- السيرة
- /
- ٠4سيرة التابعين
الحمد لله رب العالمين, والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين, اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم, اللهم علمنا ما ينفعنا, وانفعنا بما علمتنا, وزدنا علماً, وأرنا الحق حقاً, وارزقنا اتباعه, وأرنا الباطل باطلاً, وارزقنا اجتنابه, واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه, وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين, أخرجنا من ظلمات الجهل والوهم إلى أنوار المعرفة والعلم، ومن وحول الشهوات إلى جنات القربات .
إليكم هذا الحديث الذي دار بين هؤلاء النفر الأربعة :
أيها الأخوة الكرام، مع الدرس الثالث من سِيَر التابعين رِضْوان الله تعالى عليهم ورحمهم الله تعالى، والتابعيّ اليوم: عروة بن الزبير، قال أحدهم: من سرَّهُ أن ينظر إلى رجل من أهل الجنَّة, فلْينظر إلى عروة بن الزبير .
بالقرْب من الركن اليماني في الحرم المكيّ جلسَ أربعة فِتيانٍ، صباح الوُجوه، كرام الأحساب، مُعَطَّري الأردان، كأنهم بعض حمامات المسجد، نصاعة أثواب، وأُلْفة قلوب، ومنهم: عبد الله بن الزبير، وأخوه مصعب بن الزبير، وأخوهما عروة بن الزبير، ومعهم عبد الملك بن مروان، -ولهذا الموقف دلالة كبيرة، فأحيانًا الطّفل الصغير في مقتبل حياته يحلم بِمُستقبل ما، يُرْوى عن سيّدنا عمر بن عبد العزيز, أنَّه قال: (تاقَتْ نفسي إلى الإمارة، فلمَّا بلغتُها تاقت نفسي إلى الخلافة، فلمَّا بلغتها تاقَتْ نفسي إلى الجنّة)- .
هؤلاء الأربعة دار حديث بينهم، فتيانٌ صغار، وما لبث أحدهم أن قال: (لِيَتَمَنَّ كلّ منَّا ما يحبّ، فانْطلقَت أخيِلَتُهم ترحّل في عالم الغيب الرَّحل، ومضَتْ أحلامهم تطوف في رياض الأماني الخضر، ثمَّ قال عبد الله بن الزبير: أمنيَّتي أن أملِكَ الحجاز، وأن أنال الخلافة، وقال أخوه مصعب: أما أنا فأتمنَّى أن أملِك العراقَيْن، وألاّ يُنازعني فيهما منازع، وقال عبد الملك بن مروان: إذا كنتما تقْنعان بذلك، فأنا لا أقْنعُ إلا أنْ أملكَ الأرض كلّها, وأن أنال الخلافة بعد معاوية بن أبي سفيان، مَنْ بقيَ؟ عروَة بن الزّبير، وسكت عروة بن الزبير، فلم يقل شيئًا، فالْتفتوا إليه، وقالوا: وأنت ماذا تتمنّى يا عروة؟ قال: بارك الله لكم فيما تمنَّيْتم من أمر دنياكم، -أنا أحيانا أدعو وأقول كما في الدعاء المأثور: (اللهم اجعل حبك أحب الأشياء إليَّ، واجعل خشيتك أخوف الأشياء عندي، واقطع عني حاجات الدنيا بالشوق إلى لقائك، وإذا أقررت أعين أهل الدنيا من دنياهم, فأقرر عيني من عبادتك) .
أيها الأخوة, المؤمن قرير العيْن بما تفضَّل الله عليه بِنِعمة الهدى، وفي الحديث:
((من قرأ القرآنَ, ثم رأى أن أحدًا أوتِيَ أفضلَ ممّا أوتَي, فقد استصغر ما عظمه الله))
كنتُ أقول سابقًا: لو أنَّ أحدًا من المؤمنين آتاه الله الهدى، والتُّقى، والعفاف, والاستقامة، وكان ذا دخْلٍ محدود، وكان له صديق على مقعد الدراسة أعطاهُ الله الدنيا والأموال الطائلة، فإذا شعرَ الأوّل أنَّه محروم، لم يعرف حينئذٍ قيمة إيمانه، ولا قيمة الهدى الذي مَنَّ الله به عليه، إذًا: من لوازم الإيمان: أن تعرف قيمة هذه النِّعمة، وألاَّ تتمنَّى الدنيا مع البُعْد والانحراف- أما أنا فأتمنَّى أن أكون عالمًا عاملاً, يأخذُ الناسُ عنِّي كتابَ ربّهم, وسنَّةَ نبيِّهم, وأحكامَ دينهم، وأن أفوز في الآخرة بِرِضا الله عز وجل، وأن أحظى بِجَنّته، قال تعالى:
﴿كُلّاً نُمِدُّ هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُوراً﴾
-والإنسان كلَّما كبُر عقْلهُ يعلو اخْتيارهُ، ومرَّةً ضربْتُ مثلاً؛ أنَّ إنسانًا خيَّرناه بين وِعاءٍ بِلَّوْري كبير، أزرق اللَّون رخيص، وبين كأس كريستال غال جدًّا، وقلنا له: اخْتر أيًّا من هذا؟ فاختارَ الوِعاء الكبير، هنا نحكم عليه بِضَعف العقل، قلْ لي: ماذا تختار؟ أقُل لك: من أنت .
