- ندوات إذاعية
- /
- ٠13برنامج طريق الهدى - إذاعة القرآن الكريم - لبنان
الأستاذ زياد:
بسم الله والحمد لله، الحمد لله على نعمة الإيمان والإسلام وكفى بها نعمة والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أيها الإخوة المستمعون، السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، أحييكم، ويسرني أن أجدد اللقاء، وأرحب بفضيلة الشيخ الدكتور محمد راتب النابلسي، أهلاً ومرحباً بكم، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
الأستاذ راتب:
أهلا بكم أستاذ زياد.
الأستاذ زياد:
فضيلة الشيخ، توقفنا بالأمس، ووعدنا بالمتابعة، والحديث عن تكريم الله سبحانه وتعالى للإنسان، الإنسان أهو المكرم ؟ كيف ذلك ؟ وبأي معنى ؟
الأستاذ راتب:
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين.
أستاذ زياد، الإنسان هو المخلوق المكرم، لقوله تعالى:
﴿وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً (70)﴾
والإنسان هو المخلوق المكلف، لقوله تعالى:
﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ (56)﴾
الإنسان خليفة الله في الأرض، بل إن الكون كله مسخر له بنص الآية الكريمة:
﴿وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً مِنْهُ﴾
كلفه حمل الأمانة، العلماء يجمعون على أن الأمانة هي نفسه التي بين جنبيه، يؤكد هذا قوله تعالى:
﴿قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا (9) وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا (10)﴾
فهذه النفس إما أن تعرفها بالله، وإما أن تبقيها جاهلة، إما أن تحملها على طاعة الله، وإما أن تطلق شهواتها كما تريد، إما أن تضبطها بمنهج الله، وإما أن تجعلها تتفلت من منهج الله، فنفسك أمانة بين يديك، يسعد الإنسان أيما سعادة لو عرفها بربها، وحملها على طاعته، ودفعها إلى البذل من أجل رضوانه وجنته.
الأستاذ زياد:
وما يبعده عن ذلك ؟
الأستاذ راتب:
يبعده عن ذلك شهواته التي أودعه الله فيه لتكون سلماً يرقى بها إلى رب الأرض والسماوات، فجعلها دركات يهوي بها في الظلمات.
لا بد من وقفة متأنية عند مقومات حمل الأمانة، فالله جل جلاله ما كلفنا حمل الأمانة إلا وأعطانا مقومات حملها، فأول هذه المقومات هو الكون الذي نتعرف من خلاله إلى الله.
ذكرت لكم في الحلقة السابقة ومضة من ومضات الكون، عُرض في مؤتمر للإعجاز العلمي عُقد في موسكو قبل سنوات، وألقيتْ فيه محاضرة علمية أساسها بحث علمي قيم عن هذه الآية، بما أن القرآن يخاطب أمة تعدُّ بالسنة القمرية، والقمر كما تعلمون يدور دورة حول الأرض كل شهر، فلو أخذنا مركز الأرض ومركز القمر، ووصلنا بينهم بخط لكان هذا الخط نصف قطر الدائرة التي هي مسار القمر حول الأرض، وحينما نضرب هذا الرقم باثنين ينتج القطر، فإذا ضربنا بـ 3.14 لكان محيط الدائرة، بحساب بسيط يستطيعه طلاب المرحلة الثانوية أن يحسب كم من الكيلومترات يقطع القمر في دورة حول الأرض ؟ إن ضربنا هذا الرقم بـ 12 كم يقطع في السنة، إن ضربناه بـ 1000، كم يقطع في ألف عام، أنا معي رقم كم من الكيلومترات يقطعها القمر في رحلته حول الأرض في ألف عام، لو قسمت هذا الرقم على ثواني اليوم، طبعاً 60 × 60 × 24، المفاجئة الصاعقة أن الناتج هو سرعة الضوء الدقيقة، 299752 سرعة الضوء المطلقة هذا هو الرقم، معنى ذلك إنما يقطع القمر في رحلته حول الأرض في ألف عام يقطع الضوء في يوم، فإذا قسمنا على ثواني اليوم لكانت سرعة الضوء في الثانية 299752، الضوء كما تعلمون هو له تعريفات كثيرة، إلا أن الشيء الذي يلفت النظر أن كتلته لا نهائية، أن حجمه لا نهائي، وكتلته صفر، فكل جسم سار مع الضوء أصبح ضوءًا، هذا ملخص ما يقوله أنشتاين أكبر علماء الفيزياء، الجسم إذا سار مع الضوء أصبح ضوءًا، وأصبحت كتلته صفراً، وحجمه لا نهائياً، فإذا سبق الضوء تراجع الزمن، نحن لو استطعنا أن نسبق الضوء لرأينا معركة بدر كما هي، لرأينا معركة حطين، معركة القادسية، لو سرنا مع الضوء أصبحنا ضوءًا، ولو سبقنا الضوء لتراجع الزمن، ولو سرنا مع الضوء توقف الزمن، هذه الجلسة لو أن هناك موجات ضوئية تتصاعد إلى الفضاء الخارجي، وأتيح لواحد أن يسير مع هذه الموجات لرأى هذه الجلسة إلى أبد الآبدين، أما إذا قصر عن الضوء تراخى الزمن، فآية الضوء هذه الآية، إذاً الكون أحد أسباب معرفة الله عز وجل، فمن أجل أن تعرف الله، وتعبده جعل الله هذا الكون مظهراً لأسمائه الحسنى، وصفاته الفضلى، بل تجسيداً لعلمه ورحمته وحكمته وقدرته، فالكون بسماواته وأرضه، بالجبال والأنهار، وبالبحار والبحيرات، بالأقمار بالأطيار، وبالأسماك، بخلق الإنسان، بالطعام والشراب، كل ما حول الإنسان ينطق بعظمة الله، فهذا أول مقوم من مقومات حمل الأمانة، الإنسان غاص في أعماق البحار، وارتاد الفضاء الخارجي، ونقل الصوت والصورة، الإنجاز العلمي الآن مذهل، وندي قرص ليزري فيه ألف ومئتا كتاب، وبعض الكتب في خمسين جزءًا، بالنص الدقيق المضبوط وبالشكل، وإمكانية البحث في ثوانٍ، هناك أداة بحث تقرأ كل هذه الكتب في ثوان، فكأن الله يعاتب الإنسان يوم القيامة يقول له: يا عبدي، غزوتَ الفضاء، وغصت في أعماق البحار، ونقلت الصوت والصورة، لو بذلت من عقلك واحدًا بالمليار لعرفتني، ولسعدت بقربي، فالكون أحد مقومات حمل الأمانة.
الأستاذ زياد:
من سياق حديثكم العقل ثاني هذه المقومات.
الأستاذ راتب:
نَعم، الكون أول هذه المقومات، والعقل ثانياً، العقل جهاز لا يستطيع أن يفهم المحيط الخارجي إلا وفق مبادئ ثلاثة: هذه المبادئ متطابقة تماماً مع الكون.
مبدأ السببية.. لا يمكن أن تفهم شيئاً بلا سبب.
مبدأ الغائية.. لا يمكن أن تفهم شيئاً بلا غايـة.
مبدأ عدم التناقض.. ولأن الكون له أسباب، بل إن الله جلت حكمته صمم الكون وفق أسباب، وهو خالق الأسباب، فإذا أردت أن تصل من هذه النتيجة إلى سببها قادتك هذه القاعدة إلى مسبب الأسباب هو الله عز وجل، وإذا رأيت أن هذه البقرة تقدم أربعين كيلوًا من الحليب في اليوم، بينما وليدها يحتاج إلى 2 كيلو فقط، معنى ذلك أن هذا الحليب ليس لوليدها، هو للإنسان، بل إن توافق الحليب مع جسم الإنسان توافق مدهش، إذاً غاية هذه البقرة أن تكون غذاء للإنسان أساسي، حينما نفهم الأشياء بغاياتها، والأشياء بأسبابها، ولا نقبل التناقض، عندئذٍ يكون عقلنا قد أدى مهمته، الشيء الدقيق جداً أن سنن الله في خلقه متطابقة تماماً مع مبادئ عقل الإنسان، فالعقل والكون متكاملان، كون من دون عقل لا يجدي، وعقل بلا كون لا يجدي، لا بد من أن يكون العقل والكون متكاملين.
العقل أداة معرفة الأولى، ولكن العقل الصريح، هناك عقل تبريري، قد يستخدم الإنسان عقله لغير ما خلق له، قد يستخدم عقل للإيقاع بين الناس، لأعمال شريرة، يبررها فأنا أرفض العقل التبريري، العقل الصريح هو العقل المنطبق مع المبادئ التي أكرمه الله بها.
الأستاذ زياد:
وما علاقة الفطرة السليمة بهذا العقل الصحيح ؟
الأستاذ راتب:
الحقيقة هو أن العقل مقياس دقيق، ولكن الفطرة مقياس نفسي، وأنت أيها الإنسان مبرمج أو مصمم أو مجبول على اكتشاف خطئك بنفسك، لو أن إنسانًا عاش في جزيرة، ولم يتلقَّ أيّ رسالة سماوية، ولم يتلقَّ أي توجيه ديني، لو أنه أتى بطعام فأكله وحده، ولم يطعم أمه التي أنجبته يشعر بضيق، الفطرة مقياس نفسي دقيق، وفي الحديث عَنْ النَّوَّاسِ بْنِ سِمْعَانَ الْأَنْصَارِيِّ قَالَ: سَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ الْبِرِّ وَالْإِثْمِ فَقَالَ:
(( الْبِرُّ حُسْنُ الْخُلُقِ، وَالْإِثْمُ مَا حَاكَ فِي صَدْرِكَ، وَكَرِهْتَ أَنْ يَطَّلِعَ عَلَيْهِ النَّاسُ ))
هناك آية تؤكد الفطرة:
﴿وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا (7) فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا (8)﴾
طبعاً لا يمكن أن يكون المعنى أن الله خلق فيها الفجور، لا يمكن، هذا معنى يقال عنه في العقيدة معنى جبري، وهذا الشيء من العقائد الفاسدة، لكن ألهمها حين تفجر أنها فجرت، وألهمها حينما تتقي أنها أتقت،
﴿وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا (7) فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا (8)﴾
والإنسان بفطرته السليمة يحب الخير، ولا يفعله، يحب العدل ولا يعدل، هناك فرق بين الفطرة والصبغة، كل إنسان مولود على الفطرة، كل إنسان كائنًا من كان حتى الذي يعبد الأصنام يحب الخير، يحب الرحمة يحب العدل يحب الإكرام، لكن أن تحب العدل شيء، وأن تعدل شيء آخر، أن تحب الرحمة شيء، وأن ترحم شيء آخر، أنت حينما تتصل بالله عز وجل تكتسب الرحمة والعدل، والتواضع والإحسان، فالفطرة أن تحب الرحمة، والصبغة أن ترحم، فكل مخلوق يولد على الفطرة، فطرته السليمة تكشف له خطأه، أنا أعتقد ومعي دليل، أن هذا الإنسان الذي لم تصله رسالة سماوية كيف يحاسب ؟ يحاسب على عقله الذي يكفي لمعرفة الله، ويحاسب على فطرته التي تكفي لمعرفة خطئه، لكنه يعفى من تفاصيل الشريعة، أما لو أن الإنسان قتل أمه مثلاً فيحاسب، لا بد من أن تكشف له فطرته خطأه، ولا بد من أن يكشف له عقله وجود ربه، فالفطرة مقياس نفسي، هنا أستوقف قليلاً، أكاد أقول: إن الحق دائرة تتقاطع فيها أربعة خطوط، يجب أن تتقاطع في هذه الدائرة، خط النقل الصحيح، وقلت: الصحيح احترازاً من النقل الضعيف، أو النقل الموضوع، أو من النقل الذي أول تأويلاً خاطئاً، النقل الصحيح، والعقل الصريح، قلت: الصريح احترازاً من العقل التبريري، والفطرة السليمة، قلت: السليمة، لأن هناك أناسًا من شدة انحرافهم طُمست فطرتهم، والواقع الموضوعي، وقلت: الموضوعي احترازاً من الواقع المزور، فخط العقل الصريح مع النقل الصحيح مع الفطرة السليمة مع الواقع الموضوعي هذه الخطوط إذا تقاطعت في دائرة فهذه الدائرة هي الحق، فلا يعقل أن يأتي وحيه مناقضاً لخلقه، أن يأتي وحيه مناقضًا لفطرة الإنسان، الوحي وحيه، والفطرة جبلة جبلنا عليها، والعقل مقياس أودعه الله فينا، والكون خلقه، وهذه كلها فروع، ومادامت فروع لأصل واحد فهي متحدة فيما بينها، لذلك بعض علماء الشريعة الكبار ألف كتاباً في حتمية توافق العقل مع النقل، ولكن لا يتناقض العقل مع النقل إلا في حالة واحدة، أن يكون النقل غير صحيح، أو أوِّل تأويلاً غير صحيح، أو أن يكون العلم أو العقل اعتقد بنظرية، وليست بحقيقة، نظرية أنشتاين ليست حقيقة، الآن نقدت، فحينما تتعارض آية قرآنية مع ما يسمى حقيقة علمية، وهي ليس كذلك، تجد هناك تناقضًا، أما العقل الصريح مع النقل الصحيح فلا بد من أن يتطابقا تتطابقاً تاماً، لأن العقل من خلق الله، والنقل من وحي الله.
إذاً توقفنا عند مقومات حمل الأمانة، مقوماتها التي جعلها الله سبحانه وتعالى في الإنسان، الكون لمعرفته عز وجل، والعقل كذلك للدلالة على وجوده ووحدانيته، يبقى أن نتطرق إلى بقية الأمور، والفطرة تحدثنا عنها، الفطرة تشوهها البيئة إذا صح التعبير، أو تطبعها بطابع معين، أما في حال كان العقل صريحاً كانت الفطرة سليمة.
إذا كان العقل صريحاً، والنقل صحيحاً، والفطرة سليمة، والواقع موضوعياً تتطابق هذه جميعاً، وكانت هي الحق.
الأستاذ زياد:
الواقع الموضوعي ماذا تعني بهذا التعريف، أو بهذا المصطلح.
الأستاذ راتب:
لو أن إنساناً قال: إن سكان هذه البلدة سيئون، هذا واقع غير موضوعي، هذا واقع هوائي، أو واقع مزور، أما لو أجرينا إحصاء دقيقًا سنجد هناك صالحين وسيئين، فدائماً الإنسان حينما ينحاز إلى قضية يشوه الواقع، يأتي بانطباعات، وليس بإحصائيات، وقال بعضهم: التعميم من العمى، كل إنسان يعمم هو أعمى، أما النظرة الموضوعية فهي القيمة التي تشترك بين العلم والخلق، الموضوعية قيمة خلقية، والموضوعية قيمة علمية في وقت واحد، لكل إنسان علمي أخلاقي بهذا الموضوع، وكل إنسان أخلاقي علمي، أنت حينما تحكم على شخص، إذا كان الإنسان عالمًا أو أخلاقيًّا يذكر ما له وما عليه، أما حينما يكون عامياً من سوقة الناس، إن أحبه أصبغ عليه كل صفات البطولة، وإن أبغضه جعله مجرماً، هذا تعميم من العمى، أما الموقف الموضوعي، النبي عليه الصلاة والسلام رأى صهره في الأسرى، زوج ابنته، جاء ليقاتله، وهو مشرك، فلما نظر إليه قال: والله ما ذممناه صهراً، يعني كصهر هو ممتاز، أرأيت إلى هذه النظرة الموضوعية، رأى صهره بين الأسرى، وقد جاء ليقاتله، وهو مشرك، ما نسي صفاته الفاضلة، قال: والله ما ذممناه صهراً.
الأستاذ زياد:
نسأل الله عز وجل أن يجعلنا من الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه، نجدد اللقاء بإذن الله تعالى فضيلة الشيخ الدكتور محمد راتب النابلسي، ونجدد اللقاء عبر أثير إذاعة القرآن الكريم من لبنان، مع الإخوة المستمعين.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته