الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علمنا ما ينفعنا وانفعنا بما علمتنا وزدنا علماً، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين.
أيها الإخوة المؤمنون، مع الدرس السابع من سورة سيدنا محمد صلى الله عليه وسلَّم.
ستر الله عز وجل حال المنافق رحمة به:
مع الآية التاسعة والعشرين، يقول الله سبحانه وتعالى:
﴿ وَلَوْ نَشَاءُ لَأَرَيْنَاكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيمَاهُمْ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ أَعْمَالَكُمْ (30)﴾
[ سورة محمد ]
أيْ أنّ المنافق سَتَر الله سبحانه وتعالى حالَه رحمةً به، وقد أعطاه بهذا الستر فرصةً ليتوب، لكن المنافق شاء أم أبى يظهر نفاقه من فلتات لسانه، ومن سيماه.
﴿وَلَوْ نَشَاءُ لَأَرَيْنَاكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيمَاهُمْ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ أَعْمَالَكُمْ﴾ فعملك عند الله سبحانه وتعالى مكشوفٌ ومحدَّد، والإنسان إذا علِم علم اليقين أن الله يعلم فلابدَّ من أن يستقيم على أمر الله، فالعقبة أن تعلم أن الله يعلم، إذا علمت أن الله يعلم وأنه سيحاسبك، فهاتان الحقيقتان كافيتان كي تستقيم على أمر الله.
علَّة وجود الإنسان في الدنيا امتحان الله سبحانه وتعالى له:
أكرِّر: أنْ تعلم أن الله يعلم وأنّ الله سيُحاسِب.
﴿ وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ(31)﴾
[ سورة محمد ]
ولقد ذكرت في دروس سابقة: أن الإنسان جاء الله به إلى الدنيا ليمتحنه هو.
﴿ الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا ۚ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ(2)﴾
[ سورة الملك ]
﴿ أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ(2)﴾
[ سورة العنكبوت ]
الله عز وجل عليم بحقيقة كل إنسان:
﴿ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ وَإِن كُنَّا لَمُبْتَلِينَ (30)﴾
[ سورة المؤمنون ]
لو قرأت الآيات المتعلِّقة بالابتلاء لوجدت أن علَّة وجود الإنسان في الدنيا ليبتليه الله سبحانه وتعالى.
﴿ إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا(3)﴾
[ سورة الإنسان ]
ومعنى الابتلاء أنّ الله عزَّ وجل أودعَ في الإنسان حاجات، حاجة إلى الطعام والشراب، وحاجة إلى النساء، وحاجة إلى الذِّكْر، أودع هذه الحاجات وجعل مضامين هذه الحاجات أمام عينيك، فإما أن تسلك إليها الطريق القويم وفق منهج الله عزَّ وجل، وإما أن تسلك إليها الطريق المنحرف، فمِن خلقِ الحاجة وتوفيرِ مضمون الحاجة تُبتَلى، فهذه التفاحة التي خلقها الله على هذا الغصن هي لك، خَلَقَ التفاحة وغيرها من أجل أن تأكلها، وأودعَ فيك شهوةً كي تأخذها، لكن كيف تنتقل إليك؟ إما شراءً، وإما ضيافةً، وإما هديَّةً، وإما سرقةً، وإما تسوّلاً، فطريق الانتقال باختيارك ولكن هي لك، فالله عزَّ وجل يضع الإنسان في ظروف صعبة، هذه الظروف تكشف حقيقته تماماً، فالإنسان مهما حاول أن يخفي أحواله وحاول أن يخفي عن الناس حقيقته فالله عزَّ وجل يعلم حقيقة كل إنسان، والإنسان كما قال الله عزَّ وجل:
﴿ بَلِ الإِنسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ(14) وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَهُ(15)﴾
[ سورة القيامة ]
العاقل من آثر طاعة الله عز وجل على الدنيا و ما فيها:
الإنسان إذا تعامل مع الحقائق سَعِد في الدنيا والآخرة، وإذا تعامل مع الأوهام والتمنّيات شقي في الدنيا والآخرة.
﴿وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ﴾ أيْ أنّ المرأة تُبْتَلَى بها، فإما أن تزيدك طاعةً لله عزَّ وجل، وإما أن تحرفك عن الطريق الحق، فالإنسان بعد الزواج، والزواج امتحان، إما أن تأخذ عليه هذه الزوجة كل اهتماماته، وإما أن تكون مِعواناً له على طريق الحق، المال إما أن يزيدك قرباً من الله عزَّ وجل أو بعداً عنه، الوسامة، الجمال، الذكاء، الطلاقة، العلم، الجاه، كل حظوظ الدنيا إما أنها درجات ترقى بها، وإما أنها دركات تهوي بها.
﴿ وَلَوْ نَشَاءُ لَأَرَيْنَاكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيمَاهُمْ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ أَعْمَالَكُمْ(30) وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ(31)﴾
[ سورة محمد ]
قد تحتاج إلى المال، وهناك عدَّة طرق لكسب المال لكنها غير مشروعة، فماذا تفعل؟ وقد يؤخِّر الله لك الكسب المشروع، الباب المشروع مغلق، وغير المشروع مفتوح، هذا ابتلاء من الله، فهذا التأخير في الكسب المشروع، وتوافر الكسب غير المشروع هذا ابتلاء، فالإنسان إما أن يصبر، ويؤكِّد لنفسه أن طاعة الله أغلى عليه من الدنيا وما فيها، وإما أن تزل قدمه فيقول لك: أنا مضطر فماذا أفعل؟
كل شيء ناله الإنسان من الله ممتحن به:
فأنت ممتَحَنْ في موضوعاتٍ ثلاثة؛ مُمتَحن فيما أعطاك الله، وممتحن فيما حَرَمَكَ الله، وممتحن فيما أصابك من فعل الله، من أمره التكويني، كل شيء نلته من الله ممتحنٌ به، والذي زواه الله عنك ممتحنٌ به، وفعل الله التكويني مُمتحنٌ به، أعطاك حظوظًا معيَّنة، قدر الله عزَّ وجل وشاء لك أن تكون ذا دخلٍ محدود مثلاً أو دخل غير محدود، أو صحَّة طيّبة أو مرض معيَّن، أو زواج ناجح أو زواج غير ناجح، فأنت ممتحن.
