- السيرة
- /
- ٠4سيرة التابعين
الحمد لله رب العالمين, والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين, اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم, اللهم علمنا ما ينفعنا, وانفعنا بما علمتنا, وزدنا علماً, وأرنا الحق حقاً, وارزقنا اتباعه, وأرنا الباطل باطلاً, وارزقنا اجتنابه, واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه, وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين, أخرجنا من ظلمات الجهل والوهم إلى أنوار المعرفة والعلم، ومن وحول الشهوات إلى جنات القربات .
مقدمة عامة :
أيها الأخوة الكرام، مع الدرس الثاني من سِيَر التابعين رِضْوان الله تعالى عليهم أجمعين ، وتابِعِيّ اليوم هو عامر بن عبد الله التميميّ، وقبل أن نبدأ قصَّته لا بدَّ من مقدِّمةٍ نحن في أمسِّ الحاجة إليها .
أيها الأخوة الكرام، إنّ الإنسان في هذا الزمان الذي أنبأ به النبي عليه الصلاة والسلام حينما قال:
((يَأْتِي عَلَى النَّاسِ زَمَانٌ الصَّابِرُ فِيهِمْ عَلَى دِينِهِ كَالْقَابِضِ عَلَى الْجَمْرِ))
هذا الحديث معروف عندكم، وهناك أحاديث كثيرة تُذكِّرُ بِهُبوط الإنسان في آخر الزمان، يصبح المعروف منكرًا، والمنكر معروفًا، يصبحُ المطر قيظًا، والولد غَيْظًا، ويفيضُ اللئام فَيْضًا، ويغيظ الكرام غَيْظًا، أحاديث لا مجال لِذِكْرها، ولكنَّها تبيِّنُ أنّ حالة الإنسانيَّة في آخر الزمان في هُبوطٍ أخير، هناك سُقوط، وانْهِيارُ قِيَم، وانْهِيارُ مبادئ، وانْهيار مُثُل، واستعار الشَّهوات والفِتَن، فالإنسان في زحْمة هذه الحياة، وفي زحْمة هذه الفتن، حينما يسْتمعُ إلى قصَّة صحابيّ أو تابعيّ، يرى النُّبْل ، والصِّدق، ويرى الإخلاص، والأمانة، والاندفاع إلى الله عز وجل، وكأنَّني أُشبِّه هذا الإنسان برجلٍ يمشي في صحراء, الحرّ شديد، ورِمَال، ثمّ يرى عن بُعْدٍ واحةً من أشجار نخيل وغدير ماءٍ, فنحن إذا دخلنا بيت الله، واسْتمعنا إلى قصّة صحابي أو تابعي، وعِشْنا ساعةً في هذه القِيَم الرفيعة، والمُثُل الفائقة، هذا مِمَّا يَدْعو أن تُنزَّل علينا الرحمة، للقَوْل الذي تعرفونه جميعًا، عند ذِكْرِ الصالحين تتنزَّل الرَّحَمَات، والإنسان حينما يرى هؤلاء الأبطال، وهؤلاء الصحابة الكرام، وهؤلاء التابعين، يرى بطولاتهم، ووُضوح الرؤية عندهم، ويرى انْطلاقًا إلى جنَّة لا يفْنى نعيمها ، هذا يكون لنا دافعًا, وباحِثًا، ومُشَجِّعًا، إنّهم قُدْوةٌ لنا .
الشيء الخطير أيُّها الأخوة, أنَّه كما يُقال: قلْ لي: مَنْ قُدْوتُكَ؟ أقُلْ لكَ: مَن أنت؟، أهل الدنيا قدوتهم مِن جِنْسِهم وعلى شاكلتهم، فالتاجر قدْوتهُ تاجرٌ أكبر منه، والصِّناعيّ قدوَتُهُ صِنَاعِيّ أكبر منه، والمثقَّفُ ثقافةً عِلمانِيَّة قدْوتُهُ علمانيٌّ أكثر ثقافة منه، والقويّ قُدْوتُهُ قويّ أكبر منه، ولكنَّ المؤمن قدوتهُ رسول الله وصحابتُهُ الكرام، الذين سَبَقُوهُ في مجال الإيمان .
فهذه الدروس أيّها الأخوة, نعيشُ بها جميعًا ساعةً، وكأنَّنا في واحةٍ عقِبَ مسيرة في صحراء حارَّة، لأنَّ الذي يحْصَل أنَّك في الأيَّام كلِّها تسْتمِعُ إلى قِصَصٍ مُؤدَّاها سقوط الإنسان، ومادِيَّة الإنسان، وشحّ الإنسان، ولُؤْمُ الإنسان، وقَسْوةُ الإنسان، ونفاقُهُ، وجهْلُه، وحياةٌ فيها جهْل وسُقوط وحِقْد ولؤْم، وفيها أنانيّة وعُدوانٌ وبَغْي، وفيها تجاوُز، فإذا انتقلنا إلى هؤلاء الأبطال الذين عاشُوا حياتهم سُعَداء وكانوا مُلوكًا، مُلوك الدار الآخرة، وكانوا أبطالاً، وكانوا أعلامًا، عشنا حينئذٍ ساعة روعة وشوق .
