الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علمنا ما ينفعنا وانفعنا بما علمتنا وزدنا علماً، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين.
أيها الإخوة المؤمنون، مع الدرس الخامس من سورة محمدٍ صلى الله عليه وسلَّم.
النشاط الفكري ميّز الإنسان عن سائر المخلوقات:
مع الآية التاسعة عشر وهي قوله تعالى:
﴿ فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ وَمَثْوَاكُمْ(19)﴾
[ سورة محمد ]
أولاً: العلم يقتضي النظر، التفكُّر، التأمُّل، البحث، الدرس، المتابعة، البحث عن الدليل، اعتماد التعليل، هذا هو العلم، لذلك عدَّ العلماء هذه الآية أصلاً في رفض الاعتقاد تقليداً، من يعتقد تقليداً فإيمانه مرفوض، الإيمان المبنيّ على التقليد مرفوض بنصِّ هذه الآية، فالله جلَّ جلاله لم يقل للنبي عليه الصلاة والسلام: قل لا إله إلا الله، بل قال: (فَاعْلَمْ ) .
والله سبحانه وتعالى أعطى الإنسان قوَّةً إدراكيَّة، بهذه القوة الإدراكيَّة يستطيع أن يَعْلَم، يستطيع أن ينظر، يستطيع أن يتأمَّل، أن يدرس، أن يبحث، أن يُعَلِّم، أن يبحث عن السبب، أن يربط الأسباب بالنتائج، هذا النشاط الفكري مما يتميَّز به الإنسان، مما امتاز به الإنسان على سائر المخلوقات، ما أمرك أن تعلم إلا بعد أن أعطاك موجبات العلم، ما أمرك أن تعلم إلا بعد أن زوَّدك بهذا العقل، أو ذاك الفكر (فَاعْلَمْ) ، أما إذا قلنا لإنسان: افعل وهو يفعل؛ فماذا يعني هذا الأمر؟ يعني الثبات، إذا قلنا لمن لم يدرس: ادرس، أي عليه أن يدرس، أما إذا قلنا له وهو يدرس: ادرس، أي داوِم على هذه الدراسة.
فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ: آية لها عدة معان:
1ـ على الإنسان أن ينظر و يتأمل حتى يصل إلى يقين بأنه لا إله إلا الله:
المعنى الأول: يقتضي النظر والتأمُّل إلى أن تصل إلى يقينٍ قطعيٍّ أنه لا إله إلا الله، أو إذا وُجِّه الأمر لمن يطبِّق هذا الأمر فمعناه اثبُت على هذا الأمر، وأيُّ أمرٍ مُوجَّهٍ إلى النبي عليه الصلاة والسلام فهو مُوجَّهٌ بالتبعيَّة إلى أمَّته صلى الله عليه وسلَّم، إذاً نحن أيضاً مأمورون أن نعلم أنه لا إله إلا الله، ولكي نعلم أنه لا إله إلا الله ينبغي أن نتفكَّر في ملكوت السماوات والأرض، علينا أن نتفكَّر في خلقه، وعلينا أن نتفكَّر في أفعاله..
﴿ قُلْ سِيرُوا فِي الأَرْضِ ثُمَّ انظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ(11)﴾
[ سورة الأنعام ]
وعلينا أن نتدبَّر آياته، فمن أجل أن تعرف الله بإمكانك أن تعرفه من خلال خلقه، ومن أفعاله، ومن كلامه.
2 ـ هذه الآية جمعت إلى اليقين الاستدلالي اليقين الإخباري:
شيءٌ آخر: ﴿فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ﴾ ما وصلتَ إليه بالاستدلال، فالآن جاءك بالخبر اليقيني، أنت بحثت، ودرست، وتأمَّلت، وتفكَّرت إلى أن وصلت إلى أنه لا إله إلا الله استنباطاً، ثم أخبرك الله أنه لا إله إلا الله يقيناً، فقد جمعت إلى اليقين الاستدلالي اليقين الإخباري، هذا شرح و إيضاح لكلمة: ﴿فَاعْلَمْ﴾ والأمر في القرآن يقتضي الوجوب، أي مِن الخطأ الفادح أن يتصوَّر الإنسان أن أوامر الله لا تزيد على الصلاة والصيام والحج والزكاة، أيُّ أمرٍ في كتاب الله يقتضي الوجوب، أنت أمام منهج كامل، بل إن العبادات التعامليَّة والعبادات العلميّة هي أخطر بكثير من العبادات التَعَبُّديَّة، أي أنه أمرك أن تفكِّر، أمَرك أن تؤمن، أمَرك أن تعتقد اعتقاداً صحيحاً، أمَرك أن تعامل الناس بالصدق والأمانة، هذه العبادات التعاملية مع العبادات العِلْمِيَّة أهمُّ من العبادات الشعائريَّة.
لا إله إلا الله فحوى دعوة الأنبياء جميعاً :
﴿فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ﴾ العلم يحتاج إلى أن تقتطع من وقتك وقتاً تتعرَّف فيه إلى الله عزَّ وجل، أما أن يقول الإنسان: ليس عندي وقت، هذا عذرٌ أقبح من ذنبٍ، أنت خُلِقْتَ من أجل أن تعرف الله، والله سبحانه وتعالى أعطاك كل المؤهِّلات وكل الإمكانات وأمرك أن تعلم، والعلم يقتضي النظر، يقتضي التأمّل، يقتضي التفكُّر، يقتضي البحث، يقتضي البحث عن الأسباب، يقتضي الموازنة، يقتضي ربط الأسباب بالنتائج، يقتضي البحث عن الدليل، يقتضي التعليل، إلى أن تستيقن أنه لا إله إلا الله، فهذه الكلمة هي الدين كلُّه، بل هي فحوى دعوة الأنبياء جميعاً، إذا أردت أن تضغط الدين كلَّه في كلمات قل: لا إله إلا الله.
الله عز وجل هو المعبود الوحيد الذي يستحق العبادة:
"الإله" هو المعبود الذي يستحقّ العبادة، كلمة معبود أي يستحق العبادة، ومَن الذي يستحق العبادة؟ هو الذي خَلَق، وهو الذي أَمَدّ، وهو الذي ربَّى، وهو الذي سيّر، وهو الذي يرزق، وهو الذي يحيي، هو الذي يُميت، هو المعطي، هو المانع، هو الخافض، هو الرافع، هو المُعِز، هو المُذِل، هو الذي بيده الأمر، بيده ملكوت السماوات والأرض، بيده الخلق والأمر، هو الذي لا يُسأل عمّا يفعل، فليس من شأن الألوهيَّة أن يُسأل.