﴿وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ﴾ والحقيقة الابتلاء لا يكون في حالة الرخاء، أيْ أنه إذا كانت مصالحك كلها متوافقةً مع عبادتك فليس هناك ابتلاء، متى يكون الابتلاء؟ حينما تتعارض مصالحك مع شرع الله عزَّ وجل، فلو فرضنا أن شاباً تزوّج عند أهله، والدته موجودة وزوجته، فإذا الزوجة والوالدة كانتا متوافقتين توافقًا تامًا فلا امتحان عند الزوج، فمتى يُمتحن إذًا؟ حينما يختلفان، فإما أن ينحاز إلى زوجته وقد تكون ظالمة، وإما أن ينحاز إلى أمه وقد تكون ظالمة، ففي حال الوفاق بين الزوجة والأم انتفى الامتحان، ليس هناك مشكلة، لكن متى يبدأ الامتحان؟ حينما تتعارض، أهو مع الحق أم مع أمه؟ أهو مع الحق أم مع زوجته؟ هو مع الحق حيثما كان الحق، فالإنسان بالزواج يُمتحن، بالمال يُمتحن، بالفقر يمتحن، بالصحَّة يمتحن، بالمرض يمتحن، بالغنى يمتحن، بالوجاهة يُمتحن، بالقوَّة يمتحن، بالضعف يمتحن، كل وقت له امتحانه الخاص.
الكفر نوعان:
1ـ كفر بواح يُخرج من الملّة:
الآية التي تليها:
﴿ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَشَاقُّوا الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا وَسَيُحْبِطُ أَعْمَالَهُمْ (32)﴾
[ سورة محمد ]
أيْ أنّ هذا الدين لا قيمة له عندهم، كفروا به، كفروا بأصله، كفروا بالوحي، أو كفروا بأحقيَّته، أو كفروا ببعض أجزائه، فهناك أشخاص أحدهم يصلي ويصوم لكن قضيَّة الربا غير مقتنع بها، فهذا التحريم لم يعبأ به، وكفر به، فالكفر إما أن يكون واسعاً، وإما أن يكون ضيّقاً، إذا رفضت كل هذه الدعوة فهذا هو الكفر البُوَاح الذي يُخرج من الملَّة.
2 ـ كفر جزئي:
أما إذا قبلت هذا الدين ولم تقبل بعض أوامره ونواهيه فهذا كفر جزئي.
سعي الكافر دائماً لصرف الناس عن الدين بوسائل متعدِّدة:
على كلٍ فالآية يُقْصَد بها الذين كفروا في أصل الدين ﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا﴾ هذا الموقف الداخلي، كَفَرَ أيْ كذَّب هذا الدين، كذَّب هذا القرآن، كذَّب الوحي، كذَّب ما جاء به النبي عليه الصلاة والسلام، فهذا كله تكذيب، والكفر معناه الإعراض، أيْ أنّه كذَّب وأعرض، كما أن الإيمان تصديقٌ وإقبالٌ، فالكفر تكذيبٌ وإعراضٌ.
﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا﴾ فهذا الموقف العقائدي كفرَ، الموقف السلوكي: ﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ﴾ أي أن الكافر دائماً يسعى لصرف الناس عن الدين بوسائل متعدِّدة، يصرفهم عن الدين بإلقاء الشبُهات، يصرفهم عن الدين بتفنيد حقائق الدين وإظهار خطئها، هذه طريقة للصرف، يصرفهم عن الدين بتزيين الباطل، يصرفهم عن الدين بالشهوات، بالأموال، بالضغط، بالإكراه، بالتعذيب، بالضرب، وسائل لا تعدُّ ولا تحصى يستخدمها الكفَّار لصرف الناس عن الدين، إما بالتفنيد، وإما بالطَعْن، وإما بالتفجير من الداخل، وإما بإعطاء صور مشوَّهة لرجال الدين، وإما بإلقاء الشُبهات، وإما بالإكراه المادي، وإما بالتعذيب الجسدي، وإما بإلقاء الفتن، وإما ببذر الشهوات.
حياة الكافر تكذيبٌ وإعراضٌ وصدٌّ:
هذه البرامج مثلاً التي تُبَثُّ فضائياً من دول كافرة من أجل أن تفسد أخلاق المسلمين، أليس هذا صدَّاً عن سبيل الله؟ هو من غير شك صدٌّ عن سبيل الله، هذه النظريات الهدَّامة التي توضع بين أيدي المسلمين مبنيَّةٌ على الكفر بأصل هذا الدين، والكفر بأوامره ونواهيه، هذه المبادئ الوضعيَّة الهدَّامة التي تخرج عن منهج الله عزَّ وجل أليست صدّاً عن سبيل الله؟ أجل هي صدٌ عن سبيل الله، هذه الشبهات التي يبثونها حول تعدد الزواج مثلاً والطلاق، وما جاء به الإسلام من قواعد شرعيَّة، فهناك من يأخذ بعضها ويشوّهه ليظهر أن هذا الدين باطلٌ، هذا أيضاً صدٌّ عن سبيل الله، ولاسيما في العقدين الأخيرين من القرن الماضي فأساليب الكفَّار الماكرة صارت لا تعد ولا تحصى فيما يتعلَّق بصدِّ الناس عن سبيل الله، بل إن الحقيقة هي أن الكافر موقفه الداخلي تكذيب، موقفه النفسي إعراض، موقفه السلوكي صدٌّ عن سبيل الله، ثلاثة مواقف: عقيديَّاً مكذِّب، نفسياً مُعْرِض، سلوكياً يصد الناس عن سبيل الله. أبداً.. ولو درست حياة الكافر لما وجدتها تزيد عن هذه الخصائص، تكذيبٌ وإعراضٌ وصدٌّ، قال تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ﴾
تكذيب الكفار النبي الكريم قولاً و عملاً و سلوكاً:
بقي هناك شيء، أن هؤلاء الذين يدعون إلى الصدّ عن سبيل الله ويشاقون النبي عليه الصلاة والسلام.
﴿ يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا(45) وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُّنِيرًا (46)﴾
[ سورة الأحزاب ]
فهو سيّد الدعاة إلى الله، لكنهم يشاقون النبي عليه الصلاة والسلام في حياته، أيْ يريدون أن يطفئوا نور الله، يريدون أن يوقفوا دعوته، يريدون أن يتهموه اتهاماتٍ باطلة، يريدون أن يُخرِجوه من بلده مكَّة وقد أخرجوه، يريدون لهذه الفئة التي آمنت به أن تُسْحَق، وأن تُسْتَأصل، وأن تُحارَب وقد حاربوها، هذا في حياته، بعد مماته.
