- تفسير القرآن الكريم / ٠2التفسير المطول
- /
- (024)سورة النور
الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا، إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا وزدنا علماً، وأرنا الحق حقاً، وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً، وارزقنا اجتنابه، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين.
أيها الإخوة المؤمنون، مع الدرس السابع عشر من سورة النور، وصلنا في الدرس الماضي إلى قوله تعالى:
﴿ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ(39) أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحَابٌ ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُوراً فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ(40)﴾
علاقة الآيات بما قبْلَها:
قد يسأل سائل: ما العلاقة بين هذه الآيات التي تتحدث عن الكفار، وبين الآيات السابقة في قوله تعالى:
﴿
الحقيقة أن الله تعالى بعد أن بيّن نوره، وكيف يسري في المؤمن، فيسعد به في الدنيا والآخرة بيّن لنا كيف أن الكافر محروم من هذا النور، وحينما يُحرم الكافر من نور الله عز وجل فما هي النتائج الخطيرة المترتبة على هذا الحرمان؟ فالمؤمن يمشي بنور الله، وينطق بتوفيق الله، وعقيدته صحيحة، وسلوكه منضبط، وحياته النفسية مفعمة بالسعادة، لأنه على نور من ربه، وشعوره أن الله راضٍ عنه شعور نبيل، وشعور عظيم، لكن أهل الدنيا المنقطعين عن الله عز وجل ما حياتهم من دون هذا النور؟ فربنا سبحانه وتعالى يقول:
إذاً حينما أعرض الكافر عن التفكر في السماوات والأرض فما عرف الله، وحينما لم يعرف الله عز وجل لم يقم لأمره قيمةً، ولم يعبأ بطاعته، ولا باجتناب معاصيه، بهذا الجهل، وبهذا الانحراف وقع في ظلام، وحينما وقع في ظلام اتجه اتجاهات ليست صحيحة، فحينما جاء يوم القيامة، وكان يستنجد بهذه الإنجازات رآها كسراب بقيعة يحسبه الظمآن ماء، فالإنسان أحياناً يتساءل أن هناك إنجازات ضخمة على مستوى الصناعة، والتجارة، والزراعة، واكتشافات، وأسلحة ذات فعالية تفوق حد الوصف، وأسلحة جرثومية، وكيماوية، وقنابل ذرية، وقنابل انشطارية، أليس هذا إنجازاً؟ نعم، ولكن هذا الإنجاز لو عُرِض على ميزان يوم القيامة كان كسراب بقيعة يحسبه الظمآن ماء، وحتى الأعمال التي تبدو للناس عظيمةً، وحتى الأعمال التي يفعلها أهل الدنيا المنقطعون عن الله عز وجل، والتي هي بنظرهم عظيمة، فهذه الأعمال لو عُرضت على المِحَك الصحيح الذي يُسعِد الناس، أو يشقيهم لكانت أعمالهم خسارة في خسارة، ولذلك يقول الله سبحانه وتعالى:
﴿ قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالَأَخْسَرِينَ أَعْمَالاً الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا(104)﴾
وحينما يرى الله عز وجل الإنسان قد أعرض عنه يذكره فلا يتذكر، وينبهه فلا ينتبه، ويسوق له الشدائد فلا يتعظ، وعندئذ يدعه وشأنه:
﴿
وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً
ولذلك حينما يغفل الإنسان عن الله عز وجل تصبح أعماله تافهةً لا جدوى منها في مقياس السماء، أما في مقياس الأرض فقد يثني عليه الناس، وقد يمدحونه، وقد يملأ أعينهم بهذا العمل العظيم، لكن في مقياس الدار الآخرة لا قيمة للعمل إلا إذا كان نافعاً للناس.
حَتَّى إِذَا جَاءَهُ
﴿
وقال:
﴿ مَن كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعًا ۚ إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ
وقال:
﴿
إذًا أنت في هذه الدنيا جيء بك كي تعمل عملاً صالحاً يصلح أن تسعد به إلى الأبد، فإذا جئت الدار الآخرة، وعرفت قيمة العمل الصالح، وبحثت عنه، فإذا كان صالحاً أسعدك، وإن لم يكن كذلك كان العمل هباء منثوراً..
﴿ وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا(23)﴾
لَمْ يَجِدْه شَيْئًا وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ
﴿ إِن تَدْعُوهُمْ لَا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ ۖ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ ۚ
خبير بما نعمل، سميع بصير.
﴿ وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنَ الْقُرُونِ مِن بَعْدِ نُوحٍ ۗ
والله سبحانه وتعالى وحده يعرف حجم عملك، يعرف الإخلاص في العمل، والصدق في العمل، ومقدار التضحية، وما بذلت، وحجم ما بذلت، ولذلك فربنا سبحانه وتعالى هو الذي يحاسب الإنسان يوم القيامة.
وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ
فالله سبحانه وتعالى وصف نفسه بأنه سريع الحساب، لأن الحساب يحتاج إلى وقت، ولا يتذوق هذه الآية إلا من عمل في الحساب، فإنه يحتاج إلى وقت، وإلى جهد، وإلى ليالٍ يسهرها، وإلى صفحات يملؤها، لكن الله سبحانه وتعالى في لمح البصر يعطي كل ذي حق حقه.
والآية الثانية:
من الإعجاز العلمي في القرآن: إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا
يقول العلماء: "إنه حتى عام 1900 لم يكن أحد يعرف أن في البحر أمواجاً داخلية"، والمعروف أن في البحر أمواجاً سطحية، على سطح البحر هناك أمواج، ولكن كما يقول العلماء: البحارة الإسكندنافيون عرفوا لأول مرة، وهم يغوصون في أعماق البحر أن في البحر أمواجاً داخلية، ولما عُرضت هذه الآية على بعض علماء البحار دُهشوا، وصُعقوا، كيف أن هذا الكتاب الذي جاء قبل 1400 عام يشير إلى الأمواج الداخلية في البحر، والحقيقة كيف أن الأمواج السطحية تدفع السابح إلى جهة أو لأخرى، والأمواج العميقة تدفع الغواص إلى جهة، أو إلى أخرى، والله سبحانه وتعالى بيّن في هذه الآية أن في البحار أمواجاً سطحية، وأمواجاً داخلية.
قال تعالى:
أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُجِيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ
أما إذا كان البحر متموجاً، فإن هذه الأمواج من شأنها أن تعكس الأشعة نحو الأعلى. لذلك:
مِنْ فَوْقِهِ سَحَابٌ
و والشيء الذي يلفت النظر أن الأسماك في قيعان البحار ليس لها عيون إطلاقاً، والخالق العظيم خلقها لتعيش في قاع المحيطات، حيث الظلام دامس، فلماذا العين؟ وما فائدتها؟ ولذلك الأسماك التي تعيش في قاع المحيطات لا عيون لها، تتعرف إلى المحيط الخارجي عن طريق السمع، لا عن طريق البصر،
والشيء الذي يلفت النظر أيضاً أن الإنسان كلما هبط في المحيط مسافة أكبر ازداد ضغط الماء عليه، فضغط الماء قد يحطم أكبر الغواصات، ولو أن غواصة اختل جهاز ارتفاعها -إذ في كل غواصة جهاز يعرف قبطانها ارتفاعها عن سطح البحر، أو بعدها عن سطح البحر- فلو اختل هذا الجهاز وهبطت أكثر من 200 متراً فإن ضغط الماء يحطمها،
وقد يسأل سائل: كيف تعيش هذه الأسماك على أعماقٍ كبيرة جداً في البحار، إذا كان ضغط الماء كافياً لتحطيم غواصة أُنشئت من الفولاذ، فكيف تعيش هذه الأسماك؟ قال بعض العلماء: إن هذه الأسماك لها أجواف داخلية ممتلئة بمياه البحر، ولأن هذه الأجواف الداخلية الممتلئة بمياه البحر ينشأ فيها ضغط داخلي يكافئ الضغط الخارجي، فبهذا تعيش هذه الأسماك في قاع المحيطات،
فهل هناك من تشبيه أروع لهذا الكافر البعيد عن الله الذي لا يصلي، والذي ما عرف الله عز وجل، والذي يعيش للذته، يعيش للحظته، يعيش لاقتناص اللذة، ولا قيمة للقيم عنده، فهذا الكافر في ظلمات بعضها فوق بعض.
﴿ وَذَا النُّونِ إِذ ذَّهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَن لَّن نَّقْدِرَ عَلَيْهِ
ما هي الظلمات الثلاث؟ قالوا: هي ظلمة الليل، وظلمة البحر، وظلمة بطن الحوت، وهذا الكافر في ظلمات ثلاث؛ فهو في قاع المحيط، فوقه موج يعكس الأشعة، وفوق الموج موج، وفوق الموج سحاب.
ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا
يقول ربنا سبحانه وتعالى في بعض الآيات الأخرى:
﴿
العمل الطيِّب نورٌ
من خلال هذه الآيات في هذه السـورة يتضح أن العمل الطيب نور، وأن العمل السيئ ظلام، وهاتان الآيتان:
الآية الأولى:
﴿
الحق واحد، والهدى واحد، وأما الباطل متعدد، ومتنوع، والضلالات أنواع، والانحرافات أنواع، أنواع ونِسب، لها أنواع كثيرة، وكل نوع له نسب، فالخط المستقيم خط مستقيم، لكن الخط المنحرف عن هذا الخط فيه انحراف بدرجة، وانحراف بدرجتين، وبخمس درجات، والانحراف منوع، عندنا خط منكسـر، وخط منحنٍ، وخط متعرج، وخط ملتوٍ، الانحراف مُنوَّع، ونسبي، ولكن الاستقامة واحدة، وذات مصدر واحد.
ثم يقول الله سبحانه وتعالى:
﴿ أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُسَبِّحُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلَاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ(41)﴾
معنى: أَلَمْ تَرَ
فكلمة:
﴿ وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ(105)﴾
وربنا عز وجل يأمرنا أن ننظر:
﴿ فَلْيَنْظُرْ الْإِنسَانُ إِلَى طَعَامِهِ(24)﴾
وقال سبحانه:
﴿ فَلْيَنظُرْ الْإِنسَانُ مِمَّ خُلِقَ(5)﴾
وقال:
﴿ أَفَلَا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ(17) وَإِلَى السَّمَاءِ كَيْفَ رُفِعَتْ(18)﴾
فكلمة:
انظر تر:
من معاني التسبيح:
المعنى الأول: التسبيح لإتقان خلق الله:
ومن معاني التسبيح أنك إذا رأيت، أو إذا نظرت إلى أي شيء من مخلوقات الله تجده متقناً إتقاناً لا حدود له، صغير المخلوقات وكبيرها، وجليل المخلوقات وحقيرها، وأي مخلوق؛ نافعها، وضارها، لو نظرت إلى تشريح جسدك، وإلى بنية أجهزتك، وإلى تركيب حواسك لرأيت العجب العجاب؛ فهذا الطير كأنه يسبح الله سبحانه وتعالى، وهذه السمكة لجمال خطوطها، ولدقة أجهزتها، ولعظمة بنيانها إذا تأملت فيها دفعك هذا التأمل إلى تسبيح الله سبحانه وتعالى، فهذا هو المعنى الأول.
المعنى الثاني: كل شيء يسبّح بحمد الله:
والمعنى الثاني: أن كل شيء خلقه الله سبحانه وتعالى يسبح بحمده، والذي يؤكد المعنى الثاني قول الله عز وجل في آية أخرى:
﴿ يُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَن فِيهِنَّ ۚ وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ
إذاً الطير تسبح، والزهرة تسبح، والحجر يسبح، والنبي عليه الصلاة والسلام يقول:
(( إِنَّي لَأَعْرِفُ حجرًا بِمَكَّةَ ، كانَ يُسَلِّمُ علَىِّ قبلَ أنْ أُبْعَثَ ))
والعلم الحديث يقول: كل ذرة فيها حركة، وفيها كـهارب، وإلكترونات، ومدارات، فهذا الشيء الذي تراه جامداً يتحرك، ويدور بسرعات مذهلة، ونظام الذرة يشبه نظام المجرة، إذاً الجمادات، والنباتات، والحيوانات كلها تسبح الله سبحانه وتعالى، وهذا الإنسان الذي سُخرت له جميع المخلوقات، والذي سخر الله له من في السماوات والأرض كيف يغفل عن الله عز وجل؟ وكيف تسـبح الطير في الأجواء، والأسماك في البحار، والرياحين والأزهار، والأحجار، وهو في غفلة عن الله عز وجل!
وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ
وأساس الطائرة خفة في الوزن، وأداء مرتفع جداً في الطاقة، لأن السيارة حينما تتحرك تمشي على عجلات، فالوقود من شأنه أن يدفعها نحو الأمام، لكن الوقود في الطائرة من شأنه أن يرفعها كلها،
فأن تدفع سيارة نحو الأمام تحتاج إلى جهد ولا شك، لكن أن تحمل سيارة، فهذا يحتاج إلى جهد كبير، فالطائر حين يطير ستاً وثمانين ساعة بلا توقف، إذ هناك طائر اسمه "بلاك بول" يطير ستاً وثمانين ساعة بلا توقف، وهناك طيور تهاجر من شمال الأرض إلى جنوبها،
وتقطع مسافة تزيد عن سبعة عشر ألف كيلو متراً، وهناك طيور تهاجر مثلاً من الشام إلى إفريقيا، وحينما تعود كيف تهتدي إلى أوكارها، وإلى أعشاشها؟
إذا انطلقت إلى إفريقيا، لو انحرفت درجة واحدة لجاءت في مصر، ولو أنها انحرفت درجتين لجاءت في ليبيا، فكيف تأتي إلى الشام؟ وإلى الحي الفلاني، والبيت الفلاني؟ الطيور التي تعشعش في البيوت في دمشق مثلاً، وتهاجر في الشتاء، تعود إلى أعشاشها في الصيف المقبل، كيف تهتدي إلى الطريق؟ هذا من عظمة الله تعالى، وهذا الريش كيف أنه بدرجة من الخفة تفوق حد الخيال! فالطائر خفيف جداً، وريشه متماسك، وهذا الريش يتبدل، ففي عالم الطيران والطيور حقائق مذهلة، لا مجال لذكرها كلها الآن، لكن الله عز وجل يقول:
كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلَاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ
فبنية الطائر بنية عجيبة جداً، وربنا عز وجل هكذا يقول:
﴿ وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ(42)﴾
لله ما في السماوات والأرض ملكًا وتصرفا ومصيراً:
فمالك المُلك هو الله سبحانه وتعالى، وكل شيء يظن الإنسان أنه يملكه هو واهم، الملك لله الواحد القهار.
﴿ يَوْمَ هُم بَارِزُونَ ۖ لَا يَخْفَىٰ عَلَى اللَّهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ ۚ
في الدنيا، وفي الآخرة، فهذا السمع ملك الله عز وجل، والبصر، والكليتان ملك الله عز وجل، ففجأة تتوقف الكليتان عن العمل بلا سـبب، وحتى الآن لا أحد يعلم ما السبب؟ إنه توقف مفاجئ في وظيفة الكليتين، فهاتان الكليتان اللتان تصفيان لك الدم، وأنت مرتاح، وتعمل في متجرك، أو معملك، أو مكتبك، أو مدرستك، أو حقلك، أو بيتك من دون أن تشعر، ولا يعرف قيمة الكليتين إلا من ابتلي بغسيل الكليتين في المستشفيات؛ يذهب إلى المستشفى، وينتظر الساعات الطويلة ليأتي الطبيب، ويضع هذه الإبر في شرايينه، ويبقى ساعتين أو أكثر، ويدفع مبالغ طائلة، ويتحمل عبئاً، ووقتاً، وجهداً، والكلية الصناعية حجمها كبير، ولها صوت، ووظيفتها غير كافية، ويبقى هناك عشرون بالمائة من المواد السامة في الدم لا تستطيع الكلية الصناعية أن تصفي هذه الكمية.
فالكليتان ملك الله عز وجل، والعين ملك الله عز وجل، وكل شيء تظن أنك تملكه فهو ملك الله عز وجل.
﴿ أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُزْجِي سَحَاباً ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكَاماً فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلَالِهِ وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ جِبَالٍ فِيهَا مِنْ بَرَدٍ فَيُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَصْرِفُهُ عَنْ مَنْ يَشَاءُ يَكَادُ سَنَا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالْأَبْصَارِ(43) يُقَلِّبُ اللَّهُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصَارِ(44)﴾
العلاقة بين الهواء والماء:
وقد تحدثنا من قبل عن الهواء والماء، ولكن هناك علاقة بينهما، وفي هذه العلاقة مصير الإنسان، فالهواء من شأنه أن يتحمل بخار الماء، وتحمُّل الهواء لبخار الماء بنسب متفاوتة، فهذه النسب تتعلق بحرارة الهواء، فمثلاً لو أن متراً مكعباً من الهواء كانت حرارته 30 لتحمّل 150غ من الماء، فإذا برد الهواء تخلى عن بخار الماء الذي يحمله، وهذا مبدأ الأمطار، أشعة الشمس مسـلطة على مساحات شاسعة من الماء، وربنا عز وجل حينما جعل البحار نسبتها 71% من سطح الأرض، و29%يابسة، فهذه النسبة ليست عبثاً، فلولا أن مساحة البحار تعادل أربعة أخماس اليابسة لما أمكنت الحياة على اليابسة، فهذه المساحات الهائلة من البحار تأتيها الشمس، فتأخذ شيئاً منها على شكل بخار ماء، وقد تسهم الرياح الساريات بنقل جزء من ماء البحر إلى الهواء.
وعلى كلٍ: فالهواء يتحمل بخار الماء، والهواء هناك ساخن طبعاً، أشعة الشمس تسخن مياه البحر، فتتبخر، ويحملها الهواء، والهواء إذا سخن ارتفع نحو الأعلى، وكلما ارتفعنا 150 متراً تقل الحرارة درجة واحدة، فكلما ارتفع الهواء المحمل ببخار الماء نحو الأعلى برد، وإذا برد انعقدت السحب، فما السحب؟ إنها هواء مشبع ببخار الماء، برد الهواء، فتخلى عن جزء من بخار الماء، وهذا الجزء انعقد سحاباً، وبقي عالقاً في الهواء، فإذا برد أكثر فأكثر بلغ حد الندى، أي فرط إشباع، فيصبح السحاب قطرات من الماء، وهذا تبسيط جداً للأمطار، ولكن هناك نظريات أعقد، وأعقد من ذلك، وعلى كل فهذا الهواء يحمل بخار الماء، وكلما زادت درجة الحرارة ازدادت قدرته على تحمل بخار الماء، وكلما قلت هذه الدرجة تخلى عن الماء الزائد.
معنى: أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُزْجِي سَحَابًا
يقول ربنا عز وجل يقول:
ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَه
فالسحابة الواحدة التي طولها سبعة كيلو مترات، وارتفاعها أربعة أو خمسة كيلو مترات، هناك من يقدِّر أنها تحمل أربعين طناً من الماء، ماء يسير في الهواء، يسوقه الله حيث يشاء، فالله عز وجل يقول:
فإذا قلنا: هبط في دمشق 30 ملم، أي 3 سم، فلو أن هذه الكمية عُممت على القطر بحساب بسيط، هناك خمسة مليارات طناً من الماء نزلت إلى القطر، وإذا سمعنا بالأخبار أنه بالمكان الفلاني نزل 30 ملم، فهذه مياه كثيرة جداً.
السحب الركامية: ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكَامًا
وكأنها جبال، والطائرات الآن تطير على ارتفاع 40000 قدم، وهذه المسافة فوق السحاب، فلو أطل الراكب، ونظر إلى السحاب من نافذة الطائرة يرى السحاب وكأنه جبال بشكل دقيق، وهذه الصورة عرفها الإنسان بعد أن ركب الطائرة.
فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلَالِهِ
هناك سحابة واحدة بعضها مشحون سالباً، وبعضها مشحون موجباً، وهناك سحب متنوعة، بعضها مشحون شحنة سلبية، وبعضها مشحون شحنة إيجابية، إذا تلاقت هذه السحب يحدث ما يسمى بالانفراغ، هذا البرق هو من نتائج تلاقي السحب ذات الشحنات المتفاوتة، والبرق يقولون إن حرارته 40 ألف درجة..
وَيُنَزِّلُ مِنْ السَّمَاءِ مِنْ جِبَالٍ فِيهَا مِنْ بَرَد
فما هو الرعد؟ حينما تُسيّر هذه الشرارة الهواء يتمدد، وتُحدث وراءها فراغ، وحينما يعود الهواء ليملأ هذا الفراغ، فصوت ارتطام الهواء بعضه ببعض هو ما يسمى بالرعد، وأصوات الرعد كما تعلمون أصوات مخيفة.
ولولا لطف الله عز وجل في تمريرها من خلال طبقات الهواء الساخن فتذوب لكان البرد مصيبة من أكبر المصائب، ولكن الله عز وجل يلطف هذه الحبة من البرد حتى تغدو في حجم حبة الحمص، أو دون ذلك.
على قوله تعالى:
شيء آخر، نهر من أنهر العالم هو نهر الأمازون، غزارته تساوي 300 ألف متراً مكعباً في الثانية، وهذا النهر ليس له نبع إنما هو مياه الأمطار، تتجمع في بعض الوديان، فهذا نهر واحد من آثار مياه الأمطار كثافته في الثانية 300 ألف متراً مكعباً، مع أن هذا النهر لا ينبع من الأرض، إنما تتجمع مياهه من السطوح التي تنحدر منها الوديان، إذاً فتشبيه ربنا عز وجل حجم الماء بقوله:
فَيُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ
وأرجو الله سبحانه وتعالى أن يمكنني أن أضيف على تفسير هذه الآيات أشياء في الدرس القادم.
الملف مدقق
والحمد لله رب العالمين.