﴿ وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَٰهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلَٰهٌ ۚ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ(84)﴾
[ سورة الزخرف ]
﴿ أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا ۚ وَاللَّهُ يَحْكُمُ لَا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ ۚ وَهُوَ سَرِيعُ الْحِسَابِ(41)﴾
[ سورة الرعد ]
أي إذا بحثت عن الآيات القرآنية التي تتحدَّث عن الله عزَّ وجل ملخَّصها: ﴿فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ﴾ الإله الذي يستحق العبادة، وهل يستحق العبادة مَن لا يخلُق؟ هل يستحق العبادة مَن لا يرزُق؟ هل يستحق العبادة مَن لا يحيي ولا يميت؟ هل يستحق العبادة مَن لا يعلم؟ هل يستحق العبادة مَن لا يرحم؟ هل يستحق العبادة مَن لا يعفو؟ لا تجدُ جهةً مؤهَّلةً أن تعبدها إلا الله..
3 ـ العلم هو الخطوة الأولى إلى أية مَكْرُمَةٍ:
﴿فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ﴾ والعلماء استنبطوا من هذه الآية أنّ العبادة العلميّة تسبق العبادة العمليَّة، أنت لا تعمل أو لا يصح عملك إنْ لم تعلم، لذلك العلم هو الخطوة الأولى إلى أية مَكْرُمَةٍ، إلى أيّ كسبٍ حقيقيٍ في الدين، الخطوة الأولى العلم، ينبغي أنْ تعلم، لذلك حينما نُعَطِّل الجانب العلمي في الإنسان عطَّلنا فيه إنسانيَّته، لو حذفت العلم وموجبات العلم لرأيت الإنسان يستوي مع الحيوان في كل نشاطات حياته؛ من طعامٍ وشرابٍ، ونومٍ، وعملٍ، وزواجٍ، تستوي مع بقية المخلوقات لو ألغيت العلم، أما بالعلم فتتميز عليها جميعاً.
﴿فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ﴾ إنك إنْ علمت أنه لا إله إلا الله توجَّهت إليه وحده، لماذا ﴿فَاعْلَمْ﴾ ؟
التوحيد أساس سعادة الإنسان في الدنيا و الآخرة:
أضرب المثل الثاني مرَّة ثانية، وقد ذكرته كثيراً: أنت تدخل في بناء مؤلَّف من عشرة طوابق، في كل طابق عشر غرف، في كل غرفة خمسة موظَّفين، عشرة طوابق، في كل هذا البناء إنسان واحد مُخَوَّل أن يعطيك الموافقة على السفر، واحد فقط، إذا أيقنت أنّ هناك واحداً هو الذي يوافق؛ فهل يمكن أن تقف أمام موظَّف وأنْ تبذِل ماء وجهك أمامه؟ أو أنْ ترجوه؟ أو أنْ تستعطفه؟ أو أنْ تقدّم له هديَّةً، وأنت تعلم أنّ الذي يوقِّع على إذن السفر هو مدير هذه الدائرة؟ لماذا أمرك الله أنْ توحّده؟ من أجل أنْ تتجه إليه وحده، وهيَّأ لك أسباب السعادة من أجل أن تسعد، فغير الله عزَّ وجل لا يُسعِد ولو كان كبيراً، ولو كان غنياً، ولو كان قوياً لا يُسعِد، أمرك أنْ توحِّد الألوهية منْ أجل أنْ توحِّد الوجهة، منْ أجل أنْ تسعد، من أجل أنْ تحقق سرَّ وجودك في الأرض وإلى أبد الآبدين، لذلك قال تعالى: ﴿فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ﴾
العلم بـلا إله إلا الله أساس كل سعادة و انضباط:
العلم يقتضي التفكُّر في الكون، والعلم يقتضي النظر في أفعال الله عزَّ وجل، والعلم يقتضي تدبُّر آيات القرآن الكريم، هكذا يقتضي العلم، لذلك إنسان ليس له مجلس علم، وليس له منهل علمي، ليس له مرجع علمي، ليس له مسجد يأوي إليه، فهذا إنسان ضائع، شارد، هالك؛ لأنه من دون مصدر علمي، من دون منهل علمي، من دون موجِّه، من دون مرجع يفعل أفعالاً سيِّئة، يتحرَّك حركة عشوائيَّة، يقترف الحرام وهو لا يدري، يأخذ ما ليس له وهو لا يدري، يمشي في طريقٍ مسدود وهو لا يدري، يتيهُ في هذه الدنيا وهو لا يدري، تتنازعه الأهواء، تمزِّقه الشهوات، تحطِّمه الكآبة، لذلك فالله عزَّ وجل أمرنا أن نعلم ﴿أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ﴾ لأن العلم بـ: لا إله إلا الله أساس كل سعادة، أساس كل انضباط، أساس كل وجهةٍ إلى الله عزَّ وجل ﴿فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ﴾ ورد في بعض الأحاديث:
(( لا إلهَ إلَّا اللهُ حِصني فمن دخل حِصني أمِن من عذابي . ))
[ تخريج الإحياء للعراقي بسند ضعيف جداً ]
ورد أيضاً:
(( لا إلَهَ إلَّا اللَّهُ، لا يَسبقُها عَملٌ –لأن هناك شرك- ولا تَترُكُ ذَنبًا ))
[ ضعيف ابن ماجه ]
من ألغى العلم من حياته ألغى وجوده الإنساني:
تصوَّر أنك في مكان مع إنسان عظيم مِن البشر فهل بإمكانك أن تتبذَّل في ثيابك أمامه؟ لا يمكن، هل بإمكانك أن تلفظ كلمةً بذيئةً؟ لا يمكن، فشعورك أنه يعلم وأنه معك يجعلك تنضبط، لذلك إذا علِمتَ أنه لا إله إلا الله كانت لك حصنًا، إخواننا كلمة لا إله إلا الله تُقال سريعاً لكن ترجمتها تحتاج إلى سنوات، إلى جهدٍ جهيد، لا تظن أن تنال الجنَّة بركيعات تركعها ودريهمات تنفقها، الجنَّة أعظم من ذلك، أعظم بكثير، الجنة تحتاج إلى طلب العلم، إلى جلوس على الرُّكَب في المساجد، إلى سنوات لأن سلعة الله غالية.
يعني بنظام الحياة الدنيا هل تجد إنسانًا يُقال له: دكتور، أو يضع حرف الدال قبل اسمه قبل دراسة خمسة وثلاثين سنة؟ كي يُقال له: دكتور أو يُقال له السيد فلان، أو الأستاذ، أو المهندس، هناك إنسان قد يصل إلى مرتبة علميَّة في الدنيا وقد لا تُغنيه شيئاً، وقد لا يكفي دخل هذه الشهادة خمسة أيام من الشهر، ومع ذلك هذا اللقب العلمي يحتاج إلى سنوات طويلة من الدراسة، والإنسان يطمع أن يدخل الجنَّة، أن يكون مؤمناً وهذا أعلى لقب علمي، أعلى لقب أخلاقي، أعلى لقب جمالي، أفيطمع أحد أن يكون مؤمناً من دون أن يفرِّغ من وقته وقتاً يطلب فيه العلم؟ ينهل فيه من مناهل المعرفة؟ لذلك كل إنسان يلغي من حياته العلم أو طلب العلم فأنا أقول لكم: إنه يلغي وجوده الإنساني.
الإيمان المطلوب هو الإيمان بلا إله إلا الله:
﴿فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ﴾ إذا كان هذا الأمر مُوجّهاً إلى النبي عليه الصلاة والسلام، فهذا اليقين الإخباري المتطابق مع اليقين الاستدلالي، أو إذا أردنا أن نعمِّم هذا الأمر إلى أمَّة محمد صلى الله عليه وسلَّم، أمة التبليغ فهذا يعني أنّ على كل مؤمنٍ أنْ يبذِل جهداً واضحاً في معرفة أنه لا إله إلا الله.
أيها الإخوة الكرام، لا ينبغي أنْ يغترَّ الإنسان أو أنْ يتوهَّم أنه مؤمنٌ بأنّ لهذا الكون إلهاً، فهذه الحقيقة ما أنكرها أحد إلا قلَّةٌ قليلةٌ جداً من المرضى..
﴿ وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ ۚ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ ۚ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ(25)﴾
[ سورة لقمان ]
لو سألت أهل الدنيا، سكَّان القارَّات الخمس مَن خلق الكون؟ لقالوا: الله، وماذا عن بوذا؟ قالوا: هذا نتقرَّب به إلى الله.
﴿ أَلَا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ ۚ وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِن دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَىٰ إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ ۗ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ(3)﴾
[ سورة الزمر ]
فأنْ تعتقد أنّ لهذا الكون خالقاً فهذا إيمان لا أحد يُنكره أولاً، ولا يرقى بك ثانياً، ولا يمنعك من المعاصي ثالثاً، ولا يسمو بروحك إلى الله عزَّ وجل، لكن الإيمان المطلوب هو الإيمان بـ: لا إله إلا الله.
العبادة هي خلاصة الطاعة و الحب و الاستسلام لله عز وجل:
توحيد الربوبيّة أنْ تؤمن أنّ لهذا الكون خالقاً واحداً، لكنَّ توحيد الألوهيَّة أنْ تؤمن أنّ لهذا الكون خالقاً هو المُسيِّر لكل شؤونه، هو المستحق للعبادة، العبادة أنْ تتجه إلى جهةٍ ما، أنْ تمْحضَها ودَّك، أن تمحضها حبَّك، أن تمحضها طاعتك، هذه العبادة، أي أنّ خلاصة الطاعة، وخلاصة الحب، وخلاصة الاستسلام، وخلاصة الانصياع هي العبادة، فلذلك إنْ علمت أنه لا إله إلا الله، لا مسيّر لهذا الكون إلا الله عبدته، فإذا عبدته سعدت بقربه، أي أن الدين علم وسلوك وسعادة، جانب عقلي، جانب عملي، جانب جمالي، الجمالي هو الهدف.
﴿ إِلَّا مَن رَّحِمَ رَبُّكَ ۚ وَلِذَٰلِكَ خَلَقَهُمْ ۗ وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ(119)﴾
[ سورة هود ]
الجانب الجمالي، فالثمن السلوك، والسبب المعرفة، سبب وثمن ونتيجة، أنت إذًا تعرفه، فتطيعه، ثم تسعد به؛ هذا هو الدين.
النبي عليه الصلاة والسلام معصوم عصمة تامة لأنه مشرّع:
﴿فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ﴾ في الآية نقطة لغوية دقيقة جداً، هذه النقطة إعادة الجَار، تقول مثلاً: أمسكت بالقلم والدفتر، ولكن أمسكت بالقلم وبالدفتر فهذا يقتضي معنى آخر، فرقٌ كبير بين أن تقول: أمسكت بالقلم والدفتر، أي أنك عطفت المجرور الثاني على الأول، أما إذا قلت: أمسكت بالقلم وبالدفتر هنا المجروران اختلفا، العمل اختلف والاسم اختلف، فإذا قال الله عزَّ وجل: يا محمد استغفر لذنبك ويا أيها المؤمنون استغفروا لذنوبكم، معنى ذلك أن استغفار النبي غير استغفار المؤمنين، وأن ذنب النبي غير ذنب المؤمنين، إعادة الجار يعني التمايز بين المجرورين، فالنبي عليه الصلاة والسلام يستغفر لئلا يقع في الذنب، إن صحَّ التعبير هو استغفارٌ وقائي، يستغفر لكي لا يُذْنِب، فلئلا يُذْنِب يستغفر، فالنبي عليه الصلاة والسلام كما هو ثابتٌ في علم العقيدة، معصومٌ قبل النبوَّة وبعد النبوَّة من الصغائر والكبائر، من الأقوال والأفعال والأحوال والشأن عصمةٌ تامَّةٌ مطلقة، الله سبحانه وتعالى يعصم الأنبياء لأنهم مشرِّعون، لو أنه تطرَّق إلى اعتقادنا أنّ النبي عليه الصلاة والسلام قد يُخطئ شككنا في كل سنَّته، معصومٌ عن أنْ يُخْطِئ في أقواله وفي أفعاله وفي أحواله، لا قبل النبوَّة ولا بعدها، لا في الكبائر ولا في الصغائر، فالنبي معصوم، إذاً استغفار النبي من طبيعةٍ غير طبيعة استغفار المؤمنين، النبي يستغفر لئلا يُخطئ، يستغفر لِئَلا يقع في الذنب، استغفاره وقائي..
استغفار المؤمنين غير استغفار النبي الكريم:
لو كان إنسان يمشي في طريق غير ممهد و لا معبّد، وفيه حفر، فإذا وقع في حفرةٍ نهض منها، هذا شأن المؤمن إذا وقع في حفرةٍ نهض منها، لكن الذي يطلق مصباحاً متأَلِّقاً كشَّافاً وضّاءً، فهذا لا يقع في الحفرة؛ لأنه رآها قبل أن يقع بها، فالأول يتقي الحُفر بالخروج منها، والثاني يتقي الحفر بعدم الوقوع فيها، فاستغفار النبي شيء، واستغفار المؤمنين شيءٌ آخر، المؤمن قد يقع في الذنب ثم يستغفر، لكن: ﴿وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ﴾ بعضهم قال: "إذا كان للنبي صلى الله عليه وسلَّم ذنبٌ فهو ترْك الأولى" ، هكذا قال بعض المفسِّرين، لكن الأصح أن استغفار النبي عليه الصلاة والسلام استغفارٌ وِقائي، أي أنه يتصل بالله ليتألَّق مصباحه ليرى كل شيءٍ أمامه فلا يقع في ذنب، أما المؤمن يقع في الذنب فيستغفر فيغفر الله له، لذلك فالجار: ﴿وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ﴾ فهذه اللام حرف جر تكرر في كلمة: ﴿وَلِلْمُؤْمِنِينَ﴾ مما يعني أن استغفار المؤمنين غير استغفار النبي، وطبيعة ذنب المؤمنين غير طبيعة ذنب النبي عليه الصلاة والسلام.
تقلب الإنسان في أحواله ثم استقراره على حال معين:
﴿وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ﴾ بعضهم قال: "إذا كان للنبي صلى الله عليه وسلَّم ذنب فذنبه أنه كلَّما أقبل على الله عزَّ وجل عرف مِن كمالاته وأسمائه الحسنى ما لم يعرفه من قبل، فيشعر بالذنب لمعرفته التي كانت قبل معرفته الجديدة" إنسان أنت ظننت أن معه ليسانس فرضاً ثم اكتشفت أن معه دكتوراه، فأنت تشعر أنك لم تقدره حقَّ قدره في النظرة الأولى، لعلَّ هذا أيضاً مما يُفَسَّر به ذنب النبي عليه الصلاة والسلام، فهو يُقبِل على الله بشكلٍ مستمر وكلَّما أقْبَلَ عليه رأى من كماله ما لم يرَه من قبل.
﴿وَاللَّهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ وَمَثْوَاكُمْ﴾ الإنسان يتقلَّب في أحواله ثم يستقر على حال، أو يتقلَّب في النهار من نشاطٍ إلى نشاط ثم يثوي في الليل، أو يتقلَّب في الدنيا من عملٍ إلى عمل، ثم يثوي في الآخرة إمّا في الجنَّة أو في النار، التقلُّب هو الحركة، والثواء هو الاستقرار، فالله سبحانه وتعالى يعلم متقلَّبنا ومثوانا، لعلَّ الله سبحانه وتعالى يرى أن هذا الإنسان في حيرة، وفي حركة عشوائيَّة، لكن الله يعلم فيه الخير إذاً يمهله إلى أن يثوي إلى طاعة الله، ولعلَّ هذا المنافق يعلم اللهُ جلَّ جلاله أنه يتحرَّك ليرضي المؤمنين لكنَّه ليس مؤمناً، له مصالح مع المؤمنين، فيعمل بعمل أهل الجنة لكنه ربَّما استقر على غير ذلك، إذاً التقلُّب: الحركة، أما مثواكم، فالثوي: الاستقرار، فالله عزَّ وجل يعلم حاضركم ومستقبلكم، يعلم الحركة الظاهرة والحال العميق، يعلم حالكم في الدنيا وحالكم في الآخرة، فهي كلمة شموليَّة..
الله عز وجل عليم بظاهر الإنسان و باطنه:
﴿وَاللَّهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ وَمَثْوَاكُمْ﴾ بعض الناس مثلاً يعمل في التجارة وفي الوظيفة ويسافر، ثم يستقر على عمل معين، فتوجد حركة استكشافيَّة ثم هناك استقرار، قد تكون الدنيا للحركة والآخرة فيها الاستقرار، يعلم ما تفعلون في الدنيا ويعلم ما أنتم عليه في الآخرة، يعلم ما تفعلونه في النهار وما تستقرّون عليه في الليل، الإنسان له جلوة وله خلوة، في الجلوة متقلَّبكم، وفي الخلوة مثواكم.
إنّ معنى الآية: أنه يعلم ما تفعلونه في النهار، وما تقولونه، وما تدَّعونه، وما تفتخرون به، ويعلم ما أنتم عليه في الليل، هل أنتم في مستوى هذه الدعوى، أم أنّ أحوالكم في الليل غير أحوالكم في النهار؟
﴿يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ وَمَثْوَاكُمْ﴾ يعلم ما أنتم عليه في الدنيا وما أنتم عليه في الآخرة، يعلم ظاهركم ويعلم باطنكم، أي أنّ الآية شموليَّة ينطبق عليها معانٍ كثيرة ﴿يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ وَمَثْوَاكُمْ﴾ .
الله عز وجل يعلم بتصرف الإنسان و استقراره:
هناك آية تؤكّد هذا المعنى وهي:
﴿ وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ(214) وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنْ اتَّبَعَكَ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ(215) فَإِنْ عَصَوْكَ فَقُلْ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ(216) وَتَوَكَّلْ عَلَى الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ(217) الَّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ(218) وَتَقَلُّبَك فِي السَّاجِدِين(219)﴾
[ سورة الشعراء ]
لعلَّ التقلُّب التصرُّف، فالإنسان قد ينتقل من حالٍ إلى حال، من يقين إلى يقين، من عمل إلى عمل، من درجة إلى درجة، من رُقي إلى رُقي، هذا التقُّلب، التقلُّب في مدارج الآخرة، في مدارج السالكين، أو التقلُّب في دركات الضالّين، التطور نحو الأعلى أو نحو الأسفل، ويعلم الله عزَّ وجل أين يستقر هذا الإنسان، في أية مكانة يستقر، أو في أية دركة من دركات النار يستقر.