﴿وَشَاقُّوا الرَّسُولَ﴾ أي طعنوا في سُنَّته، قالوا: يكفينا القرآن الكريم، لا نحتاج إلى سنَّة، مع أن الله سبحانه وتعالى يقول:
﴿ مَّا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَىٰ رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَىٰ فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَىٰ وَالْيَتَامَىٰ وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ مِنكُمْ ۚ وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا ۚ وَاتَّقُوا اللَّهَ ۖ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ(7)﴾
[ سورة الحشر ]
الإنسان يدرك الحق بفطرته:
إذاً: ﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا﴾ كذَّبوا، وأعرضوا، وصدّوا الناس عن سبيل الله، ثم إن هؤلاء الكفَّار توجَّهوا إلى النبي عليه الصلاة والسلام، في حياته كادوا له، في حياته كذَّبوه، في حياته استخفَّوا به، في حياته عذَّبوا أصحابه، في حياته أخرجوه من بلده، في حياته حاربوه، وبعد مماته حاربوا سنَّته، وحاربوا منهجه القويم، وقياساً على ذلك الدعاة إلى الله عزَّ وجل حينما يُنال منهم ظلماً وعدواناً فهذا نيلٌ من النبي عليه الصلاة والسلام لأنهم يسيرون على منهجه ويقتفون أثره..
﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَشَاقُّوا الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى﴾ والحقيقة أن الإنسان يُدْرِك الحق بفطرته، حتى هؤلاء الذين أشركوا يوم القيامة يقولون:
﴿ ثُمَّ لَمْ تَكُن فِتْنَتُهُمْ إِلَّا أَن قَالُوا وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ(23 (انظُرْ كَيْفَ كَذَبُوا عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ ۚ وَضَلَّ عَنْهُم مَّا كَانُوا يَفْتَرُونَ (24)﴾
[ سورة الأنعام ]
فالإنسان بفطرته يدرك الحقيقة ..
كفَّار الأرض على كفرهم لن يضروا دين الله عزَّ وجل:
﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَشَاقُّوا الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا وَسَيُحْبِطُ أَعْمَالَهُمْ﴾ قال العلماء: هذا قرار إلهي، أيْ أنّ كفَّار الأرض على كفرهم، على تكذيبهم، على إعراضهم، على صدِّهم عن سبيل الله، على نيلهم من النبي عليه الصلاة والسلام، بقوَّتهم، بجموعهم، بأموالهم، بذكائهم، بأجهزتهم ﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَشَاقُّوا الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا﴾ طبعاً لن يضروا الإله، فهذا شيء بديهي جداً لا يمكن أن يُقبَل كمعنى للآية، المقصود لن يضروا دين الله عزَّ وجل، الحديث القدسي:
(( يَا عِبَادِي لَوْ أَنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ وَإِنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ كَانُوا عَلَى أَتْقَى قَلْبِ رَجُلٍ وَاحِدٍ مِنْكُمْ مَا زَادَ ذَلِكَ فِي مُلْكِي شَيْئًا يَا عِبَادِي لَوْ أَنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ وَإِنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ كَانُوا عَلَى أَفْجَرِ قَلْبِ رَجُلٍ وَاحِدٍ مَا نَقَصَ ذَلِكَ مِنْ مُلْكِي شَيْئًا يَا عِبَادِي لَوْ أَنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ وَإِنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ قَامُوا فِي صَعِيدٍ وَاحِدٍ فَسَأَلُونِي فَأَعْطَيْتُ كُلَّ إِنْسَانٍ مَسْأَلَتَهُ مَا نَقَصَ ذَلِكَ مِمَّا عِنْدِي إِلا كَمَا يَنْقُصُ الْمِخْيَطُ إِذَا أُدْخِلَ الْبَحْرَ. ))
[ صحيح مسلم ]
دين الله عز وجل لن يزيده الله إلا قوة و منعة و بأساً:
إذاً هذا قرار إلهي، أي أن أهل الأرض لو أنهم كادوا لهذا الدين فلن يضروا الله شيئاً، والتاريخ أمامكم، كفَّار قريش هم الأقوياء، هم الأغنياء، هم السادة، هم عليَّة القوم، هم أشراف القبائل، وضعوا كل طاقتهم لدحض هذا الدين، ما الذي حصل في النهاية؟ أتمَّ الله نوره وأخزاهم وجعلهم في مزبلة التاريخ، هذه الحقيقة، ولا توجد جهة تقف في وجه الدين إلا سيحبط الله عملها، هذه الآية حقيقة ثابتة، هذه سنَّة من سنن الله في خلقه، فالكفَّار لن يضرّوا الله شيئاً ما ضرَّ السحاب نبح الكلاب، ما ضرَّ البحر أن ألقى فيه غلامٌ بحجر، لو تحوَّل الناس إلى كنَّاسين لِيغبِّروا على الإسلام لما غبَّروا إلا على أنفسهم.
هذه الآية ينبغي أن تبثَّ الثقة في نفوس المؤمنين، فمهما كان الكافر قوياً، مهما كان غنياً، مهما كان ذكياً، مهما امتلك من وسائل الدمار، هذه القلعة التي كانت من أقوى قِلاع الكفر في العالم ألم تتهاوى أمامكم كبيت العنكبوت؟ هل استطاعوا أن يستأصلوا هذا الدين من نفوس المسلمين؟ ما استطاعوا، سبعين عامًا يُجَهِّلُون ويقمعون، وفي النهاية ظلّ الإيمان أعمق في قلوب المسلمين من تجهيلهم ومن قمعهم، فلذلك يقول الله عزَّ وجل: ﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَشَاقُّوا الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا﴾ أيْ لا تقلق على هذا الدين لأنه دين الله، لا تقلق عليه أبداً مهما كاد له الكفَّار، مهما بدت لك المعركة شرسةً، لو رأيت حرباً عالميةً تُقام على هذا الدين، فهذا الدين لن يزيده الله إلا قوةً ومنَعةً وبأساً.
إحباط عمل الكفار من قِبل الله عز وجل و لو كان كالجبال:
أما القرار الثاني ﴿وَسَيُحْبِطُ أَعْمَالَهُمْ﴾ أول قرار: ﴿لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا﴾ أيْ أنّ الدين لا يتأثَّر ولو أن الناس جميعاً حاربوه، لو أن الناس جميعاً كادوا له، لو أن الناس جميعاً استخدموا كل ما يملكون للنيل منه.
