الحَمدُ لِلَّه ربِّ العالمينَ، والصّلاة والسّلام على سيِّدنا محمد الصّادقِ الوَعدِ الأمين، اللهُمَّ لا عِلمَ لنا إلا ما علّمْتَنا، إنّك أنت العليمُ الحكيمُ، اللهمَّ علِّمنا ما ينفعُنا، وانفعْنَا بما علَّمْتَنا، وزِدْنا عِلْماً، وأرِنَا الحقَّ حقًّا وارْزقْنَا اتِّباعه، وأرِنَا الباطِلَ باطلاً وارزُقْنا اجتِنابَه، واجعَلْنا ممَّن يسْتَمِعونَ القَولَ فيَتَّبِعون أحسنَه، وأَدْخِلْنَا برَحمَتِك في عبادِك الصَّالِحين.
حجم الإنسان عند الله عز وجل بحجم عمله الصالح:
أيها الإخوة المؤمنون، مع الدرس الخامس والأربعين من دروس سورة النساء، ومع الآية الخامسة والتسعين، وهي قوله تعالى:
﴿ لَّا يَسۡتَوِي ٱلۡقَٰعِدُونَ مِنَ ٱلۡمُؤۡمِنِينَ غَيۡرُ أُوْلِي ٱلضَّرَرِ وَٱلۡمُجَٰهِدُونَ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ بِأَمۡوَٰلِهِمۡ وَأَنفُسِهِمۡۚ فَضَّلَ ٱللَّهُ ٱلۡمُجَٰهِدِينَ بِأَمۡوَٰلِهِمۡ وَأَنفُسِهِمۡ عَلَى ٱلۡقَٰعِدِينَ دَرَجَةًۚ وَكُلًّا وَعَدَ ٱللَّهُ ٱلۡحُسۡنَىٰۚ وَفَضَّلَ ٱللَّهُ ٱلۡمُجَٰهِدِينَ عَلَى ٱلۡقَٰعِدِينَ أَجۡرًا عَظِيمًا(95)﴾
أيها الإخوة، مطلع هذه الآية يبين بكلام واضح أن حجم الإنسان عند الله عز وجل بحجم عمله الصالح، بعد أن يؤمن وبعد أن يلتزم، وبعد أن يسير على منهج الله، بعد أن يأتمر بما أمر، وينتهي عما عنه نهى وزجر، بعد هاتين المقدمتين الخطيرتين، أن يؤمن وأن يستقيم، أن يؤمن وأن يلتزم.
﴿ إِنَّ ٱلَّذِينَ قَالُواْ رَبُّنَا ٱللَّهُ ثُمَّ ٱسْتَقَٰمُواْ تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ ٱلْمَلَٰٓئِكَةُ أَلَّا تَخَافُواْ وَلَا تَحْزَنُواْ وَأَبْشِرُواْ بِٱلْجَنَّةِ ٱلَّتِى كُنتُمْ تُوعَدُونَ(30)﴾
تفاوت المؤمنين بأعمالهم الصالحة:
الآن بعد الاستقامة المبنية على الإيمان الذي أراده الله عز وجل رادعاً للإنسان، حاجزاً عن كل عدوان، كيف يتفاوت المؤمنون؟ بأعمالهم الصالحة، يؤكد هذا المعنى قوله تعالى:
﴿ وَلِكُلٍّۢ دَرَجَٰتٌ مِّمَّا عَمِلُواْ ۚ وَمَا رَبُّكَ بِغَٰفِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ(132)﴾
كل مؤمن على وجه الأرض، من آدم إلى يوم القيامة، له مرتبة عند الله بحجم عمله الصالح، العمل الصالح ما من كلمة أوسع دلالة من هذه الكلمة. العمل الصالح؛ العمل الذي يصلح للعرض على الله، العمل الذي إذا قابلت الله به يبيض وجهك، العمل الذي إذا قابلت الله به تقبل عليه، العمل الذي تحس في أعماق أعماقك أن الله راضٍ عنك، إذا بدأنا بالبيت أن تكون أباً صالحاً، وزوجاً رحيماً، أن تكوني أمّاً رؤوماً، وزوجة صالحة هذا عمل صالح، أن يكون الابن باراً هذا عمل صالح، أن يكون الأب شفيقاً، هذا عمل صالح، أن يكون التاجر صدوقاً نصوحاً هذا عمل صالح، أن يكون الموظف خدوماً لمن أمامه هذا عمل صالح، أن يكون الطبيب رحيماً، أي العمل الذي يليق بإنسانيتك، الذي يمتلئ قلب الآخرين امتناناً لك به هو العمل الصالح، ما من كلمة ذات مدلول واسع كهذه الكلمة، حجمك عند الله بحجم عملك الصالح، لعل إتقان صنعتك من العمل الصالح، لعل تحديد السعر المناسب لهؤلاء الفقراء من العمل الصالح، لعلك كمعلم إذا علّمت هؤلاء الطلاب تعليماً دقيقاً وعميقاً، وجهتهم أخلاقياً ودينياً من العمل الصالح، ما من كلمة تحتاجها كل ثانية كالعمل الصالح؛ تحتاجها في بيتك، تحتاجها في الطريق، تحتاجها في عملك، تحتاجها في علاقاتك، تحتاجها في أفراحك، تحتاجها في أتراحك لا سمح الله كالعمل الصالح، وحجمك عند الله بحجم عملك الصالح، الجار الذي يرعى حق الجوار هذا من العمل الصالح، الذي يكفل الأيتام هذا من العمل الصالح، الذي يرعى الأرامل من العمل الصالح، الذي يطعم الجياع من العمل الصالح، الذي يحكم بين الناس بالعدل من العمل الصالح، الذي ينصح المسلمين من العمل الصالح، الذي ينطق بالحق من العمل الصالح، الذي يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر من العمل الصالح، الذي لا تأخذه في الله لومة لائم من العمل الصالح، لَا يَسْتَوِي.
الإيمان الذي أراده الله عز وجل هو الذي يحجب صاحبه عن معصية الله:
قبل أن نتحدث عن التفاوت والتفاضل والترجيح بين المؤمنين ينبغي أن نظن أن هؤلاء المؤمنين تعرّفوا إلى الله المعرفة التي حملتهم على طاعته.
(( الْإِيمَانَ قَيْدُ الْفَتْكِ. ))
الإنسان الذي يفتك بالناس ليس مؤمناً، إنسان يتجاوز الحدود، يأخذ ما ليس له، يعتدي على الناس ليس مؤمناً، ليس مؤمناً الإيمان الذي أراده الله، إبليس مؤمن.
﴿ قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ(82)﴾
إبليس مؤمن قال:
﴿ قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ ۖ قَالَ أَنَا۠ خَيْرٌ مِّنْهُ خَلَقْتَنِى مِن نَّارٍۢ وَخَلَقْتَهُۥ مِن طِينٍۢ (12)﴾
إبليس مؤمن بالآخرة قال:
﴿ قَالَ رَبِّ فَأَنظِرْنِىٓ إِلَىٰ يَوْمِ يُبْعَثُونَ(14)﴾
ليس هذا هو الإيمان الذي أراده الله عز وجل، الإيمان الذي أراده الله عز وجل هو الذي يحجز صاحبه عن معصية الله، الإنسان حينما يعصي الله ليعلم علم اليقين أن في إيمانه خللاً، أن في إيمانه ضعفاً، بعد أن تؤمن الإيمان الذي أراده الله، والإيمان الذي أراده الله هو الذي يمنعك أن تعصي الله، الآن كيف نرجح بين المؤمنين، كيف يرتقي مؤمن إلى درجة أعلى من درجة مؤمن آخر؟ قال: ﴿لَّا يَسۡتَوِي ٱلۡقَٰعِدُونَ مِنَ ٱلۡمُؤۡمِنِينَ غَيۡرُ أُوْلِي ٱلضَّرَرِ وَٱلۡمُجَٰهِدُونَ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ﴾ .
أولو الضرر مستثنون من حكم الجهاد:
يروى أن زيداً بن ثابت كان من كتاب الوحي، وحينما جاء الوحي النبي عليه الصلاة والسلام قال: اكتب يا زيد: لا يستوي القاعدون من المؤمنين والمجاهدون، وكان ابن أم مكتوم حاضراً نزول هذه الآية، وسماع قول النبي لسيدنا زيد: أن اكتب يا زيد، فقال ابن أم مكتوم: يا رسول الله: ما يفعل من أقعدته العاهة عن الجهاد؟ فجاء الوحي مرة ثانية، ليس استدراكاً ولكن تبييناً إلى أن هذا الصحابي الجليل حينما استمع إلى الآية أقلقته، كأن الله أراد أن يعلمنا أن المؤمن إذا استمع إلى آية ينبغي أن يضع نفسه في موضع الفحص، أين أنا من هذه الآية؟ فجاء الوحي ثانية وقال: ﴿لَّا يَسۡتَوِي ٱلۡقَٰعِدُونَ مِنَ ٱلۡمُؤۡمِنِينَ غَيۡرُ أُوْلِي ٱلضَّرَرِ﴾ من كان من أولي الضرر، من كان ذا عاهة، من ابتلاه الله بشيء من ضعف في بنيته، هذا معذور، هذا مستثنى من الحكم، إذاً الموازنة: ﴿لَّا يَسۡتَوِي ٱلۡقَٰعِدُونَ مِنَ ٱلۡمُؤۡمِنِينَ﴾ و﴿وَٱلۡمُجَٰهِدُونَ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ﴾ مؤمن قعد ماذا يقابل القعود؟ القيام، المؤمن ينبغي أن يكون قوّاماً للحق، قائماً في العمل في سبيل الله، إذاً: ﴿وَلِكُلٍّۢ دَرَجَٰتٌ مِّمَّا عَمِلُواْ﴾ .
جهاد النفس والهوى هو الجهاد الأكبر:
من هو المُفضَّل؟ المجاهد، وهذه أيضاً كلمة واسعة جداً، أول درجات الجهاد، وأساسيات الجهاد أن تحمل نفسك على طاعة الله، ودائماً وأبداً أيها الإخوة الإنسان له طبع ومعه تكليف، وشيء واضح لديكم أن الطبع يتناقض مع التكليف، وقد ذكرت هذا مراراً، الطبع يقتضي أن تبقى نائماً والتكليف يقتضي أن تستيقظ لتصلي، والطبع يقتضي أن تأخذ المال والتكليف يقتضي أن تنفقه، والطبع يقتضي أن تملأ عينيك من محاسن النساء، والتكليف يقتضي أن تغض البصر، الطبع يقتضي أن تخوض في فضائح الناس شيء ممتع، والتكليف يقتضي أن تصمت، ألا تشيع الفاحشة بين الناس، فلأن الطبع يتناقض مع التكليف صار لا بد من جهد جهيد لإيقاع الحركة وفق منهج الله، هذا الجهد الجهيد في إيقاع الحركة وفق منهج الله عز وجل هو الجهاد، هذا جهاد النفس والهوى: ﴿لَّا يَسۡتَوِي ٱلۡقَٰعِدُونَ مِنَ ٱلۡمُؤۡمِنِينَ غَيۡرُ أُوْلِي ٱلضَّرَرِ وَٱلۡمُجَٰهِدُونَ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ بِأَمۡوَٰلِهِمۡ﴾ ما دمنا في الحديث عن الجهاد فالبناء، أهم شيء في البناء هيكله الإسمنتي، هذا الهيكل الإسمنتي يشبه جهاد النفس والهوى، قبل أن تفكر في جهاد الأعداء، قبل أن تفكر في الجهاد الدعوي ينبغي أن تنتصر على نفسك بادئ ذي بدء، إن لم تنتصر على نفسك لا تستطيع أن تقاتل نملة، والناس الذين اتبعوا شهواتهم، وساروا مع حظوظهم هؤلاء لا يستطيعون مقابلة أعدائهم، والقصة التي وردت في القرآن الكريم قال:
﴿ فَلَمَّا فَصَلَ طَالُوتُ بِٱلْجُنُودِ قَالَ إِنَّ ٱللَّهَ مُبْتَلِيكُم بِنَهَرٍۢ فَمَن شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّى وَمَن لَّمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُۥ مِنِّىٓ إِلَّا مَنِ ٱغْتَرَفَ غُرْفَةًۢ بِيَدِهِۦ ۚ فَشَرِبُواْ مِنْهُ إِلَّا قَلِيلًا مِّنْهُمْ ۚ فَلَمَّا جَاوَزَهُۥ هُوَ وَٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ مَعَهُۥ قَالُواْ لَا طَاقَةَ لَنَا ٱلْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنُودِهِۦ ۚ قَالَ ٱلَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُم مُّلَٰقُواْ ٱللَّهِ كَم مِّن فِئَةٍۢ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةًۢ بِإِذْنِ ٱللَّهِ ۗ وَٱللَّهُ مَعَ ٱلصَّٰبِرِينَ(249)﴾
عصَوا ﴿إِلَّا قَلِيلًا مِّنْهُمْ﴾ فلما واجهوا العدو: ﴿قَالُواْ لَا طَاقَةَ لَنَا ٱلْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ﴾
الإنسان يرقى عند الله بطريقتين إما بالصبر أو بالعمل الإيجابي:
المعنى واضح جداً، الإنسان حينما يعصي لا يستطيع أن يواجه العدو، هو أضعف من أن يواجهه، لذلك علة ضعف المسلمين أن حبهم للدنيا استحوذ عليهم، آثروا الدَّعة والخلود إلى الأرض على الجهاد في سبيل الله، ﴿لَّا يَسۡتَوِي ٱلۡقَٰعِدُونَ مِنَ ٱلۡمُؤۡمِنِينَ﴾ ﴿غَيۡرُ أُوْلِي ٱلضَّرَرِ﴾ استثناء صاحب هذا الأمر المعذور، والله عز وجل عذره، والله عز وجل أعطاه أجراً لا على أنه جاهد، لكن على أنه ابتُلي فصبر، وأنت ترقى عند الله بطريقتين؛ إما أن تأتي المصيبة فتصبر عليها صبراً جميلاً، وتستسلم لمشيئة الله عز وجل، وتصبر على قضائه وقدره، كما فعل النبي عليه الصلاة والسلام في الطائف فقال:
(( اللَّهمَّ إليكَ أشكو ضَعفَ قوَّتي، وقلَّةَ حيلَتي، وَهَواني علَى النَّاسِ، أنتَ أرحمُ الرَّاحمينَ، أنتَ ربُّ المستضعفينَ، وأنتَ ربِّي، إلى من تَكِلُني؟ إلى بعيدٍ يتجَهَّمُني أَمْ إلى عدُوٍّ ملَّكتَهُ أمري. إن لم يَكُن بِكَ غضبٌ عليَّ فلا أبالي، غيرَ أنَّ عافيتَكَ هيَ أوسعُ لي. . أعوذُ بنورِ وجهِكَ الَّذي أشرَقت لهُ الظُّلماتُ، وصلُحَ علَيهِ أمرُ الدُّنيا والآخرةِ، أن يحلَّ عليَّ غضبُكَ، أو أن ينزلَ بي سخطُكَ. لَكَ العُتبى حتَّى تَرضى، ولا حولَ ولا قوَّةَ إلَّا بِكَ. ))
فإما أن تصبر على مصيبة ألمت بك، فترقى عند الله، فهؤلاء أولو الضرر لم يجاهدوا، لكنهم ارتقوا بصبرهم، فالصبر يرقى بك، والعمل الإيجابي يرقى بك.
نعود إلى الجهاد، فجهاد النفس والهوى هو الجهاد الأكبر، هو الجهاد الذي ليس قبله جهاد، أنت حينما تضبط أمورك وفق منهج الله، حينما لا تسمح بمخالفة في بيتك ولا في عملك، ولا تسمح لجارحة من جوارحك أن ترتكب معصية، لا بلسانك، لا غيبة، ولا نميمة، ولا محاكاة، ولا بهتاناً، ولا افتراء، ولا سخرية، ولا بعينيك، فلا تملأ عينيك من الحرام، ولا بأذنيك، فلا تستمع إلى ما حرم الله من غناء، أو ما شاكل ذلك، ولا بيدك، فلا تحركها إلا وفق مرضاة الله، ولا برجلك، فلا تقودك رجلك إلا إلى طاعة الله، فأنت حينما توقِع حركتك اليومية وفق منهج الله فأنت في الجهاد الأكبر، جهاد النفس والهوى، إن أتقنت هذا الجهاد وكنت سيد نفسك، وكنت متمكناً من تصرفاتك، وكنت ضابطاً لشهواتك، وكنت متحكماً بجوارحك، وكنت دقيقاً في قبض مالك، في دخلك وفي صرفك، الآن تسأل ماذا أفعل بعد هذا، نقول لك هناك جهاد آخر.
المرحلة الثانية في الجهاد مرحلة الجهاد الدعوي:
هناك جهاد آخر متاح لكل مسلم، عبّر عنه النبي صلى الله عليه وسلم بحديث جامع مانع قصير فقال عليه الصلاة والسلام:
وعبرت عنه الآية الكريمة في سورة العصر:
﴿ إِلَّا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّٰلِحَٰتِ وَتَوَاصَوْاْ بِٱلْحَقِّ وَتَوَاصَوْاْ بِٱلصَّبْرِ(2)﴾
وأكدته آية أخرى فقال الله عز وجل:
﴿ قُلْ هَٰذِهِۦ سَبِيلِىٓ أَدْعُوٓاْ إِلَى ٱللَّهِ ۚ عَلَىٰ بَصِيرَةٍ أَنَا۠ وَمَنِ ٱتَّبَعَنِى ۖ وَسُبْحَٰنَ ٱللَّهِ وَمَآ أَنَا۠ مِنَ ٱلْمُشْرِكِينَ(108)﴾
مستحيل وألف ألف مستحيل أن يمتلئ إناؤك ثم لا يفيض على من حولك، إذا امتلأ الإناء فلا بد أن يفيض على من حولك، ما إن تستقر حقيقة الإيمان في قلب المؤمن حتى تعبر عن ذاتها بدعوة إلى الله، في حدود ما تعلم، ومع من تعرف.
﴿ وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ(214) وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ(215)﴾
الآية التالية تعطينا منهجاً في الترجيح:
أيها الإخوة، هذه الآية تعطينا منهجاً في الترجيح: ﴿لَّا يَسۡتَوِي﴾ أي لا يمكن أن يكون عند المؤمن إعجاب سلبي للإيمان، ما شاء الله، دين عظيم، دين الفطرة، دين الإسلام هو الدين الصحيح في الحياة، كلام، ماذا فعلت؟ ماذا قدمت لله عز وجل؟ لو أن الله سألك يوم القيامة ماذا قدمت من عمل صالح بين يدي يوم القيامة؟ ما فعل شيئاً، هذا الإعجاب السلبي، والانتماء الشكلي، والعواطف الإسلامية، والاتجاه الإسلامي، والفكر الإسلامي، والمشاعر الإسلامية، والاهتمامات الإسلامية من دون تقديم عمل ملموس لخدمة المسلمين في حل مشكلاتهم، في التخفيف عنهم، في تنفيس كُرَبِهم في الدنيا، في تعليم أبنائهم، لا يرقى بك الإيمان المبني على إعجاب سلبي، كما قلت بعد أن تجاهد نفسك وهواك، وتحقق الجهاد الأكبر تنتقل إلى جهاد آخر، هو الجهاد الدعوي، كيف أن الله عز وجل قال:
﴿ إِنَّ إِبْرَٰهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِّلَّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ ٱلْمُشْرِكِينَ(120)﴾
أنت في كم قلب؟ هل أنت في قلب أحد، هل أنت في قلب عدد من الناس؟ هم يحمدونك في السَّحَر، جزى الله عنا فلاناً كل خير، هل ساهمت في نقل الحق لإنسان؟ هل ساهمت في إقناع إنسان بهذا الدين العظيم؟ هل وصلت الناس بالله؟ هل دفعتهم إلى باب الله؟ هل حرضتهم على طاعة الله؟ هل بينت لهم عظمة هذا الدين؟ هل شجعتهم؟ هل كنت قدوة لهم؟ هل جلست معهم؟ هل آنستهم؟ هل زرتهم في بيوتهم؟ هل جمعتهم في بيت الله؟ هل دفعتهم إلى بيت من بيوت الله؟ ماذا فعلت؟ تنتقل بعد جهاد النفس والهوى، وكأنه الهيكل الأساسي للبناء إلى الجهاد الدعوي، ثم إذا أُتيح لك أن تنشر هذا الدين في الآفاق، إذا أُتيح للمسلمين أن يحملوا هذا الدين العظيم إلى بقية الشعوب والأمم كما فعل أسلافهم، فقد جعلهم الله
﴿ وَكَذَٰلِكَ جَعَلْنَٰكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِّتَكُونُواْ شُهَدَآءَ عَلَى ٱلنَّاسِ وَيَكُونَ ٱلرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا ۗ وَمَا جَعَلْنَا ٱلْقِبْلَةَ ٱلَّتِى كُنتَ عَلَيْهَآ إِلَّا لِنَعْلَمَ مَن يَتَّبِعُ ٱلرَّسُولَ مِمَّن يَنقَلِبُ عَلَىٰ عَقِبَيْهِ ۚ وَإِن كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلَّا عَلَى ٱلَّذِينَ هَدَى ٱللَّهُ ۗ وَمَا كَانَ ٱللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَٰنَكُمْ ۚ إِنَّ ٱللَّهَ بِٱلنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَّحِيمٌ(143)﴾
المرحلة الأخيرة الجهاد في سبيل الله:
إذا أُتيح لك ذلك، وعرضت الإسلام على قوم فدخلوا فيه فلك كل الأجر والثواب عند الله عز وجل.
(( لأن يَهْديَ اللَّهُ علَى يدَيكَ رجلًا ، خيرٌ لكَ ممَّا طلَعت علَيهِ الشَّمسُ وغرَبَت. ))
وإن أبَوا، ودفعوا الجزية فقد حمَوا أنفسهم وأموالهم وأهليهم، وإن أبَوا إلا قتال المؤمنين يقول الله عز وجل:
﴿ وَقَٰتِلُواْ فِى سَبِيلِ ٱللَّهِ ٱلَّذِينَ يُقَٰتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوٓاْ ۚ إِنَّ ٱللَّهَ لَا يُحِبُّ ٱلْمُعْتَدِينَ(190)﴾
تقاتل مَن حال بين الناس وبين التدين، تقاتل من حالَ بين الناس وبين أن يعبدوا الله، ونستبق الأمور الذين لا يستطيعون أن يعبدوا الله عز وجل في مكان، لأن قوة غاشمة تمنعهم من عبادة الله، هذا الذي يمنع حرية التدين هو الذي يُقاتَل، ليتيح للإنسان حقه الطبيعي في الحرية.
أيها الإخوة، هذه المفاهيم الثلاثة: مفهوم الجهاد، جهاد النفس والهوى، ومفهوم الجهاد الدعوي، وهو متاح لكل إنسان مسلم يرتاد بيوت الله عز وجل. وأنا أذكر لكم أن بعض الإخوة الكرام استطاع أن يقنع من حوله من أهله، ومن إخوته، وأصهاره، وأبناء عمه، هناك من أقنع زملاءه بالعمل، هناك من أقنع أصدقاءه القدامى، هذا جهاد كبير، جهاد الدعوة، جهاد الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، طبعاً بأسلوب عصري، بتلطُّف ما بعده تلطف، لأن الله عز وجل قال:
﴿ يَٰٓأَيُّهَا ٱلنَّبِىُّ جَٰهِدِ ٱلْكُفَّارَ وَٱلْمُنَٰفِقِينَ وَٱغْلُظْ عَلَيْهِمْ ۚ وَمَأْوَىٰهُمْ جَهَنَّمُ ۖ وَبِئْسَ ٱلْمَصِيرُ(73)﴾
هذا السلوك أين؟ في ساحة المعركة فقط، أما في الحياة المدنية:
﴿ وَلَا تَسْتَوِى ٱلْحَسَنَةُ وَلَا ٱلسَّيِّئَةُ ۚ ٱدْفَعْ بِٱلَّتِى هِىَ أَحْسَنُ فَإِذَا ٱلَّذِى بَيْنَكَ وَبَيْنَهُۥ عَدَٰوَةٌ كَأَنَّهُۥ وَلِىٌّ حَمِيمٌ (34)﴾
المؤمن القاعد لا يرقى إلى مستوى المؤمن المجاهد فالفرق كبير بينهما:
أنت يا محمد سيد الأنبياء والرسل، سيد ولد آدم على الإطلاق، أنت يا محمد أُوتيت القرآن، ومثله معه، أنت يا محمد أوتيت المعجزات، أوتيت البيان، أوتيت الفِطنة، أوتيت الرحمة، أوتيت اللطف، كل هذه الميزات أنت بالذات:
﴿ فَبِمَا رَحْمَةٍۢ مِّنَ ٱللَّهِ لِنتَ لَهُمْ ۖ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ ٱلْقَلْبِ لَٱنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ ۖ فَٱعْفُ عَنْهُمْ وَٱسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِى ٱلْأَمْرِ ۖ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى ٱللَّهِ ۚ إِنَّ ٱللَّهَ يُحِبُّ ٱلْمُتَوَكِّلِينَ(159)﴾
كيف لمَن ليس نبياً، ولا رسولاً، ولا معه معجزات، ولا معه وحي، ولا معه كتاب، وليس فصيحاً، وليس أصيلاً، وليس منتسباً، وهو فظٌّ غليظ القلب! اختلاط الأمور، اختلاط آيات أخلاق الجهاد مع آيات أخلاق الدعوة يسبب مشكلات كبيرة، المؤمن في دعوته إلى الله في غاية الرقة، كان عليه الصلاة والسلام يصلي، فسمع صوت طفل يبكي ينادي أمه ببكائه، فاختصر الصلاة، وقال: سمعت طفلاً ينادي أمه ببكائه، فأردت أن أرحمها وأرحمه، لطفٌ ما بعده لطف، تواضع ما بعده تواضع، رقة ما بعدها رقة، هذه أخلاق الدعوة، وأخلاق القتال شيء آخر، فلذلك الله عز وجل يدفعنا إلى الأعمال البطولية: ﴿لَّا يَسۡتَوِي ٱلۡقَٰعِدُونَ مِنَ ٱلۡمُؤۡمِنِينَ﴾ أي المؤمن لا يقدم شيئاً، لا يفكر أن يقدم شيئاً للمسلمين، يعيش الناس له ولا يعيش للناس، يعيش ليحقق مصالحه، يصلي، ويصوم، ويحج، ويزكي، ولكن لا يفكر بعمل صالح إطلاقاً، لا يخرج عن دائرة مصالحه، ولا عن دائرة اختصاصه وعمله، مثل هذا المؤمن قاعد، ولا يستوي مع مؤمن مجاهد، مثل هذا المؤمن لا يرقى إلى مستوى المؤمن المجاهد، فرق كبير، أين الثرى من الثريا؟
فضل الله عميم ولا ينسى الله أحداً من فضله:
قال تعالى: ﴿لَّا يَسۡتَوِي ٱلۡقَٰعِدُونَ مِنَ ٱلۡمُؤۡمِنِينَ غَيۡرُ أُوْلِي ٱلضَّرَرِ وَٱلۡمُجَٰهِدُونَ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ بِأَمۡوَٰلِهِمۡ وَأَنفُسِهِمۡۚ﴾ يمكن أن تجاهد نفسك وهواك، ويمكن أن تجاهد بمالك، ويمكن أن تجاهد بلسانك، ويمكن أن تجاهد بأن تضع حياتك في سبيل الله، هذه أنواع الجهاد، ثم يقول الله عز وجل: ﴿فَضَّلَ ٱللَّهُ ٱلۡمُجَٰهِدِينَ بِأَمۡوَٰلِهِمۡ وَأَنفُسِهِمۡ عَلَى ٱلۡقَٰعِدِينَ دَرَجَةًۚ﴾ وقد تكون هذه الدرجة أبعد ما بين السماء والأرض: ﴿فَضَّلَ ٱللَّهُ ٱلۡمُجَٰهِدِينَ بِأَمۡوَٰلِهِمۡ وَأَنفُسِهِمۡ عَلَى ٱلۡقَٰعِدِينَ دَرَجَةًۚ﴾ لكن كرم الله عميم ﴿وَكُلًّا وَعَدَ ٱللَّهُ ٱلۡحُسۡنَىٰۚ﴾ أي المؤمن المستقيم على أمر الله له عند الله شيء، فضلُ الله عميم، لا ينسى الله أحداً من فضله.
قال: ﴿وَكُلًّا وَعَدَ ٱللَّهُ ٱلۡحُسۡنَىٰۚ وَفَضَّلَ ٱللَّهُ ٱلۡمُجَٰهِدِينَ عَلَى ٱلۡقَٰعِدِينَ أَجۡرًا عَظِيمًا﴾ إذا قال الله عز وجل: ﴿أَجۡرًا عَظِيمًا﴾ فكم هذا العظيم؟ يعني أنت لو استمعت إلى طفل يقول أنا عندي مبلغ عظيم، كم تقدر هذا المبلغ من طفل؟ إذا استمعت إلى جهة تنطق باسم دولة غنية جداً، فقال: رصدنا لهذه الحرب مبلغاً عظيماً، كم؟ طفل قال: عظيم، وناطق باسم دولة غنية جداً تنوي أن تقوم بحرب ظالمة، قال: رصدنا مبلغاً عظيماً، بألوف المليارات هناك، هنا بعشرات الليرات فقط، كلمة عظيم، فإذا قال الله عز وجل: ﴿وَفَضَّلَ ٱللَّهُ ٱلۡمُجَٰهِدِينَ عَلَى ٱلۡقَٰعِدِينَ أَجۡرًا عَظِيمًا﴾ كم هذا العظيم؟ فلذلك لو يعلم الإنسان ماذا ينتظره بعد الموت ما أكل طعاماً عن شهوة، ولا شرب شراباً عن ظمأ، ولا دخل بيتاً يستريح فيه، أنت اسأل نفسك ماذا فعلت أنا؟ ماذا قدمت لهذه الأمة؟!!
ينبغي على الإنسان ألا يقعد مع القاعدين:
النبي عليه الصلاة والسلام أقسم الله بعمره قال له:
﴿ لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ(72)﴾
أقسم بعمره، أنت ماذا فعلت؟ هل ربيت أولادك؟ هل نصحت الناس في بضاعتهم أم غششتهم؟ هل ربيت أولادك أم سيّبتهم للطرقات والمسلسلات ولأصدقاء السوء؟ هل نصحت إخوانك؟ هل أتقنت عملك؟ هل دفعت من مالك؟ هل أعنت المتضررين؟ هل بكيت لبؤس البائسين؟ ماذا فعلت؟ ماذا قدمت؟ ﴿وَكُلًّا وَعَدَ ٱللَّهُ ٱلۡحُسۡنَىٰۚ وَفَضَّلَ ٱللَّهُ ٱلۡمُجَٰهِدِينَ عَلَى ٱلۡقَٰعِدِينَ أَجۡرًا عَظِيمًا﴾ لذلك ينبغي ألا نقعد مع القاعدين، قال المنافقون فيما بينهم:
﴿ وَلَوْ أَرَادُواْ ٱلْخُرُوجَ لَأَعَدُّواْ لَهُۥ عُدَّةً وَلَٰكِن كَرِهَ ٱللَّهُ ٱنۢبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ ٱقْعُدُواْ مَعَ ٱلْقَٰعِدِينَ (46)﴾
﴿ قَالُواْ يَٰمُوسَىٰٓ إِنَّا لَن نَّدْخُلَهَآ أَبَدًا مَّا دَامُواْ فِيهَا ۖ فَٱذْهَبْ أَنتَ وَرَبُّكَ فَقَٰتِلَآ إِنَّا هَٰهُنَا قَٰعِدُونَ(42)﴾
قعود الكسل، قعود الهمة المتدنيّة، قعود الضعف، قعود اليأس، قعود التشاؤم، هذا القعود.
