الحَمدُ لِلَّه ربِّ العالمينَ، والصّلاة والسّلام على سيِّدنا محمد الصّادقِ الوَعدِ الأمين، اللهُمَّ لا عِلمَ لنا إلا ما علّمْتَنا، إنّك أنت العليمُ الحكيمُ، اللهمَّ علِّمنا ما ينفعُنا، وانفعْنَا بما علَّمْتَنا، وزِدْنا عِلْماً، وأرِنَا الحقَّ حقًّا وارْزقْنَا اتِّباعه، وأرِنَا الباطِلَ باطلاً وارزُقْنا اجتِنابَه، واجعَلْنا ممَّن يسْتَمِعونَ القَولَ فيَتَّبِعون أحسنَه، وأَدْخِلْنَا برَحمَتِك في عبادِك الصَّالِحين.
الذي خلق الإنسان وأمدّه بكل شيء وسيَّره هو ذاته سيحاسبه:
أيها الإخوة الكرام، مع الدرس الواحد والأربعين من دروس سورة النساء، ومع الآية السابعة والثمانين، وهي قوله تعالى:
﴿ ٱللَّهُ لَآ إِلَٰهَ إِلَّا هُوَۚ لَيَجۡمَعَنَّكُمۡ إِلَىٰ يَوۡمِ ٱلۡقِيَٰمَةِ لَا رَيۡبَ فِيهِۗ وَمَنۡ أَصۡدَقُ مِنَ ٱللَّهِ حَدِيثًا(87)﴾
هناك معنىً دقيق مُستفاد من مقطعين في الآية: ﴿ٱللَّهُ لَآ إِلَٰهَ إِلَّا هُوَۚ﴾ أي هو الواحد، هو الفرد المتصرِّف، إليه يُرجَع الأمر كله، منهجه واحد، هُداه واحد، الحق واحد، الإله الذي خلق، والذي سيَّر هو نفسه سيسأل، وسيحاسِب، وسيعاقِب، قد تكون في بلد، وقوانينه تطولك بعقاب أليم، فتنتقل إلى بلد آخر، في البلد الآخر قوانينه لا تطولك، لكن المعنى المستفاد هنا في هذه الآية أن الذي خلق الإنسان، والذي أمدَّه بكل شيء، وأن الذي بيده كل شيء، وسيَّره هو ذاته سيحاسبه، لذلك ما من عاصٍ يعصي الله وهو يعصيه يرى العقاب فيعصيه، لكن الذي يعصي الله يتوهم أن الله لا يعاقبه، وأنه سيتفلت من عقابه، ولن يسبق أحد الله عز وجل:
﴿ وَلَا يَحْسَبَنَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ سَبَقُوٓاْ ۚ إِنَّهُمْ لَا يُعْجِزُونَ(59)﴾
معنى سبقوا أي تفلتوا من عقاب الله عز وجل.
التلازم بين الإيمان بالله والإيمان باليوم الآخر:
أيها الإخوة، الشيء الذي يلفت النظر هو أنه ما من ركنَين من أركان الإيمان تلازما في القرآن تلازماً كثيراً كتلازم الإيمان بالله واليوم الآخر، لا يكفي أن تؤمن بالله، خالق هذا الكون، رب هذا الكون، إله هذا الكون، لا بد أن تضيف إلى إيمانك بالله إيماناً باليوم الآخر، الإيمان باليوم الآخر هو الذي يضبط الناس، هو الذي يحجزهم عن معاصي الله، هو الذي يمنعهم أن يأكلوا المال الحرام، هو الذي يمنعهم أن يعتدوا على أعراض الناس، هو الذي يمنعهم أن يحتالوا، أن يغشوا، أن يكذبوا، أن ينتقموا، أن يظلموا، ما من إنسان تراه يعتدي على أموال الناس، أو على أعراضهم، أو يظلمهم، أو يكذب عليهم، أو يحتال عليهم، إلا وهو ضعيف الإيمان باليوم الآخر، لو أن الإيمان باليوم الآخر كان دقيقاً ومُحقَّقاً لما عصى إنسان ربه، إنك مع قوي في الدنيا إذا أيقنت أن علمه يطولك، وقدرته تطولك لا يمكن أن تعصيه، وربما لا تحبه، لكنك تحب نفسك، فلا يمكن أن تضع نفسك في مجال عقابه، هذا مع إنسان قوي في الدنيا فكيف مع خالق الأكوان؟ الرحمن الرحيم ذي الجلال والإكرام!