﴿لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا﴾ أي لن يضروا دين الله شيئاً، وانتهى أمرهم ﴿وَسَيُحْبِطُ أَعْمَالَهُمْ﴾ أعمالهم لو أنها كالجبال..
﴿ وَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الأَبْصَارُ(42)﴾
[ سورة إبراهيم ]
﴿ وَقَدْ مَكَرُوا مَكْرَهُمْ وَعِنْدَ اللَّهِ مَكْرُهُمْ وَإِنْ كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ(46)﴾
[ سورة إبراهيم ]
دين الإسلام ثابت لن ينتهي و لو كاد له الكائدون:
أحياناً الله عزَّ وجل يُلقي في قلب الكفَّار الرُعْب، وفي قلب المؤمنين الثبات، فترى الثبات العجيب، شيء يفوق حد التصوُّر، قلَّة قليلة تصمد أمام أكبر قوَّة؟ عشرة أسابيع وهي صامدة، فما هذا الإيمان؟
﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَشَاقُّوا الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا وَسَيُحْبِطُ أَعْمَالَهُمْ﴾ هذه الآية دقيقة المعاني والدلالات جداً أيها الإخوة، لا تقلق على دين الله، لا تقل: انتهينا، لا لم ننته، هذا الدين لا ينتهي لأنه دين الله، مهما كاد له الكائدون، مهما تنكَّر له المتنكِّرون، مهما طعن به الطاعنون، مهما حاربه المحاربون، إن الذين كفروا ﴿لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا وَسَيُحْبِطُ أَعْمَالَهُمْ﴾ هذا العمل المُعَدَّ له إعداداً كبيراً سيتهاوى كبيت العنكبوت، يُحْبِطُ الله أعمالهم.
﴿ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَن سَبِيلِ اللَّهِ ۚ فَسَيُنفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ ۗ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلَىٰ جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ(36)﴾
[ سورة الأنفال ]
الفِرَقِ الضالة التي أرادت أن تكيد للإسلام أين هي الآن؟ كلُّها تلاشت، لو قرأت التاريخ الإسلامي تجد أنّ كل هؤلاء الذين كادوا لهذا الدين تلاشوا وانتهوا.
تعاطف المؤمن مع الكافر يؤدي إلى إحباط عمله:
لكن الآية التالية:
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَلَا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ (33)﴾
[ سورة محمد ]
قد يسأل سائل ما علاقة هذه الآية بالتي قبلها؟ ﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَشَاقُّوا الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا وَسَيُحْبِطُ أَعْمَالَهُمْ﴾ فالخطاب فيها يتحول للمؤمنين: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَلَا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ﴾ .
بعضهم قال: قد يكون للمؤمن مع الكافر مصالح، كعلاقات تجاريَّة، أو علاقات قرابة، وعلاقات نَسَب، فلو أن المؤمن تعاطف مع الكافر في عمله فقد أحبط عمله.
العلاقة الحميمة بين المؤمن و الكافر منهي عنها:
ربنا عزَّ وجل يحذِّر المؤمن من أن تزِلَّ قدمه وأن يرضى عن عمل الكافر، يحذِّر المؤمن من أن تزل قدمه ويؤيِّد هذا الكافر في عمله، يحذِّر المؤمن من أن تزل قدمه ويدعم الكافر انطلاقاً من مصلحته، هذا الشيء غلط كبير، لو أن المؤمنين في جهة، والكفار في جهة فالقضية سهلة، ولكن أحياناً يكون هناك تداخل مصالح، فالذين آمنوا عليهم ألاَّ تزلَّ أقدامهم، طبعاً قد يكون إيمانهم ضعيف، الله عزَّ وجل يخاطب المؤمنين دائماً ويأمرهم بأوامر هي في الأصل موجودة لديهم لكن إذا قيل لإنسان يصلي: صلِّ، أيْ اثبت على صلاتك، وإذا قلنا لإنسان صلاته ناقصة: صلِّ، معناها أتمم صلاتك، وإذا قلنا لإنسان لا يصلي: صلِّ، معناها صلِّ، فإما أن تكون بعيداً عن هذا الأمر فمعنى الأمر إذًا أن تفعله، وإما أن يكون هذا الأمر عندك ليس كاملاً فمعنى الأمر أن تكمِّله، وإما أن تكون مطبِّقاً له تماماً فمعنى الأمر أن تثبت عليه، إما الثبات، وإما الكمال، وإما الابتداء بالعمل، هذا معنى الأمر، فلو أن بين المؤمنين أناساً ضِعافاً في إيمانهم وهم على علاقةٍ مع الكفَّار، والكافر هذا موقفه؛ تكذيبٌ عقيدي، وإعراضٌ نفسي، وصدٌّ سلوكيٌّ عن سبيل الله، وكيدٌ للنبي وأتباعه من بعده ﴿وَشَاقُّوا الرَّسُولَ﴾ .
من خصائص الكافر الإعراض مع الصدّ:
التكذيب مع الإعراض مع الصد مع النَيل هذه خصائص الكافر، لو أن هناك تداخل بين الناس، إنسان مؤمن له مع كافر مصلحة في ميراث، في قضيَّة، في شراكة، وكيل شركة فرضاً، فهناك بينهم علاقات، فعندما يرضى المؤمن عن فعل الكافر فقد شاركه في الإثم، وكلكم يعلم أيها الإخوة، "من أعان ظالماً سلَّطه الله عليه" . هنا النقطة دقيقة جداً: مؤمن له علاقة مع كافر، علاقة قرابة، أو علاقة مصلحة، أو علاقة شراكة مثلاً، أحياناً يكون ميل لمصلحته، والكافر هذا موقفه؛ تكذيب وإعراض وصدّ عن سبيل الله، ونَيل من النبي عليه الصلاة والسلام، فإذا المؤمن سكت، أو أقرَّه على عمله، أو تياسر معه فقد حَبِط عمله، فجاء الآن التحذير أن: أيها المؤمنون إن الكفَّار هذه خصائصهم والله سبحانه وتعالى سيخذِلهم، وسيُخزيهم، وسيحبط أعمالهم، فإياكم أن تزِلَّ قدمكم فتكونوا على شاكلتهم.
