في الطابق الأعلى، فهناك المَمْشى الأساسي والطابق العُلوي، وغداً تجدون أنّ المسلمين لو نَظَّموا أنفسهم لن تحدث مشكلة، لأنَّ الطريق مُسْتَمِرّ، لكن من عدم التَّنْظيم هناك حُجاج يرْمون ثمّ يعودون، فهذا التعاكس في السَّيْر يخلق مُشْكلة كبيرة.
الحلق أو التقصير :
الحَلْقُ أو التَّقْصير هو عند الشافعِيَّة رُكْن من أركان الحج، لا تكْتمِلُ مناسِكُ الحجّ إلا به، وعند الأحْناف واجبٌ من واجبات الحج، وعلى كُلٍّ فلا بدّ من الحَلْق أوالتَّقْصير، قال صلى الله عليه وسلّم: "رحم الله المحلِّقين " والسنَّة أن يكون الحلْق أو التَّقْصير بعد رَمْي جمْرة العقبة، وأن يكون بِمِنى، وله أن يحْلق بأيِّ مكانٍ شاء، وبعد الحلق يكون الحاج قد تَحَلَّل من مَحْضورات الإحرام عدا النِّساء، فيَمَكَّن أن يتطَيَّب وأن يلْبِسَ ثيابه، ولا يَحِلُّ له النِّساء إلا بعد طواف الإفاضة.
وأقلّ شيء في الحلق والتَّقصير ثلاثُ شَعْراتٍ، فإذا لم يكن مع الإنسان شَعْرٌ، يُمَرِّر الموسى على رأسه حتى يكون مِمَّن نفَّذ أمْر الله، وتأدُّب بأدب الإسلام.
ولو كان به أذىً من رأسه يَمْنع من الحلْق أو التَّقْصير، ينتظر حتى يزول المانع، ولا يسْقط عنه الحلق أبداً، ويُسَنُّ أن يسْتقبل القبلة عند الحلق، ويبْدأ بِمُقَدَّم رأسِه، فالشِّقِّ الأْيْمن فالأيْسَر، ثمَّ بَقِيَّةُ الرأس، ثمَّ يُدْفنُ شَعْرُهُ بالرَّمْل، ويُكْرَهُ أن تحْلِقَ المرأة شَعْرها، بل تُقَصِّر، والسنَّة أن تُقَصِّر بِمِقْدار أُنْملة من جميع جوانب شعْرِها.
طواف الإفاضة :
أما طواف الإفاضة فهو رُكْن الحجّ الأساسي، وصَدّقوني ولا أُبالغ، كم من حاجٍّ عاد من حَجِّه ولم يَطُفْ طواف الإفاضة !
أيها الأخوة تَفَقَّهوا، قبل أن تَحجّوا، والتَّفَقُّه في مناسك الحج من الحجّ.
طواف الإفاضة ركن في الحج، وسأُبَيِّنُ لكم مَثلاً بسيطاً، وهو الفرق عند المذاهب، فعند الأحناف المرأة إذا جاءَتْها الدَّورة الشَّهْريَة، وحالتْ بينها وبين طواف الإفاضة فعليها بدَنَة، والبَدَنة تتراوح ما بين سبعين إلى ثمانين إلى مئة ألف ! وهو مبلغ فوق طاقة الإنسان ؛ فهذا عند الأحناف، أما عند الشافِعِيَّة فتُصْبح المرأة أميرة ركْبِها، فيجب أن ينتظرها أهلها إلى أن تطْهر وعند الإمام مالك - ولولا مالك لكان الدّين هالِكًا - تتَحَرَّى وَقْتاً ينقطع فيه الدّم قليلاً، وتطوف البيْت، ولا شيء عليها، لأنَّ الحيْض عارِضٌ سماوي، فلو جاءَتْك امْرأة فقيرة جَمَعَتْ المال دِرْهماً فوق دِرْهم طوال حياتها، حتى جاءتْ البيت الحرام، وجاءَتْها الدَّورة قبل طواف الإفاضة وكنت مُفْتِياً ماذا تقول لها؟ أنا سَمِعْتُ مرَّةً شخصًا يقول لامرأة: عليكِ بَدَنَة، ولما سألتْ ما البَدَنة؟ قال: جمل، فقالتْ: وما ثَمَنُ الجمَل؟ فلما قيل لها: كذا ليرة بَرَكَت كما يبْرك الجمل، ومرَّةً قال أحد العلماء: قلَّدْتُ ثلاثة مذاهب، وأنا في الطواف بدأتُ شافِعِياً، فلامَسَتْ يدي امرأة فقلَّدْتُ الحنفي، ثمَّ سال منِّي دمٌ فقَلَّدْتُ الإمام مالك! فالدِّينُ يُسْر، ففي بلدك خُذْ بالأحوط، أما في الحج فخُذْ بالأيْسَر.
