- ندوات إذاعية
- /
- ٠13برنامج طريق الهدى - إذاعة القرآن الكريم - لبنان
المذيع:
الحمد لله رب العالمين، الحمد لله على نعمة الإيمان والإسلام، وكفى بها نعمة، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أيها الإخوة المستمعون، طريق الهدى وحلقات هذا البرنامج تتابع مع فضيلة الشيخ الدكتور محمد راتب النابلسي، أرحب به نيابة عنكم، أهلاً ومرحباً بكم، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
الأستاذ:
وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته.
المذيع:
فضيلة الشيخ وعدنا بالأمس أن نتابع الحديث عن مظاهر ضعف الإيمان، من مظاهر ضعف الإيمان كما ذكرنا سابقاً انتفاء اللذة في الطاعات لله عز وجل، سهولة الوقوع في المعصية، وقسوة القلب، ومن المظاهر التي نود أن نسلط الضوء عليها في حديثنا اليوم عدم إتقان العبادات، أي أنها ليست متطابقة مع سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
الأستاذ:
((يَا بِلَالُ أَقِمْ الصَّلَاةَ أَرِحْنَا بِهَا ))
((وَجُعِلَ قُرَّةُ عَيْنِي فِي الصَّلَاةِ ))
فرق كبير جداً بمنطلق أرحنا منها، وبين أن تصلي بمنطلق أرحنا بها، هذا الفرق بين الواجب وبين الحب، الحب ينتج عنه صلاة أرحنا بها يا بلال، وجعلت قرة عيني في الصلاة، والواجب أرحنا منها، وكأنها عبء كبير، نحب أن نتخلص منه، لذلك المنافق من صفاته البارزة:
﴿وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلَاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلَا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلاً (142)﴾
والمؤمن أجمل ما في عباداته أنه قريب من الله عز وجل.
عَنْ سَالِمِ بْنِ أَبِي الْجَعْدِ قَالَ: قَالَ رَجُلٌ، قَالَ مِسْعَرٌ: أُرَاهُ مِنْ خُزَاعَةَ لَيْتَنِي صَلَّيْتُ فَاسْتَرَحْتُ، فَكَأَنَّهُمْ عَابُوا عَلَيْهِ ذَلِكَ، فَقَالَ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ:
(( يَا بِلَالُ أَقِمِ الصَّلَاةَ أَرِحْنَا بِهَا ))
المذيع:
وكأن فضيلة الشيخ هي الميزان الدقيق.
الأستاذ:
ورد في بعض الأحاديث أن الصلاة ميزان، فمن وفى استوفى، من وفى الاستقامة حقها استوفى من الصلاة ثمراتها.
المذيع:
كي يختبر المسلم المؤمن إيمانه وسلامة عقيدته وأسلوبه ومنهجه إلى سبيل الله سبحانه وتعالى فعليه أن ينظر إلى صلاته.
الأستاذ:
مادام الخط سالكاً إلى الله معنى ذلك أنه ليس هناك معاصٍ، ولا مخالفات تحجبك عن الله، لأن المخالفات والمعاصي من شأنها أن تقيم حجابا حاجزاً بينك وبين الله، فالصلاة علامة رائعة جداً.
المذيع:
من أقامها أقام الدين، ومن هدمها هدم الدين.
الأستاذ:
ولا خير في دين لا صلاة فيه، بل إنها الفرض المتكرر الذي لا يسقط بحال، الحج يسقط عن الضعيف والمريض والفقير، الصيام يسقط عن المسافر والمريض، والزكاة تسقط عن الفقير، وإعلان الشهادة مرة واحدة في العمر، أما الفرض الوحيد المتكرر الذي لا يسقط بحال فهو الصلاة، مـن أقامها فقد أقام الدين، ومن هدمها فقد هدم الدين، إنها غرة العبادات، ومعراج المؤمن إلى رب الأرض والسماوات، وهي ميزان دقيق، من وفى الاستقامة حقها استوفى من الصلاة ثمراتها.