تشوق المؤمنين إلى القتال و خوف المنافقين منه:
﴿ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ وَمَثْوَاكُمْ(19) وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا لَوْلَا نُزِّلَتْ سُورَةٌ ۖ فَإِذَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ مُّحْكَمَةٌ وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتَالُ ۙ رَأَيْتَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ يَنظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ ۖ فَأَوْلَىٰ لَهُمْ(20)﴾
[ سورة محمد ]
يعني سورةٌ تدعو إلى الجهاد، قال: ﴿فَإِذَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ مُحْكَمَةٌ وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتَالُ رَأَيْتَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ﴾ المنافقون هم مع المؤمنين في صلواتهم، في صيامهم، في احتفالاتهم، أما في الجهاد والقتال هم ليسوا معهم، ترتعد فرائصهم، تخور قلوبهم، تضعف عزيمتهم، قال: ﴿وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا لَوْلَا نُزِّلَتْ سُورَةٌ﴾ تدعونا إلى القتال، إلى الجهاد، طبعاً لإيمانهم ولتشوقهم للبذل في سبيل الله.
آيات الله محكمة لا جدل فيها:
قال: ﴿فَإِذَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ مُحْكَمَةٌ﴾ ﴿محكمةٌ﴾ أيْ واضحةٌ لا تحتاج إلى تفسير، ومن رحمة الله بنا أن الآيات التي تتعلَّق بالحرام والحلال وبأصول العقيدة آياتٌ مُحكَمة لا تحتاج إلى تفسير، واضحة، لا تحتاج برهانًا، ليست موضع جدل، ولا موضع اجتهاد، ولا موضع تردّد، الآيات المُحكَمات واضحاتٌ جَلِيَّات، قال: ﴿فَإِذَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ مُحْكَمَةٌ وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتَالُ رَأَيْتَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ﴾ هؤلاء المنافقون، في آية أخرى قال الله عزّ وجل فيهم:
﴿ وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ(8) يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلا أَنفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ(9) فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا ۖ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ(10)﴾
[ سورة البقرة ]
إذاً هذا المُصطلح في القرآن يعني المنافقين.
خوف المنافقين من القتال و ارتعاد أوصالهم عند ذكره:
قال سبحانه: أي رأيت المنافقين ﴿رَأَيْتَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ﴾ بخوفٍ شديد، بفزَع، بانهيار ﴿نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ﴾ خافوا على هذه الحياة الدنيا أن تنقطع، خافوا أن يموتوا ﴿فَأَوْلَى لَهُمْ﴾ والحقيقة هذا مقياس دقيق جداً.
﴿ قُلْ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ هَادُوا إِنْ زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِيَاءُ لِلَّهِ مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوْا الْمَوْتَ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ(6)﴾
[ سورة الجمعة ]
علامة صحَّة العمل عدم الخوف من الموت:
علامة المؤمن الصادق أنه يرجو لقاء الله، أو يشتاق إلى لقاء الله عزَّ وجل، أما إذا أراد الحياة الدنيا فإنما يريدها ليزداد عمله، لأن النبي عليه الصلاة والسلام وهو الصادق المصدوق يقول عندما سئل عن خير الناس:
(( يا رَسولَ اللهِ، أيُّ النَّاسِ خَيرٌ؟ قالَ: مَن طالَ عُمُرُهُ وحَسُنَ عَمَلُهُ قالَ: فأيُّ النَّاسِ شَرٌّ؟ قال: مَن طالَ عُمُرُهُ، وَساءَ عَمَلُهُ. ))
[ تخريج المسند لشعيب ]
فلا يرغب المؤمن في الحياة إلا ابتغاء أن يزداد عمله الصالح، والنبي عليه الصلاة والسلام كان يعلِّمنا ويقول:
(( اللَّهُمَّ أَحْيِنِي مَا كَانَتِ الْحَيَاةُ خَيْرًا لِي وَتَوَفَّنِي إِذَا كَانَتِ الْوَفَاةُ خَيْرًا لِي. ))
[ صحيح البخاري ]
إلا أنّ الذين ابتعدوا عن ربهم وعصوا أمره لا شيء يخيفهم كالموت، والتفكُّر في الموت مقياس دقيق، فالإنسان إذا خاف من الموت خوفاً مَرَضياً فهذه علامةٌ ليست طيّبة، أما إذا تصوَّر الموت ولم يرَ فيه ما ينخلع له قلبه فهذه علامة طيّبة، لأن علامة صحَّة العمل عدم الخوف من الموت، لكن علامة الانحراف وأكل أموال الناس بالباطل، والعدوان على الناس وظلمهم فهذه علامتها الخوف من الموت.
﴿ وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَىٰ حَيَاةٍ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا ۚ يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ وَمَا هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذَابِ أَن يُعَمَّرَ ۗ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ (96)﴾
[ سورة البقرة ]
ترحيب المؤمن بالموت و خوف المنافق منه:
﴿رَأَيْتَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ﴾ والحقيقة أن الإنسان عندما يخوض حرباً مثلاً، فالمؤمن يرحِّب بلقاء الله عزَّ وجل، تظهر منه شجاعة، شيءٌ لا يُصَدَّق، قد تكون فئة قليلة جداً تنقضُّ عليها فئةٌ كبيرةٌ كبيرة وتبقى أسابيع عدة دون أن تصل إلى مرادها، السبب أن المؤمن يُرَحِّب بالموت فيصبح شجاعاً، بينما غير المؤمن يَشُلّ الموت حركته، الخوف من الموت يشل حركته.
أفضل شيء للإنسان أن يتجه إلى طاعة الله و طلب جنته:
﴿فَأَوْلَى لَهُمْ﴾ هذه الكلمة لها تفاسير كثيرة، من أوجَه تفسيراتها: أولى لهم أن يطيعوا الله، أولى لهم أن يتوبوا إليه، أولى لهم أن يقبلوا عليه، أولى لهم أن يتجهوا إلى الآخرة، أولى لهم.
﴿ أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى(34)﴾
[ سورة القيامة ]
الأولى أيْ الأفضل، الأحسن، الأكمل، الذي يليق بك أن تفعل كذا وكذا.
﴿فَأَوْلَى لَهُمْ﴾ أيْ أَوْلى لهم أن يطيعوا الله عزَّ وجل، أَوْلى لهم أن يؤمنوا، أَوْلى لهم أن يُخلِصوا، أَوْلى لهم أن يتوبوا.
