- تفسير القرآن الكريم / ٠2التفسير المطول
- /
- (047)سورة محمد
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علمنا ما ينفعنا وانفعنا بما علمتنا وزدنا علماً، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين.
أيها الإخوة المؤمنون، مع الدرس الثالث من سورة محمد صلى الله عليه وسلَّم.
انقسام البشر إلى فريقين: فريق إلى الجنة، و فريق إلى النار:
مع الآية الثانية عشرة وهي قوله تعالى:
﴿ إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الْأَنْعَامُ وَالنَّارُ مَثْوًى لَهُمْ(12)﴾
ففي النهاية ينقسم البشر جميعاً إلى فريقين؛ فريقٍ يدخل الجنَّة ففيها:
(( ما لا عينٌ رأت، ولا أذنٌ سمِعَت، ولا خطر على قلب بشر ))
إلى أبد الآبدين، ولك أن تفهم الأبد كيفما شئت، على كلٍ أكبر رقم يمكن لعقلٍ بشري أن يتصوَّره إذا نُسِبَ إلى الأبد أصبح صفراً، لو أن هناك رقماً من الأرض إلى القمر أصفار، ثلاثمئة وستون ألف كيلو متر أصفار، أو رقماً من الأرض إلى الشمس؟ مئة وستة وخمسون مليون كيلومتر أصفار، كل ميليمتر صفر، إلى الشمس، لو أن هناك رقم من الأرض إلى المجرَّة مليون سنة ضوئيَّة كله أصفار بعد الرقم (1) هذا الرقم إذا قيس إلى اللانهاية تجده صفرًا، فما هو الأبد؟
على الإنسان ألا يضيع آخرته بدنياه:
﴿إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ﴾ لو أن إنساناً آثر الحياة الدنيا بِضْع سنوات، الإنسان متى يستقر نفسياً؟ بعد أن يُنْهي دراسته، وبعد أن يؤسِّس عملاً، وبعد أن يتزوَّج، وبعد أن يشتري بيتاً، يعني بعد الزواج وتأمين العمل وشراء المنزل، وقد توفّر له ثابت، وصار ذا مكانة، واستقرار عائلي، فمن الآن بدأت حياته، كم سنة؟ سنوات معدودة قد لا تزيد على عشر سنوات، قد لا تزيد على عشرين عاماً، من أجل هذه السنوات العشرين نُضَيّع الأبد؟ من أجل بضع شهواتٍ، من أجل أن نكسب مكسباً محدوداً نتركه عند الموت نضيع الأبد؟
إيمان الإنسان من دون عمل صالح لا قيمة له إطلاقاً:
من نجا من عذاب الآخرة لا قيمة لمتاعب الدنيا عنده:
نحن أيها الإخوة، في دار تنقية، دار ابتلاء، دار امتحان، في دار عمل، كل متاعب الحياة الدنيا ليست بشيء أمام أن ترى نفسك قد نجوت من عذاب الآخرة:
﴿ كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ ۗ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ۖ
هذا المعنى، المؤمن يوطِّن نفسه على تحمُّل بعض المشاق، على تحمّل بعض المتاعب، على الصبر على معالجة الله له؛ لأن الله رب العالمين هو الذي يعالج عباده المؤمنين؛ يُنَقِّيهم، يطهِّرهم، يرقى بهم من حالٍ إلى حال، من مقامٍ إلى مقام، من منزلةٍ إلى منزلة، من مستوى إلى مستوى.
أنا أعطيك الدليل: أليس لك صديقٌ في سِنِّك تماماً، يمشي في طريقٍ آخر غير طريق الدين؟ بعد حين التقِ به واستمعْ إليه تعرف نعمة الله عليك، قد ترى ضيق أفقه، قد ترى شركه، قد ترى دناءة نفسه، قد ترى تَعَلُّقه بالدنيا، قد ترى ضعف إيمانه بالله، قد ترى مُزاحاً له لا يُرضي، إذًا لا تعرف قيمة الإيمان، وقيمة الطُهر، وقيمة السمو إلا إذا رأيت إنساناً آخر يمشي في طريقٍ آخر.
وعد الله عز وجل للإنسان بالجنة يلغي كل متاعب الحياة الدنيا عنده ويبددها:
فيا أيها الإخوة الأكارم:
وكذلك حال المؤمن، فحينما يعده خالق الكون بجنَّةٍ عرضها السماوات والأرض فهذا الوعد يلغي كل متاعب الحياة الدنيا، يقول المؤمن: والله أنا راضٍ يا رب، راضٍ عن كل شيء.