المذيع:
كيف يؤدي المسلم الصلاة من منطلق أرحنا بها ؟ هل لهذا الهدف مراحل خطوات ؟ عملية دقيقة ؟ علينا أن ننصح بها ؟ أحدهم تقول له: لمَ لا تصل ؟ يقول: لأنني لا أشعر باندفاع أو بتحرق لأداء الصلاة، وإذا فاتتني صلاة لا أبالي، وهكذا تكرر ترك الصلاة تكاسلاً وتهاوناً، كيف يمكن لهذا أن يشفى من ذلك المرض ؟
الأستاذ:
أولاً: لو أن لك جاراً من أكابر القوم، من علية القوم، وله ابن يلعب في الطريق، فضربته، وآذيته، وجرحته، وبلغت في الإساءة إليه، وفي اليوم التالي، وأنت تمشي في الطريق فإذا بوالد هذا الطفل الصغير وجهاً لوجه، ماذا يفعل هنا الإنسان ؟ يبتعد عنه، يصرف وجهه، لأن إساءته لابنه حجاب بينه وبين الأب، بالعكس: لو أن لك جاراً محترماً، من علية القوم، له ابن يسبح، كاد يغرق، فرميت بنفسك في الماء، وأنقذته، لو أنك رأيته في الطريق تقبل عليه مسلماً باشّ الوجه، عملك الطيب جعلك تقبل، والعمل السيئ يجعل صاحبه يحجم، فبادئ ذي بدء الإنسان لمجرد أن ينوي أن يستقيم على أمر الله، ولمجرد أن يكون محسناً لا مسيئاً، صادقاً لا كاذباً، طيباً لا خبيثاً، مخلصاً لا خائناً، واصفاً لا شاحناً، لمجرد أن تستجيب لله في أوامره، وأن تكون في خدمة خلقه تجد الطريق سالكاً إلى الله، لمجرد أن تقول: الله أكبر، تعرج نفسك إلى الله عز وجل، لأن الطريق سالك، والخط مفتوح، هذا الهاتف فيه حرارة، أما حينما يرتكب الإنسان معصية فكأنه جاء بمقص وقص الشريط، يرفع السماعة فلا يجد شيئًا، فأية معصية أو مخالفة هي خطر للخط الواصل بينك وبين الله، وأي استقامة أو عمل صالح هو تكريس لهذا الخط الواصل بينك وبين الله، فالحقيقة قضية الصلاة يمكن أن تصلي، يمكن أن تؤذن، وتقيم الصلاة، وأن تقف، وأن تنتصب، واقفاً وأن تركع مطمئناً، وأن تسجد كما صلى النبي الكريم، ولكن لا تشعر بشيء مادام هناك مخالفات وانحرافات، وهناك عدوان، وأكل مال حرام، وهناك نظرات لا ترضي الله، هذه كلها تجتمع في السنن والمخالفات، فتكون حجاباً بينك وبين الله، أما حينما تنضبط بين الصلاتين عندئذٍ تجد الطريق سالكاً إلى الله، كلمة:
﴿وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ﴾
لم يقل: صلوا، معنى أقيموا: مثلاً: إقامة البناء يحتاج إلى شراء أرض، يحتاج إلى رخصة، وإلى حفر أساسات، ولبناء هيكل، ولكسوة ولفرش، كلمة أقام بناء عمل جليل، وليس عملاً بسيطاً، فمن أجل أن تقول: الله أكبر، وأن تعقد هذه الصلة مع الله عز وجل هذا يحتاج إلى تمهيدات كبيرة جداً، أن تقف، وتركع، وتسجد هذه صلوات مادية، أما الاتصال بالله فيحتاج إلى الاستقامة على أمر الله، ويحتاج إلى صلح مع الله، وإحسان إلى الخلق، أن تقف، ولك وجه أبيض تجاه ربك.