هل كان عامر بن عبد الله التميمي من الصحابة أم من التابعين, وعلى يد من أخذ العلم, وكيف قسم حياته بعد ما نال مراده من العلم؟
فعامِرُ بن عبد الله التميميّ كان مِن التابعِين الأجِلاَّء، وقبل أنْ أدْخل في تفاصيل حياتِهِ ، لفَتَ نظري في هذا التابعيّ الجليل توازنُه في حياته، فهو في عبادته كان كأرقى العابدين، ولكن إذا انتقلْتَ إلى عملهِ في النهار كان أرقى المجاهدين، وإذا انتقلْت إلى صبْرِهِ كان أشدّ الصابرين، والحقيقة كما كنت أقول لكم دائمًا: نحن مع التَّفوّق لا مع التَّطرّف, نحن مع أنْ يَنْمُوَ الإنسان في جوانِبِهِ الثلاثة، أن ينْمُوَ عَقلهُ، وأن ينْمُوَ قلبهُ، وأن ينضبِطَ سُلوكهُ، ويرقى عملهُ بِشَكْل متوازن.
يُقال: كانت البصْرَةُ على حداثتِها من أغنى بلاد المسلمين، ومن أوْفرها ثرْوةً، بما كان يتدفَّق عليها من غنائِمِ الحرب، ولكنَّ الفتى التميميّ عامر بن عبد الله لمْ يكن له أرَبٌ في ذلك كلّه، لقد كان زاهدًا بِمَا في أيدي الناس راغبًا بما عند الله .
أيها الأخوة، هذه جملة خطيرة جدًّا، فالمؤمن يزْهدُ بِمَا في أيدي الناس، ويرْغبُ بما عند الله، فإذا زهدْتَ بما في أيدي الناس أحبَّكَ الناس، وإذا رغبتَ بما عند الله أحبَّك الله، والعكس غير صحيح، أيْ إذا أحببت ما عند الناس، وطمعْت في مالهم أبْغضَكَ الناس، وإذا زهدْتَ بما عند الله أبْغضك الله تعالى .
رجل البصْرة الأوَّل, الصحابيّ الجليل أبو موسى الأشعري كان والِيَ المدينة الزاهرة، وهو قائد الجيوش فيها، وإمامُ أهلها، ومعلِّمُهم، ومرشدهم إلى الله عز وجل، لزِمَ عامر بن عبد الله التميميّ أبا موسى الأشعري في سِلْمه وحربِهِ، نقول: إنهم تابعون، ومعنى تابعون أي أنَّ هؤلاء اقْتدَوا بالصحابة بعد وفاة النبي عليه الصلاة والسلام، حيث بقيَ عددٌ غيرُ قليل من أصحاب رسول الله رِضْوان الله تعالى عليهم، فهؤلاء التابعون لَزِموا صحابة رسول الله .
فهذا التابعيّ عامر بن عبد الله التميميّ لَزِمَ أبا موسى الأشعري في سلمه وحربهِ، وفي حِلِّهِ وترْحالِهِ، فأخذ عنه كتاب الله طريًّا كما نزل على فؤاد محمَّد صلى الله عليه وسلّم، لأنّ القرآن يجب أن تتلَقَّاهُ قِراءةً، وأنْ تتلقَّاهُ فهْمًا، وأنْ تقْتَدِيَ بِمَن يُطَبِّقُهُ، وتحضرني كلمة أُعْجَبُ بها ، هي في كتاب العُكْبُري، يقول عن كتاب الله العزيز: تؤخذُ ألفاظهُ من حُفَّاظِهِ، وتؤخذُ معانيهِ مِمَّن يُعانيه، يجب أن تلْتقي بإنسانٍ يُعاني هذه المعاني ويعيشُها، وشتَّان بين من يتكلَّم عن معاني القرآن، وهو لا يُعانيها، وبين من يتكلَّم عن معاني القرآن، وهو يُعانيها، وفي الحقيقة عندنا في الأدب مِقياس مِن أرقى المقاييس في رُقِيِّ النصّ الأدبي، يُسَمِّيه الأدباء والنُّقاد (الصِّدْق الفني)، ومعْنى الصِّدق الفنيّ أن يصْدر الأديب عن تجربةٍ حيَّة يعيشها، وعن عاطفةٍ صادقةٍ، فالإنسان إذا حدّثنا عن حقيقة عاشها أبكانا، أما إذا حدَّثنا عن مشكلةٍ خياليَّةٍ لم يُبْكِنا إطلاقًا، فإذا أردْت أن تتأثَّر بأدبٍ ما فابْحَث عن أديبٍ صادقٍ فيما يقول، صِدْقُهُ فنيّ، فأنت لو اسْتمعْتَ مِن فقيرٍ يصفُ حالة الفقْر، ربّما راق له قلبك، أما لو اسْتَمَعْت إلى غَنِيٍّ مُتْرفٍ يصفُ لك حالة الفقْر، ربَّما نفرْتَ من كلامه، لأنَّه لا يعرفُ الشَّوْق إلا من يُكابِدُه، ولا الصَّبابة إلا من يُعانيها .
