وضع داكن
19-04-2025
Logo
الدرس : 58 - سورة النساء - تفسير الآيات 131-134 التوحيد وأصل الفساد
   
 
 
 بسـم اللـه الرحمـن الرحيـم  
 
 الحَمدُ لِلَّه ربِّ العالمينَ، والصّلاة والسّلام على سيِّدنا محمد الصّادقِ الوَعدِ الأمين، اللهُمَّ لا عِلمَ لنا إلا ما علّمْتَنا، إنّك أنت العليمُ الحكيمُ، اللهمَّ علِّمنا ما ينفعُنا، وانفعْنَا بما علَّمْتَنا، وزِدْنا عِلْماً، وأرِنَا الحقَّ حقًّا وارْزقْنَا اتِّباعه، وأرِنَا الباطِلَ باطلاً وارزُقْنا اجتِنابَه، واجعَلْنا ممَّن يسْتَمِعونَ القَولَ فيَتَّبِعون أحسنَه، وأَدْخِلْنَا برَحمَتِك في عبادِك الصَّالِحين.

كل ما في الكون ملك لله عز وجل والعبرة أن ترضى بقضاء الله:


 أيها الإخوة المؤمنون، مع الدرس الثامن والخمسين من دروس سورة النساء، ومع الآية الواحدة والثلاثين بعد المئة، وهي قوله تعالى: 

﴿ وَلِلَّهِ مَا فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَمَا فِي ٱلۡأَرۡضِۗ وَلَقَدۡ وَصَّيۡنَا ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلۡكِتَٰبَ مِن قَبۡلِكُمۡ وَإِيَّاكُمۡ أَنِ ٱتَّقُواْ ٱللَّهَۚ وَإِن تَكۡفُرُواْ فَإِنَّ لِلَّهِ مَا فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَمَا فِي ٱلۡأَرۡضِۚ وَكَانَ ٱللَّهُ غَنِيًّا حَمِيدًا(131)﴾

[ سورة النساء  ]

 أيها الإخوة الكرام: آيات القرآن الكريم كما يقول بعض علماء الأمة آخذة برقاب بعضها بعضاً، أي أن هناك ارتباط دقيق جداً يدركه مَن وفّقه الله لفهم هذا الكتاب، فالله سبحانه وتعالى حينما يقول: 

﴿ وَإِن يَتَفَرَّقَا يُغۡنِ ٱللَّهُ كُلًّا مِّن سَعَتِهِۦۚ وَكَانَ ٱللَّهُ وَٰسِعًا حَكِيمًا(130)﴾

[  سورة النساء ]

 أي كل ما في الكون ملْك لله عز وجل، والله عز وجل قادر أن يهب التي طلّقها زوجها زوجاً خيراً منه، وقادر أن يهب الذي أبت عليه زوجته أن تكون زوجة صالحة أن يهبه زوجة صالحة، وقادر  أن يهبَ الذي رضي بقضاء الله وقدره فمنحه الله البنات من دون الذكور ورضي بهذا القضاء أصهاراً هم أقرب إليه من أولاده، وقادرٌ أن يعين الذي وهبه الذكور من دون الإناث في شأن حياته، العبرة أن ترضى بقضاء الله، العبرة أن تؤمن أن الأمور كلها بيد الله، وأن الله سبحانه وتعالى أسماؤه حسنى، وصفاته فضلى.

الخيارات عند الله سبحانه وتعالى لا تعد ولا تحصى:


 حينما تستقبل قضاء الله عز وجل بالرضا، فالله عز وجل له ملك السماوات والأرض، والأمر كله بيده، وبالتعبير القريب إلى أذهان الإخوة الكرام: الخيارات عند الله سبحانه وتعالى لا تعد ولا تحصى، فمثلاً جعل رجلاً عقيماً، الله عز وجل قال: 

﴿ لِّلَّهِ مُلْكُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلْأَرْضِ ۚ يَخْلُقُ مَا يَشَآءُ ۚ يَهَبُ لِمَن يَشَآءُ إِنَٰثًا وَيَهَبُ لِمَن يَشَآءُ ٱلذُّكُورَ(49) أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَانًا وَإِنَٰثًا ۖ وَيَجْعَلُ مَن يَشَآءُ عَقِيمًا ۚ إِنَّهُۥ عَلِيمٌ قَدِيرٌ(50)﴾

[  سورة الشورى ]

 هذا الذي جعله الله عقيماً لحكمة أرادها، لو أن هذا الإنسان استقبل هذا القضاء والقدر بالرضا، ورضي عن الله عز وجل فقد يسخر له ربنا مَن يخدمه خدمة تفوق خدمة الابن، أحياناً الإنسان ينجب أولاداً ذكوراً كلهم مسافرون ولا ينتفع بهم إطلاقاً، لذلك فهمَ بعض العلماء من قوله تعالى: 

﴿  وَبَنِينَ شُهُوداً(13)﴾

[  سورة المدثر ]

 أي بنون معه، في معونته، وليسوا بعيدين عنه، فقد يهب الله الذكور، ولا تنتفع بهم، وقد يهب الله الإناث ولا ترضى بهنّ، وقد يجعل الله من يشاء عقيماً، فإذا قبِل حكم الله عز وجل سخّر له من يخدمه أفضل من خدمة أولاده، العبرة أن ترضى عن الله، العبرة أن ترى أن الله بيده الخير، قال تعالى:

﴿ قُلِ ٱللَّهُمَّ مَٰلِكَ ٱلْمُلْكِ تُؤْتِى ٱلْمُلْكَ مَن تَشَآءُ وَتَنزِعُ ٱلْمُلْكَ مِمَّن تَشَآءُ وَتُعِزُّ مَن تَشَآءُ وَتُذِلُّ مَن تَشَآءُ ۖ بِيَدِكَ ٱلْخَيْرُ ۖ إِنَّكَ عَلَىٰ كُلِّ شَىْءٍۢ قَدِيرٌ(26)﴾

[ سورة آل عمران ]

العبرة أن ترى الأمر كله بيد الله، وأن الله سبحانه وتعالى أسماؤه حسنى، وصفاته فضلى.

الموحد الحقيقي :


 الآية الكريمة: ﴿وَلِلَّهِ مَا فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَمَا فِي ٱلۡأَرۡضِۗ﴾ وقد ذكرت لكم من قبل أن (اللام) هنا في كلمة "لله" لامُ الملك، أي كل الكون ملكٌ لله عز وجل، لكن ملكية الله لهذا الكون هي أعلى درجات الملكية، فهو يملكه خلقاً، ويملكه تصرفاً، ويملكه مصيراً، بينما البشر قد يملكون ولا ينتفعون، وقد ينتفعون ولا يملكون، وقد ينتفعون ويملكون، والمصير ليس لهم. وجاءت هذه الآية ثلاث مرات؛ المرة الأولى:

﴿ وَلِلَّهِ مَا فِى ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَمَا فِى ٱلْأَرْضِ ۚ وَكَانَ ٱللَّهُ بِكُلِّ شَىْءٍۢ مُّحِيطًا(126)﴾

[  سورة النساء ]

 المرة الثانية: ﴿وَلِلَّهِ مَا فِى ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَمَا فِى ٱلْأَرْضِ﴾
 الآية الثالثة: 

﴿ وَلِلَّهِ مَا فِى ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَمَا فِى ٱلْأَرْضِ ۚ وَكَفَىٰ بِٱللَّهِ وَكِيلًا(132)﴾

[ سورة النساء ]

 أي كأن الله سبحانه وتعالى يريد أن يطمئننا، وهؤلاء الذين يضعف إيمانهم في هذه الأيام العصيبة يرون أن الأرض ليست بملك الله عز وجل، بملك أناس بلغوا ذروة القوة، وفرضوا إرادتهم على كل الشعوب، وأنهم آلهة الأرض، وهذا يبعث في النفس القلق والخوف والضجر، بينما الموحّد متوازن، والبطولة أن توحد في مثل هذه المِحن لا في الرخاء، في الرخاء جميع الناس موحدون، ولكن الموحد الحقيقي هو الذي حينما تشتد المحن يبقى متيقناً أن الأمر بيد الله.

عظمة الإيمان أن تشعر بكل خلية في جسمك أن الأمر بيد الله:


عظمة الإيمان أيها الإخوة أن تشعر بكل خلية في جسمك، وبكل قطرة في دمك أن الأمر بيد الله، أنت حينما تقرأ القرآن، وتقرأ قوله تعالى:

﴿ إِنَّ ٱلَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ ٱللَّهَ يَدُ ٱللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ ۚ فَمَن نَّكَثَ فَإِنَّمَا يَنكُثُ عَلَىٰ نَفْسِهِۦ ۖ وَمَنْ أَوْفَىٰ بِمَا عَٰهَدَ عَلَيْهُ ٱللَّهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا(10)﴾

[  سورة الفتح ]

 تطمئن، وحينما تقرأ قوله تعالى:

﴿ لَا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ فِى ٱلْبِلَٰدِ(196) مَتَٰعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْوَىٰهُمْ جَهَنَّمُ ۚ وَبِئْسَ ٱلْمِهَادُ(197)﴾

[  سورة آل عمران ]

 وحينما تقرأ قوله تعالى: 

﴿  فَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ(47)﴾

[  سورة إبراهيم ]

 وحينما تقرأ قوله تعالى: 

﴿ وَلَا تَحْسَبَنَّ ٱللَّهَ غَٰفِلًا عَمَّا يَعْمَلُ ٱلظَّٰلِمُونَ ۚ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍۢ تَشْخَصُ فِيهِ ٱلْأَبْصَٰرُ(42)﴾

[  سورة إبراهيم ]


معنى التوحيد:


 في صفحة واحدة الله جل جلاله أعاد هذه الآية بصيغ مختلفة ثلاث مرات: ﴿وَلِلَّهِ مَا فِى ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَمَا فِى ٱلْأَرْضِ﴾ نحن المؤمنين -إن شاء الله- نؤمن أن الله فعال، والآية الكريمة: 

﴿  وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ(14) ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ(15) فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ(16)﴾

[  سورة البروج ]

 الذي يريده يفعله، ولا تستطيع قوة في الأرض أن تفعل شيئاً ما أراده الله، كما أنه لا تستطيع قوة في الأرض أن تمنع عنك خيراً أراده الله، كما أنه لا تستطيع قوة في الأرض أن تجلب لك منفعة حجبها الله عنك. 

﴿ مَّا يَفْتَحِ ٱللَّهُ لِلنَّاسِ مِن رَّحْمَةٍۢ فَلَا مُمْسِكَ لَهَا ۖ وَمَا يُمْسِكْ فَلَا مُرْسِلَ لَهُۥ مِنۢ بَعْدِهِۦ ۚ وَهُوَ ٱلْعَزِيزُ ٱلْحَكِيمُ(2)﴾

[  سورة فاطر ]

 هذا هو التوحيد، وما من وقت نحن في أمس الحاجة إلى علم التوحيد، أو إلى التوحيد كهذا الوقت، لأن الله جلّت حكمته من امتحاناته الصعبة للمؤمنين أنه يقوي الكافر، والكافر يفعل فيما يبدو ما يريد، فيما يبدو لضعيف البصر، لكن الحقيقة أن الله يفعل ما يريد.

العبرة أن ترى أن يد الله تعمل وحدها وليس مع الله أحد هذه حقيقة التوحيد:


 نحن مدعوّون أيها الإخوة إلى التعمق في آيات التوحيد، الموضوع متعلق بالزواج، أنت تزوجت امرأة صالحة، أو تزوجت امرأة ليست صالحة، لو حصل فراق بينكما فالله عز وجل قادر أن يعطي المرأة التي طُلِّقت زوجاً خيراً من زوجها، وقادر أن يعطي الرجل الذي لم تكن زوجته مقدرة له زوجة أخرى تقدره، وقادر لمن أنجب ذكوراً أن يملأ قلبه رضاً، ولمن أنجب إناثاً أن يملأ قلبه رضاً، ولمن جعله الله عقيماً أن يملأ قلبه رضاً، والعبرة أن ترى أن يد الله تعمل وحدها، وليس مع الله أحد، ليس في الكون إلا الله، هذه حقيقة التوحيد، على شبكية العين هناك قِوى لا تعد ولا تحصى، قوى طاغية غاشمة ظالمة تقتل، تدمر، تهدم، هذا على الشبكية، أما عند إدراك المؤمن العميق فإن الأمر كله بيد الله، والآية واضحة: ﴿تُؤْتِى ٱلْمُلْكَ مَن تَشَآءُ وَتَنزِعُ ٱلْمُلْكَ مِمَّن تَشَآءُ﴾ وترون وتسمعون كيف يُنزَع الملك ممن يشاء، الذي كان قبل أيام في أعلى درجة هو يتخفى من مكان إلى مكان: ﴿تُؤْتِى ٱلْمُلْكَ مَن تَشَآءُ وَتَنزِعُ ٱلْمُلْكَ مِمَّن تَشَآءُ وَتُعِزُّ مَن تَشَآءُ وَتُذِلُّ مَن تَشَآءُ ۖ بِيَدِكَ ٱلْخَيْرُ﴾ حينما ترى أن الله يعمل وحده، وأنه يعطي كل إنسان ما يستحقه، وأن حساب الله عسير. 

﴿  إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ(12)﴾

[ سورة البروج ]

 عندئذٍ ينبغي أن تخاف من الله، ولو وجدت الحبل مرخىً لك، هذا الحبل المرخى يُشَدّ في أيّة لحظة. 

﴿ وَأُمْلِى لَهُمْ ۚ إِنَّ كَيْدِى مَتِينٌ (45)﴾

[  سورة القلم ]


أصل الفساد ومصدره:


 إن الإنسان مربوط بحبل لا ينقطع، في أية لحظة أرادها الله عز وجل يُشَدّ الحبل فإذا هو في قبضة الله، يُسحَب من تحته البساط فإذا هو بيد الله عز وجل، كأن هذه الآية: ﴿وَلِلَّهِ مَا فِى ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَمَا فِى ٱلْأَرْضِ﴾ تطمين لكل زوجين افترقا، كنت أقول دائماً: حينما يفترق زوجان أدعو لكل منهما أن يهبه شريكاً أفضل من الذي كان، وقد يحدث هذا: ﴿وَلِلَّهِ مَا فِى ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَمَا فِى ٱلْأَرْضِ﴾
الآية الكريمة: ﴿وَلَقَدۡ وَصَّيۡنَا ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلۡكِتَٰبَ مِن قَبۡلِكُمۡ وَإِيَّاكُمۡ أَنِ ٱتَّقُواْ ٱللَّهَۚ﴾ هناك ملمح أيها الإخوة، وهو أن الذي سخّره الله ليس فيه فساد إطلاقاً، هذه الأرض مسخرة، دورتها حول الشمس من ملايين السنين لا تتقدم ولا تتأخر، أدق الساعات في العالم قد تقصّر في العام كله ثانية واحدة، كيف نكشف أنها قصّرت ثانية؟ على حركة نجم، فالكون يعمل بنظام عجيب، لأنه مُسخَّر، إذاً لا يتطرق الفساد إلى الكون أبداً، كل شيء ما سوى الإنس والجن ليس فيه فساد، لأنه مُسخَّر بيد الله عز وجل، وتجد في حياة الحيوان وفي حياة النبات، وحتى في حياة الكواكب والأفلاك نظاماً دقيقاً دقة متناهية، وانسجاماً عجيباً، فالفساد من أين يأتي؟ من مخلوق سمح الله له أن يختار، وأودع فيه الشهوات، وأعطاه منهجاً، فهذا المخلوق وهو الإنسان والجن معه يتحركان انطلاقاً من شهواتهما من دون منهج يسيران عليه فكان الفساد. 

ليس هناك فساد في خلق الله أبداً لأن الله كماله مطلق وشمولي:


 لذلك حينما قال الله عز وجل: 

﴿ ظَهَرَ ٱلْفَسَادُ فِى ٱلْبَرِّ وَٱلْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِى ٱلنَّاسِ لِيُذِيقَهُم بَعْضَ ٱلَّذِى عَمِلُواْ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ(41)﴾

[  سورة الروم ]

 ليس هناك فساد في خلق الله أبداً، لأن الله كماله مطلق، وكماله شمولي، وكل شيء خلقه في أكمل مستوى. 

﴿ ٱلَّذِى خَلَقَ سَبْعَ سَمَٰوَٰتٍۢ طِبَاقًا ۖ مَّا تَرَىٰ فِى خَلْقِ ٱلرَّحْمَٰنِ مِن تَفَٰوُتٍۢ ۖ فَٱرْجِعِ ٱلْبَصَرَ هَلْ تَرَىٰ مِن فُطُورٍۢ(3)﴾

[ سورة الملك ]

 مرة حدثتكم أن هذه البعوضة التي لا تنظر إليها لتفاهتها عندك في رأسها مئة عين، وفي فمها ثمانية وأربعون سناً، وفي صدرها ثلاثة قلوب، قلب مركزي، وقلب لكل جناح، تملك جهازاً لا تملكه الطائرات، مستقبلات حرارية، ترى بالأشعة تحت الحمراء، ترى الشيء في الليل بحرارته لا بلونه وشكله، عندها جهاز رادار، جهاز تخدير، عندها جهاز تمييع للدم، عندها محاجم، عندها مخالب، الله عز وجل قال: ﴿مَّا تَرَىٰ فِى خَلْقِ ٱلرَّحْمَٰنِ مِن تَفَٰوُتٍۢ﴾ هذه البعوضة التي تزِن واحداً على ألف من الغرام دقة صنعها ليست أقل من دقة صنع الحوت الأزرق، الذي يبلغ مئة وخمسين طناً، وجبته المتواضعة أربعة أطنان، وليده رضعته تساوي ثلاثمئة كيلو، ثلاث رضعات بِطُن حديد كل يوم: ﴿مَّا تَرَىٰ فِى خَلْقِ ٱلرَّحْمَٰنِ مِن تَفَٰوُتٍۢ﴾

الفساد محصور فقط في الإنس والجن


 الله عز وجل بيده الخلق والأمر، فلذلك من أين يأتي الفساد؟ هناك سمكة في البحر اسمها السمكة الطبيبة، كأن ثمة اتفاقاً بين كل أسماك البحر أن هذه السمكة لا تُلتَهم، لا تُؤكَل، مهمتها معالجة الإنتانات على جلد الأسماك، والأسماك تقف في صف طويل تنتظر دورها في المعالجة، في البحر طب، وهذه السمكة ما العُرف المكتوب؟ أنّ سمكة كبيرة لا تلتهمها أبداً، وغذاؤها هذه الإنتانات التي في حراشف الأسماك، حتى أن عند السمك الكبير إنتانات ضمن فمها، فتفتح لها فمها وتدخل إليه وتنظف هذه الإنتانات، وتريحها من هذه الأمراض: ﴿مَّا تَرَىٰ فِى خَلْقِ ٱلرَّحْمَٰنِ مِن تَفَٰوُتٍۢ﴾ أين الفساد؟ في مخلوق أودع الله فيه الشهوات، ومنحه حرية الاختيار، وأعطاه منهجاً، فانطلق بدافع من شهواته من دون منهج يسير عليه، فكان الفساد في الأرض، فلذلك الله عز وجل يقول: ﴿ظَهَرَ ٱلْفَسَادُ فِى ٱلْبَرِّ وَٱلْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِى ٱلنَّاسِ﴾ الفساد محصور فقط في الإنس والجن، لأنهما مخلوقان أُعطيا حرية الاختيار، وأُودعت فيهما الشهوات، وأعطيا منهجاً يسيران عليه، فانطلقا بدافع من الشهوات من دون منهج يسيران عليه، فكان الفساد في الأرض. الآية الكريمة: ﴿ظَهَرَ ٱلْفَسَادُ فِى ٱلْبَرِّ وَٱلْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِى ٱلنَّاسِ لِيُذِيقَهُم بَعْضَ ٱلَّذِى عَمِلُواْ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ﴾

علاج الفساد :


 كان من الممكن ألا يذيقنا الله بعض الذي نعمل، كان من الممكن أن يكون في الأرض إباحية بلا مرض الإيدز، لكن مرض الإيدز قدّره الله عز وجل عقاباً للانحراف، العلة لعلهم يرجعون إليه: ﴿ظَهَرَ ٱلْفَسَادُ فِى ٱلْبَرِّ وَٱلْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِى ٱلنَّاسِ لِيُذِيقَهُم بَعْضَ ٱلَّذِى عَمِلُواْ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ﴾
﴿وَلِلَّهِ مَا فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَمَا فِي ٱلۡأَرۡضِۗ وَلَقَدۡ وَصَّيۡنَا ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلۡكِتَٰبَ مِن قَبۡلِكُمۡ وَإِيَّاكُمۡ أَنِ ٱتَّقُواْ ٱللَّهَۚ﴾ أي إن أردتم ألّا يكون هناك فساد فاتقوا الله، أنت آلة معقدة جداً، ولك صانع حكيم، ولهذا الصانع تعليمات، راقِب نفسك بشكل عفوي، إن اشتريت آلة غالية الثمن، عظيمة النفع، معقدة التركيب، لا تستعملها قبل أن تقرأ تعليمات الصانع، الأشخاص المحترمون إذا اقتنَوا آلة غالية جداً، ولها فائدة كبيرة جداً لا يستخدمون هذه الآلة إلا بعد قراءة تعليمات الصانع، لأن الجهة الصانعة هي الجهة الوحيدة التي ينبغي أن تُتَّبع تعليماتها.

العلاقة العلمية والعلاقة الوضعية :


 الله عز وجل يقول: ﴿وَلَقَدۡ وَصَّيۡنَا ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلۡكِتَٰبَ مِن قَبۡلِكُمۡ وَإِيَّاكُمۡ أَنِ ٱتَّقُواْ ٱللَّهَۚ﴾ لعلك إن انطلقت من محبتك لذاتك، وما منا واحد على وجه الأرض إلا ويحب نفسه، يحب ذاته، أعلن هذا أم لم يعلنه، كل واحد منا يحب وجوده، ويحب سلامة وجوده، ويحب استمرار وجوده، ويحب كمال وجوده، فأنت حينما تنطلق من حبك لوجودك، ومن حبك لسلامة وجودك، ومن حبك لكمال وجودك، ومن حبك لاستمرار وجودك، ينبغي أن تتقي الله، لأنه مستحيل وألف ألف مستحيل أن تطيعه وتخسر، ومستحيل وألف ألف مستحيل أن تعصيه وتربح، ينبغي أن تؤمن أن العلاقة بين المعصية وبين نتائجها علاقة علمية، علاقة سبب بنتيجة، وكنت أضرب هذا المثل دائماً، أنت إذا تلقّيت أمراً وأنت في مدرسة، مثلاً أن تخرج من هذا الباب دون هذا الباب، وخالفت الأمر تُعاقَب، لكن ليس هناك علاقة علمية بين العقاب وبين المخالفة، العلاقة وضعية، المنظِّم واضع نظام المدرسة ارتأى أن يكون هذا الباب للدخول، وذاك الباب للخروج، فإذا خالفت هذا الأمر تستحق العقوبة، ولكن ليس ثمة علاقة علمية بين العقوبة وبين السبب، العلاقة وضعية، نحن وضعناها. 
 الآن إنسان خرج من بلده معه مبلغ من المال حصَّله بجهد شرعي، يوجد قوانين تعاقبه، لكن لا يوجد علاقة علمية بين إنسان يحمل ألفاً بالعملات الصعبة وخرج بها وبين العقاب، العلاقة وضعية، القوانين تمنع ذلك، أما إذا وضع إنسان يده على مدفأة وهي مشتعلة تحترق يده، هناك علاقة علمية بين وضع اليد والاحتراق، يجب أن نفهم جميعاً أن العلاقة بين الأمر الإلهي ونتائجه وبين النهي الإلهي ونتائجه علاقة علمية، علاقة سبب بنتيجة.
 لو فرضنا أن وزير الكهرباء كتب أو أعطى تعليمات أن يُكتَب على عمود يحمل تيار عالي التوتر: ممنوع الاقتراب تحت طائلة الهلاك، لو جاء إنسان وأراد أن يقترب، لكن خاف من الشرطي، رأى هل هناك شرطة، ليس الموضوع وجود شرطة هنا، فالتيار نفسه يعاقبك، هنا لا تحتاج إلى شرطة، فالإنسان الأحمق يقول: لا أحد يراني، هذه العلاقة بين احتراق الإنسان واقترابه من التيار عالي التوتر علاقة علمية، فلو كنت في منتصف الليل وحدك واقتربت تحترق. فحينما تفهم أنت منهج الله هكذا؛ أن هناك علاقة علمية بين المعصية ونتائجها، وبين الطاعة ونتائجها، تُقبِل على طاعة الله عز وجل.

الدين ضمانة لسلامتنا وما المشاكل إلا بسبب خروجنا عن منهج الله سبحانه:


 حينما تمشي في مكان مفتوح ووجدت لوحة مكتوب عليها: لا تتجاوز "حقل ألغام"، أولاً: هل تشعر بحقد على مَن وضع هذه اللوحة؟ لا، بالعكس، تشعر بامتنان له، هل تعد هذه اللوحة تقييداً لحريتك؟ لا، هي ضمان لسلامتك. هذا فهم الدين، الدين ضمانة لسلامتنا، لما أمر الله عز وجل بالحجاب، أمر بعدم الاختلاط، أمر بالزواج، أمر بالصدق، أمر بالأمانة، أمر بالعفة، تجد مجتمعاً سليماً متوازناً مرتاحاً، فيه تعاون، أما حينما تُخرَق حدود الله عز وجل، وحينما تُنتهَك حُرُمات الله عز وجل ندفع الثمن، ينتهي هذا الكلام بهذه القاعدة، وأنا والله صُغتها صياغة أعني ما أقول، ما من مشكلة على وجه الأرض من آدم إلى يوم القيامة إلا بسبب خروج عن منهج الله، لو أردت أن تستقصي المآسي والمشكلات التي يعاني منها البشر، فما مِن مشكلة إلا بسبب معصية، وما من معصية إلا بسبب جهل.
 أخ كريم أهداني كتاباً، ألّف هذا الكتاب رجل كان مديراً للسجون، فذكر في الكتاب ثلاثاً وستين حالة من المساجين عنده، كل سجين ما قصته وما ذنبه، لكن أجمل ما في هذا الكتاب أنه بعد أن يذكر قصة السجين والحكم الذي صدر بحقه، يذكر المخالفة الشرعية التي سبّبت له هذه الجريمة وهذه العقوبة، فما من مشكلة يعاني منها البشر إلا بسبب مخالفة شرعية. عند ضباط الأمن الجنائي قاعدة عند كل جريمة، يقولون: فتش عن المرأة، قد يكون وراء هذه الجريمة امرأة مثلاً، أو تنافس على امرأة، أو مشكلة، أنا أقول: فتِّش عن المعصية، هذا الأصح، ما من مشكلة تقع إلا وراءها معصية حتى العالم الإسلامي، على الإنسان ألا يكون كالنعامة يغمس رأسه في الرمل. 

﴿ أَوَلَمَّآ أَصَٰبَتْكُم مُّصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُم مِّثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّىٰ هَٰذَا ۖ قُلْ هُوَ مِنْ عِندِ أَنفُسِكُمْ ۗ إِنَّ ٱللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَىْءٍۢ قَدِيرٌ(165)﴾

[  سورة آل عمران ]

 لا تعتب على أحد، لا تجعل مِشجَباً تعلق عليه أخطاءك، تقول: يا أخي ماسونية عالمية، استعمار، أخطاؤنا من عندنا، ما من مشكلة يعاني منها المسلمون في شتى أقطارهم إلا والسبب معصيتهم لله عز وجل، حتى في أمور الرزق.

الرزق بيد الله عز وجل وما علينا إلا أن نستقيم على أمره:


 قال تعالى: 

﴿ وَأَلَّوِ ٱسْتَقَٰمُواْ عَلَى ٱلطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْنَٰهُم مَّآءً غَدَقًا(16) لِّنَفْتِنَهُمْ فِيهِ ۚ وَمَن يُعْرِضْ عَن ذِكْرِ رَبِّهِۦ يَسْلُكْهُ عَذَابًا صَعَدًا(17)﴾

[  سورة الجن ]

﴿ وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ ٱلْقُرَىٰٓ ءَامَنُواْ وَٱتَّقَوْاْ لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَٰتٍۢ مِّنَ ٱلسَّمَآءِ وَٱلْأَرْضِ وَلَٰكِن كَذَّبُواْ فَأَخَذْنَٰهُم بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ(96)﴾

[  سورة الأعراف ]

﴿ وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُواْ ٱلتَّوْرَىٰةَ وَٱلْإِنجِيلَ وَمَآ أُنزِلَ إِلَيْهِم مِّن رَّبِّهِمْ لَأَكَلُواْ مِن فَوْقِهِمْ وَمِن تَحْتِ أَرْجُلِهِم ۚ مِّنْهُمْ أُمَّةٌ مُّقْتَصِدَةٌ ۖ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ سَآءَ مَا يَعْمَلُونَ(66)﴾

[  سورة المائدة ]

 الله عز وجل في هذا العام أعطانا رسالة، أرانا شيئاً من فضله، الأنهار التي جفت من ثلاثين عاماً تفجرت الآن، نهر بردى من عشرين عاماً ما وصل إلى قرية العتيبة، الآن وصل، وأصبحت بحيرة ضخمة، الله عز وجل أعطانا رسالة أن الأمر بيده، الرزق بيد الله عز وجل، فما علينا إلا أن نستقيم على أمره، الفساد من عند أنفسنا، البطل لا يقفز على المشكلات بل يواجهها، فنحن تعوّدنا أن نُحِيل كل مشكلاتنا إلى غيرنا، وارتحنا من المسؤولية، مشكلاتنا من عند أنفسنا.

إن أحسنّا فلأنفسنا وإن أسأنا فعليها:


 يقول الله عز وجل: ﴿وَلَقَدۡ وَصَّيۡنَا ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلۡكِتَٰبَ مِن قَبۡلِكُمۡ وَإِيَّاكُمۡ أَنِ ٱتَّقُواْ ٱللَّهَۚ وَإِن تَكۡفُرُواْ فَإِنَّ لِلَّهِ مَا فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَمَا فِي ٱلۡأَرۡضِۚ وَكَانَ ٱللَّهُ غَنِيًّا حَمِيدًا﴾ هذه الآية معناها: إن تكفروا أنتم ومن في الأرض جميعاً فإن الله غني عنكم، ولكن الله جلّ شأنه لا يرضى لعباده الكفر. 

﴿ إِن تَكْفُرُواْ فَإِنَّ ٱللَّهَ غَنِىٌّ عَنكُمْ ۖ وَلَا يَرْضَىٰ لِعِبَادِهِ ٱلْكُفْرَ ۖ وَإِن تَشْكُرُواْ يَرْضَهُ لَكُمْ ۗ وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَىٰ ۗ ثُمَّ إِلَىٰ رَبِّكُم مَّرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ ۚ إِنَّهُۥ عَلِيمٌۢ بِذَاتِ ٱلصُّدُورِ(7)﴾

[  سورة الزمر ]

(( يَا عِبَادِي إِنَّكُمْ لَنْ تَبْلُغُوا ضَرِّي فَتَضُرُّونِي وَلَنْ تَبْلُغُوا نَفْعِي فَتَنْفَعُونِي يَا عِبَادِي لَوْ أَنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ وَإِنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ كَانُوا عَلَى أَتْقَى قَلْبِ رَجُلٍ وَاحِدٍ مِنْكُمْ مَا زَادَ ذَلِكَ فِي مُلْكِي شَيْئاً يَا عِبَادِي لَوْ أَنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ وَإِنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ كَانُوا عَلَى أَفْجَرِ قَلْبِ رَجُلٍ وَاحِدٍ مَا نَقَصَ ذَلِكَ مِنْ مُلْكِي شَيْئاً يَا عِبَادِي لَوْ أَنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ وَإِنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ قَامُوا فِي صَعِيدٍ وَاحِدٍ فَسَأَلُونِي فَأَعْطَيْتُ كُلَّ إِنْسَانٍ مَسْأَلَتَهُ مَا نَقَصَ ذَلِكَ مِمَّا عِنْدِي إِلَّا كَمَا يَنْقُصُ الْمِخْيَطُ إِذَا أُدْخِلَ الْبَحْرَ يَا عِبَادِي إِنَّمَا هِيَ أَعْمَالُكُمْ أُحْصِيهَا لَكُمْ ثُمَّ أُوَفِّيكُمْ إِيَّاهَا فَمَنْ وَجَدَ خَيْراً فَلْيَحْمَدْ اللَّهَ وَمَنْ وَجَدَ غَيْرَ ذَلِكَ فَلَا يَلُومَنَّ إِلَّا نَفْسَهُ.))

[  أخرجه مسلم عن أبي ذر رضي الله عنه  ]

 لا تظنوا أيها العباد أن إيمانكم ينفع الله عز وجل، إن آمنتم جميعاً أو كفرتم جميعاً عند الله سواء، لكنكم إذا آمنتم فلأنفسكم، وإن عصيتم فعليها، إن أحسنتمْ أحسنتم لأنفسكم، وإن أسأتم فلها، فالإحسان لك، والإساءة عليك.

كل الراحة والطمأنينة نجدها في طاعة الله عز وجل:


 الآية دقيقة جداً: ﴿وَلِلَّهِ مَا فِى ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَمَا فِى ٱلْأَرْضِ﴾ هذان الزوجان اللذان افترقا الله عز وجل قادر أن يهب كلاً منهما شريكاً أفضل من الذي تركه، مع وجود الله عز وجل وقدرته المطلقة، وحكمته المطلقة، ورحمته المطلقة، وغناه المطلق، ما من مشكلة في الأرض، هناك مشكلات لا تعد ولا تحصى بسبب ضعف الإيمان وبسبب المعصية، أما لو آمنت بالله الإيمان الحق، واستقمت على أمره فالله عز وجل يعطيك ما تسأل، ولك عنده المكانة العلية. مرةً ثالثة: ﴿وَلِلَّهِ مَا فِى ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَمَا فِى ٱلْأَرْضِ ۚ وَكَفَىٰ بِٱللَّهِ وَكِيلًا﴾ دقق في هذا المعنى، أنت عبد الله عز وجل، أعطاك منهجاً، وقال لك: أطعني. 

أطِعْ أمْرَنا نرْفَع لِأَجْلك حُجْبنــا         فإنا منَحنا بِالرِّضى من أحَبَّنــا

ولُذ بِحِمــــانا واحْتَمِ بِجَنابِنـــــا         لِنَحْميك ممِّا فيه أشْرار خَلْقِنـــا

وعن ذكرنا لا يشغلنَّك شـاغـلٌ         وأخلِص لنا تلقَ المسرةَ والهنـا

وسلِّم إلينا الأمرَ في كل ما يكن         فما القربُ والإبعادُ إلا بـأمرِنــا

[ علي بن محمد بن وفا ]

 أطع أمرنا نرفع لأجلك حجبنا، الخير كله، والسعادة كلها، والراحة النفسية كلها، والطمأنينة كلها في طاعة الله عز وجل، والآية الكريمة: 

﴿ يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَٰلَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ ۗ وَمَن يُطِعِ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُۥ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا (71)﴾

[  سورة الأحزاب ]


أقم أمر الله فيما تملك يكفك ما لا تملك:


 أنت حينما تشتد عليك الأمور عليك بطاعة الله عز وجل، الله ما كلفك فوق ما تطيق، أدق فكرة تكلمت بها اليوم في الخطبة أن من تلبيس إبليس أن الذي بمقدورك وبإمكانك أن تفعله ضمن طاقتك، ولا تُساءل، ولا تحاسب، وليس هناك حرج، ولا ضيق، ولا مشكلة يزهّدك فيه، والذي لا تستطيعه يقحمك فيه، كرجلٍ دخل بيته، ألا يستطيع أن يصلي؟ طبعاً، ألا يستطيع أن يضبط لسانه؟ أن يأمر أهله بالصلاة؟ أن يصلي قبل أن ينام؟ أن يقرأ القرآن؟ أن يسبح الواحد الديان؟ أنه إذا أكل يسمي الله عز وجل، ويوجّه لأولاده نصائح ثمينة، يحضّهم على معرفة الله عز وجل، إذا دخل إلى محله التجاري أليس بإمكانه أن يكون صادقاً نصوحاً للذي يبيعه، متقناً لعمله؟ كله بإمكانك، هل هناك إنسان يسألك في الأرض لماذا أنت صادق؟ أنت متّهم أنك صادق، لا، هذا مستحيل، لا أحد يحاسبك على أن تكون صادقاً، أو أن تكون عفيفاً، وأن تكون أميناً، أو أن تكون متقناً لعملك، أو أن تكون أباً كاملاً أو زوجاً رحيماً بزوجتك، مليون عمل بإمكانك أن تفعله ضمن طاقتك، ضمن إمكانياتك دون أن تُسأل، دون أن تُحاسب، هذا الشيء السهل الذي بقدرتك أن تفعله يزهّدك الشيطان به، والذي لا تستطيعه دولٌ يحمّسك فيه، هذا من تلبيس إبليس، أقم أمر الله فيما تملك يكفِك ما لا تملك، فأنا أملك أن أطيع الله، الله قال لي: 

﴿ بَلِ ٱللَّهَ فَٱعْبُدْ وَكُن مِّنَ ٱلشَّٰكِرِينَ(66)﴾

[  سورة الزمر ]

﴿وَكَفَىٰ بِٱللَّهِ وَكِيلًا﴾ أطعه وتوكل عليه ﴿وَكَفَىٰ بِٱللَّهِ وَكِيلًا﴾ قال تعالى: 

﴿ وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ ۚ وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى ٱللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُۥٓ ۚ إِنَّ ٱللَّهَ بَٰلِغُ أَمْرِهِۦ ۚ قَدْ جَعَلَ ٱللَّهُ لِكُلِّ شَىْءٍۢ قَدْرًا(3)﴾

[  سورة الطلاق ]

 يكفيه، هذه حالة مريحة جداً، ونحن في أمس الحاجة إليها الآن، هناك قلق شديد، وخوف، صار العدوان قريباً من كل مسلم، ما من حدث يقع في طرف الدنيا لا علاقة لك به، الأحداث لها تداعيات كما يقولون، فكل شيء يقع في طرف الدنيا يتأثر به مَن في الطرف الآخر، ملخص هذا الكلام الطويل: أطِع ربك، وتوكل عليه، وفوِّض أمرك إليه: ﴿بَلِ ٱللَّهَ فَٱعْبُدْ وَكُن مِّنَ ٱلشَّٰكِرِينَ﴾ قال تعالى: 

﴿ قَالَ يَٰمُوسَىٰٓ إِنِّى ٱصْطَفَيْتُكَ عَلَى ٱلنَّاسِ بِرِسَٰلَٰتِى وَبِكَلَٰمِى فَخُذْ مَآ ءَاتَيْتُكَ وَكُن مِّنَ ٱلشَّٰكِرِينَ(144)﴾

[  سورة الأعراف ]

 شأنك كعبد أن تطيعه، وشأنه كرب أن يرحمك، وأن يحفظك، وأن يوفقك، فأنت أدِّ الذي عليك، واطلب من الله الذي لك.

إن أطعنا الله تعالى أتتنا الدنيا وهي راغمة:


 ثم يقول الله عز وجل: 

﴿ إِن يَشَأۡ يُذۡهِبۡكُمۡ أَيُّهَا ٱلنَّاسُ وَيَأۡتِ بِـَٔاخَرِينَۚ وَكَانَ ٱللَّهُ عَلَىٰ ذَٰلِكَ قَدِيرًا(133)﴾

[  سورة النساء ]

﴿ هَٰٓأَنتُمْ هَٰٓؤُلَآءِ تُدْعَوْنَ لِتُنفِقُواْ فِى سَبِيلِ ٱللَّهِ فَمِنكُم مَّن يَبْخَلُ ۖ وَمَن يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَن نَّفْسِهِۦ ۚ وَٱللَّهُ ٱلْغَنِىُّ وَأَنتُمُ ٱلْفُقَرَآءُ ۚ وَإِن تَتَوَلَّوْاْ يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوٓاْ أَمْثَٰلَكُم (38)﴾

[  سورة محمد ]

 الله عز وجل منحنا نعمة الوجود، ومنحنا نعمة الإمداد، ومنحنا نعمة الهدى والرشاد، فإن استنكفنا أن نعبده وإن تولّينا عن طاعته يستبدل قوماً غيرنا، ثم يقول الله عز وجل: 

﴿ مَّن كَانَ يُرِيدُ ثَوَابَ ٱلدُّنۡيَا فَعِندَ ٱللَّهِ ثَوَابُ ٱلدُّنۡيَا وَٱلۡأٓخِرَةِۚ وَكَانَ ٱللَّهُ سَمِيعَۢا بَصِيرًا(134)﴾

[ سورة النساء ]

 من أراد الدنيا، من أراد التفوق في الدنيا، من أراد أن يكون ذا شأن في الدنيا، من أراد أن يكون متألقاً في الدنيا، من أراد أن يبقى ذكره في الدنيا، هذا الإنسان ليس طموحاً، لأن الله عنده ثواب الدنيا والآخرة، أنت إذا أطعت الله أتتك الدنيا وهي راغمة، مَن آثر آخرته على دنياه ربحهما معاً، ومن آثر دنياه على آخرته خسرهما معاً، أنت إذا أردت الله أتتك الدنيا وهي راغمة.

من يختر الله تعالى يكن في الدنيا وجيهاً وفي الآخرة وجيهاً :


 قال تعالى: ﴿مَّن كَانَ يُرِيدُ ثَوَابَ ٱلدُّنۡيَا فَعِندَ ٱللَّهِ ثَوَابُ ٱلدُّنۡيَا وَٱلۡأٓخِرَةِۚ﴾ اطلب ثواب الدنيا والآخرة، الآن هناك علماء كبار اخترعوا أشياء نافعة ارتقى ذكرهم، وأشاد الناس بهم، ونصبوا لهم تماثيل، وأقاموا لهم حفلات تكريم بعد موتهم، لو أنهم أرادوا بهذا الاختراع وجه الله عز وجل، وأرادوا خدمة البشرية، والتخفيف عن عباد الله لكسبوا الدنيا والآخرة، كل إنسان له مراد، هذا أراد السمعة فله السمعة، هذا أراد الشهرة فله الشهرة، هذا أراد المال الوفير من هذا الاختراع له ذلك، هذا أراد أن يبقى ذكره مستمراً له ذلك، لكنه لو أراد الله عز وجل له الدنيا والآخرة، كلام دقيق، لو اخترت الله لكنت في الدنيا وجيهاً، وفي الآخرة وجيهاً، قال تعالى: 

﴿ إِذْ قَالَتِ ٱلْمَلَٰٓئِكَةُ يَٰمَرْيَمُ إِنَّ ٱللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍۢ مِّنْهُ ٱسْمُهُ ٱلْمَسِيحُ عِيسَى ٱبْنُ مَرْيَمَ وَجِيهًا فِى ٱلدُّنْيَا وَٱلْآخِرَةِ وَمِنَ ٱلْمُقَرَّبِينَ(45)﴾

[ سورة آل عمران ]

 أنت حينما تريد لقاء الله عز وجل يرفع الله لك ذكرك في الدنيا، الآن في الحرم النبوي لو دخل أكبر ملك يرى نفسه صغيراً أمام هذا المقام العظيم. 

﴿  وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ(4)﴾

[  سورة الشرح ]

 مرة إنسان أجنبي ما صدّق، لم يجد حركة في أحد الأيام في الشام، قال له: عندنا عطلة رسمية، قال له: ما المناسبة؟ قال له: والله عندنا عيد المولد، هناك تعطيل، قال له: من هو صاحب هذه المناسبة؟ قال له: رجل كان نبي هذه الأمة، قال له: من كم سنة مات؟ قال له: من ألف وأربعمئة سنة، صُعِق! من ألف وأربعمئة عام يموت هذا الإنسان، ونحتفل كل عام بميلاده؟ ﴿وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ﴾ فإذا أردت الله لك الدنيا والآخرة، والله تأتيك الدنيا وهي راغمة، واللهِ هي أحقر من أن تكون عقاباً لإنسان، أو مكافأة لإنسان، لكنها تأتيك عرَضاً.