حدَّثني صديق في التعليم، خرج مفتِّشًا ابتدائيًا إلى مدرسة تقع على أطراف البلاد، قرية حدوديّة متَّصلة بِبَلَدٍ آخر مفتوح، فسأل المفتِّش أحد طلاَّب الصفّ، قال: قمْ يا بنيّ، ما اسمك؟ فقال: اسمي فلان، ماذا تتمنَّى أن تكون في المستقبل؟ فقال: أتمنَّى أن أكون مهرِّبًا! أين الثرى من الثريّا؟- أحدهم طلب الحجاز، وآخر طلب العراقين، وأحدهم طلب الخلافة، وآخرهم طلب أن يكون عالمًا، دارت الأيام دورتها، فإذا بعبد الله بن الزبير يُبايَعُ له بالخلافة عقبَ موت يزيد بن معاوية، فيحكم الحجاز ومصر واليمن وخراسان والعراق، ثمَّ يُقتل عند الكعبة غير بعيد عن المكان الذي تمنَّى فيه ما تمنَّى، وإذا بِمُصعب بن الزبير يتولى إمْرة العراق من قِبَل أخيه عبد الله، ويُقْتل هو الآخر دون ولايته أيضًا، وإذا بعبد الله بن مروان تؤول الخلافة إليه بعد موت أبيه، وتجتمع عليه كلمة المسلمين بعد مقتل عبد الله بن الزبير، وأخيه مصْعبٍ على أيدي جنوده، ثمّ يغدو أعظم ملوك أهل الدنيا في زمانه، فماذا كان من أمر عروة؟) .
-أُقْسمُ لكم بالله الذي لا إله إلا هو، إذا طلبْت من الله شيئًا، وكنت صادقًا في طلبك، واللهِ لزَوال الكون أهْونُ على الله من ألاّ تصل إلى هدفك، بين الله وبين عباده كلمتان، قال تعالى:
﴿وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقاً وَعَدْلاً﴾
أيْ يا عبادي, منكم الصّدق ومنِّي العدْل، ولكنّ الله سبحانه وتعالى لا يتعامل بالأمانيّ ، قال تعالى:
﴿لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلَا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ وَلَا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيّاً وَلَا نَصِيراً﴾
قال تعالى:
﴿وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ﴾
قرأتُ كلمة لأحد الأدباء، يقول: إنّ القرار الذي يتَّخذهُ الإنسان في شأن مصيرهِ، قلَّمَا تنقضُهُ الأيَّام, إذا كان صادرًا حقًّا عن إرادة وإيمان، يقولون في بعض الأبيات الشِّعريَّة:
إذا الشعب يومًا أراد الحياة فلا بدّ أن يستجيب القدر
لا, لأنَّ الشعب أقوى من القدر، ولكنَّ القدر لا يعْقل أن يطلب الإنسان هدفًا نبيلاً والقدر لا يستجيب له، هذا هو المعنى، والإنسان إذا أراد الإيمان والحقيقة، فلا بدّ أن يصل إليها، سمعتم مِنِّي كثيرًا عن زكريَّا الأنصاري، الذي بدأ بِتَعَلّم القراءة والكتابة في الخامسة والخمسين من عمره، وتعلّم القرآن الكريم، وما مات إلا وهو شيخ الأزهر، ومات عن سِتَّة وتسعين عامًا، فالإنسان ما أنت فيه هو صدقك، وما لسْت فيه هو تمنِّياتك، والتَّمَنِّيات لا قيمة لها- .
من هو عروة بن الزبير, وما نسبه, وكيف ينظر الإسلام إلى النسب ؟
أيها الأخوة, وُلِدَ عروة بِسَنَةٍ واحدة بقيَت من خلافة الفاروق رضي الله تعالى عنه، فمَن أبوهُ؟ -الآن اسْمعوا إلى هذا النَّسَب، وقبل أن أتحدَّث إلى نسب هذا التابعيّ الجليل، أقول لكم: ما هو النَّسب؟ النَّسَبُ لا قيمة له إطلاقًا، إذا كان الإنسان كافرًا أو تائهًا أو شاردًا أو عاصِيًا، نسبهُ لا قيمة له إطلاقًا، والدليل قوله تعالى:
﴿تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ * مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ * سَيَصْلَى نَاراً ذَاتَ لَهَبٍ * وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ * فِي جِيدِهَا حَبْلٌ مِنْ مَسَدٍ﴾
فمن هو أبو لهب؟ إنه عمُّ النبي عليه الصلاة والسلام، ودليل آخر: أنا جدّ كلّ تقيّ، ولو كان عبْدًا حبشِيًّا, لكن إذا توافرَ الإيمان فالنَّسَب تاجٌ يُتَوِّج الإيمان، المؤمن يزيدُه النّسب شرفًا ورفْعةً، ويزيدهُ أصالةً، فلا تعبأ بالنَّسب إذا كنت في معصِيَة الله ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ, أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ, قَالَ:
((يَا بَنِي عَبْدِ مَنَافٍ: اشْتَرُوا أَنْفُسَكُمْ مِنْ اللَّهِ, يَا بَنِي عَبْدِ الْمُطَّلِبِ: اشْتَرُوا أَنْفُسَكُمْ مِنْ اللَّهِ, يَا أُمَّ الزُّبَيْرِ بْنِ الْعَوَّامِ, عَمَّةَ رَسُولِ اللَّهِ, يَا فَاطِمَةُ بِنْتَ مُحَمَّدٍ: اشْتَرِيَا أَنْفُسَكُمَا مِنْ اللَّهِ, لَا أَمْلِكُ لَكُمَا مِنْ اللَّهِ شَيْئًا, سَلَانِي مِنْ مَالِي مَا شِئْتُمَا))
قال تعالى:
﴿وَنَادَى نُوحٌ رَبَّهُ فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ﴾
أيها الأخوة الكرام، النَّسَب مع المعصِيَة لا قيمة له إطلاقًا، ولكن إذا توافر النَّسب مع الإيمان أصبح تاجًا يُتَوِّج الإيمان- .