فأخذ هذا التابعيّ الجليل عن أبي موسى الأشعري كتاب الله رطبًا طرِيًّا كما نزل على فؤاد محمد صلى الله عليه و سلم، وروى عنه الحديث صحيحًا مَوْصولاً بالنبي الكريم الله صلى الله عليه وسلّم، وتفقَّهَ على يدَيْه في دين الله عز وجل، فلمَّا اكْتَمَلَ له ما أراد من العِلْم جعَلَ حياتهُ أقْسامًا ثلاثة، ذكرتُ أشياءَ دقيقة، أنت بِحاجةٍ إلى درس تفسير كتاب الله، وهل مِن كتابٍ على وجه يمكن أن يكون أهَمّ في حياتك من كتاب الله؟ هو منْهجك، وأنت بِحَاجةٍ ماسَّةٍ إلى درْسٍ في الحديث الشريف وشرحه, لأنّ الله عز وجل يقول:
﴿وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ﴾
فمعرفةُ الذي أتانا به النبي أو أتانا إيَّاهُ النبي فرْضُ عَيْنٍ على كل مسلم، هذا البند الثاني .
أنت كَزَوْج، أو موظَّف، أو طبيب، أو تاجر، أو محامي، أنت في أمسّ الحاجة إلى أن تعرف الأحكام الفقْهيَّة المتعلِّقة بِحِرْفتكَ وحياتك، فأنت كَزَوْج عليك معرفة حقوق الزوج والزوجة ، وطريق معاملة الأهل كما كان يفعلها النبي عليه الصلاة والسلام، وفي التجارة، وحقوق البيع والشِّراء وشروطهما، والدَّيْن, والحوالة، والوكالة، وأنت بِأمسّ الحاجة إلى درسٍ في السيرة، لأنَّ السيرة إسلامٌ عملي، وحقيقة مع البرهان عليها، فلمَّا اكْتملَ لهذا التابعيّ الجليل العلْم جعَلَ حياتَهُ أقسامًا ثلاثة, وهذا ينقلنا إلى تنظيم الحياة .
أيها الأخوة الكرام، أُناسٌ كثيرون جدًّا يكونون ضَحِيَّة الدنيا، لا تنظيم في حَياتِهِ، يأتي بهُموم عملهِ إلى البيت، فَيَشْقى في بيتِهِ، وينقل هموم بيتِهِ إلى عملهِ، فيَشْقى في عمله، فإذا دَخَلَ إلى بيت الله كانت كلّ مشكلات التجارة في ذهنه في أثناء الصلاة، لقد صلّّى أحدهم صلَّى وراء الإمام فقال له: أنت صلَّيْت ركعتين فقط في صلاة المغرب، فقال الإمام: هذا غير معقول! فقال المُصَلِّي: لا، لأنَّ لي ثلاثة محلاَّت تِجاريَّة، في كلّ ركعة أَحُلّ مشاكل محلّ، وبقي المحلّ الثالث ما حللْتُ مشاكله! لذا أيها الأخوة نظِّموا أوقاتكم، وإنّ لله عملاً بالليل لا يقبلهُ بالنهار، وعملاً بالنهار لا يقبلهُ بالليل، وقْتٌ لأهلك، ووقْتٌ لأولادك، ووقْتٌ لعَمَلِك، وقت لِعِبادتك، ووقْتٌ لطلب العلم، فتَنظيم الأوقات هو الذي يجعلكَ تكْسبُ الدنيا، واللهُ عز وجل قال:
﴿لَتَرْكَبُنَّ طَبَقاً عَنْ طَبَقٍ﴾
قرأتُ مرَّةً مقالة في مَجلَّة مفادها أنَّ في حياة الإنسان ثلاثة أشياء؛ الوقت والصحّة والمال، ومن أجل أن تزهدوا في هذه الدنيا، ففي مرحلة الشباب الصحَّة متوفِّرة، وليس عندهُ مشكلة، تجده يطحن الحجارة، ولكن لا يوجد المال، وفي المرحلة الثانية الصَّحة موفورة، والمال موفور، ولكن ليس لديه الوقت لِيَتَنَعَّم بالمال، من لِقاء إلى لِقاء، واجْتِماعات، دوام، وعمل مضنٍ، وهموم، ولو ذهَب إلى نزْهة لوجدتَهُ ساهيًا, وفي المرحلة الثالثة المال موجود، تقاعَدَ, سلَّم أولادهُ زمام الأمور، والوقت موجود, ولكن لا توجد الصحَّة في جِسْمِهِ, خمسون علَّة، وهذه هي الحياة؛ تغرُّ، وتَضُرّ، وتمُرّ، ولكن حياة المؤمن ليست هكذا، المؤمن عرف هدفهُ من بداية الحياة، وشكَّل حياتهُ تشْكيلاً إسلاميًّا، وجعل هدفهُ واضِحًا، وجنَّدَ طاقاته ونشاطاته ومالهِ ووقتهُ في سبيل هذا الهدف، لاحِظ إنْ أتَيْتَ بِعَدسة، ووقفتَ تحت أشعَّة الشَّمس, وجعلتَ مِحْرقها تحت ورقة، فستحترق هذه الورقة, فالذي حدث أنَّ هذه الأشعّة اجْتمَعت في نقطة فأحْرَقَتْ، والإنسان إذا تجمَّعَتْ طاقاتهُ في شيءٍ واحد يُحَقِّق المستحيل، أما أهل الدنيا فهم مبعْثَرون مُشَتَّتون، أما المؤمن فهو مجموع، عضلاته وخِبْراته وعلمه ومالهِ وذكاؤه وثقافته ومطالعته وطلاقة لِسانه, يفعل بها المستحيل، وكلّ ذلك في سبيل الله .
