وضع داكن
24-11-2024
Logo
سيرة التابعين : 20 - التابعي محمد بن الحنفية بن الإمام علي كرم الله وجهه
   
 
 
 بسـم اللـه الرحمـن الرحيـم  
 

 الحمد لله رب العالمين, والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين, اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم, اللهم علمنا ما ينفعنا, وانفعنا بما علمتنا, وزدنا علماً, وأرنا الحق حقاً, وارزقنا اتباعه, وأرنا الباطل باطلاً, وارزقنا اجتنابه, واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه, وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين, أخرجنا من ظلمات الجهل والوهم إلى أنوار المعرفة والعلم، ومن وحول الشهوات إلى جنات القربات .

ماذا نستفيد من هذه القصة التي وقعت بين محمد بن الحنفية وأخيه الحسن بن علي ؟

 أيها الأخوة المؤمنون، مع الدرس العشرين من دروس التابعين رِضْوان الله تعالى عليهم أجمعين، وتابعيّ اليوم هو محمد بن الحنفيّة بن الإمام عليّ كرَّم الله وجهه .
 وقعَت بين محمد بن الحنفيَّة وأخيه الحسن بن عليّ جَفْوَة، فأرْسل بن الحنفيّة إلى الحسن يقول: (إنَّ الله فضَّلَك عليّ، فأُمّك فاطمة بنت محمّد بن عبد الله صلى الله عليه وسلّم، وأمي امرأة من بني حنيفة، وجدّك من أمّك رسول الله، وصفوته من خلقه، وجدّي لأمِّي جعفر بن قيس، فإذا جاءك كتابي هذا, فَتَعال إليّ وصالِحني, حتى يكون لك الفضْل عليّ في كلّ شيء؟ فما إن بلغَتْ رسالته الحسن, حتى بادر إلى بيته وصالحَهُ) .
 هذه القصَّة أريد أن أقف عندها قليلاً؛ أوَّلاً: النبي عليه الصلاة والسلام كما تعلمون, معصوم بِمُفرَدِه، وأمَّته معصومة بِمَجموعها، بمعنى أنَّ كلّ إنسان يؤخذ منه، ويُرَدّ عليه, إلا صاحب القبّة الخضراء صلى الله عليه وسلّم .
 الشيء الآخر: أنّ النَّسَب كما قلتُ من قبل: تاجٌ يُتَوّج به الإيمان، فإن لمْ يكن هناك إيمان, فلا معنى للنَّسَب إطلاقًا، وأكبر دليل: أنَّ أبا لهب عمّ النبي, كان مصيرهُ كما تعلمون، لمْ ينْفعهُ نسبهُ، وقول النبي عليه الصلاة والسلام:

((لا يأتيني الناس بأعمالك, وتأتوني بأنسابكم))

 ولكن هناك سؤال: القاعدة الأصوليّة: لا مؤاثرةَ في الخير، والخير كلّه في المؤاثرة، القصَّة طريفة وتُرْوى، ولكنّك لو أردت أن تقيسها بمِقياس الأصول، مثلٌ أوْضَحُ:
 لو أنَّ أخوَيْن لهما أمّ، فالأوّل لمْ يُقدِّم لها الخدَمات, لِيُفسِحَ المجال لأخيه, أن يسْبقهُ إلى هذا العمل، فَيُؤثرهُ في هذا العمل, هل هذا مقبول في الشرع؟ أبدًا, لا مؤاثرة في الخير، لا أوثرُ أحدًا على طاعة الله، لا أوثرُ أحدًا على فضل الله، لا أوثرُ أحدًا بخدمة الله، ما دام الأمر متعلّقًا بِمَرضات الله تعالى, فأنا أسبق .
 فالقصّة طريفةٌ ونرويها، ولكن الإنسان ينبغي أن يعلم أنَّه لا مؤاثرة في الخير، لو قبلنا هذه القاعدة, لا أحدَ يفعل الخير أبدًا، تسأله لِمَ لمْ تفعل الخير؟ فيقول: تركْتهُ لِفُلان كي يفعله، ويكون أفضل؛ آثرْتهُ على نفسي, هذا الكلام مرفوض، ومن لهُ أمّ وأب، لِيُبادِر بِخِدْمتِهِما وبِرِّهما، ولْيَسْبِقْ أخوتَهُ جميعًا، ولا يُبالي أن يكون هو الأسبق من أخوته في هذا العمل، لا مؤاثرة في الخير، والخير كلّه في المؤاثرة، أنا أُوثر أخي في كلّ شيء، أعطيه البيت الأفضل، والمركبة الأفضل، والحانوت الأفضل، وأُعطيه حِصَّتي، فالخير في المؤاثرة، وقد قال الله عز وجل:

﴿وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾

[ سورة الحشر الآية:9]

 أما أن أوْثر أخي بطاعة الله، وأوْثر أخي بالخير، فهذا لا، معنى ذلك أنّ أخاك أغلى عندك من الله، إذا آثرْت أخاك بالخير, معنى ذلك أنّ أخاك أكرمُ عليك من الله، آثرْتهُ بالخير لِيَسْبقَك إلى الله، نصيبُكَ من الله, لا ينبغي أن تؤثر به أحدًا، طاعتك لله لا ينبغي أن تدَعَها لإنسان، وهذه حقيقة .
 أيها الأخوة, لا مؤاثرة في الخير، والخير كلّه في المؤاثرة، لكَ أن تؤثِرَ أخاك بالدنيا، أما أن تؤثرهُ بِنَصيبِكَ من الآخرة؛ فلا, فالقصَّة طريفة، ولكن كلّ شيءٍ نقرؤهُ, ونسْمعهُ, له منهج، وكتاب, وسنَّة, وقواعد عامَّة .

إليكم علة هذه التسمية لمحمد بن الحنفية :

 في ذات يومٍ, كان الإمام عليّ كرَّمَ الله وجهه في جلْسةٍ مع النبي صلى الله عليه وسلّم ، فقال:

((يا رسول الله! أرأيْت إن ولِدَ لي ولدٌ من بعدك, أفَأُسمِّيه باسمِكَ، وأُكنِّيهِ بِكُنْيتِك؟ فقال: نعم))

 ودارت الأيّام, فلَحِقَ النبي صلى الله عليه وسلّم بالرفيق الأعلى، وتَلَتْهُ بعد أشهر قليلة ابنتهُ, وريْحانتهُ فاطمة البتول أمّ الحسن والحسين، طبْعًا سيّدنا عليّ له أن يتزوَّج امرأةً بعد السيّدة فاطمة، فأسْفَرَ عليّ إلى بني حنيفة، وتزوَّج خَولة بنت جعفر بن قيْس الحنفيَّة، فولدَت له مولودًا سمَّاهُ: محمَّدًا، وكنَّاه بأبي القاسم بإذْنٍ من رسول الله صلى الله عليه وسلّم .
 فهذا اسمه وكنيتـهُ؛ محمّد بن القاسم بن الحنفيَّة، هذا الاسم وهذه الكنيَة بإذْن من رسول الله صلى الله عليه وسلّم، لكنّ الناس فيما بعد كنَّوهُ: محمَّد بن الحنفيَّة، تفريقًا له عن أخَويْه الحسن والحسين ابني فاطمة الزهراء، ثمّ عُرِف في التاريخ فيما بعد بِمُحمَّد بن الحنفيَّة.

 

لمحة عن نشأة الإمام محمد بن الحنفية :

 وُلِدَ هذا الغلام في أواخر خلافة الصِّديق رضي الله عنه، ونشأ وتربَّى في كنف أبيه علي بن أبي طالب، وتخرَّجَ على يديه, فأخذ عنه عبادتهُ وزهادتهُ، وورِثَ منه قوَّته وشجاعته، وتلقَّى منه فصاحته وبلاغتهُ, الحدّ الأدنى أنْ يكون ابنُك مثلك، والحدّ الأدنى أن تربِّي ابنَكَ كما نشأْت أنــــت ، أن تربِّي ابنكَ على العقيـدة الصحيحة .
 فإذا هو كما يقولون: (راهبٌ من رهبان الليل، وفارس من فرسان النهار، ولقد أقْحمهُ عليّ كرّم الله وجهه في حروبه التي خاضها، وحمَّلَهُ من أعبائِها ما لمْ يُحمِّلْهُ لأخَوَيْه الحسن والحسين، فما لانَتْ له قناة، وما وهَنَ له عزْم) .
 ولقد قيل له ذات مرَّة: (ما لأبيكَ يُقْحِمُك في المهالك, ويولجُكَ في المضايِق دون أخوَيْك الحسَن والحسين؟ -هناك دائمًا من يوقِعُ بين الأخوة-, فقال: ذلك لأنَّ أخويَّ ينزلان من أبي منزلة عيْنيه، وأنا أنزل منه منزلة يديه, فهو يقِي عيْنيْه بيدَيه) وأساسًا من علامة النجاح بالحياة, ألاَّ تسْمحَ لأحدٍ أن يدخل بينك وبين أقرب الناس إليك .
 مرَّةً سيّدنا عليّ كرَّم الله وجهه سألهُ رجل: (لماذا انْصاعَ الناس لأبي بكرٍ وعمر، ولم ينْصاعوا لك؟ فقال سيّدنا عليّ بِبَساطة: لأنَّ أصحابهم أمثالي، وأصحابي أمثالك) .
 قال مرَّةً رجل لسيِّدنا الصِّديق: (أأنْت الخليفة أم هو؟ فقال: هو إذا شاء) لا تسْمح لإنسان يوغِر صدْركَ على إنسان تحبَّه، ولا تسمح لإنسان أن يدخل بين أخوَين، وبين شريكين ، وبين جاريْن، وبين مسلمين، لأنَّ في كلّ زمان هناك من يوقع بين الأخوة العداوة والبغضاء.
 هذا الرجل عاصرَ بعض الفِتَن، فقال: (عاهدْتُ نفسي ألاّ يُرفعَ لِيَ سيْف في وجه مسلمٍ بعد اليوم) شيءٌ كبير جدًّا أن تحاربَ مسلمًا، واللهُ عز وجل قال:

﴿وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ﴾

[ سورة الأنفال الآية: 60]

 أيْ يجب أن يكون دائمًا عدوّكم عدوّ الله، فإذا كان عدوّكم ليس عدوًّا لله, فهذه مصيبة كبيرة جدًّا، ومن أكبر المصائب أن تُقاتِلَ مسلمًا، ومن أكبر الجرائم أن تقاتل مسلمًا، والذي يقتل مسلمًا ليس له توبةً إطلاقًا, فهو خالدٌ مخلّدٌ في النار، بنَصّ القرآن الكريم .

محمد بن الحنفية يبايع معاوية على الخلافة :

 لمَّا آلَ الأمر إلى معاوِيَة بن أبي سفيان, بايعَهُ محمّد بن الحنفيّة على السَّمع والطاعة في المنشط والمكْره، رغبةً في رأب الصَّدع، وجمْع الشَّمل، وعزّة الإسلام والمسلمين، معنى ذلك هناك مصالح عليا، فهذه مُفضَّلَة ومُقدَّمة على المصالح الخاصَّة، والإنسان بِقَدْر إخلاصه يؤْثر مصْلحة مجموع المسلمين على مصالح الأفراد، طبعًا هناك خلاف عميق بين والدِهِ وبين معاوية، ومع ذلك لمّا آل الأمر إلى معاويَة, بايعَهُ رأْبًا للصَّدع، وجمْعًا للشَّمْل، وإعزازًا للإسلام والمسلمين .
 أيها الأخوة, لا بدّ على كلّ واحدٍ منكم، أن يقدِّم المصْلحة العامَّة للمسلمين على المصْلحة خاصَّة لجَماعة معيَّنة، فيجب أن ترْأبَ الصَّدع، وتلمّ الشَّمْل، وأن تُعزِّز الوحدة فيما بين المسلمين، وأن تقرِّبَ فيما بينهم، لا أن تُباعِد، ويجب أن تجْمع بينهم، لا أن تُفرِّق، ويجب أن تكون عَوْنًا على اللِّقاء، لا عوْنًا على التَّفْرقة، وهذا ينبعُ من إخلاصك، كلَّما نما إخلاصك, تنمو معه الرغبة في رأب الصَّدع، ولمّ الشّمل، وتوحيد الكلمة، دائمًا التَّفرقة من الشيطان، يقول عليه الصلاة والسلام:

((ليس منا من فرَّق))

 فتعميق الخلاف من الشيطان، والتباعد من الشَّيطان .
 معاوِيَة بن أبي سفيان اسْتَشْعر صِدْق هذه البيْعة وصفاءها، واطمأنَّ إلى صاحبها أشدَّ الاطمئنان, ممَّا جعلهُ يسْتزيرُ - أيْ يدْعوه لِزِيارته - .
 أيها الأخوة، إذا وقَعَت فتنة, هنيئًا لِمَن كان بعيدًا عنها، لأنَّ إذا كانت هناك فتنة بين المؤمنين, فهذا إشْكال كبير، وإيَّاك أن تكون طرفًا فيها، والإنسان السعيد هو من يبتعِد، لأنَّ هذا شيءٌ كبير عند الله عز وجل، أن تكون طرفًا في تأجيجها، إذا كان الأمر بين المسلمين انْسَحِب، وصحابة كثر, لمَّا رأوا الفتنة بين المسلمين, انْسحبوا وآثروا السَّلامة .