المذيع:
هل للمسلم أن يبدأ بأداء الصلاة لمجرد الامتثال لأمر الله، ومن ثم يرتقي ؟
الأستاذ:
أنا معك في هذا مئة بالمئة، عليك أن تصلي، لأنها فرض، وعليك أن تتعرض لنفحات الله، فإن لربكم في أيام دهركم نفحات، ألا فتعرضوا لها، أنا أقف، وأخشع، وأصلي، وأنا مرتاح، أصلي، وأنا قد أكلت، أصلي في غرفة منفردة كي لا أشوش، أقيم وسائل الخشوع في الصلاة، وأعرض نفسي على تجليات الله ونفحاته، هذا الذي عليَّ فعْله، والله عز وجل لحكمة بالغة قد يتجلى علي، وقد يبكيني في الصلاة، قد أشعر أني أسعد الناس على الإطلاق في الصلاة، هذا من فضل الله علي، أما أنا فلابد من أن أصلي، ولابد من أن أقيم الصلاة كما أقامها النبي عليه الصلاة والسلام.
المذيع:
هنا إتقان العبادات، فيرتقي المسلم حينما يواظب.
الأستاذ:
عَنْ الْأَسْوَدِ قَالَ: سَأَلْتُ عَائِشَةَ: مَا كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَصْنَعُ فِي بَيْتِهِ ؟ قَالَتْ:
(( كَانَ يَكُونُ فِي مِهْنَةِ أَهْلِهِ، تَعْنِي خِدْمَةَ أَهْلِهِ، فَإِذَا حَضَرَتْ الصَّلَاةُ خَرَجَ إِلَى الصَّلَاةِ ))
كان عليه الصلاة والسلام فكأنه لا يعرفنا ولا نعرفه، من شدة ورعه، مثلاً: لو أن إنسانًا أراد أن يقابل شخصًا كبيرًا جداً تجده يعتني بهندامه، بمظهره، بتصفيف شعره، بأناقة ثيابه، يتعطر يدخل بأدب، يجلس بأدب، هذا مع إنسان من علية القوم، فكيف مع الواحد الديان ؟ موضوع الصلاة من أخطر موضوعات الدين.
المذيع:
متى يتحرق المسلم العاصي لنقل لأداء الصلاة ؟ كيف يقوى إيمانه كي يصل لهذه المرحلة ؟
الأستاذ:
المعصية نوعان: معصية كبر، ومعصية غلبة، وشتان ما بينهما، المغلوب قريب من الله، أما المستكبر فبعيد عن الله عز وجل، لعلك تقصد العاصي المغلوب، هذا عنده معدن طيب، ورغبة جانحة بالإيمان القوي، عنده محبة لله، لكن شهوته غلبت، فهو مكسور، وقد قال بعض العارفين بالله: " رُبّ معصية أدت إلى ذل وانكسار خير من طاعة أدت إلى عز واستكبار ".
فالمغلوب قريب من الله، أنا لا أقره على معصيته، ولكن لأنه يبكي، ويتحرق فهو قريب من الله، لذلك قالوا: الصلحة بلمحة، لمجرد أن يقول: يا رب، يقول: عبدي، وأنا قد قبلت، هذا الذي دعا ربه، وقال: يا رب، إذا كانت رحمتك بمن قال:
﴿فَقَالَ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى (24)﴾
فكيف علاقتك بمن قال: سبحان ربي الأعلى ؟ فرعون قال:
﴿فَقَالَ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى (24)﴾
﴿فَقُولَا لَهُ قَوْلاً لَيِّناً لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى (44)﴾
هذه رحمة الله بفرعون، وإذا كانت رحمتك بمن قال:
﴿مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي﴾
فكيف رحمتك بمن قال: لا إله إلا الله ؟
الحقيقة أن العبادات ـ والله ـ هذه الصلاة التي يصليها عموم المسلمين وهم في شرود، وهم في غفلة، وكأنهم يؤدون واجباً، وكأنهم ارتاحوا من الصلاة، ويقومون إليها قيام الكسالى، أما ـ والله ـ لو ذاقوا طعم القرب من الله لاستعدوا لها قبل حين، ولو وقفوا بين يدي الله بخشوع مطمئنين، ولكانت أحلى لحظات حياتهم.
