- محاضرات خارجية / ٠21ندوات مختلفة - سوريا
- /
- ٠2ندوات مختلفة - سوريا
مقدمة :
الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتمّ التسليم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
أيها الحضور الكريم، أيها المشاهدون الأفاضل: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، نحن الآن في الندوة الرابعة من ندوات: "دورة الأئمة والخطباء والمدرسين الدينيين القادمين من البلدان الناطقة بغير اللغة العربية"، هذه الدورة الخامسة التي تنعقد في رحاب مجمع أبي النور الإسلامي، في مدينة دمشق الفيحاء، فأهلاً ومرحبا بكم، وعنوان لقائنا لهذا اليوم تحت عنوان المحاضرة التالية:" أثر القدوة الحسنة في إصلاح النفوس".
ويسعدنا أن نستضيف فضيلة الأستاذ الداعية الكبير الشيخ محمد راتب النابلسي، حفظ الله تعالى ورعاه، ليتحفنا بما أفاض الله عليه في هذا الموضوع.
الأستاذ الشيخ محمد راتب النابلسي، من مواليد دمشق، ولد عام ألف و تسعمئة و ثمانية و ثلاثين ميلادية، تلقى علومه في مدينة دمشق، وعلى أيدي جهابذة من علمائها، وفضلائها، نال الإجازة بالآداب، بقسم اللغة العربية في جامعة دمشق عام ألف و تسعمئة و أربعة و ستين ميلادية، وحصل على دبلوم التأهيل التربوي عام ألف و تسعمئة و خمسة و ستين ميلادية في جامعة دمشق أيضاً، حصل على شهادة الماجستير من القطر اللبناني الشقيق، يعمل حالياً أستاذاً محاضراً في كلية التربية في جامعة دمشق، وهو خطيب ومدرس جامع العلامة العارف بالله الشيخ عبد الغني النابلسي في مدينة دمشق، إضافة إلى أنه مدرس في عدد كبير وكثير من مساجد مدينة دمشق، وله عدد من المؤلفات من أبرزها كتاب "نظرات في الإسلام"، وكتاب "الإسراء والمعراج"، وكتاب "الهجرة"، وكتاب "الله أكبر"، وهو أيضاً أحد المشرفين على مجلة نهج الإسلام، التي تصدرها وزارة الأوقاف في الجمهورية العربية السورية، فإلى محاضرتنا، وإلى محاضرنا الأستاذ الداعية الكبير الشيخ محمد راتب النابلسي، بعنوان: "أثر القدوة الحسنة في إصلاح النفوس".
أسئلة عديدة للانتباه و الإصغاء إلى فحوى محاضرة اليوم :
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين، وعلى آله وصحبه أجمعين.
أيها الأخوة الكرام، أيها الضيوف الأعزاء: يسعدنا أن نلتقي بكم، وأن نضع بين أيديكم بعض الحقائق التي يحتاجها الدعاة إلى الله، فالله سبحانه وتعالى يقول:
﴿ وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحاً وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ ﴾
أيها الأخوة الكرام: من أجل أن ننتبه، وأن نصغي إلى فحوى محاضرة اليوم، سأضع بين أيديكم الأسئلة التالية:
متى يضل عقل الإنسان وتشقى نفسه؟
لماذا يحزن على ما كان ويخاف مما سيكون؟
متى يكون هلوعاً، جزوعاً، منوعاً؟
لماذا دخل الناس في دين الله أفواجاً في عهد النبي صلى الله عليه وسلم؟ ومتى يخرج الناس من دين الله أفواجاً؟
لماذا كان الواحد من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كألف ولماذا صار الألف من بعض المسلمين كأف؟
لماذا نجح الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين في تزكية نفوسه أتباعهم والسمو بها ولم ينجح غيرهم من دعاة الإصلاح وأدعياء الدين؟
لماذا أحب الصحابة رضوان الله عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى درجة فاقت حدّ التصور ولماذا أطاعوه إلى درجة جاوزت حدود الخيال؟
هل يتعلم الناس بآذانهم أم بعيونهم؟
هذه الأسئلة كلها ستتعرفون إلى إجاباتها من خلال هذه المحاضرة.
من أراد الدنيا و الآخرة فعليه بالعلم :
أيها الأخوة الكرام: بادئ ذي بدء، أضع بين أيديكم الحديث القدسي، يروي النبي صلى الله عليه وسلم عن ربه، أنه قال:
(( ليس كل مصلٍّ يصلي، إنما أتقبل صلاة ممن تواضع لعظمتي، وكف شهواته عن محارمي، ولم يصر على معصيتي، وأطعم الجائع، وكسا العريان، ورحم المصاب، وآوى الغريب، كل ذلك لي، وعزتي وجلالي إن نور وجهه لأضوأ عندي من نور الشمس على أن أجعل الجهالة له حلماً، والظلمة نوراً يدعوني فألبيه، ويسألني فأعطيه، ويقسم علي فأبره، أكلؤه بقربي، وأستحفظه ملائكتي، مثله عندي كمثل الفردوس لا يتسنى ثمرها ولا يتغير حالها ))
أيها الأخوة الكرام: يقول الله عز وجل في سورة الحجر:
﴿ وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَإِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الجَميلَ﴾
السموات والأرض تعبير قرآني يطابق مفهوم الكون اليوم، والذي يبدو لعلماء الفلك من خلال المراصد العملاقة أن هذا الكون لا تحده نهاية، فقبل عام أو أكثر أرسلوا مركبة إلى المشتري، عليها مرصد عملاق، رصد هذا المرصد أبعد مجرة اكتشفت حتى الآن، إنها تبعد عن الأرض ثلاثمئة ألف بليون سنة ضوئية، مع أن الضوء يقطع في الثانية الواحدة ثلاثمئة ألف كيلو متر، إن أقرب نجم ملتهب إلى الأرض يبعد عنا أربع سنوات ضوئية، ولكي نصل إلى هذا النجم الذي هو أقرب نجم ملتهب إلى الأرض، والذي يبعد عنا أربع سنوات ضوئية، نحتاج إلى أن نصل إليه بمركبة أرضية إلى خمسين مليون عام، أربع سنوات ضوئية نحتاج إلى أن نصل إليها بمركبة أرضية إلى خمسين مليون عام، فمتى نصل إلى هذه المجرة التي اكتشفت قبل عام ونصف؟ وأذاعت هذا النبأ كبرى محطات الأخبار العالمية، إنها تبعد عنا ثلاثمئة ألف بليون سنة ضوئية، دققوا في قوله تعالى:
﴿ فَلَا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ * وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَّوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ ﴾
أيها الأخوة الكرام:
لا يعرف ما تعنيه مواقع النجوم إلا العلماء، ومن عرف ما تعنيه مواقع النجوم خشع قلبه، وخشعت جوارحه، وخرّ لله ساجداً، قال تعالى:
﴿ إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ ﴾
ويقول الإمام الشافعي رحمه الله تعالى: "إذا أردت الدنيا فعليك بالعلم، وإذا أردت الآخرة فعليك بالعلم، وإذا أردتهما معاً فعليك بالعلم، والعلم لا يعطيك بعضه إلا إذا أعطيته كلك، فإذا أعطيته بعضك لن يعطيك شيئاً، ويظل المرء عالماً ما طلب العلم فإذا ظن أنه علم فقد جهل".
أيها الأخوة الكرام: يا طلاب العلم! يا دعاة المستقبل! طالب العلم يؤثر الآخرة على الدنيا فيربحهما معاً، وطالب الدنيا يؤثر الدنيا على الآخر فيخسرهما معاً.
الحق هو الاستقرار الهادف وهو نقيض الباطل :
أيها الأخوة الكرام: وقفة متأنية عند قوله تعالى:
﴿ وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَاعِبِينَ ﴾
﴿ مَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ ﴾
الحق كما يقول بعض المفسرين لابس خلق السموات والأرض، فماذا تعنيه كلمة الحق؟ يا لروعة القرآن، إنه يفسر بعضه بعضاً، ومن أدق التفاسير أن تفسر كلمة قرآنية بكلمة قرآنية.
قال تعالى:
﴿ وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلاً ﴾
خلق الله السموات والأرض بالحق، وما خلقهما باطلاً، إذاً الحق نقيض الباطل وقال تعالى:
﴿ وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَاعِبِينَ ﴾
لقد خلقهما بالحق، فالحق إذاً نقيض اللعب، الحق إذاً شيء مناقض للعب، شيء مناقض للباطل، إذا كان الباطل هو الشيء الزائل، والزاهق، فالحق إذاً هو الشيء المستقر والثابت، وإذا كان اللعب هو الشيء العابث غير الهادف، فالحق هو الشيء الذي ينطوي على هدف كبير.
الحكمة من خلق السموات والأرض :
الحق أيها الأخوة هو الاستقرار الهادف، أو الحكمة الثابتة، فما الهدف والحكمة من خلق السموات والأرض؟ قال بعض العلماء في تفسير هذه الآية: خلق الله السموات والأرض مظهراً لأسمائه الحسنى، وصفاته الفضلى، وخلقنا كي نتعرف إليه من خلال خلق السموات والأرض، فإذا عرفناه عبدناه، وإذا عبدناه حق العبادة سعدنا بعبادته في الدنيا والآخرة، فمن تعرف إلى الله وعبده حق العبادة، وسعد بقربه، فقد حقق الهدف من خلق السموات والأرض وتحقيق هذا الهدف هو الذي يسعد الإنسان.
العبادة علة وجود الإنسان :
أيها الأخوة الكرام! يا دعاة المستقبل! ويا طلاب العلم! الله جل جلاله يبين علة وجودنا، قال:
﴿ وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ ﴾
والعبادة في أدق تعاريفها: طاعة طوعية، ممزوجة بمحبة قلبية، أساسها معرفة يقينية، تفضي إلى سعادة أبدية.
في العبادة كليات ثلاثة: كلية معرفية، وكلية سلوكية، وكلية جمالية، الكلية السلوكية هي الأصل، والكلية المعرفية هي السبب، والكلية الجمالية هي الثمرة.
