- ندوات تلفزيونية
- /
- ٠29برنامج درس تلفزيوني - قناة سوريا الفضائية
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته موضوع لقائنا اليوم التلازم الضروري بين التدين الصحيح والخلق القويم:
النبي صلوات الله وسلامه عليه، حدد الغاية الأولى من بعثته والمنهج الأمثل من دعوته، فقال فيما رواه الإمام مالك: إنما بعثت معلماً، إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق.
الهدف هو إرساء البناء الأخلاقي للفرد والمجتمع، والوسيلة هي التعليم لا التعنيف، والمتتبع لنصوص القرآن الكريم، وللسنة المطهرة الثابتة، يجد ذلك التلازم الضروري بين التدين الصحيح والخلق القويم.
قال تعالى:
﴿ أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ (1) فَذَلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ (2)﴾
هو نفسه، وقال صلى الله عليه وسلم: لا إيمان من لا أمانة له، ولا دين لمن لا عهد له، وقال عليه الصلاة والسلام: الإيمان والحياء قرناء جميعاً، فإذا رفع أحدهما رفع الآخر.
فالإيمان أيها الأخوة:
أساس الفضائل، ولجام الرذائل، وقوام الضمائر، وقد بين النبي عليه الصلاة والسلام، أن أحسن الناس إسلاماً أحسنهم خلقاً، وأن أكملهم إيماناً أحسنهم خلقاً، وأن من أحب عباد الله إلى الله أحسنهم خلقاً، وأن من أقرب المؤمنين مجلساً للرسول الله يوم القيامة أحسنهم خلقاً، وأن خير ما أعطي الإنسان خلق حسن، وأنه ما من شيء أثقل في ميزان المؤمن يوم القيامة من خلق حسن، وأما المؤمن ليدرك بحسن خلقه درجة الصائم القائم، بل إن العبد ليبلغ بحسن خلقه عظيم درجات الآخرة، والخلق الحسن كما قال عليه الصلاة والسلام: يذيب الخطاية كما يذيب الماء الجليد، والخلق السوء يفسد العمل كما يفسد الخل العسل.
أيها الأخوة الأحباب:
الناجح كل النجاح، والفلاح كل الفلاح، والفوز كل الفوز والسعادة كل السعادة باتصال النفس بربها، وتطهيرها من أدرانها وتحليتها بمكارم الأخلاق، والخيبة كل الخيبة، والخسارة كل الخسارة والشقاء كل الشقاء، في بعد النفس عن ربها، وتمرغها في وحول المادة، وتخبطها في ظلمات الشهوات.
قال تعالى:
﴿ قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا (9) وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا (10)﴾
وقال تعالى:
﴿ أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ (21)﴾
ومما يؤكد أيها الأخوة، ومما يؤكد هذا التلازم الضروري بين التدين الصحيح والخلق القويم، ما أورد الإمام أحمد في مسنده، عن النبي صلى الله عليه وسلم: أن رجلاً قال له يا رسول الله، إن فلانة تكثر من صلاته، إن فلانة تذكر من كثرة صلاته، وصيامه، وصدقته غير أنها تؤذي جيرانها بلسانها، قال هي في النار.
وقد ورد في صحيح مسلم، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم: سأل أصحابه يوماً، أتدرون من المفلس ؟ قالوا: المفلس فينا من لا درهم له ولا متاع. فقال: إن المفلس من أمتي من يأتي يوم القيامة بصلاةٍ وصيامٍ وزكاةٍ، ويأتي وقد شتم هذا، وقذف هذا، وأكل مال هذا، وسفك دم هذا، وضرب هذا، فيعطى هذا من حسناته وهذا من حسناته، فإن فنيت حسناته قبل أن يقضى ما عليه، أخذ من خطاياهم، فطرحت عليه، ثم طرح في النار.
ومن خلق النبي العظيم عليه أتم الصلاة والتسليم، أن عكرمة ابن أبي جهل، كان والده من ألد أعداء النبي صلى الله عليه وسلم ويوم فتح مكة، جاءت زوجته إلى النبي عليه الصلاة والسلام فأسلمت وقالت يا رسول الله: لقد هرب عكرمة إلى اليمن خوفاً منك فأمنه أمنك الله، فقال عليه السلام: هو أمن، فخرجت من ساعتها في طلبه وأدركته وقالت يا ابن العم: جئتك من عند خير الناس، من عند أفضل الناس، من عند ابر الناس، من عند محمد بن عبد الله، فقال ؟.... قالت نعم أنا سلمته فأمنك، وما زالت به تؤمنه وتطمئنه حتى عاد معها، فلما دنى عكرمة من مكة، قال النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه: سيأتيكم عكرمة بن أبي جهل مؤمناً مهاجراً، فلا تسب أباه فإن سب الميت يؤذي الحي ولا يبلغ الميت، هذه أخلاقه صلى الله عليه وسلم، ولما التقى عكرمة النبي صلى الله عليه وسلم، قال له والله ما دعوة إلا إلى حق، وما أمرت إلا بخير، وأنت أصدقنا حديثاً وأبرنا براً.
ومن خلق أصحابه الأطهار رضوان الله عليهم، أن ابن عباس رضي الله عنهما، كان معتكفاً في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فخرج من المسجد ليمشي في حاجة أخ له فقيل له، أنسيت أنك معتكف، قال لا، ولكن سمعت صاحب هذا القبر، والعهد به قريب فدمعة عيناه، وهو يقول من مشى في حاجة أخيه وبلغ فيها، كان خير له فيها من اعتكاف عشر سنين.
وقد سأل زيد الخير رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا رسول الله ما علامة الله فيمن يريد؟ وما علامته فيمن لا يريد ؟ فقال عليه الصلاة والسلام: كيف أصبحت يا زيد، قال أصبحت أحب الخير وأهله، وإن قدرت عليه بادرت إليه، وإن فاتني حزنت عليه، وحننت إليه، فقال هذه علامة الله فيمن يريد.
وقد أخرج البخاري رضي الله عنه في صحيحه، وصحيحا البخاري ومسلم، هما أصح كتابين بعد كتاب الله، أخرج البخاري أن رسول صلى الله عليه وسلم قال: تبسمك في وجه أخيك صدقة وأمرك بالمعروف ونهيك عن المنكر صدقة، وإرشادك الرجل في أرض الضلال لك صدقة، وإماطتك الأذى عن الطريق لك صدقة وإفراغك من دلوك في دلوي أخيك لك صدقة.
وفي الحديث القدسي: ليس كل مصلي يصلي... إنما أتقبل الصلاة ممن تواضع لعظمتي، وكف شهواته عن محارمي، ولم يصر على معصيتي، وأطعم الجائع، وكسا العريان، ورحم المصاب وآوى الغريب، كل ذلك لي، وعزتي و جلالي إن نور وجهه لأضوأ عندي من نور الشمس، على أن أجعل الجهالة له حلماً، والظلمة نوراً فيدعوني فألبيه، ويسألني فأعطيه، ويقسم علي فأبره، أكلؤه بقربي وأستحفظه ملائكتي، مثله عندي كمثل الفردوس، لا يتسنى ثمرها ولا يتغير حالها.
أيها الأخوة المؤمنون: هذه التوجيهات النبويه، سواء أكانت أقولاً أو أفعالاً، أو إقراراً، يجب العمل بها، لأن الله تعالى يأمرنا أن نعمل بها حيث يقول:
﴿ وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (7)﴾
بل إن علماء الأصول يقولون إن ما ثبت من السنة المطهرة هو وحياً غير متلو، استنباطا من قوله تعالى:
﴿ وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى (3) إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى (4)﴾
ويبدو أن الأخلاق الكريمة في الأصل مواقف يقفها الإنسان بدافع من مشاعر سامية، تملئ قلبه من خلال اتصاله بربه مصدر الحق والخير والجمال.
أيها الأخ الكريم:
من أجل أن يكون لك قلب كبير يفيض رحمة وحناناً، من أجل أن تحب معالي الأمور، وتكره سفسافها ودنيها شرع الصيام ليكون فرصة سنوية لإخراج المرء من ظلمات المعاصي إلى أنوار الطاعات ومن وحول الشهوات إلى معارج القربات، من السير المضني وراء جمع المال والثروات، إلى نعيم التقلب في رحمة رب الأرض والسماوات، من الأثرة إلى المأثرة، من المصلحتي إلى المبدأ، من الشهوة إلى العقل، من دنس المادة إلى طهر الروح، من شقاء الحياة إلى نعيمها، من مدافعة التدني إلى متابعة الترقي.
اللهم علمنا ما ينفعنا، وأنفعنا بما علمتنا، وزدنا علما، وإلى لقاء آخر، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.