المؤمن راض عن كل ما قدّره الله له:
لذلك أحد الأشخاص كان يطوف حول الكعبة ويقول:
الكافر من أنكر وجود الله عز وجل:
وأما الفريق الثاني، قال:
الكافر يتمتَّع بالدنيا والمؤمن يتزوَّد منها:
هؤلاء الذين كفروا
(( تعِس عبدُ الدينارِ، تعِس عبدُ الدرهمِ، تعس عبدُ الخميصةِ، تعس عبدُ الخميلةِ، تعِس وانتكَس وإذا شيكَ فلا انتقشَ. ))
أيْ عبد الثياب.
ليس للإنسان من ماله إلا الذي أنفقه طاعات وصدقات و قربات:
أيها الإخوة الكرام، النبي عليه الصلاة والسلام يقول:
(( ليسَ لكَ مِنْ مَالِكَ إِلا مَا أَكَلْتَ فَأَفْنَيْتَ أَوْ لَبِسْتَ فَأَبْلَيْتَ أَوْ تَصَدَّقْتَ فَأَمْضَيْتَ. ))
تصوَّر: شخص عنده مئة مليون، ينفق على طعامه كم في السنة؟ وعلى لباسه كم؟ وبكم يتصدَّق؟ له من هذا المبلغ الطائل المبلغ الصغير الذي أكل منه، ولبسَ منه، وتصدَّق منه، هذا المبلغ الصغير ثلاثة أقسام؛ الذي أكله فني، والذي لبسه بلي، ما بقي من القسم الذي له إلا الثلث، إن كان تصدَّق بالثُلث، وما تبقى محاسَبٌ عنه حساباً دقيقاً، كيف اكتسبته؟ وكيف أنفقته؟ لذلك المال: ما انتفعت به، والكسب: الذي اكتسبته دون أن تنتفع به، اكتسبته وأنت محاسبٌ عليه..
تصوَّر إنساناً استقرض قرضاً كبيراً، وبعد أن استقرض هذا القرض ضاع منه، لقد وقّع سندات، فعليه تبعة هذا القرض، وعليه أن يؤدِّي هذا القرض دون أن ينتفع به، بالضبط هذا معنى الكسب، أي أنك بذلت جهداً كبيراً، اكتسبت مالاً وفيراً، أودعته في جهةٍ ما، لم تنتفع به إطلاقاً لكنك مُحاسَبٌ عليه كيف كسبته؟ وكيف أنفقته؟ أما الذي لك، فالذي أكلته يفنى، والذي لبسته يبلى، ويبقي الذي أنفقته، يعني من كل ثروتك ليس لك إلا الذي أنفقته في سبيل الله، والباقي فني وبلي وضاع، لذلك قالوا:
الإنسان على الرغم من قوَّته الله عزَّ وجل قادرٌ على أن يحطِّمه في أية لحظة:
﴿ وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ هِيَ أَشَدُّ قُوَّةً مِنْ قَرْيَتِكَ الَّتِي أَخْرَجَتْكَ أَهْلَكْنَاهُمْ فَلَا نَاصِرَ لَهُمْ(13)﴾
أيْ مع الله لا أحد قوي، ومع الله لا أحد غني، الإنسان على الرغم من قوَّته المزعومة أو من ذكائه الموهوم، فالله عزَّ وجل قادرٌ على أن يحطِّمه في أية لحظة.
من عظمة الله عزَّ وجل إهلاك القرى الظالمة بانهيار ذاتي:
حياة المؤمن حياةٌ متميّزة بقيمها وأهدافها النبيلة:
المؤمن يأكل أيها الإخوة ويشرب، وينام، ويتزَّوج، ويعمل، ويستمتع أحياناً بالمباح، بما أباحه الله له، لكنه مع استمتاعه يبقى هادفاً، قال تعالى:
﴿ وَلَا تَهِنُوا فِي ابْتِغَاءِ الْقَوْمِ ۖ
لكن
المتعة المشروعة ليست حراماً:
أيها الإخوة، النبي عليه الصلاة والسلام يقول:
(( إياك والتنعُّم فإن عباد الله ليسوا بالمتنعّمين. ))
الحديث متعلِّقٌ بهذه الآية، التنعُّم هنا أن تجعله هدفاً في حياتك، هذا يتنافى مع حقيقة الدنيا، يتنافى مع كون الدنيا دار عمل، دار إعداد، دار سعي، لكن الإنسان أحياناً يكرمه الله بمتعةٍ بريئةٍ، أي أن الإنسان عندما يتزوج، وينجب أولاداً، ويعمل عملاً شرعياً فيكسب مالاً، قد يأكل طعاماً طيِّباً، وقد يجلس مع أهله ساعةً لطيفةً، قد يُداعب أولاده مساءً هذه متعة ولكنها متعة بريئة، متعةٌ أتتك عرَضاً، قدَّرها الله لك من أجل أن تتابع مسيرة العمر، فالإنسان في السفر، والسفر طويل وشاق، من حين لآخر يستريح، هذه الراحة في أثناء السفر لصالح السفر، لصالح متابعة الطريق، لصالح تجديد النشاط، لذلك المتعة المشروعة ليست حراماً.
﴿
طبعاً هذه المتع التي سمح الله لنا بها كالطعام والشراب مثلاً، فالطعام له نكهات طيِّبة، فهل المؤمن لا يحس بطعم الطعام؟ لا إنه يحس بطعمه، سيدنا عمر مرَّة قال:
(( أمَا واللهِ إني لأَخرجُ منكِ وإني لأعلمُ أنك أحبّ بلادِ اللهِ إلى اللهِ، وأكرمهُ على اللهِ؛ ولولا أهلكِ أخرجُوني منك ما خَرجتُ. ))
فالهجرة قضيّة عميقة جداً، الإنسان حينما يهاجر تُقَطَّع جذوره، أو تُقتَلع جذوره، الإنسان في بلده له مكانة، أما إذا خرج منها إلى بلدٍ لا يعرفه... ومع ذلك فالنبي عليه الصلاة والسلام ضرب لأمَّته المثل الأعلى في التضحية، من أجل الدعوة نرضى بكل شيء، من أجل الفوز بالآخرة مهما بلغ الثمن ندفعه، ولو كان الثمن أن ندع الأرض التي وُلِدنا عليها.
﴿
فالإنسان بفطرته يتعلَّق بموطنه، ومع ذلك إذا كان يُرْضي الله عزَّ وجل أن تغادر بلدك إلى بلدٍ آخر تُقام فيه شعائر الدين، وتنجو بدينك فهذا أمرٌ مشروع.
عدم استواء المؤمن مع الفاسق:
ثم يقول الله عزَّ وجل:
﴿ أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ كَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ (14)﴾
دقق النظر في هذه الموازنة، فهناك آيات كثيرة تشبه هذه الآية..
﴿ أَفَمَنْ كَانَ مُؤْمِنًا كَمَنْ كَانَ فَاسِقًا لا يَسْتَوُونَ(18)﴾
﴿ أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ(35) مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ(36)﴾
﴿ أَفَمَنْ وَعَدْنَاهُ وَعْدًا حَسَنًا فَهُوَ لاقِيهِ كَمَنْ مَتَّعْنَاهُ مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ هُوَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنْ الْمُحْضَرِينَ(61)﴾
﴿ أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ(21)﴾
من يتمتع بعقيدة صحيحة يضع يده على حقيقة الكون و الإنسان:
أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ كَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ: آية لها معنيان:
1ـ الشيطان عن طريق الوسواس يزيّن للإنسان عمله:
المفسِّرون في هذه الآية لهم رأيان:
من أخطأ و له عقيدة صحيحة سرعان ما يتوب إلى ربه:
إخواننا الكرام، المشكلة إنَّ الإنسان إذا أخطأ وله عقيدة صحيحة فالقضيّة سهلة جداً، لماذا هي سهلة؟ لأنه سريعاً ما يتوب من خطئه، إنسان يعلم أن هذا الشيء يؤذيه لا يفعله، فإذا فعله مغلوباً ففي الأرجح فإنه في المرَّة القادمة لا يفعله، وإذا فعله ثانيةً في الأرجح فإنه في المرَّة الثالثة لا يفعله، لكنك إذا اعتقدت أن هذا الذي تفعله عين الحق، وعين الصواب، وهو الشيء الجيد فهذه هي المصيبة، المصيبة ألّا تدري وألاّ تدري أنك لا تدري، المصيبة أن يكون العمل سيئاً وأن تراه حسناً، لذلك سيّد الخلق وحبيب الحق حينما كان يدعو الله عزَّ وجل -وأدعية النبي علم- كان يقول:
أعظم نعمة على الإطلاق ينالها الإنسان هي نعمة الهدى:
ما قيمة الرؤية الصحيحة من دون عمل؟
نعمة الهدى؛ تفوق نعمة الصحَّة، وتفوق نعمة المال، وتفوق نعمة القوَّة، لأن الصحَّة تزول بالموت، والمال يزول عند الموت، والقوَّة تتلاشى عند الموت، أعظم نعمةٍ على الإطلاق هي نعمة الهدى، لذلك النِعَم التي دون الهدى لا تتم إلا بالهدى، الهدى واحد، والصحة صفر فصار الرقم عشرة، مهتدٍ وصحيح، ومعه مال يكفيه هذا صفر ثانٍ فصار رقمه مئة، مهتدٍ وصحَّته طيبة ومعه ما يكفيه، الهدى واحد والمال صفر والصحَّة صفر ثانٍ، وله مكانة اجتماعيّة، واللهُ آتاه طلاقة لسان، آتاه ذكاء، آتاه حسن تصرُّف، آتاه زوجة صالحة، آتاه أولاداً أبراراً، كل نعمة صفر، ولكن لا تنسى أن هذه النعمة الأولى التي هي واحد هي نعمة الهُدى، لو ألغيتها فما عندك إلا أصفار، لذلك قالوا: تمام النعمة الهدى.
من أصابه الهدى و الصحة و الكفاية ما فاته من الدنيا شيء:
أحياناً تجد أخًا يقول لك: الله مفضِّل، فقد منّ عليه بمال، وهو ساكن في بيت، ويتوافر لديه من الطعام ما لذَّ وطاب، وعنده مركبتان أو ثلاث، وله أولاد في خدمته، لكنَّك لو جلست معه لوجدت في عقيدته خللاً، لا يؤدي العبادات أحياناً، له ظنٌّ بالله سيِّئ، إذا كنت مؤمناً حقاً ترى أن كل هذه النعم التي هو بها لا قيمة لها، نظير ضعف عقيدته، ونظير عدم عبادته لله عزَّ وجل، فلذلك تمام النعمة الهدى، بعد الهدى الصحَّة، بعد الصحَّة الكفاية، وانتهى الأمر، فمن أصاب الهُدى، وأصاب الصحَّة، وأصاب الكفاية ما فاته من الدنيا شيء، نال الدنيا بحذافيرها، بل بحذافير حذافيرها.
من عرف الله و عمل صالحاً فقد أنعم الله عليه:
2ـ الإنسان الفاسق يفلسف عمله السيئ بأنه عمل طيب:
والوجه الثاني هو نفسه فلسف عمله السيئ، فهو ذو عقل.
العقل قوة إدراكية وضعه الله في الإنسان ليعرف الله به:
الله عزَّ وجل أعطانا العقل كي نتعرَّف إلى الله به، مثلاً: واحد يوجد عنده آلة معقَّدة جداً فممكن أن يربح منها مئات الملايين، تصمم، فاستخدمها في تزوير العملة فدخل إلى السجن، الآلة نفسها، بدل أن تكون هذه الآلة سبباً في غناك جعلتها سبباً في دمارك، كذلك العقل، هذا العقل قوة إدراكيَّة أودعه الله فيك كي تعرف الله عزَّ وجل، لكنك إذا أردت الشهوة وانتبهت أن لديك جهازاً عظيماً، هذا الجهاز يمكن أن تُعمِله لغير ما خُلِق له، يمكن أن تُعمِلَه في فلسفة انحرافك، هذا هو العقل التبريري، أخطر شيء في الإنسان أن يكون عقله تبريرياً، إنه مصرٌّ على شهواته، مُصِرٌّ على باطله، على كفره، على انحرافه، على عدوانه، على بغيه، مُصِرٌّ على هذا الانحراف، لكن لو كان حيواناً ينحرف وكفى، أما الإنسان الذي لديه عقل ينحرف ويفلسف انحرافه، فهذه المبادئ الوضعيَّة الهدَّامة، فلسفة الشر، فلسفة الكفر، فلسفة الانحراف، فلسفة الإلحاد، لأن لديه عقلاً، فإن هذا العقل قوَّةٌ إدراكيَّة ما أودعها الله في الإنسان إلا من أجل أن يعرف الله بها.
أخطر شيء استخدام العقل لتبرير الكفر و فلسفة الانحراف:
الإنسان أحياناً يركب مركبة كل ما فيها مجهَّز لتنقلك إلى هدفك وأنت مرتاح، هذه المركبة هكذا صُمِّمت، حينما صُنعت في معملها صُمِّمت لتنقلك إلى هدفك وأنت مرتاح، يقول لك: هذه مكيِّفة في الصيف، مُدفَّأة في الشتاء، فيها أجهزة حمل مرنة جداً، مثلا القيادة سهلة، فيها صوت خفيف جداً، فيها إضاءة ذاتيَّة الحركة، شيء جميل، أما إذا الإنسان قاد هذه المركبة وهو سكران هوى بها إلى أعماق الوادي فتحطَّمت أضلاعه، المركبة هي هي، إما أن تنقلك إلى هدفك وأنت مرتاح، وإما أن تكون سبباً في هلاك الإنسان، وهكذا العقل فهو حيادي، إذا الإنسان استخدمه كأداة لمعرفة الله كان سبب سعادته.
إذا الإنسان استعمل العقل لمَا خُلِق له يستحق عطاء الله الأبدي السرمدي، وإذا لم يستعمله، أو أساء استعماله كان سبب هلاكه، فأخطر عقل هو العقل التبريري، الشهوة أولاً والعقل ليبرِّر، العدوان أولاً والعقل ليبرِّر، ولو استمعت إلى ما يقوله الكفَّار عن أعمالهم فكله يفلسفه عقل تبريري، يعتدون ويرفعون أفكارًا إنسانيَّة لا تَمُتّ إلى الواقع بِصِلَة، فالشيء الخطر جداً أن تستخدم العقل لتبرير الكفر، لفلسفة الانحراف، لتغطية الشهوة.
العقل المفلسف للشهوة وللمعصية أخطر عقل:
الحقّ واحد لا يتعدد:
أيها الإخوة، أحياناً نرى في آيةٍ واحدة كلمة هي مركز الثِقَل، لأننا نحن في عصر الباطلُ فيه مزيّن، والشهوة مفلسفة، والانحراف مغطَّى، والإنسان الجاهل أحياناً يصدِّق هذا الكلام، فمن أجل ألّا نقع في شرِّ فلسفتنا، ألّا نقع في شرِّ أعمالنا، ينبغي أن تعلم علم اليقين أن الحق لا يتعدَّد، الحق واحد، وأن الحق هو الله جلَّ جلاله، وأن الحق كلامه، وأن الحق شرعه، وأن الحق ما قال، والباطل ما لم يقل، فلذلك هذا القرآن فيه تفسير لنشأة الحياة، فيه تفسير لما نحن عليه بعد الممات، فيه تفسير لأثمن ما في الدنيا وهو العمل الصالح، فيه تفسير لمهمَّة الإنسان في الدنيا ورسالته التي أُنيطت به، للأمانة التي حملها، للتكليف الذي كُلِّف به، فهذا الكتاب هو خاتَم الكتب، أُنْزِلَ على خاتم الأنبياء وهو الحق.
العقل إذا ضلّ زيِّن للإنسان سوء عمله:
أي نظريَّة، أي مبدأ وضعي، أي فلسفة مستورَدة، أي تفسير للكون غير التفسير القرآني، أي تفسير لبدء الخليقة غير التفسير الإلهي فذاك باطل، باطل أي خطأ ليس له وجود، لا يتطابق مع الحقيقة، وبقي علينا ألّا نصغي لهذا التزيّين للباطل.
سنأتي بمثل قريب: الله عز وجل خلقنا وأنزل على عبده النبي الكريم منهجاً نتحرَّك به، فإذا نهانا عن شيء ما، فقد نهانا عن أن نختلط بالنساء مثلاً، فلو رأيت من يقول: الاختلاط يُهَذِّب المشاعر فهذه فلسفة، وهذا هو عمل العقل التبريري، هذا عمل العقل المُخادِع، وإذا رأيت المعصية قال بعضهم: "تعلَّموا السحر ولا تعملوا به" هذا الكلام لا هو آية ولا هو حديث، هذا معنى للتوريط، فالإنسان قد يلتقي مع أصدقاء، وقد يقرأ مقالة في مجلَّة، ويسمع محاضرة لإنسان غير مؤمن بالدين، ويسمع خبراً، ويقول بعضهم فيه: أنت مثلاً ضعيف لأنك أخلاقي، أعوذ بالله، الأخلاقي قوي جداً، وهذه كلمة من طغيان العقل، فالعقل إذا ضل يزيِّن للإنسان سوء عمله، يبرِّر له أخطاءه، يغطي له انحرافاته، فهذا مطبٌّ كبير ومزلَق خطير، أن يصغي الإنسان لهذه الأقوال، مقياسنا هو كلام الله عزَّ وجل، هذا هو الحق وخلافه باطل، أما خلافه فمزيَّن، والله عزَّ وجل قال:
﴿
من زُيّن له سوء عمله وقع في مصيبتين مصيبة سوء عمله ومصيبة فلسفة سوء عمله:
يقولون: الإنسان أحياناً في نفسه شر، فإذا شاهد مسرحيَّة فيها شر فالشر الذي في نفسه يتفرغ، ويصير طيّباً، يا ترى فهل المجتمعات الغربيّة عن طريق المسرحيات تحولوا إلى ملائكة أم أنهم ازدادوا وحشيَّة؟ هذه من فلسفة الباطل، إنهم يفلسفون الفنون، يفلسفون الانحرافات، يفلسفون الاختلاط، الرقص يفلسفونه على أنه رياضة، كل شيء فيه انحراف أو معصية يتغطَّى بفلسفة مفتعلة، هذا هو الذي ذكره الله عزَّ وجل في القرآن الكريم:
مجموع القضايا التي عالجها القرآن الكريم تام:
﴿ وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا
﴿ وَمَا مِن دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُم ۚ
﴿ حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَأَن تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلَامِ ۚ ذَٰلِكُمْ فِسْقٌ ۗ الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِن دِينِكُمْ فَلَا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ ۚ
الإتمام عددي، والإكمال نوعي، يعني مجموع القضايا التي عالجها القرآن الكريم تام، طريقة المعالجة كاملة وانتهى الأمر.
(( كل محدثةٍ بدعة وكل بدعةٍ ضلالة وكل ضلالةٍ في النار. ))
تسويغ المعصية ما هو إلا تغطية لسوء الفعل:
لذلك يجب أن نحذر جميعاً من أن يُزيَّن لنا سوء عملنا، الشرع سمح أن يرى الإنسان مخطوبته مرَّة واحدة أو مرَّتين لا مانع، لا شهرين أو ثلاثة، زيارات وسهرات ونزهات، ولم يعقد عقد قِران بعد ولا شيء يُثبِت هذه العلاقة شرعاً، وفجأةً اختفى الخطيب وبطن الفتاة المخطوبة قد كبر، هذا زُيّن له سوء عمله فرآه حسناً، وهذا هو الشيطان، يلغي العقد يقول لك: خطبة لكي نمتحنها، لنعرفها مثلاً، يسمح بالاختلاط فينشأ عنه طلاق أحياناً، خراب بيوت، خيانات زوجيَّة، يسمح بالربا فيتجمَّع المال بأيدي فئة قليلة وتُحرَم منها الكثرة الكثيرة، فلا ترى معصية إلا إذا استمعت إلى من يقترفها، وهو ذكي، يقدِّم لك تبريراً، أو عَقْلَنَةً لهذه المعصية، أو تسويغاً لها، أو تغطيةً لها، هذا معنى:
الله عز وجل وضّح للإنسان كافة الأمور مع الأهداف و الوسائل:
الذي يُزّيَّن له سوء عمله واقعٌ في مصيبتين: مصيبة سوء العمل ومصيبة الوهم أن هذا العمل صحيح، هذه الآية جميلة جداً:
(( تركتكم على البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها بعدي إلا هالك. ))
الأمور واضحة، كل شيء مع الدليل العقلي، والنقلي، والفطري، والواقعي، الأهداف واضحة، الوسائل واضحة
الجنة ثمن طاعة الإنسان لله عز وجل:
الآية الأخيرة في درسنا:
﴿
هذه الجنَّة التي فيها ما لا عينٌ رأت، ولا أذنٌ سمِعَت، ولا خطر على قلب بشر، هذه الجنَّة ﴿فِيهَا أَنْهَارٌ مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آسِنٍ﴾ الماء الراكد في الدنيا يتغيَّر طعمه ولونه وريحه، فالماء في الجنَّة غير آسن.
اصطلاح الإنسان مع ربه من أعظم النعم على الإطلاق:
(( الإسْلامَ يَهْدِمُ ما كانَ قَبْلَهُ. ))
(( الإسلامُ يَجُبُّ ما كان قبلَهُ. ))
الصُلحة بلمحة، إذا رجع العبد العاصي إلى الله نادى منادٍ في السماوات والأرض أن هنّؤوا فلاناً فقد اصطلح مع الله.
النار عاقبة الكافر يوم القيامة:
موازنة بين الحق و الباطل:
الملف مدقق
والحمد لله رب العالمين.