معرفة الله شيء مصيري في حياة الإنسان :
أيها الأخوة الكرام: ورد في الحديث القدسي، أو ورد في الأثر القدسي:
(( ابن آدم اطلبني تجدني، فإذا وجدتني وجدت كل شيء، وإن فتك فاتك كل شيء وأنا أحب إليك من كل شيء))
يا رب ماذا وجد من فقدك؟ وماذا فقد من وجدك؟ وإذا كان الله معك فمن عليك؟ وإذا كان الله عليك فمن معك؟
هذه المقدمة أيها الأخوة من أجل أن نعلم أن معرفة الله شيء مصيري في حياة الإنسان، فمن لم يعرف ربه، ولم يهتد بهداه، ضلّ عقله، وشقيت نفسه، وحزن على ما فات، وخاف مما هو آت، دليل ذلك قوله تعالى:
﴿ فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى ﴾
﴿ فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ ﴾
لو جمعنا الآيتين لكان الذي يتبع هدى الله عز وجل لا يضل عقله، ولا تشقى نفسه، ولا يندم على ما فات، ولا يخشى مما هو آت، فماذا بقي من أركان السعادة؟
التمكين و الاستخلاف في الأرض أسئلة يجيب عنها القرآن الكريم :
أيها الأخوة الكرام: هذا الهدي الرباني هنا كيف نقنع الناس به؟
كيف نحملهم على اتباعه؟
لماذا دخل الناس في دين الله أفواجاً في عهد النبي صلى الله عليه وسلم وعهد أصحابه الراشدين؟ ولماذا خرج بعض الناس من دين الله أفواجاً في عهود لاحقة؟
لماذا كان الواحد من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كألف؟
هل تصدقون أن سيدنا الصديق رضي الله عنه أرسل خالد بن الوليد ليفتح بلاد فارس، فوجئ هذا القائد العظيم أن جيشه لا يزيد عن ثلاثين ألفاً؛ بينما جيش العدو يزيد عن مئة وثلاثين ألفاً؛ فأرسل إلى الخليفة الصديق يسأله المدد، والنجدة، وانتظر، فإذا برجل واحد، اسمه القعقاع بن عمرو يصل إلى سيدنا خالد، يعجب خالد أشد العجب! أين النجدة؟ أين المدد؟ يقول له أنا: يقول له أنت! قال: معي كتاب من خليفة رسول الله: يقرأ الكتاب فإذا فيه: "من عبد الله أبي بكر الصديق إلى خالد بن الوليد، أحمد الله إليك، لا تعجب يا خالد أني أرسلت لك القعقاع بن عمرو نجدةً لجيشك، فوالله الذي لا إله إلا هو إن جيشاً فيه القعقاع بن عمرو لا يهزمه أحد".
هذا تأكيد لقولي كان الواحد من أصحاب رسول الله كألف، وصار الواحد من المسلمين المتأخرين المتفلتين من هؤلاء كأف:
﴿ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي ﴾
أين التمكين؟ أين التطمين؟ أين الاستخلاف؟ القرآن الكريم يجيب عن هذه الأسئلة:
﴿ فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيّاً ﴾
الإسلام يحييه المثل الأعلى والقدوة الحسنة والسلوك المستقيم :
أيها الأخوة الكرام: لماذا صار الألف من بعض المسلمين كأف؟ كما قلت قبل قليل لماذا نجح الأنبياء في تزكية نفوسه أتباعهم والسمو بها ولم ينجح غيرهم من دعاة الإصلاح وأدعياء الدين؟.
يقول أحد المفكرين المعاصرين، إن مثلاً واحداً- الآن دخلنا في المحاضرة- أنفع للناس من عشرات المجلدات، لأن الأحياء لا تصدق إلا المثل الحي، لهذا كان النبي الواحد بمثله الخلقي الحي وجهاده أهدى للبشرية من آلاف الكتاب الذين ملئوا بالفضائل، والحكم بطون المجلدات، إن أكثر الناس يستطيعون الكلام عن المثل العليا، ولكنهم لا يعشونها، لهذا كانت حياة الأنبياء إعجازاً، وكانت نتائج دعوتهم إعجازاً، بينما لا تلقى دعوة الداعين غير المخلصين من أتباعهم إلا الصدود والاستخفاف.
أيها الأخوة الكرام: الإسلام لا يحييه إلا المثل الأعلى، والقدوة الحسنة، والسلوك المستقيم.
للأنبياء مهمتان كبيرتان التبليغ و القدوة :
أيها الأخوة: أرى أن للأنبياء مهمتين كبيرتين، أحد المهمتين هي التبليغ، لكن المهمة الأكبر، والأكبر، والأكبر هي القدوة، لأن الناس لا يتعلمون بآذانهم، بل يتعلمون بعيونهم.
من هنا قال عليه الصلاة والسلام:
(( ليس الإيمان بالتمني ولا بالتحلي، ولكن ما وقر في القلب، وأقرَّ به اللسان، وصدَّقه العمل ))
ويقول أيضاً:
(( ركعتان من ورع خير من ألف ركعة من مخلط ))
والمخلط الذي خلط عملاً صالحاً وآخر سيئاً.
و:
(( من لم يكن له ورعٌ يصده عن معصية الله إذا خلا لم يعبأ الله تعالى بسائر عمله ))
سيدنا عمر رضي الله عن عمر، رأى راعياً يرعى شياهاً، فقال له ممتحناً: بعني هذه الشاة وخذ ثمنها، قال الراعي ليست لي، قال عمر: قل لصاحبه ماتت أو أكلها الذئب -وهو بهذا يمتحنه- قال الراعي: ليست لي، قال عمر: خذ ثمنها- يغريه بالثمن-قال الراعي: والله إنني لفي أشد الحاجة إلى ثمنها، ولو قلت لصاحبها ماتت، أو أكلها الذئب لصدقني، فأنا عنده صادق أمين، ولكن أين الله!!!.
هذا الراعي لعل ثقافته محدودة، لعل إدراكه ليس عميقاً، لكنه وضع يده على جوهر الدين، وكفى بالمرء علماً أن يخشى الله، وكفى به جهلاً أن يعصيه.
أيها الأخوة الكرام: إذا حدثت أحدنا نفسه أن يأخذ ما ليس له بحقٍ أن يأخذه، وليس عليه رقيب، ولا شهيد، فقال في نفسه كما قال هذا الراعي، ولكن أين الله؟ فقد عرف الله، وصحت عبادته، فإذا أخذ الرجل ما ليس له بحق لن تنفعه ثقافته الدينية مهما اتسعت، ولن يقبل الله منه عباداته وأعماله مهما كثرت.
قال سهل التستري: "والله لترك درهم من حرام خير من ثمانين حجة بعد حجة الإسلام، وليس الولي من يفعل خوارق العادات، ولكن الولي كل الولي من تجده عند الأمر والنهي في الملمات".
قال سيدنا عمر رضي الله عنه لأويس القرني: عظني يا أويس؟ قال أويس: ابتغِ رحمة الله عند طاعته، واحذر نقمته عند معصيته، ولا تقطع رجاءك فيما بينهما.
الصفات الرفيعة التي ينبغي أن يتحلى بها كل من دعا إلى الله عز وجل :
في القرآن الكريم إشارات دقيقة إلى الصفات الرفيعة التي ينبغي أن يتحلى بها كل من دعا إلى الله وتصدى لهذه المهمة المقدسة، فلابد من الترفع عن الدنيا وما فيها، ولا ينبغي لأحد أن يتخذ الدين مطية للدنيا، قال تعالى:
﴿ قَالَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ * اتَّبِعُوا مَنْ لَا يَسْأَلُكُمْ أَجْراً وَهُمْ مُهْتَدُونَ ﴾
هذا الشرط الأول، ولا بد من العمل الصالح فهو دليل صدق الداعية، وسبب نجاح الدعوة، قال تعالى:
﴿ وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحاً وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ ﴾
ولا بد من الصبر على الطاعة، وعن المعصية، وعلى من تدعه فهو علامة الصدق في طلب الجنة، والإصرار على الفوز برضوان الله، قال تعالى:
﴿ وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا ﴾
ولا بد من الانقياد التام لأوامر الله كلها، في المنشط والمكره، وما عرفت حكمته وما لم تعرف، فالرضا بمكروه القضاء أرفع درجات اليقين، قال تعالى:
﴿ وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا ﴾
ولا بد من أن تكون الخشية لله وحده، فقد قال الله تعالى:
﴿ الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالَاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلَا يَخْشَوْنَ أَحَداً إِلَّا اللَّهَ ﴾
الصفة والموصوف من أدق نظم القرآن الكريم :
أيها الأخوة: من أدق نظم القرآن الكريم الصفة والموصوف، الصفة في القرآن الكريم مترابطةٌ مع الموصوف ترابطاً وجودياً، فإذا ذهب الوصف ألغي الموصوف، لو أنك قلت مثلاً: هذه طائرة فخمة، والبيت فخمٌ أيضاً، هذه طائرة كبيرة، والبيت كبير أيضاً، واليخت كبير أيضاً، إذا قلت: إن هذه الطائرة غالية الثمن، وشيء آخر يكون غالي الثمن، أما إذا وصفت الطائرة بأنها تطير، فطيران الطائرة مترابط مع موصوفه ترابطاً وجودياً، فإذا ألغيت طيران الطائرة ألغيت وجود الطائرة.
من هذا النوع تأتي أوصاف القرآن الكريم، هؤلاء الذين يبلغون رسالات الله، الله جل جلاله لم يذكر استقامتهم، ولا صدقهم، ولا أمانتهم، ولا شيء من هذا القبيل، ذكر صفة واحدة مترابطة مع دعوتهم ترابطاً وجودياً، فلو ألغيت هذه الصفة ألغيت دعوتهم،
﴿ وَيَخْشَوْنَهُ وَلَا يَخْشَوْنَ أَحَداً إِلَّا اللَّهَ ﴾
لو أنهم تهيبوا غير الله فسكتوا عن الحق إرضاء لهذا الذي خافوه، أو نطقوا بالباطل إرضاء لهذا الذي خافوه، ماذا بقي من دعوتهم؟ انتهت دعوتهم، ماذا تنفعهم الصفات الأخرى؟ لا قيمة لها إطلاقاً.
