- تفسير القرآن الكريم / ٠2التفسير المطول
- /
- (050)سورة ق
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد، الصادق الوعد الأمين، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا، إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا، وزدنا علما، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين.
أيها الإخوة الكرام: مع الدرس الثالث من سورة ق، ومع الآية الكريمة الواحدة والثلاثين.
تذكير بالسابق و ربط باللاحق:
قال تعالى:
﴿ وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ(31)﴾
بعد أن وصف الله جلَّ جلاله حال أهل النار، وكيف أن كل نفسٍ تُساق معها سائقٌ وشهيد، والحوار الذي يجري بين الإنسان وقرينه، وكيف أن الله سبحانه وتعالى يقول:
﴿
لأن اختصامكم لدي لا يجديكم.
صورة أهل النار يوم القيامة:
يقول الله عزَّ وجل:
﴿ أَلْقِيَا فِي جَهَنَّمَ كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيدٍ(24) مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ مُرِيبٍ(25) الَّذِي جَعَلَ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ فَأَلْقِيَاهُ فِي الْعَذَابِ الشَّدِيدِ(26) قَالَ قَرِينُهُ رَبَّنَا مَا أَطْغَيْتُهُ وَلَكِنْ كَانَ فِي ضَلَالٍ بَعِيدٍ(27) قَالَ لَا تَخْتَصِمُوا لَدَيَّ وَقَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُمْ بِالْوَعِيدِ(28) مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ وَمَا أَنَا بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ(29) يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلَأْتِ وَتَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ(30)﴾
هذه صورةٌ مُرعِبة لحال أهل النار، لكن الله سبحانه وتعالى يعلِّمنا كيف نُبَشِّر كما نُحَذِّر، وكيف ينبغي أن نقدِّم الصورة المشرقة كما ينبغي أن نقدِّم الصورة المرعبة، وكيف ينبغي أن يجمع الإنسان بين الخوف والرجاء، وبين الطمع بمغفرة الله عزَّ وجل وبين الفَرَقِ من الذنب، لابدَّ من التوازن.
جنة الدنيا و جنة الآخرة:
ربنا جلَّ جلاله يقدِّم لنا صورةً أخرى؛ صورةً للمؤمنين، صورةً لحال أهل الإيمان يوم القيامة.
الاستقامة طريق الإنسان إلى جنة الدنيا و جنة الآخرة:
إن الحقيقة أن الإنسان أحياناً يقترب من الشيء قرباً سببيًّاً، فلو أن الطالب مثلاً درس الكتاب جيداً اقترب من النجاح، ولو درس الكتاب الثاني اقترب أكثر، لو أتقن كل المواد صار بينه وبين النجاح قاب قوسين، هذا اقتراب سببي، فكلَّما عملت الصالحات، وطبَّقت منهج الله عزَّ وجل فأنت قريبٌ من الجنَّة التي وعد الله بها عباده المتقين، وحينما يطبِّق الإنسان منهج الله في الدنيا فهو قريبٌ من جنَّة الدنيا ومن جنَّة الآخرة، ماذا بينه وبين جنَّة الآخرة؟ ليس بينه وبين جنَّة الآخرة إلا أن يموت فقط.
أحد أصحاب رسول الله أمسك تمراتٍ ليأكلها وهو في المعركة، فقال:
فالإنسان المستقيم ليس بينه وبين جنَّة الدنيا إلا أن يستقيم، فإذا استقام أقبل على الله عزَّ وجل، هو في جنَّة لأن الله سبحانه وتعالى يقول:
﴿ وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ(46)﴾
جنة الدنيا هي القرب من الله عز وجل:
قال المفسِّرون:
﴿ قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعًا ۖ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ ۖ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى
﴿ قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعًا ۖ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى
لا خوفٌ عليهم من المستقبل، ولا هم يحزنون على الماضي، هذه جنَّة الدنيا، جنة الدنيا مبذولةٌ لكل مخلوق، الثمن موحَّد، أسعار موحَّدة، الثمن واضح، والثمن تملكه، وهو طاعة الله عزَّ وجل.
الجنة مصير كل إنسان اتقى الله و رسوله:
﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَىٰ وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا ۚ
الآية تحتمل المعنيَين، تحتمل أنك إذا اتّقيت الله عزَّ وجل اقتربت منك جنَّة الدنيا، وتحتمل أنك إذا اتّقيت الله في الدنيا اقتربت منك جنة الآخرة سبباً، أي اقتربت منها من حيث الأسباب، كما لو أن الإنسان أتقن قراءة كتابٍ مقرَّر في الامتحان فإذا أتقنه، وأتقن الكتاب الثاني والثالث والرابع يقول لك: كأنني نجحت، كأن النجاح لاح له بين عينيه.
على كلٍ، إذا وجَّهنا الآية إلى الآخرة فاقتراب الجنة من المؤمنين تكريمٌ وأيّ تكريم، وكلَّما علا مقامُ الإنسان تأتيه الأشياء، وتُقَرَّب إليه، وكلَّما نزل مقامه درجة يسعى إليها بنفسه، فبين أن تسعى أنت إليها، وبين أن تسعى هي إليك.
تكريم الله للإنسان في الدنيا و الآخرة بسبب طاعته لربه و استقامته على أوامره:
أحياناً يُدْعَى الإنسان إلى وليمة على نمط جديد، تحمل الطبق، وتذهب إلى الطعام، وتأخذ حاجتك منه، لكن بعض الضيوف الكِبار يأتيهم الطعام إليهم، فإما أن تسعى إلى الشيء، وإما أن يسعى الشيء إليك، لعلوّ مقامك عند الله عزَّ وجل، وتكريماً لك على طاعته واستقامتك أزلِفت الجنة إليك، فكيف تأتي؟ لا نعلم، هذا مما استأثر الله بعلمه.
أما في الدنيا فكلَّما ازددتَ طاعةً لله اقتربتْ منك جنة الدنيا، جنة القُرب، جنة الطمأنينة، جنة الرضا، جنة الشعور أن الله لا يتخلَّى عنك، أن الله يدافع عنك، هذه الجنة التي قال النبي عليه الصلاة والسلام فيها:
((
فلعلَّ النبي عليه الصلاة والسلام قصد أنهم في جنَّة الدنيا، ولعلَّه قصد أنهم في جنَّة الآخرة.
الجنة عاقبة كل مؤمن صالح:
على كلٍ:
(( أَعْدَدْتُ لِعِبَادِي الصَّالِحِينَ مَا لَا عَيْنٌ رَأَتْ، وَلَا أُذُنٌ سَمِعَتْ، وَلَا خَطَرَ عَلَى قَلْبِ بَشَرٍ. ))
وعد الله للإنسان في الدنيا من خلال القرآن الكريم:
﴿
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَّصُوحًا عَسَىٰ رَبُّكُمْ أَن يُكَفِّرَ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ
الله وعدنا، يعِدُنا في الدنيا من خلال القرآن الكريم، والنبي عليه الصلاة والسلام يعدنا من خلال سنَّته المطهَّرة. مثلاً:
(( الْعُمْرَةُ إِلَى الْعُمْرَةِ كَفَّارَةٌ لِمَا بَيْنَهُمَا،
هذا وعد النبي عليه الصلاة والسلام.
الله عز وجل لا يعجزه شيء في الدنيا و لا في الآخرة:
فلذلك:
من الذي يعدك؟ خالق الكون.
﴿ اللَّهُ لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ ۚ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَىٰ يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَا رَيْبَ فِيهِ ۗ
﴿ إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَىٰ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ ۚ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ ۖ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنجِيلِ وَالْقُرْآنِ ۚ
شتَّان بين أن يعِدك إنسان محدود القدرات، قد يتمنى أن ينفِّذ وعده، ولكن لا يستطيع، قد يموت قبل أن ينفِّذ وعده، قد يكون طلبك أكبر من طاقته، لكن الله سبحانه وتعالى لا يعجزه شيء.
﴿ إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَن يَقُولَ لَهُ
(( يَا عِبَادِي، لَوْ أَنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ، وَإِنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ قَامُوا فِي صَعِيدٍ وَاحِدٍ، فَسَأَلُونِي فَأَعْطَيْتُ كُلَّ إِنْسَانٍ مَسْأَلَتَهُ مَا نَقَصَ ذَلِكَ مِمَّا عِنْدِي إِلاَّ كَمَا يَنْقُصُ الْمِخْيَطُ إِذَا أُدْخِلَ الْبَحْرَ، يَا عِبَادِي، إِنَّمَا هِيَ أَعْمَالُكُمْ أُحْصِيهَا لَكُمْ، ثُمَّ أُوَفِّيكُمْ إِيَّاهَا، فَمَنْ وَجَدَ خَيْرًا فَلْيَحْمَدِ اللَّهَ، وَمَنْ وَجَدَ غَيْرَ ذَلِكَ فَلا يَلُومَنَّ إِلاَّ نَفْسَهُ. ))
الجنة ثمن من عرف أمر ربه و طبق منهجه:
﴿
من هو المؤمن؟ هو مخلوق عرف ربَّه، وطبَّق أمره، فوعده الله وعداً حسناً، فهو موعود بالجنة، قال عز وجل:
وعد الله ِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ بالجنة:
لمن هذا الوعد؟ قال تعالى:
الأوّاب: الذي رجع من المعاصي إلى الله:
اللغة العربية تعيننا على فهم هاتين الكلمتين، الأوّاب: صيغة مبالغة، أوَّاب فعَّال، صيغتها الأصلية آيب، آب يَؤوبُ آيبٌ، آب بمعنى رجع، رجع من أين؟ وإلى أين؟ أجمع المفسرون على أن الآيب الذي صيغة مبالغته أوَّاب هو الذي رجع عن المعاصي، كان فـي معصيةٍ فرجع من هذا الطريق، رجع من المعاصي إلى الله، هذا هو الأوَّاب، رجع من المعصية إلى الله عزَّ وجل، هو آيب وصيغة مبالغته أوَّاب، هذا الوعد العظيم
(( كُلُّ بَنِي آدَمَ خَطَّاءٌ، وَخَيْرُ الْخَطَّائِينَ التَّوَّابُونَ. ))
الحفيظ: من حفظ أمر الله و اجتنب نواهيه:
معاني حفظ الإنسان:
1 ـ يحفظ أمر الله:
﴿ وَٱلَّذِينَ هُمْ عَلَىٰ صَلَوَٰتِهِمْ يُحَافِظُونَ(9)﴾
2 ـ يحفظ الأمانة التي بين يديه:
يحفظ الأمانة التي بين يديه؛ المريض عند الطبيب أمانة، والموكِّل عند المحامي أمانة لا ينبغي أن يغشَّه، ولا أن يحدِّثه بحديثٍ، الموكِّل هو له به مصدِّق، والموَكَّل هو له به كاذب، خان الأمانة، المريض عند الطبيب؛ لا ينبغي للطبيب أن يحدِّث المريض بحديث هو له مصدِّق، والمتكلِّم ليس له بصادق، المريض أمانة، والموكِّل أمانة، والذي يشتري بضاعةً من بائع هو أمانة، هو كلّه أمانة عندك، يسألك بدينك أن تنصحه، وأن تعطيه بضاعةً جيدة، وأن يكون سعرها معتدلاً، أمانة، وابنك أمانةٌ أودعه الله عندك، كيف ربّيته؟ هل علَّمته؟ هل وجَّهته؟ هل ضبطت سلوكه؟ هل درَّبته على طاعة الله عزَّ وجل؟ هل لقَّنته الحقّ؟ هل أعنته على نفسه؟ هل أعنته على بِرِّك بالعدل بين الأولاد؟ ابنك أمانة، زوجتك أمانة أوكل الله إليك مصيرها، أنت رُبَّان السفينة، وأنت القيِّم على هذا البيت، وأنت صاحب القرار.
﴿
فالزوجة أمانة، والولد أمانة، وبحرفتك كل من تتعامل معهم أمانةٌ في عنقك.
الجنَّة أُعِدَّت لكل أوّاب شديد العودة إلى الله:
لذلك:
هذه الجنَّة التي عرضها السماوات والأرض أُعِدَّت للمتقين، أعدَّت
عدم ارتقاء المؤمن عند ربه إلا إذا شكَّل حياته وفق ما يرضي الله:
﴿
لو أتينا بخمسة مليارات إنسان، وهم سكَّان الأرض، وأطلعناهم على خطرٍ رأوه بأعينهم لاتّقوا الخطر، ولا فضل لك إذا رأيت بعينيك الخطر، وابتعدت عنه، ليست هذه هي العبادة، العبادة أن تُدرِك الخطر بعقلك، الخطر ليس أمامك، لا تراه رأي العين، بل هو غائبٌ عنك، فهذا الذي يؤمن بالله يتقي الله بالغيب، أي أن عقله دلَّه على أن لهذا الكون خالقاً، وأن كل البشر عباده، وأنك إذا أحسنت إليهم رضي عنك، وإن أسأت إليهم عاقبك عقاباً شديداً في الدنيا والآخرة، فهذا الذي يرى الخطر بعينه فيتّقيَه لا يسمَّى عابداً لله؛ لأنّ أيّ مخلوقٍ على الإطلاق إن رأى الخطر حادَ عنه، لكن المؤمن قال تعالى:
﴿
أي أنه آمن بالله، ولم يره بعينه، آمن بوحدانيته، وآمن بكماله، وآمن بوجوده، وآمن بكتابه، وآمن برسله، فشكَّل كل حياته وفق ما يرضي الله، هذا الذي يرقى عند الله، آمن بالغيب، احترم عقله، ذلك العقل، تلك الأداة الثمينة التي أكرمك الله بها كي تعرفه بها انتفعت به، لذلك هذا الأوَّاب الحفيظ
العاقل من آمن بالغيب و احترم عقله:
أما الذي يرى الزلزال بعينه، أو يرى المرض بعينه، الآن كل إنسان -لا سمح الله ولا قدَّر- إذا أصابه مرض عُضال بسبب الدخان يُقلِع عنه، ولكن ليس له فضل، لأنه متى أقلع عنه؟ بعد أن أُبلِغ أن هناك مرضاً عضالاً قد حلَّ به، لكن العاقل هو الذي يدع الدخان قبل أن يحلَّ به المرض العضال، هذا العاقل، هذا خشي عواقبه بالغيب، بالفكر أدرك أن هذه العادة تسبب مشكلات كثيرة في صحَّته فتركها.
وأريد من هذه الفكرة أنك إذا رأيت الخطر بأُمِّ عينك، واتّقيته فلا فضل لك في ذلك، ولا أجر لك في ذلك، ولا ترقى عند الله بهذا الترك، لأن هذا جزءٌ من طبيعتك البهيمية، فالدابَّة مثلاً إن رأت خطراً ابتعدت عنه، أما كجزء من طبيعتك الإنسانية فقد أودع الله فيك العقل، فإذا أدركت به الخطر المتوقَّع، وابتعدت عن هذا الخطر الآن ترقى، الآن أنت إنسان، لذلك العقل أن تصل إلى الشيء قبل أن تصل إليه.
أحياناً يريد إنسان أن يسافر، فيذهب ليقطع التذكرة، يفكِّر، السفر صباحي إلى حلب، الشمس من على اليمين، الشمس من جهة الشرق، إذاً يطلب في الصيف المقعد في جهة اليسار، وفي الشتاء يطلبه في جهة اليمين، فكَّر، كل إنسان يفكِّر يكون أكَّد فيه الناحية الإنسانية الراقية، وكل إنسان يعطِّل فكره يكون هبط إلى مستوى البهيمية، البهيم يتفاعل مع الأحداث حين وقوعها، أما الإنسان فينبغي أن يتفاعل معها قبل أن تقع، يُدرِكها، لذلك يقولون: من صفات الأمم الراقية أنها تعيش المستقبل، والأقل رقيًّاً تعيش الحاضر، والأمم المتخلِّفة تعيش الماضي فقط.
أَلْهَى بني تَغلِبٍ عن كلِّ مكرمةٍ قصيدةٌ قالها عمرو بن كلثومُ
بِقَلْبٍ مُنِيبٍ: آية لها عدة معان:
لذلك:
1 ـ قلب مخلص لله:
اختلف المفسِّرون في معنى: ﴿منيب﴾ فبعضهم قال: جاء بقلبٍ مخلِص لله عزَّ وجل.
يا معاذ:
(( أخلِص دينك يكفك القليل من العمل. ))
قال بعض المفسرين:
2 ـ قلب سليم:
﴿ يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ(88) إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ(89)﴾
والقلب السليم هو وحده الذي ينفعك يوم القيامة، لأن الأمر كلَّه بيدِ الله، قال:
هنيئاً لمن اطلع الله على قلبه فرآه سليماً، ليس فيه غلٌّ لأحد، ولا حقدٌ على أحد، ولا احتيالٌ على أحد
(( إنما الأعمال بالنيّات، وإنما لكل امريء مانوى، فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله، فهجرته إلى الله ورسوله، ومن كانت هجرته لدنيا يصيبها، أو امرأة ينكحها، فهجرته إلى ما هاجر إليه. ))
هذا الحديث متواتر، ويُعَدُّ أصلاً في أن الأعمال كلها تُقيَّم عند الله حصراً بالنيَّات الطيِّبة.
روعة الجنة و الحالة النفسية التي ينعم بها أهلها:
﴿ ادْخُلُوهَا بِسَلَامٍ ذَلِكَ يَوْمُ الْخُلُودِ(34)﴾
اللطيف في هذه الآية أن الجنَّة يدخلها المؤمنون في سلام، أحياناً في الدنيا تدخل بيتاً رائعاً، لكنَّه قطعةٌ من الجحيم، فيه أمراض، فيه مشكلات، فيه خصومات، فهنـا أشار الله عزَّ وجل إلى روعة الجنَّة، وروعة الحالة النفسية التي يَنْعُمُ بها أهل الجنَّة.
الجنة جمال و رضوان:
﴿ يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ
فيها:
﴿ مَّثَلُ ٱلْجَنَّةِ ٱلَّتِى وُعِدَ ٱلْمُتَّقُونَ ۖ
﴿ وَحُورٌ عِينٌ(22)﴾
و:
﴿ يَطُوفُ عَلَيْهِمْ
وفوق كل هذا:
﴿ وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ۚ
الجنة مستقر دائم للإنسان و ابتعاد عن القلق و التشاؤم:
إن الإنسان إذا نزل إلى مكان بالأجر يقول لك: كل ليلة بخمسة آلاف، أو عشرة آلاف، شيء جميل، لكن ارتفاع الأجر يُذهِب سعادته بالمكان، يقول لك: صاروا خمسة عشر ألفًا، أو عشرين ألفًا، أحياناً يأكل طعاماً غالياً، والفاتورة تُنسيه لذَّة الطعام كله، فهناك حالة نفسية ترافق الحالة المادّية، أما في الجنة
الدنيا دار كَدْحٍ و عمل و الآخرة دار تكريم و تشريف:
﴿ يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحاً فَمُلَاقِيهِ(6)﴾
لكن نظام الجنَّة قائمٌ على أن أي خاطرٌ يخطر في بالك تراه أمامك، أي شيءٍ تريده، الدنيا دار كَدْحٍ، ودار سعيٍ، ودار عملٍ، ودار ابتلاءٍ، ودار مشقَّةٍ، والآخرة دار تكريمٍ، ودار تشريفٍ، ودار جزاءٍ، ودار راحةٍ.
أكبر تشريف للإنسان في الآخرة رؤية وجه الله الكريم:
﴿
أما الشيء اللطيف جداً
قال بعض العلماء:
(( إِنَّكُمْ سَتَرَوْنَ رَبَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَمَا تَرَوْنَ هَذَا، لا تُضَامُونَ فِي رُؤْيَتِهِ. ))
كما ترون القمر ليلة البدر، طبعاً رؤية الله في الدنيا مستحيلة.
﴿ وَلَمَّا جَاءَ مُوسَىٰ لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ
الأحمق من يضيع الجنة من أجل سنواتٍ معدودة في الدنيا:
أجسامنا لا تحتمل أن نرى الله عزَّ وجل، الجبل دُكَّ دكاً حينما تجلى الله عليه، لكنه في الجنة كما أنبأنا النبي صلى الله عليه وسلم، وكما ورد في القرآن الكريم:
﴿ وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ(22) إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ (23)﴾
هذا، ولدينا مزيد
أصبحت هذه الصورة المشرقة
( كم ) أنواعها ومعانيها:
ثم يقول الله عزَّ وجل:
﴿ وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَشَدُّ مِنْهُمْ بَطْشاً فَنَقَّبُوا فِي الْبِلَادِ هَلْ مِنْ مَحِيصٍ(37)﴾
(كم) هذه التكثيرية، وفي اللغة العربية (كم) نوعان، (كم) الاستفهامية، و(كم) التكثيرية، يضربون على هذا مثلاً: تسأله: كم كتاباً عندك؟ فيقول: عندي ثلاثون كتاباً، أما إذا قلت: كم كتابٍ عندي! أنت لا تسأل، ولكنك تفتخر، ولكنك تستكثر، كم كتاباً عندك؟ هذه استفهامية، الجواب: ثلاثون كتاباً، أما إذا قلت: كم كتابٍ عندي! فالجواب ما شاء الله، فـ (كم) هنا تكثيرية.
الهلاك عاقبة الأمم الطاغية السابقة:
هناك بعض الأهرامات فيها نافذة مدروسة بشكل أن الشمس لا تدخل منها إلا في يومٍ واحد في العام كله، هو يوم ميلاد الملك الذي بُنِيت الأهرام له، هل يمكن أن تجهز نافذة بزاوية معينة، عميقة، لا تدخلها الشمس إلا في يوم واحد؟ لو زرت الأهرامات في مصر لرأيت كل شيءٍ تحت الأرض، حتى الطعام، قطع اللحم المُقَدَّدة إلى الآن موجودة، عمرها ستة آلاف عام، القمح، الحِليّ الذهبية، كل حاجات الفراعنة وُضِعت في القبور، لتوهمهم أنهم سيحيَون حياةً ماديةً بعد موتهم.
القبر نهاية كل إنسان:
الأموال الكثيرة و الخيرات لا تنقذ الإنسان من الموت المحقق:
هل هناك مجال؟
﴿
في القرآن الكريم صورة رائعة لرجل خائف، يعدو وخلفه من يلحقه ليقبض عليه، مذعور، قلبه يكاد ينخلع من صدره من شدة الخوف، وهو يعدو وآخر يلحقه، متى يُصْعَق؟ إذا رأى الذي يلحقه من ورائه أمامه.
﴿
يكون الواحد معه مشكلة في جسمه، وهو يخاف أن يموت من هذا المرض، يقوم باحتياطات غير معقولة، ثم يُفاجَأ أن الموت جاء من طريق آخر.
الإنسان العاقل من يعدّ للساعة عدتها بالاستقامة و الطاعة:
النظر في أفعال الله تلهم الإنسان إلى معرفة طريق الحق:
﴿ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ(38)﴾
هذا الكلام، وهذه الصور المشرقة والصور المرعبة في هذه السورة صورتان، صورةٌ مرعبةٌ عن أهل النار، وصورةٌ مشرقةٌ عن أهل الجنة.
﴿ قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ ثُمَّ انْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ(11)﴾
التفكر في خلق السماوات و الأرض يوصل الإنسان إلى الحقيقة:
يمكن أن تعرف الحقيقة الكاملة من النظر في أفعال الله، تابع المُرابي كيف أن الله يدمِّرُهُ، وتابع المتصدِّق كيف أن الله ينمّي أمواله.
﴿
تابع الشاب المستقيم كيف أن الله يوفِّقُهُ، وتابع الشاب المنحرف كيف أن الله يدمره، تابِعْ الذي ينصح الناس كيف أن الله يحفظه، وتابع الذي يغش الناس كيف أن الله يسحقه، تابع الذي يتقي الله في معاملة زوجته كيف أن الله يسعده بها، وتابع الذي لا يتقي الله في معاملة زوجته كيف أن الله يشقيه بها، يمكن أن تعرف الحقيقة الكاملة من النظر في الحوادث، تابِع البار بوالديه كيف أن الله يوفقه، وتابع العاق كيف أن الله يدمره، تابع الذي يغض بصره عن محارم الله كيف أن الله يسعده في بيته، وأن الذي يطلق بصره في الحرام كيف أن الله يشقيه في بيته، تابع، هذا طريق.
الطريق الآخر أن تنظر في خلق السماوات والأرض، ترى العلم والحكمة، واللطف، والرحمة، والقدرة، والغنى، ترى أسماء الله الحسنى كلها من خلال خلقه، تدبرْ كلام الله عزَّ وجل ترَ أنه كتاب الله، كلام رب العالمين، وأقسمُ بالله العظيم أن الإنسان إذا تدبرَ كلام الله كل خليةٍ في جسده، وكل قطرةٍ في دمه تشعر أنه كلام الله، كلام الله،
القلب و العقل طريق الإنسان إلى معرفة الله:
فالآية:
وهناك طريق آخر أن تستمع إلى الحقيقة جاهزة
على الإنسان أن يجمع بين العقل وإلقاء السمع وهو شهيد:
لكن مع إلقاء السمع شرط:
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُم بَيْنَكُم بِالْبَاطِلِ
كلام الله موجز، والنبي عليه الصلاة والسلام فصّل، والأصح من هذا وذاك أن تجمع بينهم، أن تتفكر في خلق السماوات والأرض، وأن تنظر في أفعال الله، وأن تتدبر القرآن، وأن تستمع إلى الحقائق جاهزةً، أن تجمع بينهما، أن تجمع بين العقل وبين إلقاء السمع وأنت شهيد
خلق الله عز وجل السماوات و الأرض في ستة أيام دون تعب و نصب:
﴿ وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَمَا مَسَّنَا مِنْ لُغُوبٍ(38)﴾
الإنسان حينما يتصل بالله يستطيع أن يواجه أعداء الحق:
﴿ فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ(39)﴾
دائماً وفي أغلب الأحيان يأتي الصبر مع التسبيح، ما الذي يعينك على الصبر على كلام هؤلاء الجهلة:
الصبر مع التسبيح يغنيان الإنسان عن اعتراض المعترضين:
﴿
شيء طبيعي جداً أن يكون لك خصوم في العقيدة، خصوم في المنهج، فالمؤمن لا يبالي.
الخصم حينما ترد عليه ترفعه وحينما تهمله تسقطه:
﴿ وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قَالُوا مَا أَنزَلَ اللَّهُ عَلَىٰ بَشَرٍ مِّن شَيْءٍ ۗ قُلْ مَنْ أَنزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَىٰ نُورًا وَهُدًى لِّلنَّاسِ ۖ تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيرًا ۖ وَعُلِّمْتُم مَّا لَمْ تَعْلَمُوا أَنتُمْ وَلَا آبَاؤُكُمْ ۖ
﴿ بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ(66)﴾
لا تعبأ، من عرف نفسه ما ضرَّته مقالة الناس به.
أحياناً يتمنى الخصم أن تلتفت إليه، وأن تردّ عليه، دعه مهملاً، دعه في حيِّز النسيان، لا تعبأ به، لا تجعل له قيمة، بعض الكُتّاب الذين كتبوا كلاماً يطعنون به في القرآن الكريم، وفي النبي عليه الصلاة والسلام عرضوا كتابهم على مئات دور النشر فلم تقبل دار أن تنشر لهم هذا الكتاب، فلما حدث هجوم على شخص المؤلِّف تهافتت دور النشر على نشر هذا الكتاب، فأحياناً الخصم حينما تردّ عليه ترفعه، وحينما تهمله تسقطه.
على الإنسان أن يسبح ربه:
1 ـ قبل طلوع الشمس:
﴿
النبي عليه الصلاة والسلام أوتي الفطانة كأي نبيٍ.
2 ـ قبل غروب الشمس:
3 ـ عند صلاة الليل:
﴿
صلاة المغرب والعشاء وصلاة الليل.
على الإنسان أن يصلي السنن الراتبة التي صلاَّها النبي بعد الصلوات المفروضة:
كل الخلائق يسمعون الصيحة يوم القيامة:
﴿ وَاسْتَمِعْ يَوْمَ يُنَادِ الْمُنَادِ مِنْ مَكَانٍ قَرِيبٍ(41)﴾
هذه صيحة يوم القيامة، لكن تقريباً للأذهان إذا صلى الإنسان في الحرم المكي في أي مكان، في أي مكان على الإطلاق، خارج الحرم، أو داخل الحرم، أو حول الكعبة، أو تحت الأروقة، في الطابق الثاني، في الطابق الثالث، على السطح، في أي مكان تشعر أن صوت الإمام في أذنك، طبعاً من خلال أجهزة صوت راقية جداً، هذا تقريب للأذهان.
خروج الناس من قبورهم يوم القيامة للحساب:
﴿ يَوْمَ يَسْمَعُونَ الصَّيْحَةَ بِالْحَقِّ ذَلِكَ يَوْمُ الْخُرُوجِ(42)﴾
طبعاً حينما تأتي يوم القيامة، تأتي الصيحة فينسلّ الناس من قبورهم.
﴿ إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ وَإِلَيْنَا الْمَصِيرُ(43)﴾
كنت مرة أمشي في جنازة فكان القارئ يقرأ:
﴿ إِنَّ إِلَيْنَا إِيَابَهُمْ(25) ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُمْ (26)﴾
على الإنسان أن يعبد الله الذي يحيي و يميت:
لابدَّ من العودة إلى الله.
أعمال الإنسان مسجلة عليه للحساب الدقيق يوم القيامة:
﴿ إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ وَإِلَيْنَا الْمَصِيرُ(43) يَوْمَ تَشَقَّقُ الْأَرْضُ عَنْهُمْ سِرَاعاً ذَلِكَ حَشْرٌ عَلَيْنَا يَسِيرٌ(44)﴾
قال تعالى:
﴿ إِذَا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزَالَهَا(1) وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقَالَهَا(2) وَقَالَ الْإِنْسَانُ مَا لَهَا(3) يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا(4) بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَى لَهَا(5) يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتَاتاً لِيُرَوْا أَعْمَالَهُمْ(6) فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ(7) وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ(8)﴾
يجب أن تعلم علم اليقين أن أعمالك كلها صغيرها وكبيرها مسجلة عليك.
كل إنسان مخيّر ومهمَّة النبي أن يبلغ فقط:
لذلك:
﴿
من أوجه التفسيرات: ما أنت مُجبِرهم على الهدى، أي أنت لك أن تبلِّغ فقط، لن تستطيع إجبارهم لأنهم مُخيّرون.
قال تعالى:
﴿ لَّسْتَ عَلَيْهِم بِمُصَيْطِرٍ(22)﴾
وقال سبحانه:
﴿ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكُوا ۗ وَمَا جَعَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا ۖ
على الإنسان أن يتخذ قراراً بطلب الهدى ليستفيد من القرآن الكريم:
﴿ قُلْ ءَامِنُواْ بِهِۦٓ أَوْ لَا تُؤْمِنُوٓاْ ۚ
لذلك:
الملف مدقق
والحمد لله رب العالمين.