قال: (أبوه هو الزُّبَير بن العوَّام حواريّ رسول الله ، -يُرْوى أنَّ مرَّةً عروة بن الزبير أرْسَلَ كتابًا إلى معاوية بن أبي سفيان، قال له: أما بعد؛ فيا معاوية, خليفة المسلمين يخاطَب هكذا، قال له: إنَّ رجالك دخلوا أرضي، فانْهَهُم عن ذلك، وإلا كان لي ولك شأنٌ والسَّلام, معاوية بن أبي سفيان كان إلى جنبه ابنهُ يزيد، دفعَ الكتاب إلى ابنه يزيدَ، وقال: ماذا ترى يا يزيد؟ فقرأ يزيد الكتاب، وانفعَلَ أشدَّ الانفعال؛ تهجُّم وتطاوُل، فقال له: أرى أن تُرْسل له جيْشًا أوَّلُه عندهُ، وآخرهُ عندك، يأتونك بِرَأسِه, فتبسَّم معاوية، وقال له: غير ذلك أفضل، أمر الكاتب أن يكتب، قال له: اكْتُب أما بعد؛ فقد وقفْتُ على كتاب ولد حواريّ رسول الله صلى الله عليه وسلّم، ولقد ساءني ما ساءكم، والدنيا كلّها هيِّنة جنْب رِضاك، لقد نزلْتُ عن الأرض ومَن فيها ، يأتيه الجواب بعد حين يقول:
أما بعد فيا أمير المؤمنين، أطال الله بقاءَكَ، ولا أعدمَكَ الله الرأيَ الذي أحلَّكَ مِن قومِكَ هذا المحلّ، جاء بابنِهِ يزيد، وأرسَلَ له الجواب، ماذا اقْترحْتَ عليّ يا بنيّ؟ أن أرسلَ له جيشًا أوَّله عنده, وآخره عندي، يأتونني برأسه، فقال: يا بنيّ, مَن عفا ساد، ومن حلُم عظم، ومن تجاوَزَ اسْتمال إليه القلوب، اِقْرأ الجواب- .
فأبو عروة الزبير بن العوّام حواريّ رسول الله صلى الله عليه وسلَّم، وأوَّل من سلَّ سيْفًا في الإسلام، وأحد العشرة المبشَّرين في الجنَّة، أُمُّه: أسماء بنت أبي بكر، الملقَّبة بِذات النِّطاقَيْن، جدُّه لأمِّه سيّدنا أبو بكر الصِّديق، خليفة سيّدنا رسول الله صلى الله عليه وسلّم، وصاحبه في الغار، جدَّته لأبيه صفيَّة بنت عبد المطَّلب، عمَّة النبي صلى الله عليه وسلّم، خالتهُ أمّ المؤمنين عائشة رضوان الله تعالى عليها) .
فما هذا النَّسَب؟ أبوه الزبير، وأمّه أسماء، جدّه أبو بكر، وجدّته لأبيه صفيّة عمّة النبي عليه الصلاة والسلام، خالته عائشة، وعروة بن الزبير نزل إلى قبْر عائشة حينما دُفِنَت بِنَفْسِهِ، وسوَّى عليها لحْدها بيَدَيْه، لأنَّها خالته، أَفَبَعْد هذا النَّسَب نسَب؟ وبَعْد هذا الحسَب حسبٌ؟ .
عروة يطلب العلم :
أيها الأخوة, الآن عروة بن الزبير تمنَّى أُمنِيَةً على الله، لذا انقطَعَ إلى طلب العلم، وأكبّ على طلب العلم، -إنسانٌ تجده قد آتاه الله علمًا، وهو نائمٌ، تعلَّم عشرون أو ثلاثون سنة, وهو جالس على ركبتَيْه, يحضر مجالس العلم، ويحضر ويناقش، ويقرأ ويُتابع, ويصبر إلى أن يسْمَحَ الله له أن ينطق- أكبّ على طلب العلم، وانْقطَعَ له، واغْتَنَمَ البقيَّة الباقيَة من صحابة رسول الله رضوان الله تعالى عليهم، فَطَفِقَ يؤمُّ بيوتهم، ويصلِّي خلفهم، ويتتبّع مجالسهم حتى روى عن علي بن أبي طالب، وعبد الرحمن بن عوف، وزيد بن ثابت، وأبي أيوب الأنصاري ، وأسامة بن زيد، وسعيد بن زيد، وأبي هريرة، وعبد الله بن عباس، والنعمان بن البشير، وأخذ كثيرًا عن خالته عائشة أُمّ المؤمنين حتى غدا أحد فقهاء المدينة السبعة الذين يفزع إليهم المسلمون في دينهم، -والعلم لا يعطيك بعضه إلا إذا أعطيتهُ كلَّكَ، ولا يزال المرء عالمًا ما طلب العلم، فإذا ظنَّ أنَّه قد علم فقد جهل، نظام الجامعة ليس فيه تفتيش على المدرِّسين، كما هو الحال في التعليم الثانوي، لكنّ في الجامعة أسلوب ذكيّ جدًّا، يستقدمون أستاذًا زائرًا، وهذا الأستاذ الزائر: يلقي محاضرات على طلاَّب الجامعة، فأُستاذ المادَّة: إذا كان مستواه وعلمه قليلاً , من يكْشفُهُ؟ .