السّرّ في قوة تأثير النبي صلى الله عليه وسلم في أصحابه و نجاح دعوته :
أيها الأخوة الكرام: النبي صلى الله عليه وسلم كان مثلاً أعلى لأصحابه الأطهار، وأسوة حسنة للمؤمنين الأخيار، وقدوة صالحة لأتباعه الأبرار، فقد اتسمت دعوته بأتساع رقعتها، وامتداد أمدها، وعمق تأثيرها، لسبب واحد، لأنه صلى الله عليه وسلم طبق في سلوكه ما قال بلسانه، فقد كان عليه الصلاة والسلام على خلق عظيم، وكان خلقه القرآن، أحبه أصحابه إلى درجة فاقت حدّ التصور، وأطاعوه طاعة جاوزت حدود الخيال، قال أبو سفيان يوم كان مشركاً: ما رأيت أحداً يحب أحداً كحب أصحاب محمد محمداً.
يا أيها الأخوة الكرام.. يا أيها الأخوة الضيوف.. يا طلاب العلم.. يا دعاة المستقبل: السر في قوة تأثير النبي صلى الله عليه وسلم في أصحابه أنه كان لهم أسوة حسنة، وقدوة صالحة، ومثل يحتذى.
قال ملك عُمان وقد التقى النبي العدنان: والله لقد دلني على هذا النبي الأمي أنه لا يأمر بخير إلا كان أول آخذ به، ولا ينهى عن شيء إلا كان أول تارك له، وأنه يغلب فلا يبطر، ويغلب فلا يضجر، ويفي في العهد، وينجز الوعد، فقد كان صلى الله عليه وسلم جم التواضع، وافر الأدب، يبدأ الناس بالسلام، ينصرف بكله إلى محدثه، صغيراً كان أو كبيراً، يكون آخر من يسحب يده إذا صافح، وإذا تصدق وضع الصدقة بيده في يد المسكين، وإذا جلس جلس حيث ينتهي به المجلس، لم يرَ ماداً رجليه قط، ولم يكن يأنف من عمل لقضاء حاجته، أو حاجة صاحب، أو جار، كان يذهب إلى السوق، ويحمل بضاعته، ويقول: أنا أولى بحملها، وكان يجيب دعوة الحر والعبد والمسكين، ويقبل عذر المعتذر، وكان يرفو ثوبه، ويخصف نعله، ويخدم نفسه، ويعقل بعيره، ويكنس داره، وكان في مهنة أهله، كان يأكل مع الخادم، ويقضي حاجة الضعيف والبائس، كان يمشي هوناً، خافض الطرف، متواصل الأحزان، دائم الفكرة، لا ينطق من غير حاجة، طويل السكوت، إذا تكلم تكلم بجوامع الكلم، كان دمثاً، ليس بالجاحف ولا المهين، يعظم النعم وإن دقت، ولا يذم منها شيئاً، ولا يذم مذاقاً ولا يمدحه، ولا تغضبه الدنيا، ولا ما كان منها، ولا يغضب لنفسه، ولا ينتصر لها، إذا غضب أعرض وأشاح، وإذا فرح غض طرفه، كان يؤلف ولا يفرق، يقرب ولا ينفر، يكرم كريم كل قوم ويوليه عليهم، يتفقد أصحابه، يسأل الناس عما في الناس ، يحسن الحسن ويصيبه، ويقبح القبيح ويوهنه، لا يقصر عن حق، ولا يجاوزه، لا يحسب جليسه أن أحداً أكرم عليه منه، من سأله حاجةً لم يرده إلا بها، أو ما يسره من القول، كان دائم البشر، سهل الخلق، لين الجانب، ليس بفظ، ولا غليظٍ، ولا صخاب، ولا فحاشٍ، ولا عيابٍ، ولا مزاحٍ، يتغافل عما لا يشتهي، ولا يخيب فيه مؤمله، كان لا يذم أحداً، ولا يعيره، ولا يطلب عورته، ولا يتكلم إلا فيما يرجى ثوابه، يضحك مما يضحك منه أصحابه، ويتعجب مما يتعجبون، ويصبر على الغريب، وعلى جفوته، في مسألته ومنطقه، لا يقطع على أحد حديثه حتى يجوزه، والحديث عن شمائله أيها الأخوة صلى الله عليه وسلم لا تتسع له المجلدات، ولا خطب في سنوات، ولكن الله جل في علاه، لخصها كلها في كلمات، فقال تعالى:
﴿ وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ ﴾
هكذا نجحت دعوته.
المثل الأعلى الذي ضربه النبي بسيرته وخلقه حمل أصحابه على أن يهتدوا بهديه :
أيها الأخوة الكرام: المثل الأعلى الذي ضربه النبي صلى الله عليه وسلم بسيرته، وخلقه، حمل أصحابه على أن يهتدوا بهديه، ويتبعوا سنته، ويقتفوا أثره، فهذا عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقتدي برسول الله صلى الله عليه وسلم فيجعل من سلوكه ومواقفه مثلاً أعلى يحتذى، فكان إذا أراد إنفاذ أمرٍ جمع أهله وخاصته وقال: إني قد أمرت الناس بكذا، ونهيتهم عن كذا، والناس كالطير إن رأوكم وقعتم وقعوا، وأيم الله لا أوتين بأحد وقع فيما نهيت الناس عنه إلا ضاعفت له العقوبة لمكانه مني، فصارت القرابة من عمر مصيبة، رأى إبلاً سمينة، قال: لمن هذه الإبل؟ قالوا: هي لابنك عبد الله، قال: ائتوني به، فلما جاءه قال: لمن هذه الإبل؟ قال: هي لي، اشتريتها بمالي، وبعثت بها إلى المرعى لتسمن، فماذا فعلت؟ فقال رضي الله عنه: ويقول الناس: ارعوا هذه الإبل فهي لابن أمير المؤمنين، اسقوا هذه الإبل فهي لابن أمير المؤمنين، وهكذا تسمن إبلك يا بن أمير المؤمنين، بع الإبل، وخذ رأسمالك، ورد الباقي لبيت مال المسلمين.
هذا الخليفة الراشد سيدنا عمر رضي الله عنه جسد بسلوكه قيم الحق والخير في أبهى صورها، جسدها بمواقفه، وأحكامه، فكان بحق بطل مبدأ، مضى نحو تحقيقه من دون أن ينظر إلى الزمن، ففي خلافته جاءه إلى المدينة جبلة بن الأيهم آخر ملوك الغساسنة، يعلن إسلامه، فيرحب به عمر أجمل ترحيب، لكن بدوياً من فزاره يدوس إزار الملك الغساني، في أثناء طوافه حول الكعبة، فيغضب الملك، ويلتفت إلى هذا البدوي فيضربه ويهشم أنفه، فيشكوه الفزاري إلى عمر بن الخطاب، ويستدعي عمر الملك الغساني إلى مجلسه، ويجري بين عمر وبين جبلة الملك الغساني حوارٌ صيغ شعراً على الشكل التالي.
قال عمر: يا بن أيهم، جاءني هذا الصباح مشهد يبعث في النفس المرارة، بدوي من فزاره بدماء تتظلم، بجراح تتكلم، مقلة غارت، وأنف قد تهشم، وسألناه فألقى فادح الوزر عليك، بيديك، أصحيح ما ادعى هذا الفزري الجريح؟
قال جبلة الملك الغساني: لست ممن ينكر أو يكتم شيئاً، أنا أدبت الفتى، أدركت حقي بيدي.
قال عمر: أي حق يا بن أيهم، عند غيري يقهر المستضعف العافي ويظلم، عند غيري جبهة بالإثم بالباطل تلطم، نزوات الجاهلية، ورياح العنجهية قد دفناها، أقمنا فوقها صرحاً جديداً، وتساوى الناس لدينا أحراراً وعبيداً، أرض الفتى، لا بد من إرضائه، مازال ظفرك عالقاً بدمائه، أو يهشمن الآن أنفك، وتنال ما فعلته كفك.
قال جبلة: كيف ذاك يا أمير المؤمنين! هو سوقة، وأنا صاحب تاج، كيف ترضى أن يخر النجم أرضاً؟ كان وهماً ما جرى في خلدي أنني عندك أقوى وأعز، أنا مرتد إذا أكرهتني.
فقال عمر: عنق المرتد بالسيف تحز، عالم نبنيه، كل صدع فيه، بشبا السيف يداوى، وأعز الناس بالعبد بالصعلوك تساوى.
قال بعض كتاب السيرة، ما الذي حمل عمر بن الخطاب رضي الله عنه على أن يستغني عن هذا الذي دخل في دين الإسلام وهو ملك؟ فسر بعضهم موقفه بأنه إذا ضحى بملك أهون ألف مرة من أن يضحي بمبدأ، لقد كان كما قلت قبل قليل رجل مبدأ على التحقيق.
القدوة الحسنة هي حقيقة مع البرهان عليها :
أيها الأخوة الكرام: القدوة الحسنة تفعل فعل السحر في النفوس، لأن الناس لا يتعلمون بآذانهم، بل يتعلمون بعيونهم، ولغة العمل أبلغ من لغة القول، لذلك لا تستطيع أن تقنع الناس بشيء إلا إذا كنت أنت قانعاً فيه، ولا تستطيع أن تحملهم على اتباعه إلا إذا سبقتهم إليه، عندئذ تكون قدوة حسنة، والقدوة الحسنة هي حقيقة مع البرهان عليها، حقيقة مع البرهان عليها، فمتى يستقيم الظل والعود أعوج؟
أنت أيها المسلم، أنت أيها الداعية، أنت أيها الطالب طالب العلم على ثغرة من ثغر الإسلام، فلا يؤتين من قبلك، ولا يصلح آخر هذه الأمة إلا بما صلح به أولها، يقول الله عز وجل في الحديث القدسي:
(( إن هذا الدين قد ارتضيته لنفسي ولا يصلحه إلا السخاء وحسن الخلق فأكرموه بهما ما صحبتموه ))
مرة التقيت مع داعية كبير جداً في العالم الإسلامي، وسألته سؤالاًً بسيطاً، وقلت له: بماذا تنصح الدعاة في هذه الصحوة الدينية المباركة؟ فقال لي نصيحة واحدة، قال: فليحذر الدعاة أن يجدهم أتباعهم على حال غير التي يدعونهم إليها، هذه دعوتي الوحيدة وهذه نصيحتي الفريدة، أرجو الله سبحانه وتعالى أن نكون قد أفدنا جميعاً من هذه الحقائق المقتبسة من الكتاب والسنة، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
عليكم السلام ورحمة الله وبركاته.