الأجر العظيم درجات وكل درجة ما بين السماء والأرض:
لكن الله سبحانه وتعالى: ﴿وَفَضَّلَ ٱللَّهُ ٱلۡمُجَٰهِدِينَ عَلَى ٱلۡقَٰعِدِينَ أَجۡرًا عَظِيمًا﴾ لذلك يوم القيامة هناك أصحاب اليمين وهناك:
﴿ وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ(10) أُولَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ(11)﴾
لماذا أنت في الدنيا تبتغي أن تكون في أعلى مقام، ولا تقبل إلا أن تكون رأساً في كل موضوع؟ لماذا لا تقبل إلا أن تكون رأساً في دنياك، وترضى أن تكون في مؤخرة الركب في آخرتك، لماذا؟ لماذا ترضى من الآخرة كما يقول معظم الناس وراء الباب، وراء باب الجنة، ولا تقبل في الدنيا إلا أجمل شيء وأكمل شيء؟ هذا خلل كبير في تفكير الإنسان: ﴿وَقِيلَ ٱقْعُدُواْ مَعَ ٱلْقَٰعِدِينَ﴾ ثم يقول الله عز وجل:
﴿ دَرَجَٰتٍ مِّنۡهُ وَمَغۡفِرَةً وَرَحۡمَةً وَكَانَ ٱللَّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا(96)﴾
هذا الأجر العظيم درجات، وكل درجة ما بين السماء والأرض. مثلاً إنسان جالس في بيته متنعم يأكل ما لذ وطاب، يستمتع بكل شيء، فقط يوزع ألقاباً على الناس، يدلي بآرائه في كل موضوع، يوزع ألقاباً، يتهم إنسان، يقدس إنسان، ولا يقدم شيئاً، وإنسان غارق إلى رأسه في خدمة الخلق، هل يستوي هذا مع هذا؟
الطموح الحقيقي أن تكون طموحاً في الآخرة:
قال تعالى: ﴿دَرَجَٰتٍ مِّنۡهُ وَمَغۡفِرَةً وَرَحۡمَةً وَكَانَ ٱللَّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا﴾ أيها الإخوة الكرام، ليس الطموح أن تكون طموحاً في الدنيا، ولكن الطموح الحقيقي أن تكون طموحاً في الآخرة، العبرة أن تكون مع السابقين السابِقين لا أن تكون مع أصحاب اليمين الذين نجوا، إن كان الخِيار بين أن تكون مع أصحاب اليمين، وبين أن تكون مع الطرف الهالك ينبغي أن تكون مع أصحاب اليمين، أما إذا كان الخيار بين أن تكون مع أصحاب اليمين وبين أن تكون مع السابقين السابِقين ينبغي أن تكون مع السابقين، والأمر بين أيديكم، الله عز وجل الذي رفع شأن أصحاب رسول الله موجود، وهو إلهنا وربنا، والظروف متشابهة، وأبواب الخير لا تعد ولا تحصى، والأعمال الصالحة بين أيدي كل الناس، ولكن أزهد الناس مَن زهِد بعمل صالح.
إخواننا الكرام، سيدنا كعب بن مالك الذي تخلف عن الغزو في عهد النبي عليه الصلاة والسلام، فلما عاد النبي إلى المدينة وجلس ليستمع إلى أعذار المتخلفين، ثمانون إنساناً أبدَوا أعذارهم لرسول الله، والنبي قبِلَها، ولعله قبِلَها مجاملة لهم، فلما جاء كعب بن مالك، وقد تخلف عن الجهاد خاطب نفسه، وقال: والله لقد أوتيت جدلاً؛ أي أوتي قوة إقناع، القدرة على الإقناع هذا شيء يتميز به بعض الأشخاص، أوتي هذا الصحابي الجليل قدرة على الإقناع، فقال: والله لو أنني خرجت من سخطه، أي أدليت بسبب مقبول مُحكَم، ونجوت من سخطه ليوشكن الله أن يسخّطه علي، وحّد، رأى أنه لو كذب على هذا الرسول الكريم فإن الله يكشفه، وسوف يلقي بقلب النبي بُغضه، رأى أن يد الله تعمل وحدها، وحّد، قال: فأجمعت صدقه، أي أخذ قراراً أن يكون صادقاً، فلما وصل إلى النبي عليه الصلاة والسلام قال: يا رسول الله، والله حين تخلفت عنك ما كنت في حال أقوى مني أو أنشط، ولكنني تخلفت، أي لا عذر لي، فجاء الوحي بأن يقاطع النبي وأصحابه هذا الصحابي إلى إشعار آخر، لم يكلمه أحد، هم ثلاثة صدَقوا النبي.
(( صبَّحَ رسولُ اللَّهِ صلَّى اللَّهُ عليْهِ وسلَّمَ قادِمًا وَكانَ إذا قدِمَ من سفرٍ بدأَ بالمسجدِ فرَكعَ فيهِ رَكعتينِ ثمَّ جلسَ للنَّاسِ فلمَّا فعلَ ذلِكَ جاءَهُ المخلَّفونَ فطفِقوا يعتذِرونَ إليْهِ ويحلِفونَ لَهُ وَكانوا بضعًا وثمانينَ رجلًا فقبِلَ رسولُ اللَّهِ صلَّى اللَّهُ عليْهِ وسلَّمَ علانيتَهم وبايعَهم واستغفرَ لَهم ووَكلَ سرائرَهم إلى اللَّهِ عزَّ وجلَّ حتَّى جئتُ فلمَّا سلَّمتُ تبسَّمَ تبسُّمَ المضحَكِ ثمَّ قالَ تعالَ . فجئتُ حتَّى جلستُ بينَ يديْهِ فقالَ لي ما خلَّفَكَ ألم تَكنِ ابتَعتَ ظَهرَكَ فقلتُ: يا رسولَ اللَّهِ إنِّي واللَّهِ لو جلَستُ عندَ غيرِكَ من أَهلِ الدُّنيا لرأيتُ أنِّي سأخرُجُ من سَخطِهِ ولقد أُعطيتُ جدَلًا ولَكن واللَّهِ لقد علِمتُ لئن حدَّثتُكَ اليومَ حديثَ كذِبٍ لِتَرضى بِهِ عنِّي ليوشَكُ أنَّ اللَّهَ عزَّ وجلَّ يُسخِطُكَ عليَّ ولئن حدَّثتُكَ حديثَ صدقٍ تجدُ عليَّ فيهِ إنِّي لأرجو فيهِ عفوَ اللَّهِ، واللَّهِ ما كنتُ قطُّ أقوى ولا أيسَرَ منِّي حينَ تخلَّفتُ عنْكَ فقالَ رسولُ اللَّهِ صلَّى اللَّهُ عليْهِ وسلَّمَ: أمَّا هذا فقد صدقَ فَقُم حتَّى يقضيَ اللَّهُ فيكَ فقمتُ فمَضيتُ. ))
[ صحيح النسائي عن كعب بن مالك ]
قال تعالى:
﴿ وَعَلَى الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّىٰ إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَن لَّا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلَّا إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا ۚ إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (118)﴾
حال المسلمين اليوم في تقصيرهم بالطاعات:
أيها الإخوة، إذا قصّر الإنسان في الجهاد، في بذل روحه في سبيل الله فكيف إذا قصّر في الطاعات، هو في بيته آمن، مطمئن، في البيت خمسون معصية، ومعاصٍ بالبنات، ومعاصٍ بالزوجة، ومعاصٍ بالأولاد، ومعاصٍ بالبيع والشراء، ونحن مسلمون، نحن من أمة محمد، وأمة محمد مرحومة، مثلاً، ما هذا الكلام؟ هذا كلام غير مقبول، إذا كان الصحابي الجليل تخلف عن أن يبذل روحه في سبيل الله قوطع خمسين يوماً من قِبَل النبي وأصحابه، فكيف بهؤلاء المسلمين المقصرين! إذا كان بعض الأصحاب قد عيّنه النبي قائداً ثالثاً في معركة مؤتة، وهو عبد الله بن رواحة، فلما جاء دوره في القيادة طبعاً تسلم القيادة زيد، فأمسك الراية بيمينه، وقاتل بها حتى قُتِل، ثم تسلم الراية جعفر بن أبي طالب، فقاتل بها حتى قُتِل، فجاء دور عبد الله بن رواحة، وكان شاعراً، تردد عشر ثوان، قال:
يا نَفسُ إِلّا تُقتَلي تَموتي هَذا حِمامُ المَوتِ قَد صَليتِ
إِن تَفعَلي فِعلَهُما هُـديتِ وَإِن تَأَخَّرتِ فَقَـــد شَقــيتِ
عشر ثوانٍ، وإن توليتِ فقد شقيتِ، أو خمس عشرة ثانية، قال عليه الصلاة والسلام بما معناه: أخذ الراية أخوكم زيد فقاتل بها حتى قتل، وإني لأرى مقامه في الجنة، ثم أخذ الراية أخوكم جعفر فقاتل بها حتى قتل، وإني لأراه في الجنة يطير بجناحين، لأن العدو قطع كلتا يديه، ثم سكت النبي، سكت خمس عشرة ثانية، بمقدار تردد عبد الله، فقالوا: يا رسول الله ما فعل عبد الله؟ قال: ثم أخذ الراية أخوكم عبد الله، فقاتل بها حتى قتل، وإني لأرى في مقامه ازوراراً عن صاحبيه، نحن ترددنا لبذل نفسنا؟ مترددين في طاعة الله عز وجل، مترددين في كسب المال، يقول لك: لا تدقق، الدنيا كلها غلط، عندي أولاد مثلاً، مترددين بالسماح أن نمارس بعض الشهوات التي لا ترضي الله عز وجل، فوضع المسلمين في حال يُرثى له، إذا أردت أن تقول: لماذا تخلى الله عنا؟ هناك ألف سبب وسبب لتخلي الله عنا.
﴿ فَخَلَفَ مِنۢ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُواْ ٱلصَّلَوٰةَ وَٱتَّبَعُواْ ٱلشَّهَوَٰتِ ۖ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا(59)﴾
الملف مدقق