حينما يريد الإنسان الآخرة يكسب الدنيا والآخرة:


 قال تعالى: ﴿مَّن كَانَ يُرِيدُ ثَوَابَ ٱلدُّنۡيَا﴾ إنسان يريد الدنيا فقط، تأتيه أموال طائلة، بيل غيتس يملك تسعين ملياراً، وهو شاب، عمره أربعون سنة، ثروته تسعون ملياراً، إذا مات ليس له شيء، أي إنسان لو أراد الدنيا فقط ومات انتهى كل شيء، فالإنسان عظمته بقطر شريانه التاجي، ميل وربع، كل مكانته وهيمنته وقوته وأمواله المنقولة وغير المنقولة على ميلي وربع بالشريان التاجي، عندما يغلق يأتي النعي، كل عظمته وثروته وأمواله المنقولة وغير المنقولة وهيمنته وشخصيته وملكه على سيولة دمه، إذا تجمد الدم في العروق انتهت الحياة، أو على نمو خلاياه، إذا نمت نمواً عشوائياً، صار معه ورم خبيث انتهى، فحينما يريد الإنسان الآخرة كسب الدنيا والآخرة.
 يقول أحد العلماء: "ما يفعل أعدائي بي، بستاني في صدري، إن أبعدوني فإبعادي سياحة، وإن حبسوني فحبسي خلوة، وإن قتلوني فقتلي شهادة، فماذا يفعل أعدائي بي"؟ لذلك إذا أطعت الله عز وجل نلت الدنيا والآخرة، وهذا بعض معاني قوله تعالى: 

﴿  وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ(46)﴾

[  سورة الرحمن ]


الشهرة في الدنيا لا قيمة لها:


 أنا أختم هذا الدرس بهذه الآية: 

﴿ أَمْ حَسِبَ ٱلَّذِينَ ٱجْتَرَحُواْ ٱلسَّيِّـَٔاتِ أَن نَّجْعَلَهُمْ كَٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّٰلِحَٰتِ سَوَآءً مَّحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ ۚ سَآءَ مَا يَحْكُمُونَ(21)﴾

[  سورة الجاثية ]

 في الآخرة مفروغ منهما، بالدنيا قال: ﴿سَوَآءً مَّحْيَاهُمْ﴾ فهل بيت المؤمن كبيت الكافر؟ زواج المؤمن كزواج الكافر؟ أولاد المؤمن كأولاد الكافر؟ عمل المؤمن كعمل الكافر؟ سمعة المؤمن كسمعة الكافر؟ سعادته كشقائه؟ 

﴿  أَفَمَنْ كَانَ مُؤْمِناً كَمَنْ كَانَ فَاسِقاً لَا يَسْتَوُونَ(18)﴾

[  سورة السجدة ]

﴿  أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ(35) مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ(36)﴾

[  سورة القلم ]

 من كان يريد ثواب الدنيا، الذي يريد مال الدنيا، منصب رفيع، بيت فخم، مكانة علية، إذا أراد الشهرة، أشهر مخلوق في الأرض إبليس، لا أحد أشهر منه في الأرض، بكل اللغات له مكانة، فالشهرة لا قيمة لها: ﴿مَّن كَانَ يُرِيدُ ثَوَابَ ٱلدُّنۡيَا فَعِندَ ٱللَّهِ ثَوَابُ ٱلدُّنۡيَا وَٱلۡأٓخِرَةِۚ﴾

العبرة في النهاية أن تكسب الآخرة :


 أنت اختر أن تكون مع الله، النبي عليه الصلاة والسلام حينما اختار أن يلقى ربه بكى سيدنا الصديق، سيدنا بلال حينما جاءه ملك الموت قالت له ابنته: "وا كربتاه يا أبتِ، قال: لا كرب على أبيك بعد اليوم، غداً نلقى الأحبة محمداً وصحبه" ، فالبطولة أن تختار الآخرة، والله الذي لا إله إلا هو تأتيك الدنيا وهي راغمة، والتوفيق الذي يناله المؤمن يفوق حد الخيال. 

﴿  فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى(5) وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى(6) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى(7)﴾

[  سورة الليل ]

 الأمور ميسرة ﴿مَّن كَانَ يُرِيدُ ثَوَابَ ٱلدُّنۡيَا فَعِندَ ٱللَّهِ ثَوَابُ ٱلدُّنۡيَا وَٱلۡأٓخِرَةِۚ وَكَانَ ٱللَّهُ سَمِيعَۢا بَصِيرًا﴾ قال تعالى:

﴿ كُلُّ نَفْسٍۢ ذَآئِقَةُ ٱلْمَوْتِ ۗ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ ٱلْقِيَٰمَةِ ۖ فَمَن زُحْزِحَ عَنِ ٱلنَّارِ وَأُدْخِلَ ٱلْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ ۗ وَمَا ٱلْحَيَوٰةُ ٱلدُّنْيَآ إِلَّا مَتَٰعُ ٱلْغُرُورِ (185)﴾

[  سورة آل عمران ]

 يجب أن تكون مقاييسنا مقاييس قرآنية، ﴿فَمَن زُحْزِحَ عَنِ ٱلنَّارِ﴾ ليس معنى ذلك إذا دخل العدوان نقول: إنها مشيئة الله، لا، يجب أن يُقاوم طبعاً، لكن أقول لك: في النهاية سوف نموت جميعاً، من هو المنتصر في الحقيقة؟ الذي كسب الآخرة.
 هذا الغلام الذي قال للملك: "لن تقتلني إلا إذا أخذت سهماً من جعبتي، وجمعت الناس في مكان عام، وقلت قبل أن تُطلِق السهم: باسم رب الغلام" ، فمات الغلام، ما الذي حصل؟ الناس آمنوا برب الغلام، ولم يؤمنوا بالملك، هو ضحى بحياته، لكنه كسب الآخرة، الآن عندنا نصر مبدئي يملكه كل واحد منا، ولو أننا على صعيد الواقع ما انتصرنا، إذا مات الرجل مؤمناً مستقيماً مُوحّداً له عمل صالح، هذا منتصر، ولو مات بقذيفة، العبرة أن تكسب الآخرة، هذا النصر متاح لكل واحد منا، أن يموت مؤمناً. ﴿مَّن كَانَ يُرِيدُ ثَوَابَ ٱلدُّنۡيَا فَعِندَ ٱللَّهِ ثَوَابُ ٱلدُّنۡيَا وَٱلۡأٓخِرَةِۚ وَكَانَ ٱللَّهُ سَمِيعَۢا بَصِيرًا﴾ .

الملف مدقق

والحمد لله رب العالمين 

الاستماع للدرس

00:00/00:00

نص الزوار

نص الدعاة

إخفاء الصور