أسئلة و أجوبة :
شكراً لفضيلة الأستاذ الداعية الكبير محمد راتب النابلسي على ما أتحفنا به في محاضرته القيّمة التي تحمل عنوان: "القدوة الحسنة وأثرها في إصلاح النفوس"، وننتقل الآن إلى جانب المناقشة، وبعض المداخلات والأسئلة من الأخوة المشاركين.
اسمحوا لي أستاذي قبل أن نبدأ بالأسئلة من قبل الأخوة أن أشير إلى بعض النقاط وأرجو منكم أن تلقوا عليها بعض الأضواء.
المسافة بين القول والعمل هل تسقط الدعوة إلى الله ؟
المذيع:
هناك بعض العبارات التي نجدها في كتب العقيدة، عندما يتكلم علماء العقيدة عن موضوع من بلغته الدعوة الإسلامية ومن لم تبلغه الدعوة الإسلامية نجد أن هناك شرطاً يشترطونه، وهو أن يكون الذي يبلغ الدعوة للآخرين مطبقاً لهذه الدعوة.
على سبيل المثال لنفترض أن إنساناً دخل إلى غابات الأمازون، وعرف لغة الأقوام الموجودين هناك، وقابل قبيلة من القبائل، هذه القبيلة وثنية، هذا الإنسان مسلم يدعوهم إلى عبادة الله عز وجل، ومكث عندهم ردحاً من الزمن يدعوهم إلى الإيمان بالله، وإلى الصلاة، والصيام، والزكاة، وإلى آخره، هؤلاء لم يسمعوا قبلاً أي شيء عن الإسلام، إلا من هذا الإنسان، ثم إنهم من خلال هذه الفترة التي عاش هذا الإنسان معهم فيها لم يجدوا منه إلا الكلام، أين التطبيق العملي؟ أي يأمرهم بالصلاة، يقول: الله فرض خمس صلوات وهو لا يصلي، يأمرهم بالصيام، ويقول: الله فرض الصيام وهو لا يصوم، يأمرهم بعبادة الله وحده لا شريك له، وهو أبعد الناس عن عبادة الله سبحانه وتعالى، فهل يعتبر هؤلاء قد بلغتهم الدعوة الإسلامية وناجون أو محاسبون عند الله عز وجل؟
الأستاذ راتب:
بسم الله الرحمن الرحيم ، جواباً على هذا السؤال، بعض العلماء يرى أنه من دعا إلى الله بمضمون هزيل، مضمون غير متماسك، أو بأسلوب غير علمي، أو غير تربوي، أو دعا إلى الله بمضمون عميق لكن المدعو لم ير في الداعية مصداقيةً.
قال بعض العلماء وهم كبار: هذا المدعو بهذا المضمون الهزيل السطحي، وبهذا المضمون المتناقض، غير المتماسك، وبهذا الأسلوب غير العلمي، وغير التربوي، وبهذا التناقض والازدواجية في الداعية، هذا المدعو بهذه الطريقة، وبهذا المضمون، لا يعد عند الله مبلغاً، ويقع إثم تفلته من منهج الله، على من دعاه بهذه الطريقة، لأن الله سبحانه وتعالى يقول:
﴿ وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحاً وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ ﴾
فطرة الإنسان التي فطر عليها، تتجه إلى أن دينه عظيم يتناسب مع عظمته، دينه متماسك يتناسب مع خلقه، وإعجازه، فإذا دعي الإنسان بمضمون هزيل، سطحي، غير متماسك، متناقض، بأسلوب غير علمي وغير تربوي، أو دعي بمضمون عميق، لكن المدعو كما تفضلتم قبل قليل لم ير في الداعية مصداقية، إن هذا المدعو يعتقد أن هذا ليس دين الله فيقع إثم تفلته من منهج الله على من دعاه بهذه الطريقة.
نحن في حياتنا اليومية يمكن أن نتعامل مع أي عالم في علوم الأرض بصرف النظر عن سلوكه، نتعامل مع طبيب ولا نعنى لا بأخلاقه، ولا بسلوكه، نتعامل مع مهندس، نتعامل مع مدرس، ولكن الناس جميعاً لا يستطيعون أن يتعاملوا مع داعية، أو مع عالم ديني، إلا إذا كان سلوكه مطابقاً لمقولته.
فإذا كان في شخصية الداعية ازدواجية، ماذا يقول المدعو؟ لو أن دعوته صحيحة لطبقها، قلت قبل قليل: القدوة الحسنة هي حقيقة مع البرهان عليها، فلو أن الداعية دعا بمضمون متناقض، أو لم يجد المدعو مصداقية في دعوته ماذا يعتقد هذا المدعو؟ أن هذا الدين ليس دين الله عز وجل، وأن هذا الإنسان ليس أهلاً لما يدعوني به لو كان يعتقد بما يقول لطبقه.
لذلك إن كان هناك مسافة بين القول والعمل، سقطت الدعوة.
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ * كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ * ﴾
من دعا إلى الله ولم يجد المدعو مصداقية فيه:
المذيع:
وهذا أيضاً يدفعنا إلى تساؤل، هل أولئك الذين ينطلقون من البلاد وبخاصة العربية إلى بلاد غير إسلامية سواءً في الشرق، أو في الغرب، ليتكلموا باسم الإسلام ولكنهم في الواقع العملي صورة مشوهة ممسوخة عن حقيقة الإسلام، هؤلاء ربما يكونوا وزراً على الإسلام والمسلمين وعبئاً ثقيلاً؟
الأستاذ راتب:
يؤكد هذا قول النبي عليه الصلاة والسلام:
(( أنت على ثغرة من ثغر الإسلام فلا يؤتين من قبلك ))
فكل من دعا إلى الله، ولم يجد المدعو مصداقية فيه، كان ثغرة من ثغر الإسلام، ونقطة ضعف قد يستهدف الإسلام من خلاله.
كيف ننظر لمن ينصب نفسه وصياً على الآخرين ؟
المذيع:
هناك نقطة ثانية أستاذنا الكريم، وهي موضوع الوصاية، نحن نتحدث عن القدوة الحسنة، ربما أجد في نفسي أنني داعية إلى الإسلام، وأنني قدوة حسنة في كل شيء، هذا الشيء الذي أجده في نفسي ربما يدفعني أن أجد نفسي وصياً على الآخرين، أنا ملتزم باللحية، باللفة، بالجبة مثلاً، والآخرون غير ملتزمين بأمثال هذه القضايا، هذا ربما يدفعني إلى نوع من التجريح، تحقير الآخرين، امتهان الآخرين، لماذا؟ لأنني أنا قدوة حسنة وغيري لا، لماذا؟ لأنني أنظر إلى المظاهر، أنا ملتزم بهذه المظاهر وغيري لا، كيف لنا أن ننظر إلى أمثال هؤلاء؟
الأستاذ راتب:
بعض كبار الدعاة يقول: نحن دعاة ولسنا قضاة، وكل إنسان ينصب نفسه وصياً على المسلمين، يوزع ألقاب الإيمان، والكفر، والشرك عليهم وفق مزاجه، هو إنسان وقع في مطب كبير، و وقع في خطأ خطير.
العبرة من هذا أن الإنسان حينما يتعامل مع أخيه الإنسان تعاملاً متواضعاً يقربه، أما إذا تعامل معه تعاملاً مستعلياً، مستكبراً، فإنه ينفره، نحن نعتقد أن الدعوة إلى الله دعوتان، دعوة إلى الذات، ودعوة إلى الله، هناك دعوة إلى الذات مغلفة بدعوة إلى الله، من خصائص هذه الدعوة إلى الذات المغلفة بالدعوة إلى الله الابتداع لا الاتباع، الابتداع.
ومن خصائص هذه الدعوة إلى الذات المغلفة بدعوة إلى الله التنافس لا التعاون، تبني مجدك على أنقاض الآخرين، تبني مكانتك على تجريحهم، تبني عزتك على إهانتهم، على تحقيرهم، وكفى بالمرء إثماً أن يحقر أخاه المسلم .
فكل دعوة تعتد بنفسها، وتعتقد أنها الدعوة الوحيدة، وتعتقد أن الآخرين لا شيء، تجرحهم، وتطعن بهم، و تنتقص من قيمتهم، لا تتعاون معهم، تتنافس معهم، تبني مجدها على أنقاضهم، هي في الحقيقة دعوة إلى الذات، وليست دعوة إلى الله، دعوة إلى الذات مغلفة بدعوة إلى الله.
أما الدعوة إلى الله فخالصة أساسها الاتباع لا الابتداع، قال عليه الصلاة والسلام:
(( كُلُّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ، وَكُلُّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ، وَكُلُّ ضَلَالَةٍ فِي النَّارِ))
لأن هذا الدين دين الله، قال تعالى:
﴿ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِيناً ﴾
قضايا الدين التي جاء بها القرآن الكريم والسنة الصحيحة تامة من حيث العدد، كاملة من حيث المعالجة، عدد القضايا التي طرحها الدين عدد تام لا يحتمل زيادة، ولا يحتمل حذفاً، وطريقة المعالجة طريقة كاملة، فأي إنسان يضيف على الدين شيئاً هو يتهمه بالنقص، أو يحذف منه شيئاً يتهمه بالخلل.
إذاً نحن في شأن العقائد، والعبادات لا نضيف، ولا ننتقص، أما فيمكن أن نضيف تكبير الصوت، يمكن أن نضيف الماء الساخن في المساجد في الشتاء، والماء البارد في الصيف، نكيف المسجد، هذه لم تكن على عهد النبي، لكنها مستحبة، يغطيها قول النبي عليه الصلاة والسلام:
(( من سنّ سنة حسنة كان له أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة ))
فنحن نتبع لا نبتدع، ثلاث نصائح تكتب على وتر: اتبع لا تبتدع، اتضع لا ترتفع، الورع لا يتسع.