 

من الطرائف :

 ومن طريف ما يُرْوى: أنَّ ملِكَ الروم كتب إلى معاوية بن أبي سفيان يقول: (إنّ الملوك عندنا تُراسِلُ الملوك، ويُطْرفُ بعضهم بعضًا بِغَرائبِ ما عندهم، ويُنافسُ بعضهم بعضًا بِعَجائب ما في ممالكِهم، فهل تأذن لي بأن يكون بيني وبينك بما يكون بينهم؟ -ملك الروم يستأذن معاوية بن أبي سفيان خليفة المسلمين, أن يكون بين الملكين مراسلات, وإطراف ومساجلات, ومسابقات, وما شاكل ذلك- فأجاب معاوية بالإيجاب، وأذِنَ له .
 فوجَّهَ إليه ملك الروم رجلين من عجائب الرِّجال؛ أحدهما طويل مفرِط في الطول، جسيم موغِل في الجسامة، حتى لكأنَّه دوْحةٌ باسقة في غابة، أو بناء مبني, -جسمه غير معقول, كأن يكون مترين وعشرين سنتيمتر- والثاني قويّ غاية القوَّة، صُلْب متين, كأنَّه وحشٌ مفترس، وبعثَ إليه معهما رسالة يقول فيها: أفي مملكتك من يُساوي هذين الرجلين طولاً وقوَّةً؟ فقال معاوية لِعَمْرو بن العاص: أما الطويل فقد وجدْت من يُكافئُهُ ويزيد عليه، وهو قيس بن سعْد بن عبادة, وأما القويّ فقد احْتجْتُ إلى رأيِكَ فيه, فقال عمرو: هناك رجلان, غير أنَّ كليهما عنك بعيد هما: محمَّد بن الحنفيَّة، وعبد الله بن الزبير، فقال معاوية: إنَّ محمّد بن الحنفيّة ليس عنَّا بِبَعيد, فقال عمرو: ولكن أتظنّ أنَّهُ يرضى على جلالة قدْره، وسموّ منزلته, أن يُقاوِي رجلاً من الروم على مرأى من الناس؟ فقال: إنَّه يفعلُ ذلك، وأكثر من ذلك, إذا وجدَ في ذلك عزًّا للإسلام .
 -سيّدنا رسول الله, جاءهُ مرَّةً من يُفاخرهُ بالشِّعر، فقال: (قُمْ يا حسَّان, فأجِبْ الرجل) أي هناك مواطن, لمَّا يبرز المسلم ويتفوَّق, فهذا العزّ ليس له، وإنَّما لِمَجموع المسلمين- .
 ثمّ إنّ معاوية دعا كلاًّ من قيس بن سعْد، ومحمّد بن الحنفيَّة، فلمَّا انْعقَد المجلس, قام قيس بن سعْد, فنَزَعَ سراويله، ورمى بها إلى العلْج الرومي، وأمرهُ أن يلبسها, فلبسَها, فغطَّتْ إلى ما فوق ثَدْييْه, فضَحِكَ الناس منه, -معناه أنَّه أطْول- .
 وأما محمّد بن الحنفيَّة فقال للترجمان: قلْ للرومي: إن شاء فلْيَجلِسْ، وأكون أنا قائمًا ، ثمَّ يعطي يدهُ, فإما أن أُقيمهُ، وإما أن يُقْعِدَني, وإن شاء فلْيَكُن هو القائم وأنا القاعد، فاخْتار الرومي القعود، فأخذ محمّد بن الحنفيَّة بيَدِهِ, وأقامه، وعجَزَ الروميّ عن إقعاده, فذبَّتْ الحَميَّة في صدْر الرومي، واختار أن يكون هو القائم, ومحمّد هو القاعد، فأخذ محمَّد بيَدِهِ، وجبذهُ جبْذةً, كادت تفْصلُ ساعدهُ من كتفِهِ، وأقْعدهُ في الأرض، فانْصرف العلجان الروميان إلى ملكهما مَغلوبَين مخذولين) ‍‍.