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَلَا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ﴾ فالعلاقة الحميمة مع الكافر منهي عنها.
من هوي الكفرة حُشِرَ معهم ولا ينفعه عمله شيئاً:
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَوَلَّوْا قَوْمًا غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ قَدْ يَئِسُوا مِنَ الْآخِرَةِ كَمَا يَئِسَ الْكُفَّارُ مِنْ أَصْحَابِ الْقُبُورِ(13)﴾
[ سورة الممتحنة ]
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَىٰ أَوْلِيَاءَ ۘ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ ۚ وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ ۗ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ(51)﴾
[ سورة المائدة ]
﴿ لَّا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِن دُونِ الْمُؤْمِنِينَ ۖ وَمَن يَفْعَلْ ذَٰلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ إِلَّا أَن تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً ۗ وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ ۗ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ(28)﴾
[ سورة آل عمران ]
من هَوِيَ الكفرة حُشِرَ معهم ولا ينفعه عمله شيئاً، من أقامَ مع الكفَّار برِئَت منه ذمَّة الله. يحصل تداخل، هذا التداخل ينقلك شيئاً فشيئاً إلى طريقتهم، وإلى إعراضهم، وإلى حبِّهم للدنيا، فلابدَّ للمؤمنين من أن يتعاونوا، لابدَّ للمؤمنين من أن يشكِّلوا مجتمعاً نظيفاً، مجتمعاً تسود فيه الشعائر الدينيَّة، يسود فيه النظام الإسلامي، أما التداخل فربما أدَّى إلى مزلة القدم..
جهنم عاقبة من مات كافراً:
﴿ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ مَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ (34)﴾
[ سورة محمد ]
مرَّة ثانية ﴿وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ مَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ﴾ الإنسان إذا مات كافراً فهو في جهنَّم إلى أبد الآبدين، والإنسان إذا أقرَّ لله بالتوحيد، وللنبي بالرسالة، ولهذا القرآن بالمصداقيَّة، فإذا كان هناك معاصٍ يُحَاسَبُ عليها حساباً دقيقاً لكن الخلود في النار لمَن مات كافراً، مات مُنكِراً لهذا الدين، مات مُنكِراً للتوحيد، مُنكِراً لهذا القرآن، منكرًا لهذه الرسالة..
﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ مَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ﴾ هذه "لن" تفيد تأبيد النفي، نفي المستقبل ﴿فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ﴾.
المؤمن الصافي عليه ألا يمتزج بعلاقة حميمة مع الكافر المنحرف:
لذلك القرآن الكريم يقول:
﴿ إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَٰلِكَ لِمَن يَشَاءُ ۚ وَمَن يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرَىٰ إِثْمًا عَظِيمًا(48)﴾
[ سورة النساء ]
سياق هذا الآيات يدعونا إلى هذا التوضيح، فما الذي يصرف الإنسان عن الدين؟ عَلاقة حميمة مع كافر، أو مع منافق، المنافق كافر ولكن في غلاف إسلامي طبعاً لمصالح يراها، فالإنسان عندما يكفر وله غلاف إسلامي هش رقيق فهذا منافق، فالمنافق والكافر واحد، فلِئَلّا تكون هناك علاقات، أو مصالح مشتركة، أو محاولة للتعاون، هذا ممّا يدفع المؤمن إلى أن تزِلَّ قدمه، لذلك فعلاقات المؤمن الحميمة يجب أن تكون مع المؤمنين:
(( لا تصاحب إلا مؤمناً، ولا يأكل طعامك إلا تقي ))
[ أخرجه أحمد، وأبو داود، والترمذي، وابن حبان، والحاكم ]
وأنت حينما تعيش مع المؤمنين تسعد بهم، فلا توجد تناقضات، علاقاتك الحميمة إن كانت مع المؤمنين فأنت بها سعيد، لأن الذي تحرِّمه أنت يحرِّمه المؤمن، والذي تحلُّه يُحلُّه، والذي تؤمن به يؤمن به، والذي تكفر به يكفر به، والذي يؤلمك يؤلمه، والذي يسعدك يسعده، هذا التوافق، فكأن هذه الآية تريد ألّا يمتزج المؤمن الصافي بعلاقة حميمة مع الكافر المنحرف، هذا الذي جعل الآية بين الآيتين.
من تعاطف مع المنافق و مال إليه فقد حبط إيمانه:
﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَشَاقُّوا الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا وَسَيُحْبِطُ أَعْمَالَهُمْ*يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ﴾ أيْ الزموا طاعة الله عزَّ وجل، الزموا منهج الله عزَّ وجل، إياكم أن تزِلَّ أقدامكم فتقتربوا من أهل الكفر، فتجاملوهم، تداهنوهم، تقرُّونهم على أعمالهم، ترضون منكراتهم، ترضون أعمالهم ﴿أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَلَا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ﴾ معنى هذا إذا أنتم تعاطفتم وملتم إليهم، أو دعمتموهم، أو أقررتموهم فقد حبط إيمانكم والنبي الكريم يقول:
(( إن الله ليغضب إذا مُدِحَ الفاسق. ))
[ تخريج الإحياء للعراقي بسند ضعيف ]
لماذا؟ لأنك إذا مدحت الفاسق وهو فاسق عند الله وأنت مدحته فما الذي يحصل؟ الجهلة يظنَّون فِسْقَه طاعة، ما دام مُدِح فهذا إذًا بريء، فالله عزَّ وجل لا يريد أن يُمْدَح الفاسق، لك قريب لا يصلي مثلاً، لك قريب يحمل شهادة عُليا ولا يوجد عنده التزام بالدين إطلاقاً، فلو أنت أثنيت عليه أمام أولادك ثناء كبيرًا، أثنيت على ذكائه، وعلى فهمه، وعلى حكمته وهو لا يصلي، ولا يصوم رمضان مثلاً، ولا يعبأ بأوامر هذا الدين، وقد تزلُّ قدمه إلى معصيةٍ ويراها هو شيئاً طبيعياً، فهذا الابن إذا سمعك تمدح هذا القريب الفاسق، غير الملتزم فأنت بذلك تُوقِعه في حرَج كبير، تجعل عقيدته مضطربة.