هل السرعة في تكفير أو تخطيء الآخرين يمزق الأمة ويفتت قوتها ؟
المذيع:
أمثال هؤلاء ربما سماهم بعض العلماء المعاصرين الظاهرية الحديثة، أي الأخذ بظواهر النصوص مطلقاً، والسرعة إلى تكفير أو تخطيء الآخرين، ورمي الآخرين بألقاب كثيرة.
الأستاذ راتب:
قبل أن نبدأ هناك ملاحظة، يقول بعض العلماء المجددين: ما كل من وقع في الكفر وقع عليه الكفر، فهذا الأعرابي الذي كان في الصحراء يركب ناقته، وعليها طعامه وشرابه، لما ضلت عنه جلس يبكي، ويبكي لأنه أيقن بالهلاك، فلما رأى ناقته، من شدة فرحه قال: يا ربي أنا ربك وأنت عبدي هذا كلام كفر، هل كان كافراً؟ قال عليه الصلاة والسلام: "لله أفرح بتوبة عبده من هذا البدوي بناقته".
فالمؤمن الصادق يعتقد أنه ما كل من وقع في الكفر، خطأ، أو سهواً، أو عن غير قصد، وقع عليه الكفر.
شيء آخر: لا ينبغي أن نكفر بالتعيين، نقول: من قال هذا فقد كفر، أما أن نقول: فلان مشرك، فلان كافر، هذا انحراف خطير، وهذا يمزق الأمة، ويفتت قوتها.
جزاكم الله كل خير.
ما هي كيفية معالجة من يخطئ ؟
المذيع:
بين أيدينا سيدنا الكريم سؤال من المشارك، يان كلين من جمهورية الصين الشعبية يتحدث عن موضوع أن الداعية إلى الله عز وجل هو قدوة حسنة، لكن بمنظور المسلمين لا يفقهون من هذا الداعي أي خطأ، حتى أحياناً أي إخلال بأي أدب من الآداب و لو كان من المباحات، أو من المكروهات، أي إذا وقع في مكروه أو مباح مما هو متعارف عليه بين الناس أنه خطأ أي وقع في الكفر، أو سقط الاعتبار بدعوته، كيف لهم أن يعالجوا؟
الأستاذ راتب:
نحن نعتقد أيها الأخوة أن في عالمنا كمسلمين إنساناً واحداً معصوماً هو رسول الله صلى الله عليه وسلم، معصوم بمفرده، بينما أمته معصومة بمجموعها، فالنبي معصوم بمفرده، وأمته معصومة بمجموعها لقول النبي عليه الصلاة والسلام:
(( لا تجتمع أمتي على ضلالة ))
لأن الإنسان يتفوق في جانب ويغيب عنه جانب، يأتي أخوه يتفوق في الذي غاب عنه ويقصر بالذي تفوق فيه، فالدعاة إلى الله، والعلماء، والمؤمنون متكاملون، يكملون بعضهم بعضاً، نحن حينما ننطلق من أننا متكاملون نتعامل مع بعضنا تعاملاً رائعاً، أما حينما نعتقد العصمة بغير النبي فقد وقعنا في الغلو، فأناس كثيرون وقعوا في هذا الغلو، إلا أن النبي معصوم بينما الولي محفوظ، والفرق بين العصمة والحفظ أن النبي لا يخطئ، بينما الولي لا يصر على خطئه، سريعاً ما يعود إلى الصواب، سريعاً ما يستغفر الله عز وجل.
فالمدعو إذا أراد أن يكون مبالغاً، ويعتقد العصمة بشيخه، أو بداعيته، سوف يفاجأ أنه ليس معصوماً.
لكن إذا قلنا غير معصوم، ليس في الكبائر، في الصغائر، وليس عن قصد، وليس عن إصرار، فإذا لم يكن هناك تسامح، وكان هناك واقعية بين المدعو وبين الداعي فالدعوة لا تنجح، لأننا إذا فسقناه أو كفرناه الدعوة لا تنجح.
من لم يمتثل للأوامر و يترك النواهي هل تسقط عنه فرضية الدعوة إلى الله ؟
المذيع:
هذا يقودنا إلى رأي الإمام الغزالي، وهو رأي معتمد عند المسلمين في أنه ربما يكون الإنسان غير قائم بكامل الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر بنفسه، أي هو غير ممتثل لجميع الأوامر، وتارك جميع النواهي، لكن هل تسقط عنه فرضية الدعوة؟
الأستاذ راتب:
لا تسقط، إلا أن هناك تحفظاً واحداً، لو أنني أردت أن أدعو إلى الله الموضوعات التي أطبقها أحدث فيها أثراً بليغاً في النفوس، أما الأشياء التي لا أطبقها فلو تكلمت بها لا تؤثر في النفوس، فأنا يجب أن أعاهد نفسي كداعية ألا أقول إلا ما أطبق، أما حينما أُسأل أجيب الجواب الصحيح ولو لم أكن مطبقه، حينما أسأل أتكلم بالحق، ولو كنت غير مطبق له، أما حينما أتكلم ابتداءً فلا ينبغي أن أتكلم إلا بما أفعله، هناك شيء من السلف الصالح يؤكد هذه الحقيقة، قوة تأثير الكلام تأتي من تطبيقه، ومن مصداقيته، والمصداقية هي أحد أسباب قوة التأثير.
من يُسأل هل يجب أن يقول الحق و لو كان مقصراً في تطبيقه ؟
المذيع:
لو أننا انتظرنا حتى يكتمل كل واحد فينا في الأمر والنهي لسقطت الدعوة كلها، ولما وجد هناك دعاة إلى الله عز وجل.
الأستاذ راتب:
هنا الوضع دقيق، إذا تجاوزت الحد أي هناك خط أحمر، لو أردنا أن نقول كل شيء ولا نفكر في التطبيق هذا انحراف خطير، ولو أردنا أن نسكت حتى نطبق انحراف ثان أيضاً، يجب أن نرجو من الله عز وجل أن يعيننا على التطبيق، وأن نلتزم بأن نقول ما نعمل، أما حينما نسأل فيجب أن نقول الحق، ولو كنا مقصرين في تطبيقه، هذا موقف المعتدل.
جزاكم الله كل خير.
ما واجب الدعاة إلى الله عز وجل تجاه العصاة ؟
المذيع:
هنا المشارك من الجمهورية الجزائرية الشقيقة، محمد أمين، يتحدث عن واجب الدعاة إلى الله عز وجل تجاه العصاة الذين لا يدخلون المساجد، أي هو مسلم بالشهادة أو بالهوية كما يقولون، يقول :لا إله إلا الله، محمد رسول الله - صلى الله عليه وسلم- لكن التطبيق العملي لا يوجد أي شيء، ما هو الموقف بالنسبة للداعي إلى الله عز وجل من أمثال هؤلاء؟
الأستاذ راتب:
الحقيقة بطولة الداعية ليست مع إخوانه، وليست مع رواد مسجده، بطولة الداعية مع الطرف الآخر، مع المتفلتين، مع الشاردين، فحينما يصبر عليهم، ويتسع لهم، ويأخذهم بالحلم، يكون داعيةً كبيراً لأن:
﴿ كَذَلكَ كُنْتُم مِنْ قبلُ فَمَنَّ اللهُ عليكُمْ﴾
أنا لا أيئس من أي إنسان، لأن الصلح مع الله سريع ما يكون:
﴿ قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ ﴾
الداعي ينطلق من موقف إنساني، هذا الذي أمامه ولو كان عاصياً، الآن عاص لعله يتوب ويسبقه، هذا التواضع الذي ينطلق منه الداعي أساسه موقف موضوعي، الإنسان مادام قلبه ينبض هو في بحبوحة الهداية، بحبوحة الرشاد، فأنا عليّ أن أوضح له، أن أتلطف به، أن أدعوه بالحكمة والموعظة الحسنة، وأن أكون قدوةً أمامه، أما هو حينما يستجيب فهذا من تكريم الله للداعية وللمدعو.
التكفير لا يحتاج إلى قواعد :
المذيع:
فمهمتي في هذه الحالة:
﴿فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ*لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُسَيْطِرٍ﴾
لكن كما سمعنا أنه منذ فترة وجيزة صدر كتاب يحمل قواعد التكفير، ما رأيكم بمثل هذا الكتاب هل نحن بحاجة إليه؟
الأستاذ راتب:
التكفير لا يحتاج إلى قواعد.
هل يجوز للداعي إلى الله أن يستخدم وسائل غير مشروعة في دعوته ؟
المذيع:
المشارك محمد، محمد من الجنسية التايلندية، هل يجوز للداعي إلى الله عز وجل أن يستخدم وسائل غير مشروعة في دعوته إلى الله عز وجل؟
الأستاذ راتب:
أبداً الأهداف النبيلة لا يمكن أن نصل إليها إلا بالوسائل النبيلة، فالهدف لا يبرر الواسطة، هذا في الإسلام، الأهداف النبيلة وسائلها نبيلة، الأهداف الشريفة وسائلها شريفة، أما أن أصل إلى هدف أتوهمه نبيلاً بأسلوب خسيس، أو قذر، فهذا ليس من صفة الدين إطلاقاً، هذا من صفة السياسة، أما في الدين فالأهداف النبيلة لا أصل إليها إلا بأساليب نبيلة.
هل يجوز للإنسان أن يستخدم وسيلة منحرفة للوصول إلى هدفه ؟
المذيع:
هذه العبارة مأخوذة من كتاب الأمير لميكافللي الفيلسوف الإيطالي عندما قال: "الغاية تبرر الوسيلة"، لذلك إذا درسنا سيرة النبي صلى الله عليه وسلم لم نجد يوماً من الأيام أنه استخدم وسيلة سيئة، شريرة، منحرفة للوصول إلى الهدف.