لذلك هذا نظام متَّبع في الجامعات، يستقدمون أساتذة في الاختصاص نفسهِ من بقيَّة الجامعات، لِيُلقوا محاضرات على الطلاب، فالأستاذ لا بدَّ له من توسيع دائرة معرفته، ومن المطالعة، وتجويد محاضرته, لكي لا يبدوَ أقلّ مستوًى من الأستاذ الزائر .
مرَّةً جاءنا أستاذٌ زائرٌ من بلاد المغرب العربيّ، وهو آية في اللّغة, والنحو, والصرف، وألقى علينا عِدَّة محاضرات، وجلس في الصَّف الأوَّل عدد من أساتذتنا، أنا كنتُ أتأمَّلُ في هؤلاء، بعضهم جاء بِدَفتر وقلم، وبدأ يكتب بعض الملاحظات, صدِّقوني الذي كتب بعض الملاحظات من الأستاذ المحاضر كبُر في عَين الجميع، لأنَّه تعلَّم، يظلّ المرءُ عالمًا ما طلب العلم، فإذا ظنَّ أنَّه قد علم فقد جهِل، فالإنسان يتعلَّم دائمًا- .
شهادة عمر بن عبد العزيز بالعلم لعروة :
أيها الأخوة, عمر بن عبد العزيز الخليفة الذي يُعدّ حقيقةً خامس الخلفاء الراشدين، حين قدم المدينة واليًا عليها من قِبَل الوليد بن عبد الملِك، جاءهُ الناس فسلَّموا عليه، فلمَّا صلَّى الظهر دعا عشرةً من فقهاء المدينة، وعلى رأسهم عروة بن الزبير، فلمّا صاروا عنده رحَّب بهم، وأكرم مجلسهم، ثمّ حمِدَ الله عز وجل، وأثنى عليه بما هو أهلهُ، ثمَّ قال:
(إنِّي دعوْتكم لأمرٍ تؤجرون عليه، وتكونون لي فيه أعوانًا على الحقّ، فأنا لا أريد أن أقْطعَ أمْرًا إلا برأْيِكُم أو بِرَأْيِ من حضرَ منكم، فإذا رأيتُم أحدًا يتعدَّى على أحد، أو بلَغَكُم عن عامل لي مظلمة، فأسألكم بالله أن تُبَلِّغوني ذلك، فدعا له عروة بن الزبير بخير، ورجا له من الله السداد والرشاد) .
إليكم هذا الموقف لعمر بن عبد العزيز , علام يدل ؟
وله موقفٌ آخر، عيَّنَ سيّدنا عمر بن عبد العزيز مرافقًا له اسمهُ: عمر بن مزاحم، قال له: (يا عمر، كُنْ إلى جانبي دائمًا، إن رأيْتني ظلمْتُ فأمسِكْنِي من تلابيبي، وهُزَّني هزًّا شديدًا، وقُلْ لي: اتَّق الله يا عمر، فإنَّك ستَموت) .
والإنسان من علامات نجاحهِ تواضُعه، ومن علامات نجاحه: استشارتُه وقبوله للنَّقْد، فالذي يقبل النَّقْد قد ينْمو، والذي يرفض النَّقد يسقط، والإنسان حينما رفض النَّقد ينتهي، لأنَّ الأشخاص دائمًا ينظرون من زوايا متعدِّدة، وليس عليهم ضغوط كالتي على من ينتقدونه، فالإنسان إذا أصغى إلى مَن ينتقدُهُ باحْتِرام وأدبٍ، والنبي عليه الصلاة والسلام فعل هذا، والصحابي الجليل الحباب بن المنذر لمَّا رأى الموقع غير مناسب في معركة بدر، جاء إلى النبي على اسْتِحياء، وتكلَّمَ كلامًا يقطر رِقَّةً وأدبًا وحياءً وإخلاصًا، قال له:
((يا رسول الله، هذا الموقع وحيٌ أوحاه الله إليك أم هو الرأي والمشورة؟ قال: بل هو الرأي والمشورة، فقال له: يا رسول الله, هذا ليس بِمَوقعٍ))
فالنبي بِبَساطة اسْتجاب لهذه النصيحة، وأمر بِنَقل الجيش إلى الموضع الذي اقترحه الحباب بن المنذر، فكان لنا قدْوةً صلى الله عليه وسلَّم في سماع النَّصيحة, وقَبولها مع التواضع .
لمحة عن عبادة عروة بن الزبير :
لقد جمع عروة العلمَ إلى العمل، فقد كان قوَّامًا في الهواجر، في أيام الصيف، -نحن نقول للواحد: صُم بالشِّتاء، فالنهار قصير، والجو بارد، ومن دون عطش- أمّا عروَة فكان صوَّامًا في الهواجر، قوَّامًا في العتَمَات، رطْب اللِّسان بذِكْر الله تعالى، وكان إلى ذلك خَدينًا, أيْ مُصاحبًا لكتاب الله عز وجل، عاكفًا على تلاوته، فكان يقرأ ربْع القرآن كلّ نهارٍ، نظرًا في المصحف، ثمّ يقوم به الليل عن ظهر قلب، ولم يُعْرف أنَّه ترَكَ ذلك منذ صدْر شبابه إلى يوم وفاته، غير مرَّةٍ واحدة لِخَطبٍ نزل به، وسيأتي هذا النبأ بعد قليل، وكان عروة يجد في صلاته راحة نفسه، وقرَّة عينِهِ، وجنَّته في الأرض، -وقال أحد العارفين: في الدنيا جنَّة من لم يدخلها لم يدخل جنة الله، وقال: ماذا يفعل أعدائي بي؟ بستاني في صدري، إن أبْعدوني فإبْعادي سياحة، وإن حبسوني فحَبْسي خلْوَة، وإن قتلوني فقَتْلي شهادة- .