هذا التابعي الجليل, قال: شطر في حلقات الذِّكْر يقرأُ فيه الناس القرآن الكريم في مسجد البصرة، وشطْر في خَلَوات العبادة ينتصبُ فيه قائمًا بين يدي الله عز وجل حتى تَكِلَّ قدَماه، وشطْرٌ في ساحات الجهاد يسَلّ فيها سيْفًا غازِيًا في سبيل الله، فهو في الجهاد تارةً، وفي العبادة تارةً أخرى، وفي طلب العلم وتعليمه تارةً ثالثة، ولمْ يتْرك في حياته موضِعًا لشيءٍ غير ذلك، حتى دُعِيَ بِعَابِدِ البصْرة، وزاهدها الأوَّل .
ما هو الدعاء الذي كان يناجي عامر به ربه, وما هو الميثاق الذي عهده عامر لذلك الرجل البصري وأمنه عليه؟
أحدُ أبناء البصْرة, قال: (سافرْتُ في قافلةٍ فيها عامر بن عبد الله التميميّ، فلمَّا أقْبَلَ علينا الليل نزلْنا بِغَيْضةٍ فجَمَعَ عامرُ متاعَهُ، وجمعَ فرسَهُ بِشَجَرةٍ، وطوَّلَ له زِمامهُ، وجمعَ له مِن حشائش الأرض ما يُشْبعُهُ، وضرحهُ أمامه، ثمّ دخل الغَيْضة وأوْغَلَ فيها، فقلْتُ في نفسي: والله لأتْبعنَّه، ولأنْظرنَّ ما يصْنعُ في أعماق الغَيْضة في هذه الليلة، فمضى حتى انتهى إلى رابيةٍ ملْتفَّة الشجر، مسْتورة عن الأعيُن, فاسْتقبل القبلة، وانتصبَ قائمًا يصلِّي، فما رأيْتُ أحْسنَ من صلاته، ولا أكمل ولا أخْشع، ولما صلى ما شاء أن يصلِّي طفقَ يدْعو ربّه ويُناجيه، فكان ممَّا قال: إلهي قد خلقتني بِأمرك، وأقمْتني في بلادك بِمَشيئتك، ثمّ قلت ليَ: اسْتَمْسِك، فكيف أسْتمسِكُ إن لم تمسِكْني بِلُطفك يا قويّ يا متين؟ .
-أيها الأخوة الكرام، الإنسان لا بدّ أن تكون له مناجاة مع الله تعالى، وساعة يخْلو بها بِرَبِّه؛ في سجوده، وفي صلاته، وفي ذكره، هذه شحنة، أنا مرَّةً مِصباحٌ كهربائي علَّمني درسًا لا أنساهُ، مصباحٌ يُشْعل بالكهرباء، كنتُ إذا نسيتُ أن أشْحنهُ، وأردْتُ أن أسْتعملهُ فجأةً اضْغطُ الزرّ، فإذا الضوء باهت ضئيل، أما إذا شحنتُهُ، وأردتُ أن أستعملهُ, أرى له ضوءًا كَضَوء الشمس، فكذلك المؤمن كلما شحنْتهُ تألَّق، والشَّحنُ يكون عن طريق العبادة؛ فالصلاة شَحن، والذِّكر شحن، والاستغفار شحن، والدعاء شَحن، وتلاوة القرآن شحن، فبِقَدْر ما تشْحنُ نفْسكَ تتألَّق، فهكذا كان هذا التابعيّ الجليل- .
كان يقول: إلهي إنَّك تعلم أنَّه لو كانت ليَ هذه الدنيا بما فيها، ثمَّ طُلِبَتْ مِنِّي مرْضاةً لك ، لوَهَبْتُها لِطَالِبِها، فهَبْ ليَ نفسي يا أرحم الراحمين، إلهي إنِّي أحْببْتُكَ حُبًّا سهَّلَ عليّ كلّ مصيبة، ورضني بكل قضاء، فلا أُبالي مع حُبِّي لك ما أصبحت عليه، وما أمْسيْتُ فيه .