الأستاذ راتب:
لا لأن الحق هو الله عز وجل، الحق لا يستحي به، والحق لا يخشى البحث، والحق لا يحتاج أن تكذب له، ولا أن تكذب عليه، والحق لا يحتاج أن تبالغ فيه، ولا أن تقلل من خصومه، الحق فوق كل ذلك، الحق أكبر من ذلك، أكبر من أن تكذب له، أكبر من أن تصل إليه بوسيلة ليست مشروعة، أكبر من أن تكون الوسيلة ليست كاملةً:
((قَدْ تَرَكْتُكُمْ عَلَى الْبَيْضَاءِ لَيْلُهَا كَنَهَارِهَا لَا يَزِيغُ عَنْهَا بَعْدِي إِلَّا هَالِكٌ))
الفقهاء قالوا: لو أن جامعاً يتسع لمئة ألف مصلٍّ، وانتخبنا أعظم خطيب في البلدة، وألقى عليهم خطبةً، لمجرد أن نغلق الباب فالصلاة باطلة، لأن هذا الدين دين الله، لكل الخلق، دعوة محدودة لا يوجد، دعوة مغلقة لا يوجد، وسيلة غير مشروعة لا يوجد:
(( قَدْ تَرَكْتُكُمْ عَلَى الْبَيْضَاءِ لَيْلُهَا كَنَهَارِهَا لَا يَزِيغُ عَنْهَا بَعْدِي إِلَّا هَالِكٌ ))
ما مضمون قوله تعالى: " يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ " ؟
المذيع:
جزاكم الله كل خير، رسلان ينيف من المشاركين، يسأل عن مضمون قول الله تعالى:
﴿ ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ ﴾ ﴾
أي هذه الكينونة كيف تكون؟
الأستاذ راتب:
الحقيقة أن الإنسان ابن بيئته، وابن مجتمعه، وابن محيطه، وابن من حوله، فحينما ينهج منهجاً قويماً لا بد له من بيئة صالحة، أي
﴿ ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ﴾ ﴾
هل أدلكم على طريقة كي تتقوا الله؟ كونوا مع الصادقين، أي أنت لن تستطيع أن تنمو إلا في مجتمع مؤمن، لا تصاحب إلا مؤمناً، لا يأكل طعامك إلا تقي، العلاقات الحميمة ينبغي أن تكون مع المؤمنين، لأن المؤمن ما لم يكن مع المؤمن يضعف.
إناء فيه ماء ملوث وإناء فيه ماء صاف، فإذا مزجناهما من يتضرر؟ الماء الصافي وحده يتضرر.
فالمؤمن إذا كان مع غير الصادقين يتلوث، يبتعد، ربنا عز وجل يقول:
﴿ ﴿ وَلَا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ﴾ ﴾
لابد للمؤمنين من أن يتعاونوا:
(( (( وَجَبَتْ محبَّتي للمُتَحَابِّينَ فيَّ، والمُتجالِسينَ فيَّ، والمُتزاورينَ فيَّ، والمتباذلينَ فيَّ المتحابُّون في جلالي لهم منابرُ من نُور، يغبِطهم النبيُّون والشهداءُ )) ))
الإناء الملوث إذا خلطناه مع الإناء النظيف تلوث النظيف ولم يتضرر المتلوث، كذلك المؤمنين، علاقات العمل مسموحة، أما العلاقات الحميمة فهذه ينبغي أن تكون مع المؤمنين:
﴿ ﴿ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ ﴾ ﴾
بعض الاتجاهات تقول إنه لا يوجد أناس صادقون هل هذا صحيح ؟
المذيع:
هذا يقودنا إلى التساؤل التالي؟ بعض الاتجاهات أو الشخصيات الخاصة ربما تكون في سيرها فتقول: بأنه لا يوجد صادقون، أو لا توجد تلك الجماعة المؤمنة، لذلك أنا أكتفي بنفسي، أو بنوع من الانغلاق، مع العلم أن هناك قاعدة: ما من زمان إلا وفيه قائم لله بحجة، هؤلاء من الصادقين.
الأستاذ راتب:
(( (( لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق، لا يضرهم من خالفهم حتى تقوم الساعة)) ))
العبرة أن الحق لا يمحى إطلاقاً، لا بد من مجال تجد فيه الحق الصحيح، ابحث عنه:
﴿ ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ ﴾ ﴾
لأن حجة الله قائمة دائماً:
﴿ ﴿ وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا ﴾ ﴾
متى يعتبر الداعية فاشلاً في دعوته: الله وهل عليه أن يلتزم نوعاً خاصاً من اللباس؟
المذيع:
جزاكم الله كل الخير.
يسأل من ساحل العاج الأخ المشارك محمد سيسي، متى يعتبر الداعية فاشلاً في دعوته إلى الله؟ وهل على الداعية أن يلتزم نوعاً خاصاً من اللباس؟
الأستاذ راتب:
لمجرد أن يفشل الداعية، أو أن يخفق، الفشل هو الضعف، الصواب هو الإخفاق، لمجرد أن يخفق الداعية في دعوته إلى الله، ولمجرد أن يعزوها إلى الله، فقد أنكر كلام الله، لقوله تعالى:
﴿ ﴿ إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ﴾ ﴾
فإن لم ينتصر، إن لم تنجح دعوته، فليتهم نفسه، لولا أن في نفسه خللاً لنجحت دعوته، لأن الله سبحانه وتعالى يقول وقوله الحق: لزوال الكون أهون على الله من ألا يقع وعده ووعيده،
﴿ ﴿ إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ﴾ ﴾
فالداعية إذا أخفق، فإخفاقه منه لا من الله، أي هناك خلل في عقيدته أو في سلوكه.
هل هناك ترابط بين الإخفاق بالدعوة وحقيقة الدعوة ؟
المذيع:
لا ترابط مطلقاً بين شيءٍ اسمه الإخفاق بالدعوة وحقيقة الدعوة؟
الأستاذ راتب:
﴿ ﴿ وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ﴾ ﴾
إن لم تنجح بمطلق النجاح اتهم جنديتك لله.
ما هي أهم الصفات التي يحتاج الداعية الإسلامي الناجح ؟
المذيع:
الأخ كانتي أبو بكر أيضاً من ساحل العاج يسأل عن موضوع القدوة الحسنة، ما هي أهم الصفات الأخرى التي يحتاج الداعية الإسلامي الناجح؟ هل هي التي ذكرتموها، ربما يقصد الواقع العملي من أسلوب التعامل.
الأستاذ راتب:
الداعية الناجح من صفاته: القدوة قبل الدعوة، والإحسان قبل البيان، والتعريف بالآمر قبل الأمر، والتعريف بالأصول قبل الفروع، ومخاطبة العقل والقلب معاً، والتعريف بالمبادئ قبل الأشخاص، وبالمضامين قبل العناوين، وبالتدرج قبل الطفرة، وبالترغيب لا الترهيب، وبالتبشير لا التحذير، هذه مبادئ الدعوة إلى الله، وكلها مقتبسة من آيات كريمة، ومن أحاديث، أما هو حينما يكون في موضع أي موضع أخلاقي، فالدعوة إلى الله صنعة الأنبياء، والمؤمن مرتبة علمية، ومرتبة أخلاقية، ومرتبة جمالية، لا يستطيع الداعية أن ينتزع إعجاب الناس وأن يحملهم على طاعة الله، وأن يقودهم إلى الخير، إلا إذا كان هو في نظرهم في أعلى مستوى من العلم والخلق والذوق، الدعوة إلى الله لها خط علمي، وخط سلوكي، وخط جمالي، فلا بد من أن يجمع الداعية بين الخطوط الثلاث كي يستطيع أن ينهض بدعوته.
ما المقصود بالخط الجمالي ؟
المذيع:
ما المقصود بالخط الجمالي؟
الأستاذ راتب:
الاتصال بالله.
ما معنى الاتصال بالله ؟
المذيع:
الاتصال بالله!!
الأستاذ راتب:
الاتصال بالله والنعيم بقربه، في الدنيا جنة من لم يدخلها لن يدخل جنة الآخرة، ماذا يفعل أعدائي بي بستاني في صدري؟ هذه الناحية الجمالية في الداعية، هذا اسمه الزخم الروحي، الإنسان إذا كان متصلاًً بالله يحدث أثراً كبيراً، قد يأتي إنسان، يتكلم كلاماً دقيقاً، وفصيحاً، وعميقاً، ومدعماً بالشواهد والأمثلة، واتصاله بالله ضعيف، لا يؤثر في طفل، وقد يأتي إنسان بعلم أقل، لكن بإخلاص أشد، وبقرب من الله عز وجل، يفعل فعل السحر في الناس، لأن الله أعطاه قوة لكلامه، جاءت من إخلاصه وطاعته.
هل الجمالية هي جمالية الصلة بالله التي تنعكس على الآخرين ؟
المذيع:
إذاً الجمالية في الكلية التي ذكرتها هي جمالية الصلة بالله التي تنعكس على الآخرين؟
الأستاذ راتب:
﴿ ﴿ أَلاَ بِذِكْرِ اللّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ ﴾ ﴾
هو مطمئن، متوازن، واثق من الله عز وجل.
ما هو الطريق لتحقيق الإخلاص ؟
المذيع:
سبحان الله هذا السؤال يتعلق بنفس الموضوع، أن الداعية يحتاج إلى الإخلاص، ما هو الطريق لتحقيق هذا الإخلاص؟ وما هو المقياس؟ حتى نستطيع أن نقول: إن فلاناً مخلص أم لا؟
الأستاذ راتب:
إذا قلنا: إن للإخلاص مؤشراً يتحرك، هذا المؤشر يشابه مؤشر التوحيد، أنت مخلص بقدر ما أنت موحد بالضبط، أي لو فرضنا دخلت إلى دائرة حكومية، فيها مئة موظف، وقضيتك لا يحلها إلا واحد، هل تبذل ماء وجهك للآخرين؟ أبداً، تتجه إلى هذا الواحد فقط، وتطلب منه الموافقة .