أمّا طواف الإفاضة فإذا تَمَكَّنتم أن تطوفوا طواف الإفاضة في ِساعة متأخِّرة من الليل؛ الثانِيَة مثلاً، سَتَجِدون بَحْبوحة بالطواف، إلا أنَّ الطواف بالنَّهار بالعدد الهائل ستجدون هناك عُسْرة، وشبه اسْتِحالة، والطواف بالأرْوِقَة يُكَلِّفُكم كُلُّ شوط قرابة ساعة، فإذا انطلقتم من منى إلى مكَّة بعد رَمْي الجِمار، ثمَّ إلى بيت الله الحرام، وطُفْتُمْ طواف الإفاضة، ربما كان طوافكم مُسْعِداً، لأنَّكم لم تجدوا ازْدِحاماً شديداً.
و قت الطواف :
يدْخل وقْتُهُ من منتصف ليلة العاشر من ذي الحجّة، وهو يوم عرفة، ولا نِهاية لوقْته، إلى آخر العُمر، إلا أنَّ العلماء قالوا: يُكْره أن يُؤَخَّر إلى بعد أيام التّشْريق، وتشْتدُّ الكراهة بعد أيام التَّشْريق، والأوْلى أن يطوف قبل زوال شَمْس أيام العيد، أي من منتصف ليلة العيد إلى ظهْر العيد، وهو أكمل وقْت لِطَواف الإفاضة. ومن لم يطُف طواف الإفاضة يظَلّ مُحْرِماً، ولا تَحِلّ له النِّساء مهما امْتَدَّ به الزَّمن.
ولو طاف طواف الوداع، ولم يطُفْ طواف الإفاضة، وقع طوافه عن طواف الإفاضة، ووجب أن يطوف طواف الوداع، فأنت لما قَدمْت إلى مكَّة، وطُفْتَ طواف القُدوم، ولم تسْعَ بين الصفا والمروة بإمكانك بعد طواف الإفاضة أن تسْعى بين الصفا و المروة، فالسَّعْي لا يتكَرَّر، فإما مع طواف القُدوم، و هو أفْضل بِكَثير، وإما بعد طواف الإفاضة وهو غير منْصوح به، فَبَعْد أن تطوف طواف الإفاضة، وتسْعى بين الصفا والمروة إن لم تسعَ من قبل، تذْهب إلى البيت وتَحْلِق وتغْتَسِل وتتطَيَّب، وتكون بِهذا قد تَحَلَّلْتَ من كلِّ مَحْظورات الإحرام وما بَقِيَ عليك إلا رَمْيُ الجِمار.
رمي الجمار :
يكون رَمْيُ الجِمار ثاني أيام العيد، وثالث يوم، ورابع يوم، قال تعالى:
﴿ فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ ﴾
وكثير من الحجاج، وأنا فعلْتُ هذا مع أعضاء البِعْثة يذْهبون إلى مِنى الساعة العاشِرَة ليْلاً، من ثاني أيام العيد، ويرْمون الجمرات، الأولى والثانية والثالثة وينتظرون إلى أذان الفجْر، فإذا أذَّن الفجْر يُصَلون الفجْر، ويرْمون الجمرات الثلاثة للمَرَّة الثانية، فقبل صلاة الفجْر عن ثاني أيام العيد، وبعد صلاة الفجْر عن ثالث أيام العيد، ومن الساعة العاشرة حتى طلوع الشَّمْس فقد تَحَقَّق المبيت بِمِنى، وهو واجب عند الأحناف، وسنَّة عند السادة الشافعيَّة، فَتَكون قد جمَعْتَ بين المبيت بِمِنى، وبين رَمْي الجمار عن اليوم الثاني من أيام العيد، وعن اليوم الثالث من أيام العيد، فإذا ذَهَبْتم الساعة العاشرة إلى منى، هذا الوقت يجب أن يمْضي بِذِكْر الله، وتِلاوة القرآن، وأدعية وابْتِهالات، كما أنَّني أنصح الذي معه زوجته، أو أمّه، أو أخته، أن يرمي بالليل خوف الانسِحاق وليس الازدِحام.
التحلل :
ويكون التَّحلّل بعد رَمْي جَمْرة العقبة والحلْق أو التَّقصير والطواف مع السَّعْي إن لم يكن قد سَعى.
ويُسَنُّ للحاج التَّكْبير في أعْقاب الصَّلوات الخمْسة، والأرجح إلى آخر أيام العيد المبارك، ثمّ طواف الوداع، وبعدها التَّوَجُّه إلى مسْجد النبي عليه الصلاة والسلام.
وإن شاء الله في درْس قادم ننتقل إلى زيارة مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم ولها آداب وأدْعِيَة وتَرْتيبات.