الأّوْلى بالإنسان أن يكون عمله طاعة وقوله حقَّاً:
﴿ وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا لَوْلَا نُزِّلَتْ سُورَةٌ ۖ فَإِذَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ مُّحْكَمَةٌ وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتَالُ ۙ رَأَيْتَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ يَنظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ ۖ فَأَوْلَىٰ لَهُمْ(20) طَاعَةٌ وَقَوْلٌ مَعْرُوفٌ فَإِذَا عَزَمَ الْأَمْرُ فَلَوْ صَدَقُوا اللَّهَ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ (21)﴾
[ سورة محمد ]
أيْ أنّ الأَوْلى بالإنسان والذي يليق به أن يكون عمله طاعة وأن يكون قوله حقَّاً، فعندك سلوك وعندك كلام ﴿طَاعَةٌ وَقَوْلٌ مَعْرُوفٌ﴾ القول المعروف هو القول الحق، والطاعة هي طاعة الله عزَّ وجل ﴿طَاعَةٌ وَقَوْلٌ مَعْرُوفٌ﴾ هذا أَوْلى لهم، أَوْلى لهم أن يطيعوا، وأَوْلى لهم أن ينطِقوا بالحق.
من آثر الآخرة على الدنيا ربح الدنيا والآخرة معاً:
﴿فَإِذَا عَزَمَ الْأَمْرُ﴾ أيْ إذا جاء وقت الشِّدَّة، وجاء وقت اللقاء مع العدو ﴿فَإِذَا عَزَمَ الْأَمْرُ فَلَوْ صَدَقُوا اللَّهَ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ﴾ صدقوا الله في بذْل أنفسهم.
﴿ مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ ۖ فَمِنْهُم مَّن قَضَىٰ نَحْبَهُ وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ ۖ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا(23)﴾
[ سورة الأحزاب ]
لماذا رضي الله عن المؤمنين؟ قال: لأنهم بايعوا النبي صلى الله عليه وسلَّم على الموت تحت الشجرة، إذا قلنا للصحابة "رضي الله عنهم" فهذه عبارةٌ تقريرية، أما إذا قلنا عن عالمٍ جليل: "رضي الله عنه" فهذه عبارةٌ دُعائيَّة، وفرقٌ كبير بين التقرير وبين الدعاء. ﴿طَاعَةٌ وَقَوْلٌ مَعْرُوفٌ﴾ أيْ أَوْلى لهم أن يطيعوا وأن ينطقوا بالحق..
من صدق في نشر كلمة الحق ربح الدنيا و الآخرة:
﴿فَإِذَا عَزَمَ الْأَمْرُ فَلَوْ صَدَقُوا اللَّهَ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ﴾ وهذا معناه أن الإنسان دائماً إذا آثر الآخرة على الدنيا ربح الدنيا والآخرة، وأنه دائماً إذا آثر الدنيا على الآخرة خسر الآخرة والدنيا، فليس هناك حل وسط، إما أن تربحهما معاً، وإما أن تخسرهما معاً، والإنسان ربما كانت نيَّته أفضل من عمله..
﴿فَإِذَا عَزَمَ الْأَمْرُ فَلَوْ صَدَقُوا اللَّهَ﴾ في بذل نفوسهم ربما ينتصرون فيعيشون حياةً مديدةً في عزٍّ كريم، الله عزَّ وجل قال:
﴿ وَيَنْصُرَكَ اللَّهُ نَصْرًا عَزِيزًا(3)﴾
[ سورة الفتح ]
النصر العزيز مُفرِح، والله عزَّ وجل قال:
﴿ فِي بِضْعِ سِنِينَ ۗ لِلَّهِ الْأَمْرُ مِن قَبْلُ وَمِن بَعْدُ ۚ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ(4) بِنَصْرِ اللَّهِ ۚ يَنصُرُ مَن يَشَاءُ ۖ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (5)﴾
[ سورة الروم ]
فعندما يبذل الإنسانُ حياته من أجل نشر كلمة الحق فقد كسب حياته وكسب آخرته، والإنسان حينما يضِنّ بحياته من أجل نشر الحق خسر حياته وخسر آخرته، والقضيَّة معادلة صعبة إما أن تربحهما معاً وإما أن تخسرهما معاً، إذاً علينا بالصدق.
من أحبّ دنياه دفع آخرته ثمناً لها:
﴿ فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ(22)﴾
[ سورة محمد ]
أيْ في الأرض ﴿أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ﴾ الإنسان حينما يتولَّى أمر الناس إما أن يصلحهم وإما أن يفسدهم، لعلَّه يفسدهم بالمعصية، يفسدهم حينما يظلمهم، يفسدهم حينما يسمح لبعضهم أن يتكلَّم على بعض، أفسدهم جميعاً، يفسدهم إذا أصغى لأحدٍ وأصمَّ أذنه عن الآخر، يفسدهم إذا فرَّق بينهم، يفسدهم إذا قرَّب بعضهم وأبعد بعضهم الآخر، يفسدهم إذا ميَّز بينهم، يفسدهم إذا ظلمهم، يفسدهم إذا اهتم بدنياهم ولم يهتمَّ بآخرتهم، بل إن بعضهم يرى أن في فساد الناس مصلحةً له، فلذلك: ﴿فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ﴾ والإنسان أحياناً من أجل مصالحه يُضَحِّي بكل علاقاته، والدنيا إذا أحبَّها الإنسان حبَّاً جمَّاً دفع ثمنها باهظاً، دفع آخرته ثمنها، ودفع علاقاته مع أقربائه، ودفع مبادئه ثمناً لدنياه.
من ولّي أمر الناس و لم يحطهم بنصحه حرم الله عليه الجنة:
قال: ﴿فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ﴾ طبعاً أن يتولَّى الإنسان أمر الناس هذه أمانة، وإنها يوم القيامة خِزيٌّ وندامة إلا من رحم الله، أن يتولَّى الناس أمر عشرة هي أمانة وإنها يوم القيامة خزيٌّ وندامة إلا من رحِمَ الله، فالإنسان إذا تولَّى أمر عشرة فلم يحُطْها بنصحه حرَّم الله عليه الجنَّة يوم القيامة ﴿فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ﴾ .
من عامل الناس بمكيالين فقد أفسدهم:
﴿فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ﴾ تصوَّر رئيس دائرة مثلاً عنده عشرة موظَّفين إذا قرَّب الأغنياء وأبعد الفقراء فقد أفسدهم، إذا أصغى إلى وِشاية بعضهم ولم يتحقَّق من الأمر فقد أفسدهم جميعاً، إذا ظلمهم فقد أفسدهم، إذا ضَيَّق عليهم فقد أفسدهم، إذا توهَّم أن مصلحته في فساد دينهم فدعاهم إلى الفساد كي يُحْكِمَ عليهم قبضته فقد أفسدهم، فالإفساد هو إخراج الشيء عن طبيعته، فالإنسان مفطور فطرة عالية فإذا رسَّخت فيه الفضيلة، والصدق والأمانة، والرحمة والعدل فقد حافظت على البُنْيَة العالية، حافظت على طبيعة الإنسان، أما إذا قرَّبت المنافق وأبعدت الصادق، وإذا نصحك شخص أبعدته، وإن نافق لك آخر قرَّبته، قرَّبت الغني وأبعدت الفقير، أخذت من هذا وأعطيت لهذا، هذا ظلمته وهذا أكرمته فقد أفسدتهم، فالإنسان أحياناً يُمْتَحَن، يتولَّى إدارة ما كمدير مدرسة مثلاً، رئيس مستشفى، رئيس دائرة عنده عشرة موظَّفين أو أكثر فإذا حابى بعضهم وعاملهم بمكيالَين فقد أفسدهم، قرَّب من يلوذ به فقد أفسدهم، قرَّب الأغنياء أفسدهم، قرّب المنافقين أفسدهم، ضيّق عليهم أفسدهم، أصغى إلى وشاية بعضهم فقد أفسدهم، وهذا هو المعنى: ﴿فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ﴾ .
الإنسان بُنْيان الله وملعونٌ من هدم بنيان الله:
لذلك إذا انتقى الإنسان.. لو أن مُعَلِّم ابتدائي انتقى عَرِّيفًا وفي هذا الصف من هو أرضى لله منه فقد خان الله ورسوله، يجب أن تختار إنسانًا مناسباً، تختار الكفء، المخلص، وأن تجعل هناك مقياساً دقيقًا، فلعلكم تفعلون هذا فإياكم أن تفعلوا ذلك ﴿فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ﴾
(( إنَّ هذا الإنسانَ بنيانُ اللَّهِ فملعونٌ مَن هدم بنيانَهُ. ))
[ الزيلعي في تخريج الكشاف وقال: غريب جداً ]
هذا الإنسان إذا خوَّفته، أو إذا أفقرتَه، أو إذا أحوَجتَ المرأة أن تأكل بثدييها فقد أفسدتها، إذا ضيَّقت على الإنسان حتى اضطر إلى أن يأكل المال الحرام فقد أفسدته، من الذي جعله يأكل المال الحرام؟ الذي ضيَّق عليه، إذاً الإفساد واسع جداً، فخلاصة الإفساد: أن تخرجه عن طبيعته، الإنسان ينبغي أن يكون أميناً جعلته يخون من أجل أن يأكل، ينبغي أن يكون صادقاً فجعلته يكذب، ينبغي أن يكون عفيفاً فجعلته يزني، طبعاً طريق الزواج طويل جداً، فحملت الشاب على أن يزني، أفسدناه نحن، حينما وضعنا العراقيل أمام زواج الشباب أفسدنا الشباب، فهذه أمور مخيفة، المفروض أن نعمل في بناء الإنسان لا في هدمه، واذكر أخي المؤمن (إنَّ هذا الإنسانَ بنيانُ اللَّهِ فملعونٌ مَن هدم بنيانَهُ) .
تخِوّفُ إنسانًا، وتضطر إنساناً إلى أن يأكل المال الحرام، تدفعه إلى أن يزني، إذا أصبحت الأمور معقدة جداً، والأعمال قليلة تدفعه إلى السرقة، فعندما تنشأ بطالة تنشأ معها سرقات وجرائم، خط الجريمة يصعد مع البِطالة، كذلك إذا سمحنا ببرامج فيها فساد مثلاً، فقد يقع الأخ على أخته، قد يقع زنا المحارم الذي لا يمكن لإنسان أن يتصوَّره، وهذا يقع، إذا سمحنا بأيِّ شيء يُفْسِد الأخلاق فقد أفسدناه.
من أخرج الإنسان عن طبيعته الخيّرة ساهم في انتشار الفساد:
هذه آية واسعة المعاني، قد نفسد الأخلاق، قد نفسد العلاقات، قد نفسد النفس البشرية، قد نحمل الناس على الخيانة، على الكذب، على الزنى، على النفاق، هذا كله إفساد، ولذلك عندما تجد أن هناك قوانين صارمة جداً تكافح المخدَّرات فعليك أن ترتاح لها، فالذي يتاجر بالمخدَّرات في القانون الجديد يُعدَم
(( إنَّ اللهَ يزعُ بالسلطانِ ما لا يزعُ بالقرآنِ. ))
[ مجموع فتاوى ابن باز ]
والآن هناك مخدِّرات: شمَّة واحدة صار المرء مدمنًا، وبالإدمان انتهى الإنسان، وصار يسرق، وهدّم أسرة، من يشقى به؟ أبوه وأمه يشقيان به، فالذي ينقل شيئاً محرّماً، ويشيع الفحشاء ويشيع الفاحشة كأن يريك فيلماً فقد انتهى، وهذا هو الفساد، الفساد أن تُخْرِجَ الإنسان عن طبيعته الخيّرة.
عندما ترى فتاة مثلاً تخاف من الله، تؤدي صلواتها، تستحي هكذا طبيعة الفتاة كما أرادها الله، أما إذا دفعتها إلى الاختلاط مع الرجال، دفعتها إلى الاحتكاك معهم فأصبحت مسترجِلَة، وأصبحت جريئة، وأصبحت تتساهل في أمر دينها، أصبحت مثار فتنة، فقد أفسدتها وأفسدت من حولها وأنت لا تدري.
فالماء صفاته مثلاً لا لون له، لا طعم له، لا رائحة له، فإذا تعكّر أفسدته، صار له رائحة نتَن أفسدته، صار ذا طعم قبيح أفسدته، فالإنسان ينبغي أن يكون صادقاً، أميناً، عفيفاً، بريئاً، محبَّاً، منصفاً، فحينما تسهم في إفساد هذه البُنْيَة النفسية فهذا عمل خطير.
القتل عاقبة المفسد في الأرض:
لذلك:
﴿ إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا أَن يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم مِّنْ خِلَافٍ أَوْ يُنفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ۚ ذَٰلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا ۖ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ(33)﴾
[ سورة المائدة ]
الإنسان الذي يقترف مثلاً جرائم هذا ينبغي أن يُعَاقَب عقاباً شديداً، المواطن يرتاح عندما يجد الأمن مستتباً، هذه من نِعَم الله العُظمى (إنَّ اللهَ يزعُ بالسلطانِ ما لا يزعُ بالقرآنِ) .