والمؤمن حينما يعتقد أن الله وحده هو الذي يعطي، وهو الذي يمنع، هو الذي يرفع، وهو الذي يخفض، هو الذي يعز، وهو الذي يذل، هو الذي يقبض، وهو الذي يبسط، لا يتوجه إلى شيءٍ آخر:
﴿ ﴿ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ ﴾ ﴾
ما أمرك أن تعبده إلا بعد أن طمأنك أن الأمر كله راجع إليه، فأنت مخلص بقدر ما أنت موحد، وقد يضعف إخلاص الإنسان كضعف توحيده:
﴿ ﴿ فَلَا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ فَتَكُونَ مِنَ الْمُعَذَّبِينَ ﴾ ﴾
أنت حينما تأخذ بالأسباب وتعتمد عليها فقد أشركت، وحينما لا تأخذ بها فقد عصيت، المؤمن يأخذ بالأسباب ويعتمد على الله.
كيف نقنع المسلمين في أمريكا بأن يعطوا الدعوة مفهوماً عملياً ؟
المذيع:
هنا السائل من الولايات المتحدة الأمريكية، يسأل كيف يمكن لنا أن نقنع المسلمين في أمريكا بأن يعطوا الدعوة مفهوماً عملياً؟ ويدرك أن دعوة الإسلام هو جزءٌ مهم في حياتهم.
الأستاذ راتب:
أنا الذي أتصوره أن الأجانب لا يعنون كثيراً بالفكر النظري الإسلامي، هم يريدون مجتمعاً إسلامياً يطبق الإسلام ويقطف ثماره، لا نستطيع أن نقنعهم إلا بمجتمعات إسلامية معافاة من كل أمراض العصر، أنا بلغني أن في بعض المدن في أمريكا مجموعة من المؤمنين شكلوا حياً، لا دعارة فيه، ولا مخدرات، ولا جريمة، وفيه مظاهر إسلامية صارخة، فهذا الحي الكبير تهافتت الشركات كلها على أن تفتح به محلات تجارية، فنحن في نظر الأجانب لا يصدقوننا إلا إذا قطفنا ثمار هذا الدين، أما إذا تكلمنا في الدين فلا يقنعون بذلك، يريدون أن يروا مجتمعاً إسلامياً يقطف ثمار هذا الدين العظيم، العمل هو الذي يشد الناس إلى الدين، الثمار اليانعة التي يقطفها المؤمن والمجتمع المؤمن من الدين لا تكون إلا بالعمل، والله أعلم.
لو أن المسلمين في أمريكا كانوا في أعلى مستوى من التطبيق العملي لكان حال الإسلام في أمريكا غير هذا الحال، أنا أذكر أنني كنت في الحج التقيت برجل من ألمانيا الغربية، سبب إسلامه طالب استأجر عنده غرفة، ولهذا الرجل فتاة جميلة جداً، وليس عنده مانع أن يكون هناك لقاء بين هذا الشاب وبين ابنته، تمنى أن يضبطه وهو ينظر إليها، أبداً، لفت نظره، فحاوره فأقنعه بالإسلام، طالب واحد طبق أمراً إلهياً وهو غض البصر كان سبب إسلام رجل مفكر.
الطلاب في أوربا وأمريكا إذا طبقوا هذا الدين تطبيقاً حقيقياً، وقطفوا ثماره، هم دعاة إلى الله وهم ساكتون، ويمكن أن تكون أكبر داعية إلى الله وأنت ساكت، أنت داعية بعملك لا بلسانك.
ما رأيكم بمقابلة العنف بالعنف ؟
المذيع:
ما رأيكم هنا بالفكرة التي تعرض فتقول: في المجتمعات الغربية ربما العنف، الجريمة هي السائدة، فنحن يجب أن نحمي أنفسنا بالنسبة للمسلمين الذين هناك، فنقابل العنف بالعنف، أي إذا لم تكن ذئباً أكلتك الذئاب، من هذا الباب.
الأستاذ راتب:
هذه ليست بآية ولا حديث.
المذيع:
إذاً معالجة العنف بالعنف؟
الأستاذ راتب:
حق الدفاع عن النفس مشروع فقط، حق الدفاع.
هل يشترط للداعية أن يكون له معلم أم يكفي قراءة الكتب؟
المذيع:
هل يشترط حتى يصبح الإنسان داعية ناجحاً إلى الله عز وجل أن يكون له معلم ومدرب ومؤدب حتى تتحقق فيه الصفات؟ أم يكفي قراءة الكتب ومراجعة المؤلفات وحفظ القرآن والأحاديث؟
الأستاذ راتب:
للإمام الشاطبي في موافقاته يرى أن العلم لا يؤخذ إلا عن معلم ورع متحقق، لو أن العلم يؤخذ من الكتب وحدها لألغينا ألوف الملايين من الإنفاق على رواتب المدرسين في العالم، العلم لا يؤخذ إلا عن عالم، متحقق، ورع، فلذلك تلقي العلم على أيدي العلماء شيء أساسي في طلب العلم.
ما هي صفات العالم الذي ينبغي على الداعية أن يتلقى العلم عنه ؟
المذيع:
ما هي صفات هذا العالم؟ ربما يدّعي أنه عالم؟
الأستاذ راتب:
التحقق، والورع، وأن يكون ملماً بأصول الدين، متحققاً منها، عنده الدليل التفصيلي، وعنده القدرة على أن يرد على كل شبهات الأعداء، وأن يكون متمثلاً بمنهج الله عز وجل في حياته، إذا كان متمكناً من العلم، مطبقاً لمنهج الله في حياته، أي كان عالماً عاملاًً يمكن أن نأخذ عنه العلم.
ما مفهوم حديث النبي "يحمل هذا العلم من كل خلف عدولهم" ؟
المذيع:
إذاً مفهوم حديث النبي صلى الله عليه وسلم الذي ضعفه بعضهم وحسنه بعضهم:
(( (( يحمل هذا العلم من كل خلف عدولهم)) ))
ينفون عنه تحريف الغالين، وانتحال المبطلين، وتأويل الجاهلين.
هؤلاء العدول، أي ظهر في الآونة الأخيرة نوع من الدعوة غير جيد، والواجب عليك أن تعود إلى كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وما سواهما أي إنسان يتكلم ضعه جانباً، كيف لنا؟
الأستاذ راتب:
(( ((أمتي كالمطر لا يُدرى أوله خير أم آخره)) ))
(( ((الخير فيَّ وفي أمتي إلى يوم القيامة)) ))
فالأرض لا تخلو من عالم مخلص، هذا أولاً.
لكن إذا قال الأخ الكريم: نحن معنا الكتاب والسنة، وما إذا تمسكنا بهما فلن نضل أبداً، كتاب الله بين أيدينا، قال تعالى:
﴿ ﴿ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ ﴾ ﴾
ما دامت سنة النبي صلى الله عليه وسلم مطبقة في حياتنا فنحن في بحبوحة من عذاب الله، وإذا خرجنا عن سنة الله واستغفرنا فنحن في بحبوحة أخرى، أما أن نتفلت من منهج الله، وأن نسأل الله التوفيق والهدى، فهذا ذنب من الذنوب، طلب الجنة من غير عمل ذنب من الذنوب.
ما مفهوم قوله تعالى: "وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ " ؟
المذيع:
أي مفهوم قوله تعالى:
﴿ ﴿ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ ﴾ ﴾
الأستاذ راتب:
أي سنتك فيهم قائمة.
المذيع:
قائمة بمن؟
الأستاذ راتب:
هم الذين يطبقونها.
المذيع:
هم العلماء!
الأستاذ راتب:
طبعاً.
المذيع:
هم العلماء الذين هم ورثة الأنبياء.
الأستاذ راتب:
أبداً.
العلماء دورهم لا يلغى أبداً، وإذا شذّ البعض عن منهج الله الصحيح، وإذا قصر البعض، وإذا تجاوز البعض، فليس معنى هذا أن نلغي دور العلماء، ننصح هؤلاء، مقولة ثابتة نتعاون فيما اتفقنا، ويعذر بعضنا بعضاً فيما اختلفنا، ولها تعديل، نتعاون فيما اختلفنا وينصح بعضنا بعضا فيما اختلفنا.
ما أهمية معرفة الله بالنسبة للدعاة ؟
المذيع:
الأخ عبيد الله من طاجاكستان يتحدث أنكم ذكرتم سيدي عن موضوع أهمية معرفة الله بالنسبة للدعاة كيف يمكن لنا أن نتحقق إلى مطاف معرفة الله؟
الأستاذ راتب:
الحقيقة هناك علم بالله، وعلم بأمره، وعلم بخلقه، العلم بخلقه علوم الغرب، رياضيات، فيزياء، كيمياء، تاريخ، جغرافيا، علم نفس، علم اجتماع، الخ.
والعلم بأمر الله الفقه، وأصوله، وتفاصيله، وأبوابه، أما العلم بالله فشيء آخر، العلم بخلقه، وبأمره، وسيلته المدارسة، سماع محاضرة، قراءة كتاب، مراجعة كتاب، تأدية امتحان، نيل شهادة، هذه مدارسة، الأذكياء ينجحون بهذه العلوم قطعاً.
أما العلم بالله فشيء آخر، العلم بالله ثمنه المجاهدة لا المدارسة، المجاهدة أن تحمل نفسك على طاعة الله، وأن تجاهد نفسك، وهواك، فلذلك قال الإمام الغزالي: "جاهد تشاهد"، العلم بخلقه وبأمره يحتاج إلى مدارسة، وطبعاً الحقائق بالدماغ لا تصل إلى النفس فتسمو بها.
أما العلم بالله فثمنه باهظ، لكن نتائجه باهرة، نتائجه سمو في النفس، واصطباغ بصبغة الله تعالى:
﴿ ﴿ صِبْغَةَ اللَّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنْ اللَّهِ صِبْغَةً ﴾ ﴾
فالعلم بالله شيء، طريقته الكون وما فيه من آيات، وكلام الله وما فيه من دلائل، وخلقه، وأمره، وأفعاله، إذا تأملنا فيها وصلنا إلى معرفة الله.
ما سبب تفرق المسلمين ؟
المذيع:
جزاكم الله كل خير.