أنا ـ والله ـ أرى حينما تكون هناك هذه العبادات في وادٍ والحياة في وادٍ آخر هذه علة مشكلات المسلمين، الدين في عهد رسول الله كان منهج كامل، طعامك، شرابك، زواجك، عملك، تجارتك، علاقاتك، سفرك، إقامتك، هذا الدين مئات ألوف القضايا....فحينما أقيم العبادات التعاملية تماماً تأتي العبادات الشعائرية، وعلى رأسها الصلاة، قمة في القرب من الله، أما حينما أقصر في العبادات التعاملية، كأن يكون كلامي غير صحيح، وليس وعدي صادقاً، وليس سلوكي مستقيماً، وأنا أناور، وأخادع، وآخذ ما ليس لي، وأغتاب، وأنمّ بين الناس، وأحقق مصالحي على أنقاض مصالح الناس، إذا جئت لأصلي ـ والله ـ ثمة حجب كثيفة، لا أجد طعماً للصلاة، لأني محجوب عن الله بهذه المعاصي، أما حينما أهتك هذه الحجب واحدة وَاحدة إلى أن يصبح الطريق إلى الله سالكاً أشعر بطعم القرب، وأي مؤمن عقب توبة نصوح، أو حج مبرور، أو صيام مقبول يشعر بطعم القرب.
أنا أقول كلمة: إن لم يقل المؤمن: أنا أسعد الناس إلا أن يكون أحد أتقى مني، ما لم يكن أحد أتقى مني فأنا أسعد الناس، فلا تكون ثمرة الصلاة واضحة عنده.
المذيع:
ماذا تقول لمن يصلي، ويضعف في بعض الأحيان أمام شهواته ؟
الأستاذ:
أقول له: تابع صلاتك، وتب إلى الله عز وجل، لعل صلاته تنهاه عن هذا، يقول الله عز وجل:
﴿إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ﴾
من أجمل ما قرأت عن هذه الآية:
﴿وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ﴾
أن ذكر الله أكبر ما في الصلاة، بدليل قوله تعالى:
﴿وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي﴾
هناك معنى آخر، أنت في الصلاة تذكر الله، لكن الله يذكرك، ذكر الله لك وأنت تذكره أعظم من ذكرك له، تذكره أنت طاعة له، أما هو يذكرك فيطمئنك، يلهمك الحكمة، ويلقي في قلبك السكينة والأمن، ييسر لك عملك، يمتعك بصحتك، يجعل لك أولاداً أبراراً، وزوجة صالحة، ورزقاً حلالاً، وسمعة طيبة، شتان بين ذكرك له وذكره لك، ولذكر الله لكم أكبر من ذكركم له.
المذيع:
لأنه سبحانه وتعالى هو الغني عن كل هذه الطاعات، إنما هي لمصلحة الإنسان.
الأستاذ:
عَنْ أَبِي ذَرٍّ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهم عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيمَا رَوَى عَنِ اللَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى أَنَّهُ قَالَ:
((... يَا عِبَادِي، لَوْ أَنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ، وَإِنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ كَانُوا عَلَى أَتْقَى قَلْبِ رَجُلٍ وَاحِدٍ مِنْكُمْ مَا زَادَ ذَلِكَ فِي مُلْكِي شَيْئًا، يَا عِبَادِي، لَوْ أَنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ، وَإِنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ كَانُوا عَلَى أَفْجَرِ قَلْبِ رَجُلٍ وَاحِدٍ مَا نَقَصَ ذَلِكَ مِنْ مُلْكِي شَيْئًا... ))
المذيع:
سبحانه وتعالى.
فضيلة الشيخ، الدكتور محمد رابت النابلسي، نتابع غداً بإذن الله الحديث عن مظهر من مظاهر ضعف الإيمان، والعياذ بالله، نسأل الله السلامة، ونسأل الله عز وجل أن يجعلنا من الذين يستمعون القول، فيتبعون أحسنه، أشكركم، وأشكر الإخوة المستمعين لحسن إصغائهم، السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.