قال الرجل البصري: ثمَّ إنَّهُ غلبني النعاس فأسْلمْتُ جَفْني إلى النوم، وما زلْتُ أنام واسْتيقظ, وعامر منتَصِبٌ في موقفه، ماضٍ في صلاته, ومناجاته حتى تنفَّس الصبح, -هل يعقل ألاّ ينام الإنسان؟ نعم معقول، أحيانًا يسهر شخصان إلى أذان الفجر، لانْبساطهما، فهل سرورك بالله عز وجل كَسُرورِكَ بِصَديقك من أهل الدنيا؟ قال: (يا موسى, أَتُحِبّ أن أكون جليسك؟ فَصُعِقَ! قال: كيف ذلك يا رب, وكيف أكون جليسك؟ قال: يا موسى, أما علمتَ أنَّه من ذكرني فقد جالسَني، أما علمْت أنِّي جليسُ مَن ذكرني، وحيثما الْتَمَسَني عبدي وجدني)- .
قال: فلمَّا بدا له الفجر، فأدَّى المكتوبة، ثمَّ أقْبلَ يدعو, ويقول: اللهمّ ها قد أصْبح الصبح، وطفقَ الناس يغدون ويروحون، يبتغون من فضلك، وإنّ لِكُلٍّ منهم حاجة، وإنّ حاجة عامر عندك أن تغفر له، اللهمّ فاقْضِ حاجتي وحاجاتهم يا أكرم الأكرمين .
ثمّ قال عامر: اللهمّ إنِّي سألتُكَ ثلاثًا, فأعْطَيتني اثْنَتَين، ومنَعْتني واحدة، اللهمّ فأعْطِنِيها حتى أعْبدَكَ كما أحبّ وأريد، ثمّ نهَضَ من مجلسه، ووقعَ بصَرهُ عليّ، فَعِلَم بمكاني منه في تلك الليلة، فجَزِعَ لذلك أشدّ الجزع، وقال لي في أسى: أراك كنت ترقبني تلك الليلة يا أخا البصرة؟ قلتُ: نعم، فقال: اسْتر ما رأيْت مِنِّي ستَركَ الله .
-أحيانا يصلّي الواحد منَّا قيام الليل فيقيم الدنيا ويقعدها- لكن عامر قال للشخص البصري: اسْتر ما رأيْت مِنِّي ستَركَ الله, فقلتُ: واللهِ لَتُحَدِّثني بِهذه الثلاث التي سألت بها ربّك، أو لأخْبِرَنّ الناس بِما رأيْتُه منك؟ فقال: وَيْحَكَ لا تفعَل, فقال: قلتُ: هو ما أقولهُ لك، فلمَّا رأى إصْراري, قال: أحدِّثك على أن تعطِيني عهْد الله وميثاقهُ ألاّ تُخْبر بهذا أحدًا, فقلتُ: لكَ عليّ عهْدُ الله وميثاقهُ ألاّ أُفْشِيَ لك سرًّا ما دُمْتُ حيًّا، فقال: لمْ يكن شيءٌ أخْوفَ على ديني من النِّساء, فسألْتُ ربِّي أن ينزع من قلبي حبّهنّ، حتى صِرْتُ لا أبالي امرأةً رأيْتُ أم جِدارًا, -وقد يقول أحدكم: غضّ البصر صَعب، وأنا أقول لكم: واللهِ الذي لا إله إلا هو, وكما قال عليه الصلاة والسلام:
((مَا مِنْ مُسْلِمٍ يَنْظُرُ إِلَى مَحَاسِنِ امْرَأَةٍ أَوَّلَ مَرَّةٍ, ثُمَّ يَغُضُّ بَصَرَهُ إِلَّا أَحْدَثَ اللَّهُ لَهُ عِبَادَةً يَجِدُ حَلَاوَتَهَا))
أنت تصلّي في النهار خمس صلـوات، فما قولك أنَّه كلّما وقعَتْ عيْنك على امرأة أجْنبيَّة، وغضضْتَ بصرك لا تخاف أحدًا، ولا ترجو أحدًا إلا الله ارْتَقَيْت عند الله، مرَّةً قلتُ لكم: أحيانًا تتوافق القوانين مع الشرائع، فإذا ترك أحدٌ سرقة المال، يا تُرى, ترك السرقة خوفًا من الله أم خوفًا من العقاب القانوني؟ الله تعالى أعلم، ولِحِكمة أرادها الله عز وجل أنَّ بعض أوامر الدِّين ينفرد بها من بين كلّ الشرائع، فغضّ البصر مثلاً، لا توجد جهة في الأرض يمكن أن تُحاسبك على نظرك إلى النِّساء، وهذه العبادة عبادة الإخلاص، لأنَّه لا توجد جهة تُحاسِب، وإذا أردت أن تنظر إلى امرأة من النافذة، من يستطيع أن يُحاسبك على نظرك إلى هذه المرأة؟ لذلك قال تعالى:
﴿يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ﴾
إذا كنت طبيبًا، وشَكَتْ لك موضِع ألمٍ من جسمها، فلك الحقّ أن تنظر إلى هذا الموضع كي تعالجهُ، ولكن من الذي يكشف أنَّك نظرْت إلى موضعٍ لسْت بحَاجة إليه؟ الله هو الذي يعلم، قال تعالى:
﴿يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ﴾
لذلك أنا أُردِّد هذا القول كثيرًا: من لم يكن له ورعٌ يصدّه عن معصيَة الله إذا خلا لمْ يعبأ الله بشيءٍ من عمله- .
قال: فقلتُ: هذه واحدة, فما الثانية؟ قال: سألتُ ربّي ألاّ أخاف أحدًا غيره، -واللهِ توجد بالأرض ملايين الجهات المخيفة، وما أكثر المخاوِف، فإذا ركبْتَ مركبةً فهناك مخاوف، مجيء سائقٍ غافل، وإذا دخلت إلى مكان, فهناك من يُعَرقل عملك، ويُعَقِّد عليه القضايا، فالإنسان تحت أخطار لا يعلمها إلا الله- فاسْتجاب لي، حتى إنِّي واللِه لا أرغب شيئًا في الأرض ولا في السماء سواه، -قال: (يا موسى, خفْني وخَفْ نفسكَ) أنا أقول لكم هذه الحقيقة: مهما رأيْت جهة قوِيَّة شَرِسةً عُدْوانِيَّة، فلا تخَفْ منها، خَفْ من ذنْبٍ تقترفهُ، فلن يَسْمحَ الله لهذه الجهة القويَّة أن تصل إليك، قال تعالى:
﴿وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلَا تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَاناً فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ * الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ﴾
وقال تعالى :
﴿وَلَا أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ رَبِّي شَيْئاً وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً﴾
تصوَّر إنسانًا واقفًا أمام سبعة وُحوش مخيفة، وكلّها تريد أكْلهُ، بِلُقْمة واحدة، ولكنّ هذه الوحوش مربوطة بِيَد جهةٍ واحدة، ومربوطة بِأزِمَّة مُحكمةٍ، وهذه الجهة بصيرة سميعة عليمة حكيمة رحيمة وعادلة، فأنت علاقتك مع الوُحوش أم مع الجهة التي تُمسِكُ أزِمَّتها؟ هذه الجهة لو أَرْخَتْ بعض الأزِمَّة لوصَلَتْ الوحوش إليك، فإذا منَعَتْها عنك انتهى الأمر، وهذا معنى قول الله تعالى:
﴿فَكِيدُونِي جَمِيعاً ثُمَّ لَا تُنْظِرُونِ * إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ﴾
هذا معنى قول بعض العارفين :
أَطِعْ أمْرنا نرْفع لأجلك حجْب َنا فإنَّا مَنَحْنا بالرضا من أحبَّنا
ولُذْ بِحِمانا واحْتَمِ بِجَنابِنــا لِنَحميك ممَّا فيه أشرار خلقنا
قلْتُ: فما الثالثة؟ فقال: سألْتُ ربِّي أن يُذْهِبَ عَنِّي النَّوم حتى أعْبدَهُ بالليل والنهار كما أريد، فمَنَعَنيها، فلمَّا سمِعتُ منه ذلك, قلتُ له: رِفْقًا بِنَفْسِك فإنَّك تقضي ليلكَ قائمًا، وتقطعُ نهاركَ صائمًا، وإنَّ الجنَّة تُدْركُ بأقلَّ ما تصْنع، وإنَّ النار تُتَّقى بأقلَّ مِمَّا تُعاني, فقال: إنَّي لأخشى أن أنْدَمَ حيث لا ينفعُ النَّدَم، والله لأجْتهِدَنَّ في العبادة ما وجدتُ للاجتهاد سبيلاً، فإنْ نجَوْتُ فَبِرَحْمة الله، وإن دخلْتُ النار فَبِتَقْصيري) .
أيها الأخوة، هل تعلمون من هو العاقل؟ العاقل هو الذي لا يعملُ عملاً يندمُ عليه، فأنت الآن تعيش، ولكن يا ترى لو حان الآن وقتُ مُغادرة الدنيا، ألا تنْدم لِمَ لمْ تُصَلِّ أكثر، ولِمَ لمْ تتعلَّم أكثر، ولِمَ لمْ تُنْفِقُ أكثر؟ فالعاقل هو من يعْملُ عملاً لا ينْدمُ عليه أبدًا، هذا ما قالهُ بعض أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلّم:
((والله لو علِمْتُ غدًا أجلي ما قدرْتُ أن أزيد في عملي))
كيف كان عامر يختار صحبته إذا غزا في سبيل الله ؟
أيها الأخوة, غير أنَّ عامر بن عبد الله لمْ يكن راهبًا من رهبان الليل فحَسْب، بل كان فارسًا من فرسان النهار أيضًا، فما أذَّنَ مؤذِّنُ الجهاد في سبيل الله إلا وكان في طليعة من يُجيب النِّداء، وكان إذا نهَض لِغَزوة من الغزوات مع المجاهدين وقفَ يتوسَّمُ الناس لِيَختار رِفاقهُ، واسْمعوا هذه القصَّة: إذا وقعَ على رِفْقةٍ تُوافقُهُ قال لهم: (يا هؤلاء، إنِّي أريد أن أصْحبكم على أن تُعطوني من أنفسكم ثلاث خِلال، فيقولون ما هنّ؟ فيقول: أولهنّ أن أكون لكم خادمًا، فلا يُنازعني أحدٌ منكم في الخدمة أبدًا، والثانيَة أن أكون لكم مؤذِّنًا فلا يُنازِعَني أحدٌ منكم للنِّداء للصَّلاة، والثالثة أن أُنفقَ عليكم بِقَدر طاقتي، -لذلك يُعرَف الإنسانُ في السَّفَر- فإذا قالوا: نعم، انْضمَّ إليهم، وإذا نازعه أحدٌ منهم في شيء من ذلك رَحَلَ عنهم إلى غيرهم) .
إليكم هذا الموقف لعامر, علام يدل ؟
نزلَ سعْد بن أبي وقاص رضي الله عنه بعد القادسيّة في إيوان كِسْرى، وأمرَ عمْرو بن مُقَرٍّ أن يجمعَ الغنائم ويُحصيَها، لِيُرْسِلَ خُمسها إلى بيت مال المسلمين، ويقسمُ باقيها على المجاهدين، فاجْتمعَ بين يديه من الأموال والأعلاق والنفائس ما يفوق الوصْف، ويعزّ على الحصر ، فهنا سِلال كبيرة مختَّمَةٌ بالرصاص، مملوءة بآنِيَة الذهب والفضَّة، كان يأكل بها ملوك فارس، وهناك صناديق من نفيس الخشب كُدِّسَتْ فيها ثيابُ كِسْرى وأوْشحَتُهُ ودُروعُهُ المُحَلاَّة بالجوهر والدرر، وصناديق مملوءة بِنَفائس الحليّ وروائع المقْتَنَيات، وتلك أغمادٌ فيها سُيوف ملوك الفرس مَلِكًا بعد ملِك، وسيوف الملوك والقُوَّاد الذين خضعوا للفرس خلال التاريخ، وفيما كان العمَّال يُحْصون هذه الغنائم على مرأى من المسلمين وعلى مَسْمع, أقْبلَ على القوم رجلٌ أشعثُ أغْبر، ومعه حُقّ كبير الحجم, الحُقُّ هو الوعاء الكبير، ثقيل الوزن حملهُ بِيَدَيه كِلْتَيهما، فتأمَّلوهُ فإذا هو حُقٌّ لم تقع عيونهم على مثله قطّ، ولا وجدوا فيما جمعوه شيئًا يعدِلُهُ أو يُقاربهُ، فنظروا في داخله فإذا هو قد مُلئ بِرُوائه الدرّ والجوهر .
فقالوا للرجل: (أين أصبْتَ هذا الكنز الثمين؟ فقال: غنِمْتُهُ في معركة كذا، في مكان كذا، فقالوا: وهل أخذت منه شيئًا؟ فقال: هداكم الله، والله إنّ هذا الحُقّ وجميع ما مَلَكَتْهُ ملوك فارس لا يعدل قلامة ظفر, ولولا حَقُّ بيت مال المسلمين فيه ما رفعْتهُ من أرضهِ، ولا أتَيْتكم به، فقالوا: من أنت أكرمكَ الله؟ فقال: واللهِ لا أخبركم لِتَحمدوني، وما أُخبرُ غيركم لِيُقَرضوني، ولكنَّني أحمدُ الله تعالى وأرجو ثوابهُ، ثمّ تركهم ومضى، فأمروا رجلاً منهم أن يتَّبعهُ، وأن يأتيهم بِخَبرهِ، فما زال الرجل يمضي وراءهُ، وهو لا يعلمُ به، حتى بلغ أصحابهُ، فلمَّا سألهم عنه, قالوا: ألا تعرفهُ؟ إنَّهُ زاهِدُ البصْرة، عامر بن عبد الله التميميّ) .
ما هي الشكوى التي صدرت إلى سيدنا عثمان عن عامر, ومن هو صاحب الشكوى, وما هو الأمر الذي وجهه عثمان لعامر؟
الآن نُنْهي هذه القصَّة بِحادِثٍ مُنَغِّصٍ جرى لهذا التابعيّ الجليل، فهذا التابعيّ الجليل رأى رجلا من أعوان صاحب شُرطة البصرة قد أمسكَ بِخُنَّاق رجل من أهل الذِّمة، وجعل يجُرُّهُ جرًّا، والذِمِّيّ يستغيث الناس، ويقول: (أجيروني أجاركم الله, أجيروا ذِمَّة نبيّكم يا معشر المسلمين، فأقْبلَ عامر عليه، وقال: هل أدَّيْتَ جِزْيتَكَ؟ فقال: نعم أدَّيتها، فالْتفتَ إلى الرجل الممْسِك بِخُنَّاقه، وقال: ماذا تريد منه؟ فقال: أريدهُ أن يذهب معي يكْسحَ حديقة صاحب الشرطة، يكْسح يعني ينظِّف، فقال للذِمِّي: أَتَطيبُ نفسك لهذا؟ فقال الذميّ: كلاَّ، فذلك يرُدّ قُواي، ويشغلني عن كسب قوت عيالي .
فالْتفت عامر إلى الرجل, وقال: دَعْهُ، قال: والله لا أدعهُ، فما كان من عامر إلا أن ألقى رداءهُ على الذميّ، وقال: والله لا تغفر ذِمَّة محمَّد وأنا حيّ، ثمّ تجمَّعَ الناس، وأعانوا عامرًا على الرجل، وخلَّصوا الذِمِّي من القوَّة، فما كان من أصحاب أعوان الشّرطة إلا أن اتَّهموا عامرًا بِنَبْذ الطاعة، ولفَّقوا له تهمةً أنَّه لا يطيعُ أمير المؤمنين، ورمَوْهُ بالخروج عن أهل السنة والجماعة، وقالوا: إنَّه امرؤُ لا يتزوَّج النساء، ولا يأكل لحم الحيوانات، ولا ألبانها، ويتعالى على غشيان مجالس الولاة، ورفعوا أمرهُ إلى أمير المؤمنين عثمان بن عفّان رضي الله عنه .
فأمر الخليفة والِيَهُ على البصرة أن يدعو عامر بن عبد الله إلى مجلسِهِ، وأن يسألهُ عمّا نُسب إليه لِيَرفعَ له خبرهُ، فاسْتدعى والي البصرة عامرًا، وقال: إنَّ أمير المؤمنين أطال الله بقاءهُ أمرني أن أسألك عن أمور نُسِبَت إليك، فقال: سَل عمَّا أمر به أمير المؤمنين، قال: مالكَ تعْزفُ عن سنَّة رسول الله، وتأبى أن تتزوَّج؟ فقال: ما تركتُ الزواج عُزوفًا عن سنّة النبي عليه الصلاة والسلام، فأنا أشْهد أنَّه لا رهْبانيَّة في الإسلام، وإنَّما أنا امرؤً رأى أنَّ له نفْسًا واحدة، فجَعَلها لله عز وجل، وخشِيَ أن تغلبهُ الزوجة عليها، قال: ما لك لا تأكل اللَّحْم؟ فقال: آكلهُ إن وجدْتُهُ واشْتهيْتُهُ، أما إن لم أشْتَهِهِ، أو لم أجدْهُ فإنِّي لا آكله، قال: ما لك لا تأكل الجبن؟ قال: إنَّ بِمَنطقةٍ فيها مجوسٌ يصنعون الجبن، وهم قومٌ لا يفرِّقون بين الميتة والمذبوحة، إنِّي أخشى أن تكون المنفحة التي صُنِع منها الجبن من شاةٍ غير مذكَّاة، فما شهد شاهدان من المسلمين على أنَّه جبْن صُنِعَ بمنفحة شاة مذبوحة أكلته، قال: ما يمْنعك أن تأتي الولاة، وتشهد مجالسهم؟ قال: إنَّ في أبوابكم كثيرًا من طلاَّب الحاجات فادْعوهم إليكم، واقْضوا حوائجهم لديكم، واتْركوا مَن لا حاجة له عندكم، رُفعَت الأقوال إلى أمير المؤمنين فلم يجد فيها شيئًا أو خروجًا عن السنة والجماعة .
أيها الأخوة, غير أن ذلك لم يطفئ نار الشر, وكثر القيل والقال حول عامر, وكادت تكون فتنة بين أنصار الرجل وخصومه, فأمر عثمان رضي الله عنه بتسييره إلى بلاد الشام, واتخاذها دار إقامة له, وأوصى واليه على الشام معاوية بن أبي سفيان أن يحسن استقباله, وأن يرعى حرمته .
فهذا التابعي الجليل حينما خرج من البصرة فرفع يديه, وقال: اللهم من وشى بي وكذب علي, وكان سبباً في إخراجي من بلدي, والتفريق بيني وبين صحبي, اللهم إني صفحت عنه فاصفح عنه, وهبه العافية في دينه ودنياه, وتغمدني وإياه وسائر المسلمين برحمتك وعفوك وإحسانك يا أرحم الراحمين, ثم وجه مطيته نحو ديار الشام, ومضى لسبيله) .
إليكم لحظته الأخيرة في الحياة :
أيها الأخوة, قضى عامر بقية حياته في بلاد الشام, واختار بيت المقدس دارا لإقامته, وحينما مرِضَ مرَضَ الموت، فدخَلَ عليه أصحابهُ فوجدوهُ يبكي، فقالوا له: (ما يُبكيك وقد كنتَ وكنت؟ فقال: والله ما أبكي حِرْصًا على الدنيا، ولا جزعًا من الموت، وإنَّما أبكي لِطُول السَّفر، وقلَّة الزاد، ولقد أمْسيْت بين صعود وهبوط، إما إلى الجنة وإما إلى النار، فلا أدري إلى أيِّهِما أصير، ثمَّ لفظَ أنفاسَهُ، ولسانهُ رطْبٌ من ذِكْر الله، هناك في أولى القبلتين، وثالث الحرمين، ومسرى النبي عليه الصلاة والسلام، تُوُفِّيَ عامر بن عبد الله التميميّ، وقبرهُ الآن في بيت المقدس).
خلاصة القول :
هذا تابعيّ جليل وقف هذا الموقف، واللهُ تعالى امْتحنهُ, ونجَّاه، وكان بطلاً في النهار، وراهبًا في الليل، وزاهدًا وورِعًا، قال تعالى:
﴿لِمِثْلِ هَذَا فَلْيَعْمَلِ الْعَامِلُونَ﴾
وقال تعالى:
﴿وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ﴾