- ندوات تلفزيونية
- /
- ٠29برنامج درس تلفزيوني - قناة سوريا الفضائية
روى الإمام مالك في موطئه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلَّم قال:
(( ألا أخبركم بخير أعمالِكم، وأزكاها عند مليككم، وأرفعِها في درجاتكم، وخير لكم من إنفاق الذهب والفضة، وخير لكم من أن تَلْقَوا العدوّ فتضربوا أعناقهم، ويضربوا أعناقكم ؟!..))
قالوا: بلى يا رسول اللّه، قال: " ذكر الله ".
يبدو من خلال هذا الحديث الشريف، أن الذكر له شأن كبير في حياة المؤمن، كيف لا وقد وَرَد الذكر في القرآن الكريم في أكثر من ثلاثمئة آية.. تؤكد هذه الآيات في مجموعها، أن الذكر ينبغي أن يدور مع الإنسان، في كلّ شؤونه وأحواله وأطواره ؛ لأنّه عبادة القلب، والفكر، واللسان.. فمن الذكر.. أن تذكر الله في آياته الكونية.. وفي آياته القرآنية، وفي آياته التكوينية، وأن تذكره من خلال نعمه الظاهرة والباطنة، وأن تذكره في أمره ونهيه، وأن تذكره لعباده معرفاً به.. وأن تذكره في قلبك، وعلى لسانك مُسبِّحاً وحامداً وموحِّداً ومُكبَّراً، وأن تذكر ربوبيته لك فتدعوه وحدَه، في أحوالك كلّها، وأطوارك جميعها، وأن تذكره ذكراً كثيراً ؛ ليطمئن قلبك، ولينجلي همّك، ولينشرح صدرك، وليتَّسع رزقك، ولتنصرَ على عدوّك.
فمن الذكر التفكُّر في آيات الله في الآفاق وفي الأنفس، وهذا التفكُّر من أجل أن نعرف اللّه جل وعلا، وأن نُقَدِّره حقَّ قدره.. قال تعالى:
﴿ إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ (190) الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ (191)﴾
فمن هذه الآيات التي بثَّها الله في الآفاق، التجاذب الحركي فيما بين الكواكب والنجوم.. قال تعالى:
﴿ اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا﴾
فكلمة (ترونها) تفيد ـ فيما تفيد ـ أن الله جل وعلا، رفع السماوات بعمد لا نراها، إنها قوى التجاذب التي تنظم الكون كلّه، بدءاً من الذرَّة وانتهاء بالمجرَّة..
فالشمس مثلاً تجذِب إليها الأرض بقوة هائلة، بحيث تجري الأرض في مَسَار مُغلق حول الشمس، ولو انعدم جذب الشمس للأرض، لخرجت الأرض عن مسارها حول الشمس، ولاندفعت في متاهات الفضاء الكوني، حيث الظلمة والتجمد، وبزوالها عن مسارها ـ أي بانحرافها عنه ـ تزول الحياة فيها، إذ تصل درجة حرارتها إلى مئتين وسبعين درجة تحت الصفر.. وهي درجة الصفر المُطلق التي تنعدم فيه حركة الذرات. قال تعالى:
﴿ إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولَا﴾
ولكي ندرك قوة جذب الشمس للأرض، نفترض أن هذه القوة، انعدمت لسبب أو لآخر، ومن أجل أن تبقى الأرض مرتبطة بالشمس، تجري في مسارٍ حولها، لابدَّ من أن نربطها إلى الشمس بأعمدة مرئية من الفولاذ، والفولاذ من أمتن المعادن، ومن أعظمها تحمّلاً لِقوى الشد، فالسلك الفولاذي الذي قطره ميلمتر واحد، يتحمل من قوى الشد ما يعادل مئة كيلو غرام، إننا بحاجة إلى مليون مليون حبل فولاذي، طول كل حبل مئة وستة وخمسون مليون كيلو متر، وقطر الحبل الواحد خمسة أمتار، والحبل الواحد من هذه الحبال يتحمل من قوى الشدّ، ما يزيد عن مليوني طن، فكم هي قوة جذب الشمس للأرض ؟.. إنها مليونا طن مضروبة بمليون مليون، ثم إذا زرعنا هذه الحبال على سطح الأرض المقابل للشمس، لفوجئنا أننا أمام غابة من الحبال الفولاذية، بحيث تقلُّ المسافة بين الحبلين عن قطر حبل ثالث، هذه الغابة تحجب عنا أشعة الشمس، وتعيق كل حركة وبناء ونشاط.. كل هذه القوى الهائلة من أجل أن تحرف الأرض في مسارها حول الشمس ثلاثة ميلمترات كل ثانية.. لقد صدق الله العظيم إذ يقول:
﴿ اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا﴾
﴿ إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولَا﴾
هذه آية من آيات الآفاق، فماذا عن آيات النفس ؟؟ قال تعالى:
﴿ وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ (21)﴾
لو أن رجلاً كان يتنزَّه في بستان، ولَمَح فجأة كائناً مؤذياً قاتلاً، فما الذي يحدث في جسمه ؟!
ينطبع خيال هذا الكائن على شبكية العين، إحساساً، وينتقل هذا الإحساس الضوئي إلى المُخّ، فيصبح إدراكاً للخطر، وعندها يأمر المُخ ـ وهو ملك الجهاز العصبي ـ الغدة النخامية ـ وهي ملكة الجهاز الهرموني ـ بأن تواجه هذا الخطر !! هذه الملكة، تصدر أمراً لغدة الكظر لكي تعطي الجسم الجاهزية القصوى، لمواجهة الخطر، والكَظَر بدوره يعطي أمراً هرمونياً إلى القلب، ليُسرِّع نبضاته، ( فالخائف تزداد ضربات قلبه ) والكظر يعطي أمراً هرمونياً ثانياً، للرئتين، لتوافق وجيبها مع ازدياد نبضات القلب، ( فالخائف يزداد وجيب رئتيه فيلهث )، والكظر يعطي أمراً ثالثاً للأوعية الدموية فتضيق لمعتها، ليتحول الدم إلى العضلات ( فالخائف يصفرُّ لونه )، والكظر يعطي أمراً هرمونياً رابعاً للكبد، ليطرح في الدم كمية من السكر إضافية، والسكر مادة الوقود في العضلات، والكظر يعطي أمراً هرمونياً خامساً، للكبد ليزيد من هرمون التجلط منعاً من نزيف الدم. كلّ هذا في ثوان معدودة ؟!!..
﴿ هَذَا خَلْقُ اللَّهِ فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ﴾
وقال صلى الله عليه وسلَّم فيما رواه البخاري ومسلم:
(( مثل الذي يذكر ربّه، والذي لا يذكر ربّه، مثل الحي والميت ))