كان عروة يُتقنُ صلاته أتمَّ الإتقان، ويطيلها غاية الطول، ورُوِيَ عنه أنَّه رأى رجلاً يصلِّي صلاة خفيفة، فلمَّا فرغ من صلاته دعاه إليه، وقال له: يا ابن أخي، أما كانت لك عند ربّك جلّ وعلا حاجة؟ أبِهذه الطريقة تصلّي؟ واللهِ إنِّي لأسأل الله تبارك وتعالى في صلاتي كلّ شيء، حتى الملح- وهكذا أخبرنا الله عن طريق النبي عليه الصلاة والسلام، قال عليه الصلاة والسلام:
((إنّ الله يحبّ الملحِّين في الدعاء))
وعَنْ ثَابِتٍ الْبُنَانِيِّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ, قَالَ:
((لِيَسْأَلْ أَحَدُكُمْ رَبَّهُ حَاجَتَهُ, حَتَّى يَسْأَلَهُ الْمِلْحَ, وَحَتَّى يَسْأَلَهُ شِسْعَ نَعْلِهِ إِذَا انْقَطَعَ))
عروة كان جواداً :
أيها الأخوة, كان عروة بن الزبير سخِيّ اليد، سمحًا جوادًا، -والمعروف أنّه لا يجتمع إيمانٌ وبُخل، كما أنَّه لا يجتمعُ إيمان وحسد، كما أنَّه لا يجتمع إيمان وجبْنٌ- ومِمَّا أُثِرَ عن جوده: أنَّه كان له بستانٌ من أعظم بساتين المدينة، عذْب المياه، ظليل الأشجار، باسق النخيل، وكان يُسوِّر بستانه طوال العام، لِحِماية أشجاره من أذى الماشيَة، وعبث الصِّبْيَة، حتى إذا حان أوان الرّطب، وأيْنَعَت ثماره، واشْتهَتْها النفوس، كسر الحائط في أكثر من جهة, لِيُجيز للناس دخول بستانه, والأكل من ثماره، فكان الناس يُلِمُّون به ذاهبين آيِبين، ويأكلـون من ثمره ما لذَّ لهم الأكل، ويحملون منه ما طاب لهم الحمل .
-أنا سمعتُ قبل خمسين سنة أنّ منطقة الصالحية كلها كانت بساتين، وكان هناك مكان اسمه: جبن الشاويش، كانت كلّ أصحاب البساتين يضعون سلّة من الفاكهة من إنتاجهم في الطريق، وهناك سكِّينُ صغيرة ليأكل المارّ حتى يشبع، ولكن لا أحد يحمل شيئًا من هذا إلى بيته .
وقد كنت مرَّةً في قرية جبليَّة فيها فواكه نادرة، وزرتها اسْتجمامًا لأسبوع، وأنا في الطريق أتنزَّه, فإذا بأحد أصحاب البساتين يشير إليّ، وقال: تفضَّل، فما فهمْتُ منه شيئًا، وتوهَّمْت أنه يريد مساعدة في شيء، فتقدَّمْتُ نحوهُ فأعطاني كمِّيَة فواكه تكفيني أسبوعًا، فاسْتغربْت، ولمَّا حدَّثتُ الناس بما جرى لي, قالوا لي: هذه عادة أهل البلدة، كلّما رأَوا ضيْفًا يعطونه من الفواكه ما تكفيه أسبوعًا أو أسبوعين، فلمَّا بخِل الإنسان بخِلَ اللهُ عليه .
مرَّةً قلت لكم: إنَّ امرأةً صالحة في بيتها شجرة ليمون، تحمل لها أربعمئة أو خمسمئة ليمونة في السنة، ولا يوجد إنسان يطرق الباب بحاجة إلى الليمون إلا وأعطتْه، وكأنّ هذه الشجرة وقفٌ للحيّ كلّه، وهذه الشجرة أعطَتْ عطاءً لِسَنواتٍ مديدة؛ عشرين أو ثلاثين سنة، والحمْل غير طبيعي، توفَّتْ المرأة الصالحة، فجاء بعدها من يطلب الليمون فطرده صاحب البيت، وبعد أسبوع يبُسَت الشجرة وماتَتْ, وعلى هذا فقِسْ، فإذا كنت كريمًا فالله تعالى أكرم، قال سيّدنا ابن عوف: (ماذا أفعل؟ إذا كنتُ أُنفق مائة في الصباح فيُؤتيني ألفًا في المساء) فإذا كنت كريمًا كان الله تعالى أكرم، وإنْ تبْخل يبْخل الله عليك- فكان كلّما دخل هذا البستان يتلو قوله تعالى:
﴿وَلَوْلَا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ مَا شَاءَ اللَّهُ لَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ إِنْ تَرَنِ أَنَا أَقَلَّ مِنْكَ مَالاً وَوَلَداً﴾
-أنصح أخواننا الكرام: إذا أعطاك الله شيئًا من الدنيا، ولو كان شيئًا طفيفًا, فلا تقل: هذا مِلكي، وحصَّلتُهُ من عرق جبيني، وهذا نتيجة خِبراتٍ متراكمة، هذا كلّه كلامُ شرْكٍ، ولكن قل: ما شاء الله، لا قوَّة إلا بالله- .
إليكم هذه الكلمة :
الآن دخل طَوْر الامتِحان، قلتُ لكم سابقًا: المؤمن له ثلاثة أطوار؛ طور التأديب، وطَور الابتلاء، وطور التكريم، فلا بدَّ من فترة من حياتك تكون للتكريم، لأنَّ الله عز وجل قال:
﴿فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى﴾
قال تعالى:
﴿فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ﴾
قال تعالى:
﴿وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ﴾
والآن جاء طور الابتلاء، طبْعًا هذا الابتلاء ربما لا يحتمله معظم الناس، ولكن الرِّضا بِمَكروه القضاء أرفعُ درجات اليقين، فهذا الذي كان يطوف حول البيت, ويقول: (يا ربّ, هل أنت راضٍ عنِّي؟ وكان وراءهُ الإمام الشافعي، فقال له: يا هذا، هل أنت راضٍ عنه حتى يرضى عنك؟ قال له: من أنت يرحمك؟ قال الإمام الشافعي: إذا كان سرورك بالنِّقْمة كَسُرورِكَ بالنِّعْمة فقد رضيتَ عن الله) .
إليكم هذا الامتحان الصعب الذي وقع به عروة بن الزبير :
أما امتِحان سيّدنا عروَة فقد كان صعْبًا، عَنْ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ, قَالَ: قُلْتُ:
((يَا رَسُولَ اللَّهِ, أَيُّ النَّاسِ أَشَدُّ بَلَاءً, قَالَ: الْأَنْبِيَاءُ, ثُمَّ الْأَمْثَلُ, فَالْأَمْثَلُ, فَيُبْتَلَى الرَّجُلُ عَلَى حَسَبِ دِينِهِ, فَإِنْ كَانَ دِينُهُ صُلْبًا, اشْتَدَّ بَلَاؤُهُ, وَإِنْ كَانَ فِي دِينِهِ رِقَّةٌ, ابْتُلِيَ عَلَى حَسَبِ دِينِهِ, فَمَا يَبْرَحُ الْبَلَاءُ بِالْعَبْدِ, حَتَّى يَتْرُكَهُ يَمْشِي عَلَى الْأَرْضِ, مَا عَلَيْهِ خَطِيئَةٌ))
والإنسان يُمْتحن على قدْر مكانة دينِهِ، فالخليفة دعا عروة بن الزبير لزيارته في دمشق، فلبَّى دعوته، وصَحِب معه أكبر بنيه، ولمَّا قدِم على الخليفة رحَّب بِمَقْدَمهِ أعظم ترحيب، وأكرم وِفادته أوفى إكرام، وبالغ في الحفاوة به، ثمَّ شاء سبحانه وتعالى أن يمْتَحِنَهُ، ذلك أنَّ ابن عروة دخل على إصْطبل الوليد لِيَتَفَرَّج جِياده الصافِنات، فرَمَحَتْهُ دابَّة رمْحةً قاضِيَةً, أوْدَتْ بِحَياتِهِ -كما أنَّ الآن هناك حوادث سَير، فكذلك قديمًا هناك حوادث خيل- ولم يكد الأب المفجوع ينفض يديه من تراب قبر ولده حتى أصابتْ إحدى قدَمَيْه الآكلة، وأصبح معه الموات ، فتورَّمَتْ ساقُه، وجعل الورم يشتدّ، ويمْتدّ بِسُرعة مذهلة، فاسْتدعى الخليفة لِضَيفِهِ الأطباء من كلّ جهة، وحضَّهم على معالجته بأيَّة وسيلة، لكنَّ الأطِبَّاء أجمعوا على أنَّه لا منْدوحة لِبَتْر ساقهِ، -وقد صدق القائل حين قال:
إنَّ الطبيب له علْم يُدِلّ بـه إن كان للناس في الآجال تأخيرُ
حتى إذا ما انْتهَت أيام رحلته جار الطبيب وخانتْهُ العقاقيـرُ
قبل أن يَسْرِيَ الورَم إلى جسَدِهِ كلّه، ويكون سببًا في القضاء عليه، ولم يجِد بُدًّا من الإذعان لذلك، ولمَّا حضر الجرَّاح لِبَتْر الساق أحضَرَ معه المبضع لِشَقّ اللَّحم -سألْت طبيبًا: كيف تفتحون الجمجمة؟ فقال لي: القضيَّة بسيطة جدًّا, فقلتُ: كيف والرأس مغلق؟ فقال: نخدِّرهُ ، ونأتي بالمبضع، ونُجري جرْحًا مربَّعًا من ثلاثة أضلاع، نفتح الفرْوة عن اليمين، ونربطها عن اليمين، انكشفت فانكشف العظم، ثمّ نحفر أربعة ثقوب, ونأتي بِخَيط منْشاري غالٍ جدًّا، نُدْخلهُ من ثقب، ويخرج من ثقب آخر, حتى نقطع أوَّل خطّ، ثمّ الثاني، ثمّ الثالث، فإذا بنا نزعنا المربَّع، نفتح الأم الجافية, ثمّ الأم الحنون, ثمّ نصل للدِّماغ، يُنزعُ الورم غير الخبيث، لأنّ هناك ورمًا خبيثًا لا نستطيع نزعهُ، ثمّ نخيط الأم الحنون، ثمّ الجافيَة، ثمَّ نأتي بالعظم المربّع نضعها في مكانه، نحن نحتاج ثقبين ثقبين, ثقبًا فيها، وثقبًا على الطرفين، نربط أربع ربطات، ونرجع الفرْوة، ثمّ نخيطها، وتنتهي العمليّة, هذه المهارة التي أكرم الله بها الإنسان لِمُعالجة أخيه لِكَرامة الإنسان على ربّه- .
فجاء الطبيب بالمَبَاضِع لِشَقّ اللَّحم، والمناشير لِنَشر العظم، قال الطبيب لِعُروة: أرى أن نسْقيك جرعةً من مُسْكر, لكي لا تشعر بالآلام، فقال: هيهات ! لا أستعين بِحَرام على ما أرجوهُ مِن عافِيَةٍ، ما عند الله لا يُنال بِمَعصيَة الله، -هناك أدوِيَة مخالفة للشَّرع- فقال له: إذًا نسقيك مخدِّرًا، فقال: لا أحبّ أن أُسلبَ عضْوًا من أعضائي دون أن أشْعرَ بِألمِهِ، واحْتسب بذلك، فلمَّا همَّ الجراح بِقَطع الساق تقدَّم نحو عروة طائفة من الرجال، فقال: مَن هؤلاء؟ فقال : جيءَ بهم لِيُمسِكوك، فربَّما اشْتدّ عليك الألم، فجذبْت قدمَكَ جذْبةً أضرَّتْ بك، قال: رُدُّوهم لا حاجة لي بهم، وإنِّي لأرجو أن أكْفيَكم ذلك بالذِّكْر والتَّسْبيح، ثمَّ أقبلَ عليه الطبيب، وقطع اللَّحم بالمِبضَع، ولمَّا بلغَ العظم وضع عليه المنشار، وطفِقَ ينشرهُ به, وعروَة يقول: لا إله إلا الله، والله أكبر، وما فتىء الجرَّاح ينشر, وعروة يكبّر, ويُهلِّل, حتى بُتِرَتْ الساق بتْرًا، ثمّ أُغْليَت الزَّيتُ في مغارف الحديد، وغُمِسَت فيه ساق عروة لإيقاف تدفّق الدِّماء، وحسْم الجِراح، وأُغْمِيَ عليه إغماءةً طويلة, حالَت دون أن يقرأ حصَّته في كتاب الله، وكان هذا هو اليوم الوحيد الذي لم يقرأ فيه القرآن, وكانت المرَّة الوحيدة التي فاتهُ فيها ذلك الخير .
ولمَّا صحا عروة دعا بقَدَمِهِ المبتورة فناولوه إيَّاها، فجعلَ يُقبِّلُها بيَدِهِ, ويقول: (أما والذي حملني عليك يا قدمي في عتمات الليل إلى المساجد, إنَّه ليعْلمُ أنَّني ما مشْيتُ إلى حرامٍ قطّ، ثمَّ تمثَّل بأبيات لِمَعن بن أوْس, قال:
لعَمْركُ ما أهويت كفِّي لريبــةٍ و ما حملتني نحو فاحشةٍ رجلي
ولا قادني سمعني ولا بصري لها ولا دلّني رأيي عليها و لا عقلي
وأعلم أنِّي لمْ تُصِبني مصــيبة من الدَّهر إلا قد أصابتْ فتًى قبلي
ما هو الهم الذي ألم به الوليد بن عبد الملك, وكيف تخلص منه ؟
أيها الأخوة, وقد شقَّ على الوليد بن عبد الملك ما نزل بِضَيفه الكبير من النوازل، فقد احْتسَب ابنه، وفقَدَ ساقهُ في أيَّام معدودات، فجعل يحتال لِتَعْزيَتِهِ وتصبيره على ما أصابه، وصادف أن نزلَ بِدَار الخلافة جماعةٌ من بني عبسٍ فيهم رجلٌ ضرير، فسأله الوليد عن سبب كفّ بصره، قال:
(يا أمير المؤمنين, كان عمر إذا أصابتْهُ مصيبة, قال: الحمد لله ثلاثًا؛ الحمد لله إذْ لم تكن في ديني، والحمد لله إذْ لمْ تكن أكبر منها، قال: يا أمير المؤمنين, لم يكن في بني عبْس رجلٌ أوْفَرَ مِنِّي مالاً، ولا أكثر أهلاً وولدًا -واللهُ إذا أعطى أدْهش، وإذا أخذ أدْهش- نزلْتُ مع مالي وعِيالي في بطْن واد من منازل قومي، فطرقنا سيْلٌ لم نرَ مثلهُ قطّ، فذهبَ السَّيل بما كان لي من مالٍ وأهل وولدٍ، ولم يترك لي غير بعيرٍ واحد, وطفلٍ صغير حديث الولادة, وكان البعير صعبًا فندَّ مِنِّي، فتركْتُ الصَّبيّ على الأرض، ولَحِقْت بالبعير، فلم أُجاوِز مكاني قليلاً حتى سمِعْت صَيْحة الطِّفل, فالْتَفَتُّ فإذا رأسهُ في فمِ ذئْبٍ يأكلهُ، فبادرتُ إليه غير أنَّني لم أستطع إنقاذهُ، إذْ كان قد أتى عليه، ولحِقْت بالبعير فلمَّا دَنَوْت منه, رماني بِرِجلهِ على وجهي رمْيةً حطَّمَتْ جبيني، وذهبتْ بِبَصري، وهكذا وجدْت نفسي في ليلة واحدة من غير أهل، ولا ولد، ولا مالٍ، ولا بصر .
-والإنسان إذا أصابتْهُ مصيبة, يتصوَّرِ الأصعب منها فيرْتاح- فقال الوليد لِحاجِبِه: انْطلق بهذا الرجل إلى ضَيْفنا عروة بن الزبير، ولْيقصَّ عليه قصَّته, لِيَعلمَ أنَّ في الناس من هو أعظمُ منه بلاءً) والقاعدة النبويَّة: اُنْظر في الدنيا لِمَن هو أدنى منك، وانْظر في الآخرة لمن هو أرقى منك .
إليكم ما قاله إبراهيم بن محمد بن طلحة لعروة على ما أصابه :
الآن حُمِل عروة إلى المدينة، وأُدخل على أهله، ماذا قال؟ بادرَهم قائلاً: (لا يهُولنَّكم ما ترَوْن, لقد وهبني الله عز وجل أربعةً من البنين، ثمَّ أخذ منهم واحدًا، وأبْقى ليَ ثلاثًة، فله الحمد والشكر، وأعطاني أربعة أطراف ثمَّ أخذ منها واحدًا، وأبقى لي منها ثلاثة، وَايْمُ الله لئن أخذ الله لي قليلاً, فقدْ أبقى لي كثيرًا، ولئن ابتلاني مرَّةً, فلطالما عافاني مرَّات -هل تسمعون ما قال؟ هكذا المؤمن- .
ولمَّا عرف أهل المدينة بِوُصول إمامهم وعالمهم عروة بن الزبير، تسايلوا على بيته لِيُواسوه ويُعَزُّوه، فكان مِن أحسنِ ما عُزِّيَ به كلمةٌ قالها إبراهيم بن محمّد بن طلحة، قال له: (أبْشِرْ يا أبا عبد الله, فقد سبقَكَ عضْوٌ من أعضائك، وولدٌ من أبنائك إلى الجنَّة، والكلّ يتْبَعُ البعض إن شاء الله تعالى، ولقد أبقى الله لنا مِنك ما نحن فقراء إليه، أبقى لنا منك علمك وفقْهك ورأيَك، أما الطرف الذي سبقك إلى الجنَّة فاحْتسِبْهُ عند الله، نفعنا الله وإيَّانا به، واللهُ ولِيُّ ثوابك، والضَّمِين بِحُسْن حِسابك) .
من نصائح عروة لأبنائه :
ظلّ عروة بن الزبير للمسلمين منارَ هدًى، ودليلَ فلاح، وداعِيَةَ خير طوال حياته، واهْتمَّ بِتَربيَة أولاده خاصَّة، وسائر أولاد المسلمين، فلم يترك فرْصةً لِتَهذيبهم .
قال: (يا بنيّ, تعلَّموا العلم، وابْذُلوا له حقَّه، فإنّكم إن تكونوا صِغارَ قومٍ, فعسى أن يجعلكم العلم كبراء القوم، واسَوْأتاه! هل في الدنيا شيءٌ أقْبحُ من شيءٍ جاهل؟ العالم شيخٌ, ولو كان حدثًا، والجاهل حدث ولو كان شيخًا) .
وكان يقول: (يا بنيّ, لا يَهْدِينَّ أحدكم إلى ربِّه ما يسْتحيي أن يُهْدِيَهُ إلى عزيز قومه ، فإنَّ الله تعالى أعزّ الأعزّاء، وأكرم الكرام، وأحقّ من يُختار له) .
وكان يقول: (يا بنيّ، إذا رأيْتم من رجلٍ فعلةَ خير رائعة فأمِّلوا به خيرًا، ولو كان بنَظر الناس رجل سوء -وهذه قاعدة: إن رأيْت إنسانًا أخلاقيًّا وكريمًا، وله حياء، ويحبّ الخير, فتأمَّل فيه الخير، ولو كان بِنَظر الناس قليل الدِّين- فإنَّ لها عندهُ أخوات، وإن رأيتم من رجلٍ فِعْلةَ شرّ فضيعةً فاحْذروه، وإن كان في نظر الناس رجلَ خير، فإنّ لها عنده أخوات أيضًا, واعلموا أنَّ الحسنة تدلّ على أخواتها، وأنَّ السيِّئة تدلّ على أخواتها) .
وكان يوصي أولاده بلِين الجانب، وطيب الكلام، وبِشْر الوجه، ويقول: (يا بنيّ, مكتوب في الحكمة: لِتَكُنْ كلمتُك طيِّبةً، ووجْهكَ طليقًا, تكنْ أحبَّ للناس مِمَّن يبذل لهم العطاء ، وكان إذا رأى الناس يجْنحون إلى الطَّرَف، ويسْتمرئون النعيم، يُذكِّرهم بما كان عليه رسول الله من شظف العيش، وخشونة الحياة) .
وعَنْ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ, أَنَّهَا قَالَتْ لِعُرْوَةَ ابْنَ أُخْتِي:
((إِنْ كُنَّا لَنَنْظُرُ إِلَى الْهِلَالِ ثَلَاثَةَ أَهِلَّةٍ فِي شَهْرَيْنِ, وَمَا أُوقِـدَتْ فِي أَبْيَاتِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَارٌ, فَقُلْتُ: مَا كَانَ يُعِيشُكُمْ؟ قَالَتْ: الْأَسْوَدَانِ؛ التَّمْرُ وَالْمَاءُ, إِلَّا أَنَّهُ قَدْ كَانَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جِيرَانٌ مِنْ الْأَنْصَارِ, كَانَ لَهُمْ مَنَائِحُ, وَكَانُوا يَمْنَحُونَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ أَبْيَاتِهِمْ, فَيَسْقِينَاهُ))
ما هو العمر الذي قدر لعروة أن يعيشه في الدنيا, وما هو العمل الصالح الذي ختم به حياته ؟
عاشَ عروة واحدًا وسبعين عامًا, مترعةً بالخير، حافلةً بالبِرّ، مُكَلَّلَةً بالتُّقى، فلمَّا جاءه الأجَل المحتوم, أدركهُ وهو صائم، وقد ألحَّ عليه قومه أن يُفْطرَ فأبى، لأنَّه كان يرجو أن يكون فطْرهُ على شرْبة من نهر الكوثر، في قوارير من فضَّة، بأيْدي حور العين .
هذا تابعيّ جليل كان قد ارْتقى، وارْتقى، حتى بلغ الكمال الإنساني .