غضب الله عز وجل إن مدح الفاسق:
لذلك: (إن الله ليغضب إذا مُدِحَ الفاسق) ، فهذه الآية جاءت بين آيتين: الأولى ﴿إن الذين كفروا﴾ ، والثالثة: ﴿إن الذين كفروا﴾ ، بينهما ﴿يا أيها الذين آمنوا﴾ ، معنى ذلك أن المؤمن مُعرَّض أن ينحرف، أن يقترب، أن يُقِرّ، ولا يغيب عن أذهانكم أن النبي الكريم يقول:
(( الذنبُ شؤمٌ على غيرِ فاعلهِ، إنْ عيَّرَهُ ابتُلِيَ بهِ، وإنِ اغتابهَ أَثِمَ، وإنْ رضِيَ بهِ شاركَهُ. ))
[ الألباني بسند ضعيف ]
(الذنبُ شؤمٌ على غيرِ فاعلهِ) الآن إن رضيه يعني غير صاحبه فقد شاركه في الإثم، إذا كان لك صديق مؤمن وقع في ذنب أو ارتكب معصية أو مخالفة، وأنت لم تقل إلا: هو مضطر فدبَّر حاله، هل تدري أنك بهذه الكلمة أصبحت شريكاً له في الإثم؟ أنت لم تفعل شيئًا، هو الذي أكل المال الحرام، هو الذي فعل هذا الذنب، لكنك حينما قلت عنه: إنه دبَّر حاله لأنه مضطر، أقررته على هذا العمل، فأنت شريكه في الإثم فـ (الذنبُ شؤمٌ على غيرِ فاعلهِ، إنْ عيَّرَهُ ابتُلِيَ بهِ، وإنِ اغتابهَ أَثِمَ، وإنْ رضِيَ بهِ شاركَهُ) فانتبه إذا زلَّت قدم أخيك المؤمن بذنب فإن ذكرت هذا الذنب فقد اغتبته، وإن رضيت به فقد شاركته في الإثم، وإن عيَّرته ابتليت به، يجب أن تقول: أصلحه الله ووقاني الوقوع في هذا الذنب، ادعُ له بالصلاح واستعذ بالله من أن تزلَّ قدمك، هذا شأنك مع المؤمن، فكيف بالكافر إذا أثنيت على ذكائه، على اختراعاته، على نظامه، أحياناً إنسان يذهب إلى أوروبا ويعود فيملأ أسماع أهله لشهرين أو ثلاثة مديحاً لأولئك القوم؛ النظام، والترتيب، والحدائق، والأبنية، ومحلات البيع، والمواصلات، والاتصالات الرائعة، ويكون قد رأى آلاف المنكرات والقبائح والانحرافات والانحلال الأخلاقي وهذا يسكت عنه، يذكر الشيء الإيجابي فقط ويسكت على السلبي، بينما إن رأى في بلده أمراً سلبياً يضخِّمه وينسى الإيجابيَّات.
أكبر خطر أن يموت الإنسان كافراً:
آخر خبر قد سمعته عن الإيدز: إنه يوجد في العالم خمسة عشر مليونًا مصابون بالإيدز، قالوا: هذا الرقم هو نصف الرقم الحقيقي، وهناك تجري إحصاءات كم يموت بالدقيقة، أما العالَم الإسلامي فقد سمَّاه الأجانب الحزام الأخضر لهذا المرض، شيء قليل جداً لا يُذكَر، والمصابون أساسهم كانوا في الغرب، الحِزام الأخضر لهذا المرض، نسبة الطلاق في أمريكا اثنان وستون بالمئة، أيْ أنَّ بين كل مئة زواج اثنين وستين حالة طلاق، في ألمانيا ستة وثلاثون، وفي العالم الإسلامي أو في سوريا بالذات ثلاثة بالألف نسبة الطلاق، هذه بقية تطبيق الدين، آثار ضعيفة لتطبيق الدين.
﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ مَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ﴾ أيْ أنّ أكبر خطر أن يموت الإنسان كافراً، والكفر كما قلت لكم قبل قليل: تضيق دائرته وتتسع، تضيق دائرته فيصبح كفراً بُوَاحاً، وتتسع إذا ما طبِّقت أمراً ما وقلت: غير معقول أن يُطبَّق هذا الأمر، ليس هذا الأمرُ لهذا الزمان، أنت ماذا قلت؟ كأنك كذَّبت قول الله عزَّ وجل:
﴿ لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا ۚ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ ۗ رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا ۚ رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِنَا ۚ رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ ۖ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا ۚ أَنتَ مَوْلَانَا فَانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ (258)﴾
[ سورة البقرة ]
شرع الله عز وجل كامل لا يحتاج إلى أي تبديل أو تعديل:
إذا كنت قلت: هذا الأمر صعب تطبيقه ومستحيل تطبيقه، بينما هذا أمر قد نصَّ عليه في القرآن الكريم، والله عزَّ وجل يقول: ﴿لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلا وُسْعَهَا﴾ معنى ذلك أنك أنكرت آيةً في كتاب الله، وهو ليس إنكاراً لفظياً، إنكاراً نطقياً بل إنكاراً عملياً، فتضيق الدائرة حتى يصبح كُفراً بواحاً، وتتسع حتى يشمل أي إنكارٍ لأمرٍ من أوامر الله، يا أخي هذه غير معقولة، هذه لا تصير في هذا الزمان، الله عزَّ وجل قال:
﴿ حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَأَن تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلَامِ ۚ ذَٰلِكُمْ فِسْقٌ ۗ الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِن دِينِكُمْ فَلَا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ ۚ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا ۚ فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِّإِثْمٍ ۙ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ (3)﴾
[ سورة المائدة ]
هذا الشرع من حيث عدد القضايا التي طرحها تام، ومن حيث طريقة المعالجة كامل، وأية إضافةٍ على هذا الشرع هي إضافةٌ باطلة لأنها بدعة.
(( كل محدثةٍ بدعة وكل بدعةٍ ضلالة وكل ضلالةٍ في النار. ))
[ مسلم والنسائي ]
لأنه شرع الله عزَّ وجل، الله عزَّ وجل خبرته قديمة، شيء بديهي جداً أن تنفي عنه البداءة، البداءة أنه بدا له شيءٌ لم يكن بادياً من قبل فعدَّل رأيه، هذا من شأن الإنسان ينظِّم تنظيماً معيَّنًا، يرى الخلل فيجري تعديلاً، ثم يلغي النظام كلَّه ويحدث غيره، ففي تبدُّل مستمر، لكن الله سبحانه وتعالى شرعه كامل، وحكيم، ولا يحتاج إلى إضافة، ولا إلى حذف، ولا إلى تعديل.
