- تفسير القرآن الكريم / ٠2التفسير المطول
- /
- (024)سورة النور
الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا، إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا وزدنا علماً، وأرنا الحق حقاً، وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً، وارزقنا اجتنابه، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين.
أيها الإخوة المؤمنون، مع الدرس الثالث والعشرين، والأخير من دروس سورة النور، وقد وصلنا في الدرس الماضي إلى قوله تعالى:
﴿ إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِذَا كَانُوا مَعَهُ عَلَى أَمْرٍ جَامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ أُولَئِكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ فَإِذَا اسْتَأْذَنُوكَ لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ فَأْذَنْ لِمَنْ شِئْتَ مِنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمُ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ(62)﴾
الفائدة بالحصر بـ ( إنما ):
الحقيقة حينما تأتي كلمة
الإيمان درجات:
وفي الحديث عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
(( الإِيمَانُ بِضْعٌ وَسَبْعُونَ أَوْ بِضْعٌ وَسِتُّونَ شُعْبَةً، فَأَفْضَلُهَا قَوْلُ: لا إِلَهَ إِّلا اللَّهُ، وَأَدْنَاهَا إِمَاطَةُ الأَذَى عَنِ الطَّرِيقِ، وَالْحَيَاءُ شُعْبَةٌ مِنَ الإِيمَانِ. ))
نهاية العلم التوحيد، وهذا الذي يميط الأذى عن الطريق خوفاً من أن تزل قدم مسلم، أو قدم إنسان كائن من كان، وهو عبد من عباد الله، هذا العمل ينطلق من إيمان، ولكن هل يعني ذلك أن هذا الذي أماط الأذى عن الطريق صار مؤمناً كاملاً؟ لا، من هنا جاءت آيات القرآن الكريم:
﴿
ومن هنا جاءت آيات القرآن الكريم:
﴿
إذاً: فالإنسان على مستوى من الإيمان لا ينبغي أن يرضى به، وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
(( جَدِّدُوا إِيمَانَكُمْ، قِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَكَيْفَ نُجَدِّدُ إِيمَانَنَا ؟ قَالَ: أَكْثِرُوا مِنْ قَوْلِ: لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ ))
يجب أن تسعى لترفع مستوى إيمانك، وكلما ظننت أن هذا المستوى الذي أنت فيه جيد فهناك أجود، وكلما ظننت أنك وصلت إلى الهدف فأنت في غلط كبير، فالإيمان له بداية، ولكن ليس له نهاية، وما دام الإيمان معرفة الله عز وجل، وربنا سبحانه وتعالى لا نهاية لكماله إذاً: لا نهاية للإيمان.
كلمة:
ما الذي يرفع مستوى الإيمان ؟
1- العلم والعمل:
والسؤال الآن: ما الذي يرفع مستوى الإيمان؟ الحقيقة هو العلم والعمل، ولذلك عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمِ:
(( إِذَا أَتَى عَلَيَّ يَوْمٌ لَمْ أَزْدَدْ فِيهِ خَيْرًا يُقَرِّبُنِي إِلَى رَبِّي، فَلاَ بُورِكَ لِي فِي طُلُوعِ شَمْسِ ذَلِكَ الْيَوْمِ. ))
﴿ وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ ۖ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي
﴿ اللَّهُ لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ ۚ لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ ۚ لَّهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ ۗ مَن ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِندَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ ۚ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ ۖ
فالعلم ليس له نهاية، وكلما تعلمت أكثر ارتفع مستوى إيمانك، فالذي يرفع مستوى الإيمان هوالعلم، علم بكتاب الله، وعلم بسنة رسول الله، وعلم بشريعة الله، وعلم بأسماء الله الحسنى، وعلم بصفاته الفضلى، وعلم بحقيقة النبي عليه الصلاة والسلام، فهذا الذي يقنع بمستوى من الإيمان لا يحيد عنه، ولا يرجو غيره، هو ضعيف الهمة، لا يمكن أن يصل إلى ما يريد، فالله سبحانه وتعالى يقول:
إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ
ففي الموقف الفلاني فعل النبي ذلك، وأنت يجب أن تفعل ذلك، لأن الله أمر المؤمنين بما أمر به المرسلين، وفي الموقف الفلاني فعل النبي ذلك، وفي زواجه كان زوجاً ناجحاً، وفي علاقته مع إخوانه كان أخاً وفياً، وفي علاقته مع من هم دونه كان أباً رحيماً، وفي علاقته مع المؤمنين كان صادقاً، فإذا درست سيرة النبي عليه الصلاة والسلام فلأنها سيرته تشريع، ولأن مواقفه قدوة يجب أن تقتدي بها.
ما معنى الأمر الجامع في قوله: وَإِذَا كَانُوا مَعَهُ عَلَى أَمْرٍ جَامِعٍ ؟
وجوب استئذان النبي:
كيف ينطلق هذا الإنسان من دون أن يستأذن النبي عليه الصلاة والسلام؟ إنه ليس مؤمناً بالمستوى الذي أراده الله عز وجل، فإذا كنت مؤمناً كاملاً فعليك أن تستأذن النبي عليه الصلاة والسلام، فيمكن أن تنسحب هذه الآداب على كل مجتمع صغير مسلم، مثلاً على مستوى الأسرة، أيعقل أن ينطلق الابن إلى حيث يشاء من دون أن يستأذن أباه، أيعقل أن ينطلق الأخ الكريم، وهو في مجموعة في مكان دون أن يستأذن أميرهم، هذا الإذن يعني ارتباط الفرد المسلم بأميره في الدنيا، أو أميره في الدين، فلابد من الإذن، أساساً القوانين الوضعية تطالب الموظف إذا أراد أن يسافر أن يستأذن جهته الرسمية، فلعل في هذا السفر خللاً في عمله، ولعل في هذا السفر خطراً على مستقبله، ولعل في هذا السفر إضعافاً للمسلمين، فهذا الاستئذان علامة رقي، وعلامة نظام، والمؤمنون يسودهم نظام دقيق، فالفوضى لا يُقرها الإسلام، وليست من الإسلام في شيء، ولو أنكم درستم سيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا سيما في غزواته لرأيتم العجب العجاب، ولرأيتم كيف كان النبي عليه الصلاة والسلام ينظم الصفوف، وكيف كان يضع على كل مجموعة أميراً، وكيف كان يتصل بالأمراء، وكيف كان ينقل الأوامر، وكيف كان يستقبل المعلومات، هذا شيء من سمات الإسلام.
والفوضى ليست من الإسلام في شيء، فهناك أمير دنيوي، وهناك أمير في الدين، وعلى كلٍّ إذا كنت عضواً في جماعة بدءاً من الأسرة، وانتهاءً عضواً أو فرداً في أمة فلابد من علاقة تنظيمية بينك وبين أمير هذه الجماعة، وهذه العلاقة التنظيمية في عهد النبي عليه الصلاة والسلام جاءت على الشكل التالي، وفيما بعد النبي عليه الصلاة والسلام لابد من الذي ينوب عن النبي في إمارة الدنيا، أو في إمارة الآخرة أن تنسحب عليه هذه الآداب.
لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ
﴿
2 – الانقياد لأوامر الله ورسوله:
فالإسلام مستوى، والإيمان مستوى، فالإسلام بمجرد أن تنقاد لأوامر الله عز وجل؛ صغيرها وكبيرها فأنت مسلم، ولكن الإيمان تصديق لما جاء به النبي عليه الصلاة والسلام، وإقبال على الله عز وجل، فإذا أُلغي الإقبال تراجع الإيمان، والإيمان مجموعة حقائق يجب أن تؤمن بها، فإذا آمنت بها، ولم تكن أنت في مستواها فما الذي يحصل؟ يتسرب السأم، والملل إلى النفوس، ولن تقطف ثمار الإيمان إلا إذا كنت في مستوى الإيمان، ولذلك قلت قبل قليل: الإيمان يتجدد، فما الذي يرفع مستوى الإيمان؟ العلم، ومتابعة دروسه، ومتابعة قراءة كتاب الله، وتدبّره، فهذا مما يرفع مستوى الإيمان بشكل مستمر.
3 – العمل الصالح:
وشيء آخر يرفع مستوى الإيمان؛ إنه العمل الصالح، لقول الله عز وجل:
﴿ مَن كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعًا ۚ إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ
فالإنسان يحاسب نفسه حساباً دقيقاً، فأنا ماذا فعلت اليوم من عمل صالح يصلح للعرض على الله؟ ولا تنسوا أن أبواب العمل الصالح لا تعد ولا تحصى، وكلكم يعلم أن تبسمك في وجه أخيك صدقة، وأن تميط الأذى عن الطريق هو لك صدقة، وأن تفرغ دلوك في دلو المستسقي هو لك صدقة، وأن ترشد الرجل الضال في أرض الضلال هو لك صدقة، وإنكم إن لم تسعوا الناس بأموالكم فسعوهم بأخلاقكم.
(( إنكم لا تسعون الناس بأموالكم وَلْيَسَعُهُمْ منكم بَسْطُ الوجه وحسن الخلق. ))
فالعمل الصالح يرفع مستوى إيمانك لماذا؟ لأنه يرفع مستوى إقبالك، فإذا عاهدت نفسك ألا يمضي عليك يوم إلا وتزداد فيه علماً، أو عملاً فعندئذ يرقى مستوى إيمانك إلى المستوى الذي يسمح الله لك به دخول الجنة، فالإيمان مثلاً كما قال عليه الصلاة والسلام:
(( الإيمانُ عفيفٌ عنِ المحارمِ، عفيفٌ عنِ المطامعِ ))
هذا الإيمان، فهذا الذي يطمع فيما ليس له، أو يطمع فيما نهى الله عنه يطمع فيما ليس له،
فإذا كان العمل غير مصدق للقلب فالإيمان يحتاج إلى تجديد، والإيمان كما قال عليه الصلاة والسلام يسعد صاحبه فإن لم تكن سعيداً بهذا الإيمان فالإيمان أخذ طابعاً شكلياً أو أخذ طابعاً أجوف، أيعقل أن تشقى والله معك، لا يحزن قارئ القرآن، وكما قال عليه الصلاة والسلام:
(( من قرأ القرآنَ ثم رأى أنَّ أحدًا أُوتِيَ أفضلَ مما أُوتِيَ فقد استصغرَ ما عظَّمَه اللهُ تعالَى . ))
هذا لا يكون، فالقضية مصيرية، وخطيرة، فعلى الإنسان ألا يجامل نفسه، بل يتهم نفسه دائماً، فإذا جاملها يبرك معها، وإذا كان يوم الدين يرى نفسه مسبوقاً، وحينما يرى نفسه مسبوقاً، يتألم ألماً لا حدود له، كن سابقاً، ولا تكن مسبوقاً، ثم يقول الله عز وجل لنبيه عليه الصلاة والسلام:
فَإِذَا اسْتَأْذَنُوكَ لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ فَأْذَنْ لِمَنْ شِئْتَ مِنْهُمْ
من إسقاطات هذه الآية
قبل أن ننتقل من هذه الآية، هذه الآيات وإن كانت للنبي عليه الصلاة والسلام، ولكن يمكن أن يتأدب بها المؤمنون مع أمرائهم الذين يدلونهم على الله عز وجل، أو أمرائهم الذين يتولون شؤونهم الدنيوية، وهكذا قال بعض العلماء.
ولو فرضنا أراد النبي عليه الصلاة والسلام أمراً، وأنت إذا غبت عنهم، غبت عن هذا الأمر، وأخفق هذا الأمر، ولم يتحقق فقد ساهمت في إيذاء المسلمين، وأحياناً غياب المؤمن يسبب إحراجاً كبيراً، ولو كُلِّف إنسان بعمل، ولم يقم به على الوجه المطلوب فهذا انتماؤه للدين ضعيف، وفي كل مكان يوجد جماعة مؤمنة، وفي كل مسجد خدمات لابد أن تؤدَّى، وحاجات لابد أن تُقضى، فإذا كُلف إنسان بعمل في خدمة هذا المسجد فعدم تأدية هذه الخدمة، وعدم اهتمامه بها هذا دليل ضعف إيمانه، أما حينما يُكلَّف بعمل، ويقوم به على الوجه الأكمل فهذا من علامات قوة إيمانه، إذا كنت في مجموعة فلابد من الاستئذان، ولابد من التشاور، لابد من الاستشارة، لابد من الإعلام على الحد الأدنى، ويقول الله سبحانه وتعالى:
﴿
موقف المنافقين من الأدب مع النبي عليه الصلاة والسلام:
فهؤلاء الذين يقفون على باب النبي عليه الصلاة والسلام، ويصرخون بأعلى صوتهم: يا أبا القاسم اخرج إلينا، فالله سبحانه وتعالى أدّبهم وقال:
﴿ إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِنْ وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ(4)﴾
والنبي عليه الصلاة والسلام لا ينبغي أن يُخاطب كواحد منا، إذ له مقام كبير، فربنا سبحانه وتعالى خاطب الأنبياء بأسمائهم جميعا قال:
﴿
قال:
﴿
قال:
﴿
فربنا سبحانه وتعالى خاطب بعض الأنبياء بأسمائهم، ولكنه لم يخاطب النبي عليه الصلاة والسلام أبداً باسمه، قال:
﴿
﴿
فإذا كان الله سبحانه وتعالى خالق السماوات والأرض عرف للنبي مقامه أينبغي للمسلم أن يخاطب النبي في حياته أو بعد وفاته، ويقول: قال محمد بن عبد الله، قل: صلى الله عليه وسلم، لأنه:
﴿ ذَٰلِكَ وَمَن يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى الْقُلُوبِ(32) ﴾
فلا ينبغي أن يُنادى النبي كما يُنادى رجل عادي، هذا مما يجرح نفسه الشريفة.
﴿ ذَٰلِكَ الَّذِي يُبَشِّرُ اللَّهُ عِبَادَهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ۗ
قال:
موقف المنافقين من الأدب مع النبي عليه الصلاة والسلام:
فالمنافقون في الأزمات الحادة، وفي أثناء الغزوات كانوا يتسللون ويهربون إلى بيوتهم، ولاسيما في غزوة الخندق التي بلغت فيها القلوب الحناجر، وابتلي المؤمنون، وزلزلوا زلزالاً شديداً، فالمنافقون تسللوا لواذاً، أيْ لاذوا بحائط، وتسللوا من خلفه، لاذوا بشجرة، وتسللوا من خلفها، أيْ هربوا إلى بيوتهم، وقالوا:
مخالفة الرسول مصيرها إلى فتنة وعذاب:
ولقد سمعت قصة أن شاباً متزوجاً حسب أمواله ليدفع عنها الزكاة، فبلغت الزكاة مبلغاً معيناً، وله زوجة بعيدة عن أجواء الإيمان أقنعته بأن يمتنع عن دفع الزكاة، وما هي إلا أيام، وله سيارة فأصابها حادث، فقال: والله الذي لا إله إلا هو دفعت أجرة تصليح السيارة مقدار الزكاة بالتمام والكمال.
﴿ مَّا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَىٰ رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَىٰ فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَىٰ وَالْيَتَامَىٰ وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ مِنكُمْ ۚ
فربنا عز وجل يحذرنا:
والإنسان في حركته اليومية، في زواجه، وفي تجارته، وفي بيعه، وشرائه يقع في شبهات، اسأل: مفتاح العلم السؤال.
﴿ وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُّوحِي إِلَيْهِمْ ۚ
فاسأل به خبيراً، فحينما تسأل تستوضح، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
(( ما خاب من استخار ولا ندم من استشار، ولا عال من اقتصد ))
اسأل أهل العلم حول كل شبهة تعترض سبيلك
ثم يقول الله عز وجل في ختام هذه السورة:
﴿
لله ما في السماوات والأرض ملكًا وتصرفًا ومصيرًا:
﴿
وفي بعض الآثار القدسية:
(( أنا ملك الملوك، ومالك الملوك، قلوب الملوك بيدي، فإن العباد أطاعوني حولت قلوب ملوكهم عليهم بالرأفة والرحمة، وإن العباد عصوني حولت قلوب ملوكهم عليهم بالسخط والنقمة، فلا تشغلوا أنفسكم بسب الملوك، وادعُوا لهم بالصلاح، فإن صلاحهم بصلاحكم. ))
فهذه الآية:
﴿ قُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُوا ۖ لَهُ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ۖ أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ ۚ
تعامل مع الإنسان، أرضِ هذا الإنسان على حساب طاعة الله عز وجل يسخط عنك هذا الإنسان، ويسخط الله معه، أرضِ الله عز وجل بسخط الناس يرضَ الله عنك، ويرضِ الناس، لا إله إلا الله هذا التوحيد، وما تعلمت العبيد أفضل من التوحيد.
وهناك آية أخرى:
﴿ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَمَا تَحْتَ الثَّرَى(6) ﴾
كله لله سبحانه وتعالى؛ ملكاً، وتصرفاً، ومصيراً، فما دام الشيء له، فماذا ينتج عن هذا الإيمان؟
إحاطةُ الله بكل شيءٍ علمًا:
فالإنسان بيته منظر الخَلق، وثيابه منظر الخَلق، ومركبته منظر الخَلق، يقول لك أريد أن أطليها، ويمكن أن يدهن مدخل البيت، ويمكن أن يغير المفروشات، ويقول لك: أريد أشياء أحدث.
ورد في إنجيل سيدنا عيسى عليه السلام
ما هو منظر الله سبحانه وتعالى؟ هو القلب، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
(( إِنَّ اللَّهَ لا يَنْظُرُ إِلَى صُوَرِكُمْ وَأَمْوَالِكُمْ، وَلَكِنْ يَنْظُرُ إِلَى قُلُوبِكُمْ وَأَعْمَالِكُمْ ))
فالقلب منظر الرب، ومن هنا قال سيدنا عمر رضي الله عنه: "فتعاهد قلبك".
﴿ يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ(88) إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ(89)﴾
فهناك غل، وحقد، وغش، وخداع، وتكبر، واستعلاء، وأنانية، وأثَرة، وحب للذات، وهناك مسامحة، وعفو، وغيرية، وتواضع، وخوف من الله، فهذا القلب منظر الرب، والإنسان عليه أن يهتم بقلبه، لأنك إذا اهتممت بالظاهر ولم تهتم بالباطن فعملك لا يقدم، ولا يؤخر.
﴿ وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا(23) ﴾
وقد مر بنا من قبل حينما وصف الله أعمال الكفار الصالحة بأنها:
﴿ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ
معنى: قَدْ يَعْلَمُ: أيْ قد علِم:
قد علم، لكن يعلم فعل مضارع والمضارع يفيد التجدد والاستمرار، أيْ كلما خطر في بالك شيء يعلمه، فإذا غيرت موقفك يعلمه، وإذا انتقلت من نية طيبة إلى نية سيئة فإنَّه يعلمها، ومن نية سيئة إلى طيبة يعلمها، نويت الطلاق فيعلمه، وألغيت الطلاق فيعلمه، ونويت إنهاء هذه الشركة فيعلمه، ونويت الاستمرار بها فيعلم ذلك
إثبات البعث والحساب:
﴿ اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا(14) ﴾
وأحياناً إذا قبضوا على مجرم يأمرونه أن يمثل الجريمة، فلو نظرت إلى وجه مجرم يمثل الجريمة ترى له وجهاً مغبراً، مكفهِرّاً، مسوداً، كظيماً، ويوم القيامة حينما يقف الإنسان بين يدي الله عز وجل، ويعرض له أعماله؛ لماذا فعلت هكذا؟ ولماذا غششت الناس؟ ولماذا بنيت مجدك على أنقاضهم؟ ولماذا بنيت مالك على فقرهم؟ ولماذا آذيتهم، ولماذا فعلت بهم ما فعلت؟
فهذا تهديد، وفيها بشارة
كلمة قصيرة عن مناسبة الإسراء والمعراج:
الآية الأخيرة من سورة النور انتهت، ومع انتهاء هذه السورة أمضينا فيها ثلاثةً وعشرين درساً، وأرجو الله سبحانه وتعالى أن ننتفع بها جميعاً، وأن تُترجم هذه السورة إلى سلوك وإلى آداب نعيشها، فإذا تُرجمت إلى سلوك، وإلى آداب نعيشها أقبلنا على الله عز وجل بوجه أبيض، وسعدنا بهذا الإقبال.
موضوع الإسراء والمعراج موضوع دقيق، وكأن النبي عليه الصلاة والسلام مر في حياته بمراحل متنوعة، وبعض هذه المراحل فيه حزن، وفيه تكذيب، وفيه وحشة، وفيه عدوان، وفيه كفر بدعوته، والنبي عليه الصلاة والسلام على الرغم من كل المصائب والمحن التي مر بها كان ثابت الجأش، كان ثابت القلب، كان محباً لله عز وجل، فماذا يعلمنا الإسراء والمعراج؟ يعلمنا الثبات على المبدأ.
فالنبي الكريم ماتت زوجته خديجة مؤنسته في الداخل، ومات عمه أبو طالب، وذهب إلى الطائف، وتتالت المحن في العام العاشر للهجرة، بعضها مع بعض، ومع ذلك ما زاد على أن قال:
(( اللهم إن لم يكن بك غضب علي فلا أبالي، ولك العتبى حتى ترضى، ولكن عافيتك أوسع لي))
الشيء المهم أن الله سبحانه وتعالى أمر المؤمنين بما أمر به المرسلين، فكل مؤمن ربما سلّكه الله سبحانه وتعالى في الطريق نفسه الذي سلكه النبي عليه الصلاة والسلام، وخط المؤمن البياني قد يهبط، وقد يهبط، وقد يصل إلى النهاية الصغرى، ثم يصعد، ويصعد، والمهم أن تبقى ثابت المبدأ، وما من قولة قالها النبي عليه الصلاة والسلام تعبر عن ثباته على مبدئه كقوله صلى الله عليه وسلم:
(( والله يا عم لو وضعوا الشمس في يميني، والقمر في يساري على أن أترك هذا الأمر ما تركته حتى يظهره الله أو أهلك دونه. ))
فيجب على المؤمن أن يوطن نفسه ليكون محباً لله، طائعاً له، مُخبِتاً إليه في كل الأحوال، في السراء والضراء، في الضيق والبحبوحة، في إقبال الدنيا وإدبارها، في الصحة والمرض، في الخوف والأمن، لأن النبي عليه الصلاة والسلام مر بمواقف عديدة جداً، لكن جاء الإسراء والمعراج، وكان مسحاً لجراح الماضي، وتطميناً لقلب النبي، وإراءة لملكوت السماوات والأرض، وعرف النبي أنه سيد ولد آدم، وأنه سيد الأنبياء والمرسلين، وأن الله رفعه إلى سدرة المنتهى حيث لا مقام بعده، وأن هذا كله ناله بمقام العبودية لله عز وجل، إذ يقول سبحانه:
﴿
وكلما كنت عبداً لله كلما ارتفعت في نظر الله عز وجل، وكلما كنت عبداً لله كلما حققت الهدف من وجودك، والعبودية الخالصة انصياع لأوامر الله كلية، ورضاء بقضائه وقدره، واستسلام له، وميل إليه، ومحبة له.
الملف مدقق
والحمد لله رب العالمين.