من لوازم اختيار الشهوة فقدان الرؤية الصحيحة و عدم الإصغاء للحق:
قال:
﴿ فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ(22) أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ(23)﴾
[ سورة محمد ]
أيْ أنّ هؤلاء الذين أفسدوا في الأرض ﴿أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ﴾ هؤلاء يفسدون وهم في حالة عمى، أيْ أنهم اختاروا الشهوة، من لوازم اختيار الشهوة أن الشهوة كانت كالوَقر في آذانهم، وكالغِشاوة على أعينهم ففقدوا بصرهم، فقدوا رؤيتهم الصحيحة، وفقدوا إصغاءهم للحق.
أساس الدين أن تتقرب إلى الله بخدمة عباده لا بإفسادهم:
﴿أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ﴾ لعنهم عندما أفسدوا عباد الله، فأساس الدين أن تتقرَّب إلى الله بخدمة عباده، بإكرامهم، بالإحسان إليهم، بإنصافهم، بمسح جراحاتهم، بمسح دموعهم، هذا الأساس، أصل التقرُّب إلى الله خدمة العباد، وكل إنسان يفسد إنسانًا، يُفقِره، يُجيعه، يدفعه إلى الزنا، يدفعه إلى أن يأكل المال الحرام، يدفعه إلى أن يخون، يدفعه إلى أن يزني فقد أفسده. فالإنسان قبل أن يتصرف، قبل أن يقول، قبل أن يفعل، لينظر ماذا يفعل، وأقرب شيء لنا: الأب الذي يأتي بهذه الأجهزة التي تشيع الفساد في البيت، ماذا فعل هذا الأب بأولاده؟ أفسدهم، هو وليّ أمر أولاده، فإذا سمح لهم بشيءٍ يحطِّمهم ويقيم العلاقات التي لا ترضي الله بينهم فقد أفسدهم، هذه كلمة واسعة جداً لكن ملخَّصها: أن إفساد الشيء إخراجه عن طبيعته، والإنسان له فطرةٌ عالية فإذا حملْتَه على المعصية، أو على الكذب، أو على النفاق، أو على السرقة، أو على الزنا، أو أخفته، أو أجَعته، أو قهرته فقد أفسدته، تشوَّهت حقيقته، فلذلك الصحَّة النفسية بالإيمان، وكل إنسان بعيد عن الإيمان يصبح عنده مرض نفسي، خوف شديد، نفاق شديد، قهر، حرمان، ضياع، تشتُّت.
من علامات المنافق أنه يُفْسِدُ في الأرض:
﴿فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ*أُولَئِكَ الَّذِينَ﴾ أفسدوا ﴿لَعَنَهُمُ اللَّهُ﴾ فأنت أمام شيئين: إما أن تفعل شيئاً تتقرَّب به إلى الله كخدمة العباد، كإصلاح ذات العباد، الله عزَّ وجل قال:
﴿ يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَنفَالِ ۖ قُلِ الْأَنفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ ۖ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ ۖ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ(1)﴾
[ سورة الأنفال ]
إذا أصلحت بين الناس، نَمَّيت القيم، نميت المكارم، دفعته للاستقامة، نحو الخوف من الله، وحصَّنت الإنسان بالاستقامة، عرَّفته بالله فأنت وصلته بالله عزَّ وجل، إذاً فأنت تتقرَّب إلى الله بهذا العمل، أما إذا أفسدته، دلَلَته على الشهوات، فممكن إفساد إنسان بفيلم واحد تطلعه عليه، فانتهى وأخذ خطاً آخر، وممكن إفساده بمجلَّة، أو بقصَّة، أو بشمَّة، فانتهى، نسأل الله أن يعافي كل أخ مُبتلى بالتدخين فأساسه رفيق سيئ أفسده، فالصديق السوء يسبب للأهل المتاعب التي لا حصر لها دائماً، فالفساد شيءٌ مخيف، ومن علامات المنافق أنه يُفْسِدُ في الأرض.
﴿ وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ(11)أَلا إِنَّهُمْ هُمْ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لا يَشْعُرُونَ(12)﴾
[ سورة البقرة ]
من أفسد الناس انقطع عن نور الله و طرد من رحمته:
﴿أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ﴾ حينما أفسدوا طردهم الله من رحمته، عندما طردهم انقطعوا عن نور الله عزَّ وجل ﴿فَأَصَمَّهُمْ﴾ تحصيل حاصل ﴿وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ﴾ صارت الشهوة وَقْراً في آذانهم، أصمَّتهم، وتحوّلت الشهوة إلى غشاوة على أعينهم فأعمَت أبصارهم، الأساس أنهم آثروا الشهوة فأصبحوا في متاهةٍ، وفي عمىً، وفي صمم.
على الإنسان أن يتدبر القرآن و يفهمه:
﴿ أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا(24)﴾
[ سورة محمد ]
وبعد فهذه الآية دقيقة جداً في دلالتها، نحن مطلوبٌ منا أن نقرأ القرآن، وأن نقرأه مُجَوَّداً، وأن نحفظ القرآن، لكن الشيء الذي لا يمكن أن نفرِّط فيه وهو مطلوبٌ منا قبل كل شيء أن نتدبَّر آيات القرآن الكريم، إنّ الإنسان الذي هو صاحب حرفة عندما يصدر مرسوم تشريعي يمس حرفته، فكيف يقرؤه بعناية بالغة؟ فلو فرضنا أنّ إنسانًا يعمل في حرفة وصدر مرسوماً ينظِّم هذه الحرفة، يعمل في تجارة العقارات وصدر نظام ضرائبي جديد، كيف يقرؤه بعناية بالغة حرفًا حرفًا، كلمةً كلمةً، يسأل الخبراء، يسأل المختّصين، ينتظر مرسوماً تفصيلياً تفسيرياً، هكذا الإنسان، لماذا في شأن دنياه يعتني بالنصوص ويفهمها؟ قال:
﴿ أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا(24) إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى الشَّيْطَانُ سَوَّلَ لَهُمْ وَأَمْلَى لَهُمْ(25)﴾
[ سورة محمد ]
هاتان الآيتان إن شاء الله سبحانه وتعالى نشرحهما في درسٍ قادم.
الملف مدقق
والحمد لله رب العالمين.