 المجتمع المسلم فيه كلّ شيء، والحقيقة طلب العلم فرْض عَين، أما الاختصاص الآخر فهو فرْض كفاية، فيَجِب أن يكون عندنا أقوياء مترْجِمون، كلّ اختصاص المسلمون بِحاجة إليه، ووُجوده فرْض كفاية، إذا قام به البعض, سقط عن الكلّ .
 ما هو سبب الانتقام بين عبد الله بن الزبير وبين عبد الملك بن مروان, ولماذا أمر عبد الله بن الزبير محمد بن الحنفية ومن معه من بني هاشم أن يلزموا شعبهم في مكة ؟
 والأيَّام دارَتْ مرَّةً ثانيَة، ولَحِقَ معاوية, وابنه يزيد، ومروان بن الحكم, إلى جوار ربِّهم، وآلتْ زعامة بني أميَّة إلى عبد الملك بن مروان، فنادى بنفسه خليفة للمسلمين, فبايعَهُ أهل الشام، وكان أهل الحجاز والعراق, قد بايعوا لعبد الله بن الزبير .
 الآن هناك مشكلة وانتقام، عبد الله بن الزبير يحكم الحجاز والعراق، وعبد الملك بن مروان يحكم بقيَّة البلاد الإسلاميّة، وطفقَ كلّ منهما يدعو منْ لم يُبايِعهُ لِبَيْعَتِهِ، ويزعم لنفسه أنّه أحقّ بالخلافة من صاحبه، فانْشقّ صفّ المسلمين مرَّةً أخرى، وهنا طلب عبد الله بن الزبير من محمَّد بن الحنفيَّة أن يُبايِعَهُ كما بايعهُ أهل الحجاز، غير أنَّ ابن الحنفيَّة لم يكن يخفى عليه, أنَّ البيْعة تجعل في عنقِهِ لِمَن يُبايِعُه حقوقًا كثيرة، منها: سلّ سيْفِهِ دونه، وقتال مخالفيه، وما مخالفوه إلا مسلمين قد اجْتهدوا؛ فبايعوا لغير من بايَع، فهو ما أراد أن يكون ورقةً رابحةً في يدي أحد الطَّرفَين .
 أيها الأخوة, هذه نقطة مهمَّة جدًّا، وأنا أتمنَّى على أهل العِلْم، والدعاة إلى الله، وعلى العلماء, أن يمْتَنِعوا أن يكونوا ورقةً رابحةً بيَدي الأقوياء، وأن تفوق هؤلاء جميعًا، اربأ بِعِلمِك على أن يكون مطِيَّةً لإنسان, اِرْبَأ بمكانتك عن أن تكون أداةً بيَدِ إنسان، وورقةً رابحةً لِجِهة دون أخرى, فهذا التابعيّ الجليل ما قبِل أن يكون ورقةً رابحة بيَدِ أحد الفريقين .
 فقال لعبد الله بن الزبير: (إنَّك لَتَعْلم علْم اليقين أنَّه ليس لي في هذا الطلب أرَبٌ ولا مأرب، وإنَّما أنا رجل من المسلمين, فإذا اجْتمعَت كلمتهم عليك, أو على عبد الملك, بايعْتُ من اجْتمعَت كلمتهم عليه، أما الآن فلا أُبايِعُك، ولا أُبايِعُهُ .
 فجعل عبد الله يُعاشرهُ، ويُلايِنُهُ تارةً، ويعرض عنه, ويُجافيه تارةً أخرى، غير أنّ محمّد بن الحنفيَّة ما لبث أن انْضمَّ إليه رجالٌ كثيرون رأَوا رأيَهُ, وأسْلموا قيادهُم إليه, حتى بلغوا سبعة آلاف رجل مِمَّن آثروا اعتزال الفتنة .
 وكان كلَّما ازْداد أتباع بن الحنفيّة عددًا, ازْداد بن الزبير منهم غيظًا، فألحَّ عليه بطلبِ البيعَة، فلمَّا يئس من ذلك، أمرهُ هو ومن معه من بني هاشم وغيرهم, أن يلْزموا شِعْبهم بِمَكّة ، وجعل عليهم الرّقباء، -يعني إقامة جَبريَّة, فالإنسان هو الإنسان، والحاكم هو الحاكم، والقويّ هو القويّ- .
 ثمّ قال لهم: والله لتُبايِعُنّ أو لأهدِّدنَّكم، ثمّ حبسهم في بيوتهم، حتى إنَّه هدّدهم بالقتل ، عند ذلك قام إليه جماعة من أتباعه, وقالوا: دعنا نقتل ابن الزبير، ونُريح الناس منه, فقال: أفنوقِد نار الفتنة التي من أجلها اعْتزَلنا، ونقتل رجلاً من صحابة رسول الله, ومن أبناء صحابته؟ لا, والله لا نفعل شيئًا ممَّا يُغضب الله ورسوله) .
 ما فعل عبد الملك حينما علم بشأن محمد بن الحنفية, وهل حقق عبد الملك من جراء خطته شيئاً ؟
 لمَّا بلغ عبد الملك بن مروان ما يعانيه محمّد بن الحنفيّة ومن معه من بأس ابن الزبير, رأى الفرصة سامحةً لاسْتِمالتهم إليه، فالتنافس دائمًا من صالح الضعيف، فأرسل إليه كتابًا مع رسول من عنده، لو كتبه لأحد أبنائه لما كان أرقّ لهْجةً، ولا ألطفَ خِطابًا، وكان ممَّا جاء فيه : (لقد بلغني أنَّ ابن الزبير قد ضيَّقَ عليك، وعلى من معك الخِناق، وقطع رحمك، واسْتخفَّ بِحَقِّك، وهذه بلاد الشام مفتوحة أمامك, تستقبلك أنت ومن معك على الرحْب والسّعة، فانزِل فيها حيث تشاء، تلقى بالأهل أهلاً، وبالجيران أحبابًا، وسوف تجد عارفين لحقِّك، مقدِّرين لفضلك، واصلين لرَحِمِك إن شاء الله, طبعًا هو كان يريد أن يستميلهُ .
 سار محمّد بن الحنفيَّة ومن معه مُيمِّمين وجوههم شطر بلاد الشام، فلمَّا بلغوا أبلة استقروا فيها، وأبلة شمال بلاد العقبة، فأنزلهم أهلها أكرَمَ منْزِل، وجاوروهم أحْسنَ جِوار، وأحبُّوا محمَّد بن الحنفيَّة، وعظَّموه لما رأوا من عُمْق عبادته, وصدْق زهادته، فطفقَ يأمرهم بالمعروف، وينهاهم عن المنكر، ويُقيم فيهم الشعائر، ويصلح ذات بينهم، -وهكذا المؤمن، أينما جلس, يصلحُ بين المسلمين، ويأمر بالمعروف، وينهى عن المنكر، في إقامته, وسفره، وفي إبعاده، كما قال أحد العارفين: ماذا يصنع أعدائي بي؟ جنَّتي في صدري، إن أبعدوني فإبعادي سياحة، وإن سجنوني فسِجني خلوة، وإن قتلوني فقتْلي شهادة- .
 فلمَّا بلـغ ذلك عبد الملك بن مروان, شقّ عليه الأمر، واستشار خاصَّته، فقالوا: ما نرى أن تسمح له أن يقيم في مملكتك، وسيرته كما علمْت, يستقطب الناس من حوله، وكلَّما امتدَّ به العمر, زادتْ جماعته، ولا مصلحةَ أن يقيم في مملكتك، فإما أن يُبايِعَ لك، وإما أن يرجع من حيث جاء، فكتـب إليه عبد الملك يقول: إنّك قد قدمْت بلادي, فنزلْت في طرفٍ منها، وهذه الحرب قائمة بيني وبين عبد الله بن الزبير، وأنت رجل لك بين المسلمين ذِكْر ومكانة، وقد رأيتُ ألاّ تقيم في أرضي إلا إذا بايعتني، فإن بايعْتني فلك منِّي مئة سفينة, قدِمَت عليّ أمس من القلْزَم, فخُذْها بما فيها، وبمن فيها، ولك معها ألف ألف درهم مع ما تفرضه من فريضة لنفسك, ولأولادك, ولذوي قرابتك, ومواليك, ومن معك, -إغراء عجيب! ملايين وسفن كلّها لك على أن تُبايِعَني- فإن لمْ تُبايِعني, فارْجِع من حيث أتَيْتَ، وإن أبيْت, فتحوَّل عنِّي إلى مكان, لا سلطان لي عليه .
 فكتب إليه محمَّد بن الحنفيَّة يقول: من محمّد بن علي إلى عبد الملك بن مروان, سلامٌ عليك، وإنِّي أحمد الله الذي لا إله إلا هو إليك، أما بعد:
 فلعلَّك تتخوَّف منِّي، وكنتُ أحْسبُ أنَّك عارفٌ بِحَقيقة موقفي من هذا الأمر، ووالله لو اجْتمعَت عليَّ هذه، وإنّي لما أبيْت أن أبايِع عبد الله, أساء جِواري، ثمّ كتبتَ إليّ تدعوني إلى الإقامة في بلاد الشام، فنزلت بِبَلْدةٍ من أطراف أرضك برُخص أسعارها، وبعْدها عن مركز سلطانك، فكتبت إليه ما كتبت به، ونحن منصرفون عنك إن شاء الله) .
 ما هي النكبة التي وقع فيها محمد بن الحنفية, وكيف تخلص منها, ومتى بايع عبد الملك بن مروان بيعة الخلافة ؟
 انْصرف محمّد بن الحنفيّة برِجاله وأهله عن بلاد الشام، وطفق كلَّما نزلَ بِمَنزلٍ يُزْعج عنه، ويُدعى إلى الرحيل عنه، وكأنَّه لم تكْفهِ همومه كلّها، فشاء الله أن يختبرهُ بِهُموم أخرى, أشدّ وقْعًا، وأثْقلَ وطأةً .
 في الحقيقة أنا اخترت هذه القصّة بهذه الصفحة فقط، لأنَّ هذه الصَّفحة أعلِّق آمالاً كبيرة، الآمال أن نقف عند الكتاب والسنَّة, وألاّ نزيد شيئًا .
 ذلك لأنّ جماعةً من أتباعه مِمَّن في قلوبهم مرض، وآخرون مِمَّن في عقولهم غفلة, جعلوا يقولون: (إنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلّم أوْدع صدْر عليّ وآله كثيرًا من أسرار العلم ، وقواعد الدِّين, وكنوز الشريعة، وإنَّه خصَّ آل البيت بما لمْ يُطلع غيرهم عليه، فأدرك الرجل العامل العالم الأريب ما يحمله هذا الكلام في طيَّاته من انحراف، وما يمكن أن يجرَّه على الإسلام والمسلمين من مخاطر وأضرار .
 فجَمَعَ الناس وقام فيهم خطيبًا، حمد الله، وأثنى عليه، وصلى على نبيّه محمد صلوات الله, وسلامه عليه، ثمَّ قال: يزْعم بعض الناس أنَّ عندنا معشر آل البيت علْمًا خصَّنا به رسول الله صلى الله عليه وسلّم، ولمْ يُطْلع عليه أحدًا غيرنا، وإنَّا والله ما ورِثْنا من رسول الله صلى الله عليه وسلّم إلا ما بين هذين اللَّوْحين، وأشار إلى المصحف, كان أمامه مصحف فيه دفَّتين , وإنَّ من زعمَ أنَّ عندنا شيئًا نقرؤُهُ إلا كتاب الله؛ فقد كذب))

 سيّدنا النبي عليه الصلاة والسلام كُسفَت الشمس في عهده يوم مات إبراهيم، فقال بعض أصحاب النبي: لقد كُسِفَت حزْنًا عليه, فجمع أصحابه وقال:

((إنَّ الشمس والقمر آيتان لا ينبغي ....))

 إذا كنت صادقًا وأمينًا على الوحي، وأمينًا على دين الله, لا تسْمح ببِدْعةٍ تُقال على لِسانك، ولا توصَفُ بها أنت، دائمًا بيِّن الحقيقة، إذا كنت مخلصًا، لكنَّ أناسًا كثيرون يُحاطون بِهالةٍ كبيرة، ويعرفون أنَّها غير صحيحة ويسكتون, لماذا يسكتون؟ لأنَّهم يرتفعون بها, لكنّ إخلاصك لله, ينبغي أن يكون أقوى .
 لكنَّ أتباعهُ بدؤوا يُسلِّمون عليه ويقولون: (السلام عليك يا مهديّ, فيقول: نعم، أنا مهديّ إلى الخير، وأنتم مهديُّون إليّ إن شاء الله تعالى، ولكن إذا سلَّم عليّ أحدكم, فلْيُسمِّني باسْمي، وليقُلْ: السلام عليك يا محمَّد) ما قبِلَ أن يكون المهْدي، وما قبِلَ أن يكون قد خُصّ بِعِلْم لم يُخصَّ به بقيَّة أصحاب رسول الله, وهذا هو الإخلاص، فإيَّاك أن تقبلَ بِدْعةً أو مبالغةً ، إيَّاك أن تقبلَ تعظيمًا يرفعُك فوق قدْرك، أو تقبلَ قداسةً لا تستحقّها، عندئذٍ تكون قد اشتريْت بالدِّين الدنيا .
 لمْ تطلْ حَيْرةُ محمَّد بن الحنفيَّة في المكان الذي يستقرّ فيه هو ومن معه، فقد شاء الله عز وجل أن يقضِيَ الحجّاج بن يوسف الثَّقفي على عبد الله بن الزبير، وأن يُبايِعَ الناس جميعًا لعبد الملك بن مروان، فما كان منه إلا أن كتب إلى عبد الملك يقول: (إلى عبد الملك بن مروان أمير المؤمنين من محمّد بن عليّ، أما بعد: فإنِّي لمَّا رأيْتُ هذا الأمر أفْضى إليك، وبايعَكَ الناس, كنتُ كَرَجُلٍ منهم, فبايَعْتُكَ لواليكَ في الحجاز، وبعثْتُ لك بِبَيْعتي هذه مكتوبةً، والسلام عليكم .
 -لمَّا انتهَتْ الفتنة، وآل الأمر إلى عبد الملك بايعَهُ بيْعةً مكتوبةً، ولم يعد عليه تَبِعَة، فلو بايعَهُ قبل انتهاء الفتنة, كانت عليه مسؤوليَّة المحاربة معه، وأن يقتل المسلمين من أجله، فلمَّا اسْتقرَّ الأمر على ذلك, بايعَهُ بيْعةً مكتوبة- .
 فلمَّا قرأ عبد الملك الكتاب على أصحابه، قال له أصحابهُ: واللهِ لو أراد أن يشقّ عصا الطاعة، ويُحْدثَ في الأمر فتْقًا, لقدَرَ على ذلك، معه أتباع وعدد كبير، وهو في مَنْأى عنك، ولما كان عليه من سبيل، فاكْتُب إليه بالعهد، والميثاق، والأمان، وذمّة الله ورسوله؛ أن لا يُزْعَجَ، أو يُهاج هو أو أحد من أصحابه، وكتب عبد الملك إلى الحجّاح, يأمرهُ بِتَعظيمه, ورِعايَة حرمتهِ, والمبالغة في إكرامه) .

 

خلاصة القول عن محمد بن الحنفية :

 هذا نموذج لإنسان, بعيد عن الفتنة، وبعيد عن الانحِياز, لفئة دون أخرى، وبعيد أن يكون ورقةً رابحةً, بيَدِ جهة من أهل الدنيا، وبعيد على أن يُسْهم في سفْك دماء المسلمين، ابتعَدَ, ودفَعَ الثَّمَنَ باهظًا، فلمَّا انتهى الأمر بايعَ، وهذا موقف حكيم .
 أيها الأخوة, إلا أنَّ محمّد بن الحنفيَّة لم يعِشْ بعد ذلك طويلاً، فقد اختارهُ الله إلى جِوارهِ راضِيًا مرْضِيًا .

العبر التي نستخلصها من قصة محمد بن الحنفية مع عبد الله بن الزبير وعبد الملك بن

 أيها الأخوة، أثْمَنَ شيء في الحياة: أن تنام على وِسادتك، وليس على عاتقك شيء؛ لا دماء، ولا حقوق مغتصبة، ولا أموال، ولا تبني مجْدك على أنقاض الناس، ولا تبني مالك على فقرهم، ولا أمنَكَ على خوفهم، ولا غناك على فقرهم، ولا حياتك على موتهم، وهذه هي البطولة أن ترضيَ الله عز وجل، وأن تكون بعيدًا عن التَّبِعات .
 وقد أردْتُ من هذه القصَّة: الموقف الحكيم الذكيّ الواضح الأمين على هذا الشرع، فما سمحَ لأتباعِهِ أن يُعظِّموه، ولا أن يُقال له المهدي، ولا أن يرفعوه فوق مقامه، ولا أن يسمح أن يُقال عن والده, أنَّه خُصَّ بعِلْم ما خُصَّ غيره به من أصحاب رسول الله، فقد كان وقَّافًا عند كتاب الله، وكلّ إنسان داعِيَة صادق ومخلص, لا يسمح لأحد أتباعِهِ أن يزيد من حجمه على حساب عقيدته أبدًا, هذا هو المطلوب الآن .
 علاجنا في العودة إلى الكتاب والسنَّة، وعلاجنا في أن تعْطِيَ كلّ شيءٍ حجمهُ الحقيقي، لا أن تزيد وتبالغ، ولا أن تذل وتحتقر، دائمًا كن موضوعيًّا، واعْطِ الوصف الصحيح ، العلم في تعريفه: الوصف المطابق للواقع مع الدليل .
هذه قصَّة التابعي الجليل محمد بن الحنفيَّة بن سيّدنا عليّ كرَّم الله وجهه .

الاستماع للدرس

00:00/00:00

نص الزوار

إخفاء الصور