المؤمن يحمل عقيدة هي أعلى عقيدة مطابقة للواقع:
الآية تذكِّرنا بأن الله سبحانه وتعالى عنده ذنبٌ يُغفَر، وعنده ذنبٌ لا يُترَك، وعنده ذنبٌ لا يُغْفَر،
• أما الذي يُغْفَر فما كان بينك وبين الله،
• وأما الذي لا يُتْرَك فما كان بينك وبين العبيد من حقوق، حقوق الله عزَّ وجل مبنيَّةٌ على المسامحة، وحقوق العباد مبنيَّةٌ على المشاححة.
• وأما الذنب الذي لا يُغْفَر فالإشراك بالله عزَّ وجل، الإشراك بالله لا يُغْفَر، فهذا الذي مات كافراً.
﴿ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ مَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ(34) فَلَا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ وَاللَّهُ مَعَكُمْ وَلَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمَالَكُمْ (35)﴾
[ سورة محمد ]
أنتم الأعلون، أعلون بعقيدتكم، وتصوراتكم للكون والحياة والإنسان، المؤمن يحمل عقيدة هي أعلى عقيدة مطابقة للواقع.
قال لي شخص: كنت في بلد في آسيا، وأمُّ مدير الشركة توفيت، فتوقَّع أن تُلغى المواعيد كلها في اليوم التالي، فقال له: لا مانع كل شيء على حاله القديم فقال له: ووالدتك؟ قال: أضعها في البراد شهرين أو ثلاثة حتى يأتي دورها بالحرق، ثم ماذا؟ نحرقها؛ لأن القبر يكلِّف ثلاثة ملايين، والحرق يكلِّف مليون، كلفة الحرق أقل، نحرقها ونضع رمادها في قارورة صغيرة، ثم ماذا؟ ثم نضعها في بيت العبادة لكي تتقدَّس، وفي الأعياد نأخذ هذه القارورة إلى بيتنا لنتبارك بها، فتلك معتقداتهم، والزوجة تُحْرَق مع زوجها إذا مات الزوج، تُحْرَق معه في الهند فهناك أديان، وخرافات، وعقائد باطلة، ودجل، وتزوير.
المؤمن عال بعقيدته و تصوره للكون والحياة والإنسان:
﴿وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ﴾ بعقيدتكم، عقيدتك وفق الحقيقة المُطْلَقَة، عقيدتك وفق العلم، وفق الواقع، وفق الفطرة.
﴿وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ﴾ وأنتم الأعلون بتوجهكم إلى الله عزَّ وجل، وأنتم الأعلون بمنهجكم القويم، وأنتم الأعلون بسلوككم القويم، باستقامتكم، وأنتم الأعلون لأن الله معكم، لأن القوة الكُبرى في الكون معكم، لذلك: ﴿فَلَا تَهِنُوا﴾ ليس من الإيمان أن تشعر بالهوان، أنت عبد لله والله معك، ليس من الإيمان أن تيأس، ولا أن تخنع، ولا أن تخضع، ولا أن تستخذي، ولا أن تشعر ألّا دور لك في الحياة، وكل شيء منتهٍ بالنسبة لك، قال سبحانه: ﴿فَلَا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ﴾ أي الاستسلام.
كل عمل صالح يفعله المؤمن لا يُقْطَع عنه خيره ولا يغبن فيه:
﴿وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ﴾ أنت مؤمن، أنت على الحق، وبالحق، ومن أجل الحق تعمل، التصوّر صحيح، العقيدة صحيحة، المنهج قويم، المبادئ سليمة، القِيَم رفيعة، المنهج أخلاقي، الهدف الجنة، القوة الكُبرى في الكون معك الله معك، أعلون لأن الله معكم، تصور لو كانت جهة قوية جداً وأمامها ضعيفان، فإذا كانت هذه الجهة القويَّة مع أحدهما صار الثاني قوياً بها، إذا دعمَك أكبر شخص قوي فأنت أقوى من كل قوي ندّ لك، لذلك: ﴿وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ وَاللَّهُ مَعَكُمْ وَلَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمَالَكُمْ﴾ أي لا يوجد عمل صالح تفعله يُقْطَع عنك خيره.
فَلَا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ آية تبثُّ في المؤمنين المعنويات العالية:
أيها الإخوة الكرام مرَّةً ثانية، هذه الآية أيضاً تبثُّ في المؤمنين المعنويات العالية إن صحَّ التعبير.
﴿فَلَا تَهِنُوا﴾ يجب أن تشعر أنك بإيمانك بالله، ومعرفتك لمنهجه، وطلبك للآخرة أنت أعظم الناس، لا تخضع، لا تحتقر نفسك، لا تضع نفسك موضعاً لا يرضي الله عزَّ وجل، لا تيأس من نصر الله، لا تستخذي، لا تخنع، لا تضعُف قِواك أمام العقبات الكأْداء.
﴿فَلَا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ﴾ أنتم أعلون بعقيدتكم، أعلون بتوجّهكم، أعلون بمنهجكم، بقيمكم، بمبادئكم، باستقامتكم، بأهدافكم.
الله عز وجل مع المؤمن بالتأييد و الحفظ و النصر:
﴿وَاللَّهُ مَعَكُمْ﴾ وهذه معيَّةٌ خاصَّة، الله عزَّ وجل مع كل مخلوق معيَّةً عامة.
﴿ هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَىٰ عَلَى الْعَرْشِ ۚ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا ۖ وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ ۚ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ(4)﴾
[ سورة الحديد ]
أي معكم بعلمه، لكن هذه المعيَّة خاصَّة للمؤمنين؛ معكم بالنصر، والتأييد، والتوفيق، والحفظ.
أعمال الإنسان الصالحة يضاعفها الله له يوم القيامة أضعافاً مضاعفة:
﴿وَاللَّهُ مَعَكُمْ وَلَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمَالَكُمْ﴾ أي أن حجم أعمالكم، تضحياتكم، استقامتكم، الجهاد الذي تجاهدون به أنفسكم، فجهاد النفس يحتاج إلى جهد كبير، فضبط الشهوات، وضبط الجوارح، وضبط الدخل، وضبط الإنفاق، والبحث عن زوجة صالحة، هذا كلَّه يحتاج إلى جهد، قال: ﴿وَلَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمَالَكُمْ﴾ خدمت المسلمين، نصحتهم في عملهم، قدَّمت شيئًا من مالك، من وقتك، من جهدك، من راحتك ﴿وَلَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمَالَكُمْ﴾ عملك محفوظ، بل يضاعفه لك أضعافاً كثيرة، الإنسان في الدنيا قد يضع اللقمة في فم زوجته فيراها يوم القيامة كأُحُد ثواباً، الله عزَّ وجل ينمِّيها له، فأعمالك الصالحة ينميها الله كلها نماءً كبيراً.