المشارك إسماعيل عبد الكريم من تركستان الشرقية، هذه تابعة إلى الصين، يقول لأي سبب يتفرق المسلمون؟ والله عز وجل يقول:
﴿ ﴿ إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ﴾ ﴾
الأستاذ راتب:
الشيء الذي يعتصر القلب أن الأعداء يتعاونون على خمسة بالمئة من القواسم المشتركة، بينما المسلمون يختلفون على خمسة وتسعين بالمئة من القواسم المشتركة، ينبغي ما دام الإله واحداً، والنبي واحداً، والقرآن واحداً، والقواسم التي بيننا لا تعد ولا تحصى، فلابد من أن نتعامل مع بقية المؤمنين بأصول الدين، وبالنقاط المشتركة، وبالتقاطعات.
لو أن كل داعية ألزم نفسه أن يبتعد عن الخلافيات، وأن يبقى في الأصل الواحد الجامع، الجامع الواحد، بهذه الطريقة يلتئم شمل المسلمين، ويتعاونون، لو تركنا النصوص الموضوعة وبقينا في النصوص الصحيحة لاجتمعنا، لو تركنا كل الخلافيات، لو اتفقنا على أن أصول الدين هذه، أما التفاصيل، وأما وجهات النظر الضيقة جداً، لو تجاوزناها قليلاً لاجتمعنا، والله سبحانه وتعالى لا يرضى عنا أن نتفرق:
﴿ ﴿ وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ ﴾ ﴾
﴿ ﴿ إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ ﴾ ﴾
هذه إنما تفيد القصر، ما لم تنتم إلى مجموع المؤمنين فلست مؤمناً، أما إذا انتميت إلى جماعة صغيرة، وتعصبت لها، واعتقدت أنها وحدها الناجية، وأسقطت اعتبار كل الجماعات الأخرى، هذا ليس من الإيمان، لن تكون مؤمناً إلا إذا أعلنت انتماءك إلى مجموع المؤمنين، وتعاونت معهم، هذا الذي يرفع من قيمة المؤمنين، هذا الذي يعينهم على أن يصلوا إلى أهدافهم التي وضعوها أمامهم.
من يصلح لعمارة الأرض ؟
المذيع:
ذكرتم أستاذي نقطةً هنا، أن الآخرين وهم كثيرون من أعداء الإسلام يجتمعون ولو في نقاط صغيرة جداً، نقاط التوافق، أي مضمون قوله تعالى:
﴿ ﴿وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ ﴾ ﴾
أكثر المفسرين اجتمعوا على أنه من يصلح لعمارة الأرض؟ ومن شروط إعمار الأرض الكلمة الواحدة، المسلمون إذاً لم يكونوا صالحين بمفهوم العمل بالقرآن الكريم.
الأستاذ راتب:
لابد من أن يتعاونوا، وأن يجتمعوا، وأن يبحثوا عن القواسم المشتركة، أن يدعوا التفاصيل، أن يدعوا التفاصيل التي تفرقهم، وتفت من عضدهم.
ما أسباب تخلف المسلمين وما علاج ذلك ؟
المذيع:
من الأخ محمد إنعام الحق من الباكستان، يسأل السؤال الذي تحدثتم به الآن، حبذا لو تعطونا تصوراً عن أسباب تخلف المسلمين؟ وما العلاج؟ مع أنه يوجد جامعات، ومعاهد، وكتب، ومؤلفات كثيرة.
الأستاذ راتب:
نحتاج إلى دعاة مخلصين، كما قلت قبل قليل: الكتاب وحده لا يكفي، نحتاج إلى دعاة متفهمين حقيقة الدين، ومقاصد الشريعة، وأساليب الدعوة التي استخدمها النبي، نحتاج إلى دعاة أفقهم واسع، عقلهم مفتوح، نظرتهم موضوعية، نفسهم متسامحة، هذه الصفات الكبيرة جداً في الدعاة هي التي يعول عليها في رأب الصدع، ولمّ الشمل، وتحقيق الهدف الكبير من الدعوة إلى الله.
ما واجب العلماء و الأمراء ؟
المذيع:
كما يذكر كثير من العلماء ومن بينهم سماحة مفتي الجمهورية العربية السورية بأنه إذا صلح هؤلاء الصنفان من الناس صلحت الأمة كلها، العلماء والأمراء، ودائماً نوجه الخطاب إلى العلماء أنكم أنتم المسؤولون، عن وحدتها وتماسكها، عن تطورها أو تراجعها.
الأستاذ راتب:
العلماء هم الذين يعلمون الأمر والنهي، والأمراء هم الذين يطبقون الأمر والنهي، أناس يعلمون، وأناس يطبقون، والتعاون بينهم ضروري جداً.
الآية التالية هل نشاهدها الآن حقيقة واقعة ؟
المذيع:
جزاكم الله كل خير.
من الأخ من روسيا حسين حمزة توف، يقول: قوله تعالى:
﴿ ﴿ وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً ﴾ ﴾
هذه الآية في الوقت الحاضر ربما لا نشاهدها حقيقة واقعة؟
الأستاذ راتب:
لهم علينا ألف سبيل وسبيل، الواقع:
﴿ ﴿وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي ﴾ ﴾
هذا الشرط، إذا أخلّ الفريق الثاني بما عليه من العبادة فالله سبحانه وتعالى في حله من الوعود الثلاث.
﴿ ﴿ فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيّاً ﴾ ﴾
فلا بد من أن نعود إلى العبادة الصحيحة التي هي علة وجودنا.
﴿ ﴿ وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ ﴾ ﴾
إذا عدنا إلى طاعة الله، المبنية على معرفة الله، التي ينتج عنها اتصال بالله، وسعادة بقربه، هذه العبادة الصحيحة هي التي تجعلنا أهلاً كي نستخلف في الأرض، ولن تغلب أمتي من اثني عشر ألفاً من قلة، المسلمون يعدون الآن مليار ومئتي مليون.
بماذا يجاهد المسلمون اليوم ؟
المذيع:
سيدنا عمر لما أرسل برسالته إلى سعد بن أبي وقاص يوصيه فيه قبل معركة القادسية، فذكر له بأن الفضل الذي يتميز به المسلمون عن أعدائهم هو: فضل التقوى لله عز وجل، أما إذا وكل المسلمون إلى أنفسهم فالعدو هو الأكثر قوة، هو الأكثر صلاحاً لهذه المعركة، فبأي شيء يجاهد المسلمون؟
الأستاذ راتب:
تعليقي على هذا أن المعركة بين حقين لا تكون أبداً، لأن الحق لا يتعدد، والمعركة بين حق وباطل لا تدوم، لأن الله مع الحق، أما المعركة بين باطلين فلا تنتهي، فإذا كنا مع الله عز وجل كان الله معنا، إذا كان الله معك فمن عليك؟ وإذا كان عليك فمن معك؟
ما دور المسلمين في الغرب لنشر الدين الإسلامي العظيم ؟
المذيع:
السؤال الأخير من الأخ محمد ياسين كمال من الولايات المتحدة، يقول: إنهم في الولايات المتحدة يجدون مصاعب كثيرة في الدعوة إلى الإسلام، والسبب في ذلك هو أن الإعلام الغربي الذي يسيطر عليه قطعياً الأيدي الصهيونية يصور الإسلام بصورة الإرهاب، بصورة التطرف، بصورة العداوة الإنسانية، حب القتل، حب التدمير، مثال هذه القضايا، كيف لنا مع هذا الواقع أن نفعل؟
الأستاذ راتب:
والله لا بد من أن ينهض المسلمون لينشروا هذا الدين العظيم في بلاد الغرب، بأسلوب يفهمه أهل الغرب، هناك تقصير كبير من المسلمين في نشر دينهم، لابد من أن تنشأ مراكز إسلامية، ويذهب الدعاة، تؤلف الكتب، تطبع النشرات، تذاع المبادئ الأساسية في الإذاعات، لابد من أن نستخدم سلاحهم نفسه الذي نُحارب به، فهذا من تقصير المسلمين، الدعوة إلى الله فرض من الله عز وجل:
﴿ ﴿ وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ ﴾ ﴾
هناك فرض عين وفرض كفاية، تواصوا بالحق فرض عين، كل مسلم ينبغي أن يكون داعية إلى الله، بدليل قوله تعالى:
﴿ ﴿ قُلْ هَـذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَاْ وَمَنِ اتَّبَعَنِي ﴾ ﴾
من لم يدع إلى الله على بصيرة ليس متبعاً لرسول الله، واتباع رسول الله فرض عين على كل مسلم.
فالدعوة إلى الله كفرض عين دعوة فيما تعلم ومع من تعرف، فيما تعلم ومع من تعرف، هذه فرض العين، أما فرض الكفاية فدعوة واسعة مبنية على علم غزير، وإطلاع واسع، وثقافة عميقة، ووسائل فعالة ناجحة في نشر هذا الدين.
خاتمة و توديع :
المذيع:
جزاكم الله كل خير، وهنا يحضرنا عبارة ذكرها الشيخ محمد عبده عندما خاطب المستشرق الفرنسي هانوتو، قال له: قبل أن أدعوك إلى الإسلام أريد أن أعرفك شيئاً بأن هؤلاء الذين تراهم أمامك ليسوا مسلمين حقيقيين، فالإسلام قوة وهم ضعفاء، والإسلام عزة وهم في ذل، والإسلام علم وهم في جهل، شبه ادعاء المسلمين في عصره بأن الإسلام هو الجوهرة، وما المسلمون حوله إلا كأفعى- هكذا العبارة وردت- تلتف حول هذه الجوهرة، لا هي تنتفع بها، ولا تترك الآخرين ينتفعون بها.
أيها الأخوة المشاهدون، أيها الأخوة الحضور، باسمكم جميعاً نتوجه بالشكر الجزيل إلى فضيلة الأستاذ الشيخ الداعية الإسلامية الكبير محمد راتب النابلسي، على سعة صدره، وتحمله الكبير، ونفسه الطويل لإجابته على الأسئلة، ومحاضرته القيّمة، التي حملت عنوان: "القدوة الحسنة وأثرها في إصلاح النفوس"، جزاكم الله على حسن استماعكم وإصغائكم كل الخير، ونشكر باسمكم جميعاً فضيلة الأستاذ محمد راتب النابلسي على حضوره هذا اللقاء.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته