الحَمدُ لِلَّه ربِّ العالمينَ، والصّلاة والسّلام على سيِّدنا محمد الصّادقِ الوَعدِ الأمين، اللهُمَّ لا عِلمَ لنا إلا ما علّمْتَنا، إنّك أنت العليمُ الحكيمُ، اللهمَّ علِّمنا ما ينفعُنا، وانفعْنَا بما علَّمْتَنا، وزِدْنا عِلْماً، وأرِنَا الحقَّ حقًّا وارْزقْنَا اتِّباعه، وأرِنَا الباطِلَ باطلاً وارزُقْنا اجتِنابَه، واجعَلْنا ممَّن يسْتَمِعونَ القَولَ فيَتَّبِعون أحسنَه، وأَدْخِلْنَا برَحمَتِك في عبادِك الصَّالِحين.
الإنسان مخلوق قَبِل حمل الأمانة وما سوى الإنسان أبى أن يحملها وأشفق منها:
أيها الإخوة المؤمنون، مع الدرس التاسع والعشرين من دروس سورة النساء، ومع الآية الثامنة والخمسين، وهي قوله تعالى:
﴿ إِنَّ ٱللَّهَ يَأۡمُرُكُمۡ أَن تُؤَدُّواْ ٱلۡأَمَٰنَٰتِ إِلَىٰٓ أَهۡلِهَا وَإِذَا حَكَمۡتُم بَيۡنَ ٱلنَّاسِ أَن تَحۡكُمُواْ بِٱلۡعَدۡلِۚ إِنَّ ٱللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُم بِهِۦٓۗ إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ سَمِيعَۢا بَصِيرًا(58)﴾
أيها الإخوة الكرام، هذه آية مهمة جداً، ودقيقة جداً، وأساسية جداً، ذلك أن الإنسان مخلوق قَبِل حمل الأمانة، ما سوى الإنسان أبى أن يحملها وأشفق منها، وحملها الإنسان.
المخلوقات أيها الإخوة، أدناها الجماد، وأوسطها النبات، وفوق وسطها الحيوان، وعلى رأسها الإنسان، هذه المخلوقات؛ الجماد، والحيوان، والنبات أشفقن منها، وأَبيْنَ أن يحملنها، لأن هناك مسؤولية بعد حمل الأمانة، أرادت هذه المخلوقات أن تتقرب إلى الله من دون مسؤولية، فالنبات يسبّح لله عز وجل من دون أن يُكلَّف، ومن دون أن يُحاسَب، ومن دون أن يُعذَّب، ومن دون أن يكافَأ، والجماد كذلك، والحيوان كذلك، رُكِّب الملَك من عقل بلا شهوة، ورُكِّب الحيوان من شهوة بلا عقل، ورُكِّب الإنسان من كليهما، فإن سما عقله على شهوته أصبح فوق الملائكة، وإن سمت شهوته على عقله أصبح دون الحيوان، هذا الإنسان من بين مخلوقات الله كلها قَبِل حمل الأمانة، ولأنه قَبِل حمل الأمانة سُخِّرَت له السماوات والأرض.
علاقة الأمانة بالله عز وجل أن الله جلّ جلاله سلمك نفسك التي بين جنبيك:
قال تعالى:
﴿ وَسَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِّنْهُ ۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ(13)﴾
لأنه قَبِل حمل الأمانة سُخِّر له الكون بأكمله، إذاً هو المخلوق الأول فيه نفخَة من روح الله، وفيه قبضة من تراب الأرض، هذه الأمانة نفسه التي بين جنبَيه.
الآن دقق أيها الأخ الكريم، لو أعطاك إنسان مئة ألف ليرة، وأخذ منك إيصالاً رسمياً أصولياً وفق القوانين النافذة، هل يعد هذا المبلغ أمانةً؟ لا، لأن الذي أعطاك هذا المبلغ بإمكانه أن يقاضيك، ولو أن إنساناً أعطاك مئة ألف، وأشهد عليك شاهدَين هل هذا المبلغ أمانة؟ الجواب لا، لأن الشاهدَين يشهدان له عليك، ولكن إذا أعطاك مئة ألف من دون شاهدَين، ومن دون إيصال فهذا المبلغ أمانة، أنت بإمكانك أن تؤديه، وبإمكانك ألاّ تؤديه.
فالأمانة الشيء الذي وُضع عندك، وأنت مُؤتَمن عليه، ولا رقيب عليك إلا نفسك وربك، لذلك حينما حمّل الله عز وجل الإنسان الأمانة، الأمانة نفسه التي بين جنبَيه بإمكانه أن يزكّيها، وبإمكانه أن يدسّيها، بإمكانه أن يصدق، وبإمكانه أن يكذب، بإمكانه أن يرتقي، وبإمكانه أن يسفل، بإمكانه أن يكون أميناً، وبإمكانه أن يكون خائناً، فالأمانة نفسك التي بين جنبيك، فإما أن تُعرّفها بالله، وتحملها على طاعته، فتسعد في الدنيا والآخرة، وإما أن تبقيها جاهلةً، وتسمح لها أن تتحرك من دون منهج تسير عليه، فتُشقيها في الدنيا والآخرة.
أيها الإخوة الكرام، هناك أمانة التكليف، وهناك أمانة الإنسان، وهناك أمانة الخلق، هذا الموضوع أيها الإخوة واسع جداً، والدليل على أنه واسع لم يقل الله عز وجل: إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانة إلى أهلها، بل قال: ﴿إِنَّ ٱللَّهَ يَأۡمُرُكُمۡ أَن تُؤَدُّواْ ٱلۡأَمَٰنَٰتِ إِلَىٰٓ أَهۡلِهَا﴾ فعلاقة الأمانة بالله عز وجل أن الله جل جلاله سلّمك نفسك التي بين جنبَيك، فبإمكانك أن تأتي إلى المسجد وبإمكانك أن تذهب إلى الملهى، بإمكانك أن تتزوج وبإمكانك أن تزني، بإمكانك أن تكسب المال مشروعاً وبإمكانك أن تسرق، بإمكانك أن تصدّق الداعية إلى الله عز وجل وبإمكانك أن تكذّبه، بإمكانك أن تحترمه وبإمكانك أن تحتقره، أنت مُخيَّر، هنا موطن الشاهد.
أيها الإخوة الكرام، كتوسيع طفيف ما كلّفك الله حمل الأمانة إلا وأعطاك مقوماتها.
أُولى مقومات حمل الأمانة أنه سخر لك ما في السماوات وما في الأرض جميعاً منه تسخير تعريف، وتسخير تكريم، سخّرها لك من أجل أن تعرّفك بالله عز وجل، وسخّرها لك من أجل أن تنتفع بها في الدنيا، فهذا الكون مُسخَّر لهذا الإنسان تسخيرَين؛ تسخير تعريف، "هلال خير ورَشد"، وتسخير تكريم، أي شيء خلقه الله عز وجل له وظيفتان: الوظيفة الكبرى والأولى أن تتعرف إلى الله من خلاله، والوظيفة الثانية المحدودة أن تنتفع به في الدنيا.
أوّل مقوّمات حمل الأمانة أن الله جل جلاله لا تدركه الأبصار، ولكن الكون كله ينطق بالواحد القهار، الكون أحد مقومات الأمانة.
أعطاك عقلاً هو مَناط التكليف، أداة معرفة الله، مناط المسؤولية تدرِك الحق من الباطل، والخير من الشر، وما يمكن وما لا يمكن، وما يجوز وما لا يجوز، لكن هذا العقل الذي يقبل الباطل ويرفض الحق هو العقل النفعي، العقل التبريري، ولا قيمة له عند الله، لكن العقل الذي يهديك إلى الله هو العقل الصريح، حينما تتجرد عن أهوائك وعن مصالحك، وتفكر تفكيراً سليماً تهتدي إلى الله عز وجل.
سيدنا نُعيم بن مسعود كان زعيماً من زعماء غطفان، وقد قاد قبيلته لحرب النبي عليه الصلاة والسلام، وقبيل معركة الخندق كان في خيمته، وهو قائد جيش غطفان فكّر، ثم قال: لماذا جئت إلى هنا؟ لتحارب هذا الرجل، ماذا فعل حتى تحاربه؟ أسفكَ دماً؟ انتهك عرضاً؟ أأكلَ مالاً؟ إنه رجل صالح، يا نُعيم أيليق بك وأنت العاقل أن تحارب رجلاً صالحاً، أين عقلك؟ فقام من توه، وتوجه إلى خيمة النبي عليه الصلاة والسلام، لما رآه النبي قال: نعيم، قال نعيم يا رسول الله، قال: ما الذي جاء بك إلينا؟ قال: جئت مسلماً.
فأعطاك نعمة العقل به تعرف الحق من الباطل، به تدرك الخير من الشر إذا كنت صادقاً في طلب الحقيقة، أما إن لم تكن كذلك قد تستخدمه لتغطية الباطل، ولتبرير الانحراف، وهذا العقل فيه مبادئ ثلاث: مبدأ السببية، والغائية، وعدم التناقض، وهذه المبادئ تتوافق توافقاً تاماً مع قوانين الكون، فعقلك لا يقبل شيئاً من دون صانع، والكون كذلك فيه نظام السببية، والعقل لا يقبل شيئاً من دون غاية، وفي الكون نظام الغائية. فالمُقوِّم الثاني هو العقل.
المُقوِّم الثالث هو الفطرة، أعطاك فطرةً لو اتقيت الله لارتاحت ولو عصيته لاكتأبَت، قال تعالى:
﴿ قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا(9) وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا(10)﴾
﴿ وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا(7) فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا(8)﴾
الفطرة تعينك، لو اتخذت قراراً في طاعة الله ترتاح نفسك، ولو لم تتخذ هذا القرار لأتعبتك نفسك، فكما أن الله تعالى خلق لك الكون دالاً عليه، مشيراً إلى وحدانيته، مبيّناً لكمالاته، كذلك أعطاك عقلاً لو أعملته بتجرُّد بعيداً عن أهوائك ومصالحك لأوصلك إلى الله عز وجل، ثم جبَلك على جِبِلَّة لو أنك لم تفعل ما في الكتاب والسنة، ولو أنك لم تأتمر بأمر الله لأتعبتك نفسك، ولوقعت في كآبة ما بعدها كآبة، إنها مرض العصر.
ثم أودع فيك الشهوات، وهذه الشهوات من مقوّمات الأمانة، أودعَ فيك حب النساء، قال تعالى:
﴿ زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ ٱلشَّهَوَٰتِ مِنَ ٱلنِّسَآءِ وَٱلْبَنِينَ وَٱلْقَنَٰطِيرِ ٱلْمُقَنطَرَةِ مِنَ ٱلذَّهَبِ وَٱلْفِضَّةِ وَٱلْخَيْلِ ٱلْمُسَوَّمَةِ وَٱلْأَنْعَٰمِ وَٱلْحَرْثِ ۗ ذَٰلِكَ مَتَٰعُ ٱلْحَيَوٰةِ ٱلدُّنْيَا ۖ وَٱللَّهُ عِندَهُۥ حُسْنُ ٱلْمَـَٔابِ(14)﴾
هذه الشهوات أيها الإخوة، بمثابة المحرك، والعقل بمثابة المِقوَد، والمنهج الذي شرّعه الله لك بمثابة الطريق، فالمحرك يدفعك، والمقود يُوقع الحركة على الطريق، والطريق هو الشريعة السَّمحاء التي أنزلها الله عز وجل.
أودعَ فيك الشهوات لترقى بها إلى رب الأرض والسماوات، أودع فيك الشهوات لترقى بها مرتين؛ مرةً صابراً، ومرةً شاكراً، إن غضضت البصر عن محارم الله ترقَ إليه صابراً، وإن تطلّعت إلى ما أحل الله لك ترقَ إلى الله شاكراً، إن تترفع عن المال الحرام ترقَ إلى الله صابراً، إن كسبت المال الحلال ترقَ إلى الله شاكراً، ليس في الإسلام حرمان، فما من شهوة أودعها الله في الإنسان إلا وجعل لها قناةً نظيفةً تسري خلالها.
أيها الإخوة الكرام، منحك الكون، وسخره لك تسخير تعريف، وتسخير تكريم، إن عرفته وشكرته حققت الهدف الذي من أجله خُلِقت، لذلك قال تعالى:
﴿ مَّا يَفْعَلُ ٱللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِن شَكَرْتُمْ وَءَامَنتُمْ ۚ وَكَانَ ٱللَّهُ شَاكِرًا عَلِيمًا(147)﴾
رد فعل التعريف أن تؤمن، ورد فعل التكريم أن تشكر، إن آمنت وشكرت حققت الهدف من وجودك، أعطاك الكون وسخره لك تسخيرين، منحك العقل ليكون أداة معرفة الله، جبلك جِبِلَّة راقيةً وهي الفطرة كي تكون معيناً لك على طاعة الله، لو اتخذت قراراً بالطاعة والتوبة يقول لك: ارتاحت نفسي، نمت قرير العين، ناعم البال، أنا أسعد الناس، لأنك انسجمت مع فطرتك، لأن هذه المركبة مصممة على الطريق المُعبَّد، فلو سرت فيها في الطريق الوعِر لأتعبَتك، ولحطمتها وحطمتك، أما إذا مشيت بها على الطريق المُعبَّد قطفت ثمارها، وأرحتها وارتحت.
أودع فيك الشهوات لترقى بها إلى الله صابراً أو شاكراً، منحك الفطرة السليمة، أعطاك العقل الصريح، خلق لك الكون، ثم أعطاك قوةً من أجل أن تحقق مرادك، أعطاك القوة فيما يبدو، وفضلاً عن كل ذلك لقد أعطاك الشريعة، وهي منهج تفصيلي، أساسه أن تفعل شيئاً، وأن تنتهي عن شيء، هذه مقوّمات حمل الأمانة، ما كلّفك حمل الأمانة إلا وقد أعطاك مقوّماتها، ومن مقوماتها الكون، والعقل، والفطرة، والشهوة، وحرية الاختيار، جعلك مُريداً، ما قيمة العمل الصالح لو أنك مُجبَر عليه؟ لولا أن الله أعطاك حرية الاختيار لا يُثمَّن عملك الصالح، ولا تكون مسؤولاً عنده، لو أن الله أجبر عباده على الطاعة لبطلَ الثواب، ولو أجبرهم على المعصية لبطل العقاب ولو تركهم همَلاً لكان عجزاً في القدرة، إن الله أمر عباده تخييراً، ونهاهم تحذيراً، وكلف يسيراً، ولم يكلف عسيراً، وأعطى على القليل كثيراً، ولم يُطَعْ مُكرَهاً، ولم يُعصَ مغلوباً.
كون ناطق بوجوده ووحدانيته وكماله، عقل يعينك على معرفة الله، فطرة تكشف لك صواب عملك أو خطأه، شهوة ترقى بها إلى الله مرتين، حرية اختيار تثمّن عملك، وشريعة هي منهج دقيق تسير عليه، هذه مقومات حمل الأمانة، قال تعالى:
﴿ إِنَّا عَرَضْنَا ٱلْأَمَانَةَ عَلَى ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلْأَرْضِ وَٱلْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا ٱلْإِنسَٰنُ ۖ إِنَّهُۥ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا(72)﴾
إن لم يعطها حقها.
الرسل أعطوا أمانة التبليغ والدعاة إلى الله أعطوا أمانة التبيين:
الآن هذه أمانة التكليف أعلى أمانة، الرسل أُعطوا أمانة التبليغ، قال تعالى:
﴿ يَٰٓأَيُّهَا ٱلرَّسُولُ بَلِّغْ مَآ أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ ۖ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُۥ ۚ وَٱللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ ٱلنَّاسِ ۗ إِنَّ ٱللَّهَ لَا يَهْدِى ٱلْقَوْمَ ٱلْكَٰفِرِينَ(67)﴾
الدعاة إلى الله أُعطوا أمانة التبيين، الذي ينوب عن النبي في إبلاغ الحق ينبغي أن يبيّن، ولا يعبأ بمصالحه ولا حظوظه، ينبغي أن يبين الحق ولو كان مراً، الآن أنت أب، زوجتك وأولادك أمانة في عنقك، فإما أن تحملهم على معرفة الله وطاعته، وإما أن تكون سبباً في شقائهم، وعندئذ تُحاسَب عنهم. الرجل مسؤول عن أهله، وعن أولاده، والراعي عن رعيته، والمعلم عن صفه، والمهندس عن أعماله، والطبيب عن مرضاه، والمحامي عن موكليه، وهو مسؤول، وهي أمانة.
أنت صيدلي لو جاءك مريض يطلب دواءً، وقد انتهى مفعول الدواء، فحككت التاريخ كي تضله، وبعته الدواء فأنت ماذا فعلت؟ هذا المريض أمانة في عنقك، وأنت عنده موثوق، إذاً إما أن تؤدي الأمانة إلى أهلها، وإما أن تخون الأمانة، هذا الطالب أمانة في عنق المعلم، إما أن يعلّمه باهتمام، وإتقان، ودقة، وإما أنه يخون الأمانة فلا يعلمه شيئاً، ويمضي الوقت هكذا، ويتقاضى الراتب هكذا، المهندس إن لم يحضر المفاصل الحساسة في البناء ربما انهار البناء، فالذي يقع من انهيار البناء من إزهاقٍ للأرواح في رقبته، لأن هذا البناء أمانة في عنقه، الطبيب الذي يأتيه مريض ولا يتقن معالجته، لا يفكر في شفائه، بل يفكر في شيء آخر عاد عليه بالخير العميم، هذا لم يطِع الله عز وجل، ولم يؤدِ الأمانة. لو ذهبت إلى حرفة حرفة؛ الذي يصنع طعاماً، لو لم يكن هناك دقة في صنع الطعام، العامل في المطعم المصاب بالتهاب الكبد الفيروسي إن لم يغسل يديه جيداً قد يصيب ثلاثمائة إنسان من رواد هذا المطعم بمرض قاتل، فحينما تبيع طعاماً هؤلاء الذين يأكلون من طعامك أمانة في عنقك، إما أن تقدم لهم طعاماً جيداً نظيفاً، وإما أن الله سيحاسبك. لو بعت بذوراً، وقد مضى عليها أمدٌ طويلٌ فقلّ إنباتها، وأوهمت المشتري بأنها بأعلى درجة من الإنبات، لقد خنت الأمانة، ما من صاحب حرفة إلا وحرفته أمانة في عنقه، فإما أن يغشّ الناس أو أن يصدقهم، إما أن يرحمهم وإما أن يقسو عليهم، إما أن يضلّلهم وإما أن يعاملهم معاملةً طيبة.
سيدنا عمر التقى والياً فقال له: ماذا تفعل إذا جاءك الناس بسارق أو ناهب؟ قال: أقطع يده، قال: إذاً فإن جاءني من رعيتك من هو جائع أو عاطل فسأقطع يدك، إن الله قد استخلفنا عن خلقه لنسُدّ جوعتهم، ونستر عورتهم، ونوفر لهم حرفتهم، فإن وفينا لهم ذلك تقاضيناهم شكرها، إن هذه الأيدي خُلقت لتعمل، فإذا لم تجد في الطاعة عملاً التمست في المعصية أعمالاً، فاشغلها بالطاعة قبل أن تشغلك بالمعصية.
كل خطر يتأتى بسبب إهمالك وبسبب عدم أداء الأمانة محاسب عليه:
أيها الإخوة الكرام، ليس من باب المصادفة أن تأتي الأمانة جمعاً في الآية الكريمة، ابنك أمانة، زوجتك أمانة، الموظف الذي في عملك أمانة، قد تكون من أصحاب الحِرَف، إنسان ركّب صحناً على السطح، حرمة الصحن موضوع آخر، من أجل السرعة وضع بعض البراغي ولم يضعها كلها، في أيام عاصفة طار الصحن، وقتل طفلةً بسبب إهمال هذا الذي ركّبه، فكل خطر يتأتّى بسبب إهمالك وبسبب عدم أداء الأمانة محاسب عليه.
﴿إِنَّ ٱللَّهَ يَأۡمُرُكُمۡ أَن تُؤَدُّواْ ٱلۡأَمَٰنَٰتِ إِلَىٰٓ أَهۡلِهَا﴾ أنت قاضٍ ينبغي أن تحكم بالعدل، ينبغي أن تتريّث، ينبغي أن تحقق، ينبغي أن تدقق، ينبغي أن تسأل، ينبغي أن تستمهِل حتى يأتي الحكم صحيحاً عادلاً، والله أيها الإخوة لو علم الناس ما في هذه الآية من مسؤولية لارتعدَت مفاصلهم، ولَوَجِفَت قلوبهم.
﴿إِنَّ ٱللَّهَ يَأۡمُرُكُمۡ أَن تُؤَدُّواْ ٱلۡأَمَٰنَٰتِ إِلَىٰٓ أَهۡلِهَا﴾ أيها الإخوة، لو أن كل إنسان أدّى ما عليه من حقوق، وأدى ما عليه من واجبات، أدى الأمانات إلى أهلها، أنت بائع تبيع بضاعة، تبيع الزيت، واستيقظت صباحاً، فإذا في وعاء الزيت فأرة، بإمكانك أن تلتقطها، وأن تبيع الزيت، ولا يعلم أحد في الأرض، لكن هذا الذي يشتري منك الزيت أمانة في عنقك، فينبغي أن تعطيه زيتاً طاهراً، هذه الآية تدور مع الناس في كل لحظة، وفي كل ثانية، وما أكثر الغش! والذي يغش المسلمين لا يفقه معنى هذه الآية، قد تشتري مادةً انتهى مفعولها، تُصنّعها مادةً غذائية وتبيعها، ولا يعلم أحد إلا الله، تذكَّر مقدمة الدرس، وُضِع معك مئة ألف وكتبت إيصالاً، ليس هذا المبلغ أمانةً، أُشهِد عليك شاهدان، ليس هذا المبلغ أمانةً، أما إن أُعطيت المئة ألف بلا شهود، وبلا إيصال، والأمر عائد إليك، فإما أن تؤديه، وإما ألا تؤديه، فهو أمانة .
كم من الأعمال ما إن فعلتها أو لم تفعلها لا يستطيع أحد أن يحاسبك، لو جاءك مريض، وقلت له: أريد سبعة تحاليل، والمريض لا يحتاج إلا إلى تحليل واحد، فالستة الباقية لك منها نصيب فأنت خنت الأمانة، لو أن مريضاً عندك، ومرضه صعب الشفاء، وفي البلدة من هو أفضل منك في معالجة هذا المريض، إن لم ترسله إلى ذاك الطبيب الذي يفوقك في الطب فأنت لم تحمل الأمانة، بل خنت الأمانة.
الإنسان لا يحاسب عن الأسباب بل يحاسب عن النتائج:
هذه الآية أيها الإخوة، تدور مع كل الناس في كل أوقاتهم وفي كل شؤون حياتهم: ﴿إِنَّ ٱللَّهَ يَأۡمُرُكُمۡ أَن تُؤَدُّواْ ٱلۡأَمَٰنَٰتِ إِلَىٰٓ أَهۡلِهَا﴾ أدِّ الذي عليك، واطلب من الله الذي لك، كم من مريض أجريت له عملية جراحية بالغة التعقيد مات لا من خطأ في العمل الجراحي ولكن من خطأ بعد العمل الجراحي، من الإهمال أحياناً، إنسان يأتي إلى بلده دمشق من الحجاز في أيام الصيف الحارة، احتاج إلى تبديل زيت علبة السرعة، بُدِّل الزيت، ولم تُضبَط البراغي، فسالَ الزيت، ثم احترق المحرك، ثم تحرك صاحب المركبة حركةً زائدةً، فأصابته ضربة شمس فمات من توّه، سيُحاسَب على هذا العمل، لأن الإهمال في ضبط الأمور سبّب هذه الوفاة، فكل إنسان محاسب، أنت لا تحاسَب على الأسباب بل تحاسَب على النتائج، الباب واسع جداً، والحديث عن حمل الأمانة، وعن أداء الأمانة والله لا تستوعبه المجلدات، وما من حرفة على وجه الأرض إلا وهي أمانة في عنقك، فينبغي أن تنصح الناس، لذلك قال عليه الصلاة والسلام:
(( الدين النصيحة، قلنا: لمن يا رسول الله؟ قال: لله، ولكتابه، ولرسوله، ولأئمة المسلمين، وعامتهم. ))
هكذا تقتضي الأمانة أن تكون ناصحاً للناس، لو أن واحداً منا لم يؤدِ الأمانة وقع نزاع، فإذا وقع النزاع بسبب عدم حمل الأمانة، كإنسان لم يؤدِّ واجبه؛ بناء وقع، لأن المهندس غاب في الأيام الحرجة عن الإشراف على البناء، مريض مات، لا تقل: انتهى أجله، قد يكون الموت بسبب خطأ في المعالجة، فيحاسب الإنسان عن ذلك، إنسان دُهِس بسبب خطأ في القيادة، إذاً الإنسان لا يُحاسَب عن الأسباب، بل يحاسَب عن النتائج.
علاقة الحكم بالعدل وأداء الأمانة علاقة دقيقة جداً:
إن لم تؤدَ الأمانات إلى أصحابها وقع التنازع، الآن يقتضي التنازع أن نحاكم قال تعالى: ﴿وَإِذَا حَكَمۡتُم بَيۡنَ ٱلنَّاسِ أَن تَحۡكُمُواْ بِٱلۡعَدۡلِۚ﴾ علاقة الحكم بالعدل وأداء الأمانة علاقة دقيقة جداً، علاقة الحكم بالعدل مع أداء الأمانة علاقة دقيقة، لأنه إن لم تُؤدَّ الأمانات وقعت المنازعات، إن لم يؤدِ الزوج حق زوجته هي أمانة في عنقه يغيب عنها ثماني عشرة ساعة كل يوم، هي لمن؟ من لها غيرك؟ هي أمانة في عنقك، قصّرت في حقها، لم تطعمها مما تأكل، ولم تلبسها مما تلبس، ولم تعتنِ بها، ولم تكن معها في وقت معقول، إذاً خنت الأمانة، لذلك عَنْ عَوْنِ بْنِ أَبِي جُحَيْفَةَ عَنْ أَبِيهِ قَالَ:
(( آخَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَ سَلْمَانَ وَبَيْنَ أَبِي الدَّرْدَاءِ: فَزَارَ سَلْمَانُ أَبَا الدَّرْدَاءِ........ قَالَ لَهُ سَلْمَانُ: قُمْ الْآنَ فَقَامَا فَصَلَّيَا، فَقَالَ: إِنَّ لِنَفْسِكَ عَلَيْكَ حَقّاً وَلِرَبِّكَ عَلَيْكَ حَقّاً وَلِضَيْفِكَ عَلَيْكَ حَقّاً وَإِنَّ لِأَهْلِكَ عَلَيْكَ حَقّاً فَأَعْطِ كُلَّ ذِي حَقٍّ حَقَّهُ. ))
﴿وَإِذَا حَكَمۡتُم بَيۡنَ ٱلنَّاسِ أَن تَحۡكُمُواْ بِٱلۡعَدۡلِۚ﴾ إن لم تُؤَدَّ الأمانات نشأت المنازعات، وإن نشأت المنازعات ينبغي أن تحكموا بالعدل.
﴿إِنَّ ٱللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُم بِهِۦٓۗ إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ سَمِيعَۢا بَصِيرًا﴾ تقول: قد تقنعني وأنت مخطئ فأقنع منك، لكن الله يعلم، قد تفعل شيئاً ما رآه أحد، لكن الله يرى، ما علاقة: ﴿إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ سَمِيعَۢا بَصِيرًا﴾ ؟ أي كلام تقوله سمعه فإن طابق الحقيقة يعلم الله ذلك، وإن لم يطابق يعلم الله ذلك، وفي مئات الأحوال يمكن أن تقول كلاماً لا يستطيع أحد منهم أن يناقشك فيه، أنت مؤتَمن قلت له: كذا فصدقك.
انتشار الغش بين المسلمين دليل عدم حمل الأمانة:
قال تعالى: ﴿إِنَّ ٱللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُم بِهِۦٓۗ إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ سَمِيعَۢا بَصِيرًا﴾ سميعاً لأقوالكم، بصيراً بأحوالكم، هذه الآية وحدها أيها الإخوة والله الذي لا إله إلا هو لو لم يكن في كتاب الله إلا هذه الآية لكفت.
﴿إِنَّ ٱللَّهَ يَأۡمُرُكُمۡ أَن تُؤَدُّواْ ٱلۡأَمَٰنَٰتِ إِلَىٰٓ أَهۡلِهَا وَإِذَا حَكَمۡتُم بَيۡنَ ٱلنَّاسِ أَن تَحۡكُمُواْ بِٱلۡعَدۡلِۚ﴾ لذلك انتشار الغش بين المسلمين دليل عدم حمل الأمانة، قد تُضاف مواد مسرطنة لبعض الصناعات الغذائية، لكن تُباع بسعر عالٍ، قد تُضاف مواد مؤذية، قد تُضاف مواد حافظة تسبب بعض الأورام الخبيثة، لا بد أن تحاسِب نفسك قبل أن تُحاسَب.
﴿إِنَّ ٱللَّهَ يَأۡمُرُكُمۡ أَن تُؤَدُّواْ ٱلۡأَمَٰنَٰتِ إِلَىٰٓ أَهۡلِهَا﴾ الغش في الصناعة واسع جداً، لدرجة أن الذي يبيع البضاعة لا يهمه إلا أن يربح، أما أن ينفع المسلمين، أما أن يؤدي ما عليه لهم من حق هذا لا يفعله أبداً.
أيها الإخوة الكرام، كي يُترجَم هذا الكلام إلى واقع ينبغي أن نتريّث، هل أدى الأب الأمانة؟ هل ربى أولاده تربيةً إسلامية؟ هل حجّب بناته، أم ترك ابنته تفعل ما تشاء، حتى تأتي يوم القيامة، وتقول: يا رب لا أدخل النار حتى أُدخِل أبي قبلي؟ هل أخذ بيد زوجته إلى الله عز وجل؟ هل أمر أهله بالصلاة واصطبر عليها؟ هل أتقن صنعته؟ هل باع المسلمين بضاعةً جيدةً بثمن معقول فرحمهم وكشف عنهم الضر؟ هل نفّس عن المسلمين كُربتهم أم كان كُربة عليهم وعبئاً عليهم؟
والله هذا البحث تتسع له المجلدات، ولا ينتهي في سنوات، ملخصه أن هناك:
1. أمانة التكليف الأمانة العظمى التي كلفك الله بها، وهي نفسك التي بين جنبيك، وقد تفلح إذا عرّفتها بربها وحملتها على طاعته، وقد تهلك إذا أبعدتها عن معرفة ربها وحملتها على معصيته.
2. أمانة التبليغ: هي أمانة الأنبياء.
3. أمانة التبيين: هي أمانة العلماء.
4. أمانة الولاية: سيدنا عمر بن عبد العزيز دخلت عليه زوجته فرأته يبكي قالت له: ما لك تبكي يا أمير المؤمنين؟ قال: دعيني وشأني، قالت له: ما لك تبكي؟ قال: وُلِّيت هذا الأمر، فنظرت إلى الفقير الجائع، وابن السبيل، والشيخ الطاعن في السن، والأرملة، واليتيم، ذكر أصنافاً تزيد على ثمانية عشر صنفاً، فعلمت أن الله سيحاسبني عنهم جميعاً، وعلمت أن حجيجي دونهم هو رسول الله، فلهذا أبكي.
أحياناً يُجرى تحويل في الطريق لا توضَع الإشارات الكافية، حدثني أخ أنه من تحويلة واحدة مات أربعة عشر إنساناً، إذا لم تكن الإشارات كافية، والإضاءة كافية من مسافات كافية قد تُفاجَأ بها، فيكون الحادث، فالذي أهمل عمله يحاسَب عند الله، كل شيء أُنيطَ بك فهو أمانة، وينبغي أن تؤديها إلى أصحابها، فالأمانة أمانة التكليف، وأمانة التبليغ، وأمانة التبيين، وأمانة الولاية.
5. أمانة التولية: مَن وليَ أمر قوم فولّى عليهم واحداً فيهم من هو أفضل منه فقد خان الله ورسوله، أنت مدير شركة، مدير مدرسة، وكّلت إنساناً بعمل، وفي هؤلاء الذين معك من هو أفضل منه، لقد خنت الله ورسوله، أمانة الولاية، وأمانة التولية.
6. أمانة الواجب: واجبات الأب، واجبات الأم، واجبات البنت، واجبات الزوج، واجبات أصحاب الحرف.
7. أمانة المجالس: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
(( الْمَجَالِسُ بِالْأَمَانَةِ إِلَّا ثَلَاثَةَ مَجَالِسَ؛ مَجْلِسٌ يُسْفَكُ فِيهِ دَمٌ حَرَامٌ، وَمَجْلِسٌ يُسْتَحَلُّ فِيهِ فَرْجٌ حَرَامٌ، وَمَجْلِسٌ يُسْتَحَلُّ فِيهِ مَالٌ مِنْ غَيْرِ حَقٍّ. ))
[ تخريج المسند لشعيب بسند ضعيف ]
المجالس بالأمانة إلا هذه الثلاثة.
8. الأمانة بين الزوجين: هذا الذي يتحدث عما جرى بينه وبين زوجته في الليل هذا خان الأمانة، هو شيطان، وهي شيطانة، ألم أقل لكم: لو ذهبنا في هذا الموضوع لوجدنا أنفسنا أمام موضوعات طويلة جداً، ومُشعَّبة جداً، وأن هذه الآية تدور مع المسلمين في كل دقيقة في حياتهم، الأمانة واسعة جداً، لذلك جاءت جمعاً ﴿إِنَّ ٱللَّهَ يَأۡمُرُكُمۡ أَن تُؤَدُّواْ ٱلۡأَمَٰنَٰتِ إِلَىٰٓ أَهۡلِهَا وَإِذَا حَكَمۡتُم بَيۡنَ ٱلنَّاسِ أَن تَحۡكُمُواْ بِٱلۡعَدۡلِۚ إِنَّ ٱللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُم بِهِۦٓۗ إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ سَمِيعَۢا بَصِيرًا﴾ .
﴿ يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ(19)﴾
الملف مدقق