دين الله لن تزيده الضغوط إلا قوَّةً و ثباتاً:
﴿فَلَا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ وَاللَّهُ مَعَكُمْ وَلَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمَالَكُمْ﴾ ملخَّص الدرس: أن الله سبحانه وتعالى يبيِّن أن خصائص الكافر تكذيبٌ بالحق، وإعراضٌ نفسيٌّ عن الله، وصدٌّ للناس عن سبيل الله، ومشاققةٌ لرسول الله في حياته وبعد موته، في حياته تآمرٌ عليه، وبعد موته انتقاصٌ من سنَّته، ولأتباعه من بعده، فهذا شأن الكافر، ومع كل الجهود، والأموال، والتخطيط، والقِوى، والكَيد، مع كل هؤلاء قال: ﴿لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا﴾ دين الله لن تزيده الضغوط إلا قوَّةً، ولن يزيده الإنكار إلا تأجُّجاً، ولن يزيده الحرص على زواله إلا ثباتاً وبقاء، والتاريخ أمامكم.
﴿وَسَيُحْبِطُ أَعْمَالَهُمْ﴾ دين الله لا يتأثَّر لكنهم هم سيتأثَّرون..
ثقة المؤمن بالله عز وجل أساس إيمانه بالله تعالى:
﴿ وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا(23)﴾
[ سورة الفرقان ]
دولة استعمارية احتلَّت بلداً عربياً وأراد أن يُسيّره تسييراً غير ديني، فأنشأت أكثر من أربعة آلاف معبد غير إسلامي، ثم تحوَّلت كلها إلى مساجد بعد الاستقلال، فلذلك على المسلم أن يكون دائماً حريصاً على أن يثق بعظمة هذا الدين.
﴿لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا وَسَيُحْبِطُ أَعْمَالَهُمْ﴾ والله حذَّر المؤمنين من أن تزلَّ أقدامهم فيُقِرّوا الكافرين على أعمالهم، باتصال مصالح، بعلاقات معيَّنة، بقرابة، بأشياء.
على المؤمن أن يتعامل مع الله تعالى بالصدق والإخلاص والطاعة:
ثم يقول الله عزَّ وجل: ﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ مَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ*فَلَا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ وَاللَّهُ مَعَكُمْ وَلَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمَالَكُمْ﴾ هذه الآية وحدها تكفينا، ثِق بنصر الله، بتأييده الفردي أو الجماعي، وأنت إذا أطعت الله عزَّ وجل لابدَّ من أن ترى آيات الله واضحةً جليَّةً، إن أطعته لابدَّ من أن ترى ما يرضيك، عبدي كن لي كما أريد أكن لك كما تريد، كن لي كما أريد ولا تعلمني بما يصلحك، أنت تريد وأنا أريد فإذا سلمت لي في ما أريد كفيتك ما تريد، وإن لم تسلم لي في ما أريد أتعبتك في ما تريد ثم لا يكون إلا ما أريد.
الإنسان يتعامل مع الله تعاملاً مباشراً، يتعامل مع الله بالصدق والإخلاص والطاعة، والله عزَّ وجل يريه من آياته العجب العُجاب في كل زمان، في كل مكان.
الله سبحانه وتعالى يوفِّق المؤمن ويؤيده ويبث في نفسه الطمأنينة والثقة:
سيدنا يونس دخل في بطن حوت، نادى في الظلمات؛ ظلمة بطن الحوت وظلمة البحر وظلمة الليل، ثلاث ظلمات.
﴿ وَذَا النُّونِ إِذ ذَّهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَن لَّن نَّقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَىٰ فِي الظُّلُمَاتِ أَن لَّا إِلَٰهَ إِلَّا أَنتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ(87) فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ ۚ وَكَذَٰلِكَ نُنجِي الْمُؤْمِنِينَ (88)﴾
[ سورة الأنبياء ]
هذه القصَّة هنا انتهت، أما التعليق الذي جعلها قانوناً هو: ﴿وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ﴾ في كل زمان، والقصص التي تُروى لا تعد ولا تحصى، كيف أن الله سبحانه وتعالى يوفِّق المؤمن، ويؤيده، ويبث في نفسه الطمأنينة والثقة، ويرفع من شأنه، ويُعلي مقامه، ويرفع ذكره، وينصره على خصومه ﴿وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ﴾ ﴿فَلَا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ وَاللَّهُ مَعَكُمْ وَلَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمَالَكُمْ﴾ .
على المؤمن أن يغير ما بنفسه حتى يغير الله ما به:
والآية الكريمة التي تعرفونها جميعاً وهي مناسبة لأن نذكرها في هذا المقام:
﴿ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَىٰ لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا ۚ يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا ۚ وَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذَٰلِكَ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (55)﴾
[ سورة النور ]
أنت عليك أن تعبده وعلى الله الباقي، عليك أن تطيعه وعلى الله الباقي:
﴿ لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِّن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ ۗ إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّىٰ يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ ۗ وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءًا فَلَا مَرَدَّ لَهُ ۚ وَمَا لَهُم مِّن دُونِهِ مِن وَالٍ(11)﴾
[ سورة الرعد ]
العقَبة عندنا، علينا أن نغيِّر ما بأنفسنا حتى يغير الله ما بنا من كَرب، ما بنا من قهر أحياناً، فهذا الذي يجري في العالم الإسلامي يتألَّم له كل مسلم، فالحل أن نغير ما بأنفسنا حتى يغير الله ما بنا، وفي درسٍ آخر إن شاء الله تعالى ننتقل إلى قوله تعالى:
﴿ إِنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا يُؤْتِكُمْ أُجُورَكُمْ وَلَا يَسْأَلْكُمْ أَمْوَالَكُمْ(36)﴾
[ سورة محمد ]
الملف مدقق
والحمد لله رب العالمين.