أيها الإخوة الأحباب: ﴿ٱللَّهُ لَآ إِلَٰهَ إِلَّا هُوَۚ﴾ هذه كلمة الإسلام الأولى، هذه كلمة التوحيد، لا رافع ولا خافض، ولا معطي ولا مانع، ولا معز ولا مذل، ولا شافي ولا قابض ولا باسط إلا الله، هذا الإله العظيم الذي بيده كل شيء له منهج، افعل ولا تفعل، وأنت مُحاسب يوم القيامة على منهج الله وحده، أيّ منهج أرضي لا تحاسَب عليه، تُحاسَب على منهج السماء، لذلك قال تعالى:
﴿ كُلُّ نَفْسٍۢ ذَآئِقَةُ ٱلْمَوْتِ ۗ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ ٱلْقِيَٰمَةِ ۖ فَمَن زُحْزِحَ عَنِ ٱلنَّارِ وَأُدْخِلَ ٱلْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ ۗ وَمَا ٱلْحَيَوٰةُ ٱلدُّنْيَآ إِلَّا مَتَٰعُ ٱلْغُرُورِ (185)﴾
الفوز أن تفوز بالجنة، والخسارة أن تخسر آخرتك.
كل مقاييس الأرض معطلة يوم القيامة ولا قيمة لها:
قال تعالى: ﴿ٱللَّهُ لَآ إِلَٰهَ إِلَّا هُوَۚ لَيَجۡمَعَنَّكُمۡ﴾ هو الذي منحكم الوجود، ومنحكم الإمداد، هداكم وأرشدكم، أعطاكم تشريعاً، هو نفسه سيسألكم عنهم، أحياناً في التعليم تدرس في مدرسة، وتقدم امتحاناً عامّاً، الذي أعطاك الدروس لن يسألك، ستسألك جهة أخرى، لا يمكن أن يكون هناك ازدواجية في المناهج، منهج واحد؛ منهج الخالق عنه تُحاسَب يوم القيامة.
﴿ إِنَّ إِلَيْنَا إِيَابَهُمْ(25) ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُمْ(26)﴾
﴿ٱللَّهُ لَآ إِلَٰهَ إِلَّا هُوَۚ لَيَجۡمَعَنَّكُمۡ إِلَىٰ يَوۡمِ ٱلۡقِيَٰمَةِ لَا رَيۡبَ فِيهِۗ﴾ وقد تعلمنا من القرآن الكريم أن تأخذ إخبار الله على أنك تراه، لأن الله سبحانه وتعالى أصدق القائلين:
﴿ أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ(1)﴾
﴿أَلَمْ تَرَ﴾ أي ينبغي أن تستقبل إخبار الله لك على أنك تراه، فلذلك: ﴿يَوۡمِ ٱلۡقِيَٰمَةِ لَا رَيۡبَ فِيهِۗ﴾ لا ريب في وقوعه، ولا ريب في أحقيته، ولا ريب في أنه في هذا اليوم يُكرَّم المحسِن ويُعاقَب المسيء، وأن كل مقاييس الأرض معطلة يوم القيامة، هناك ألقاب عالية اخترعها الإنسان، هذه يوم القيامة لا قيمة لها، هناك أشخاص أغنياء الغنى لا ينفعهم يوم القيامة، لو أنه يملك ما في الأرض جميعاً لافتدى بما يملك من سوء العذاب، هناك أقوياء جداً، قوتهم لا تمنعهم من عذاب الله يوم القيامة:
﴿ وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَٰدَىٰ كَمَا خَلَقْنَٰكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍۢ وَتَرَكْتُم مَّا خَوَّلْنَٰكُمْ وَرَآءَ ظُهُورِكُمْ ۖ وَمَا نَرَىٰ مَعَكُمْ شُفَعَآءَكُمُ ٱلَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَٰٓؤُاْ ۚ لَقَد تَّقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَضَلَّ عَنكُم مَّا كُنتُمْ تَزْعُمُونَ(94)﴾
﴿جِئْتُمُونَا فُرَٰدَىٰ﴾ لا يأتي القوي بجمعه يوم القيامة، لا يأتي القوي بمن حوله يوم القيامة، القوي يأتي فرداً ضعيفاً، الغني يأتي فقيراً.
أخطر شيء في حياة الإنسان رؤيته:
أيها الإخوة الكرام، إله واحد، خالق واحد، رب واحد، منهج واحد، يوم حساب واحد، هذه حقيقة هذه الآية: ﴿ٱللَّهُ لَآ إِلَٰهَ إِلَّا هُوَۚ لَيَجۡمَعَنَّكُمۡ إِلَىٰ يَوۡمِ ٱلۡقِيَٰمَةِ لَا رَيۡبَ فِيهِۗ﴾ أي إنسان أقدمَ على معصية لو أنه استحضر عظمة الله، واستحضر أنه سيوقَف يوم القيامة ليُسأل لمَ عصيت؟ لم أكلت أموال الناس بالباطل؟ لمَ غششتهم؟ لمَ احتلت عليهم؟ لمَ أفسدتهم؟
وقد ورد: "الإنسان بنيان الله، وملعون من هدم بنيان الله" ما من إنسان يستحضر يوم القيامة في كل حركاته وسكناته إلا استقام على أمر الله، والويل لمن لا يستحضر هذه العظمة يوم القيامة، لمن لا يستحضر عظمة يوم القيامة في الدنيا، المجرم لماذا يرتكب الجريمة؟ لأنه يغلب على ظنه أنه سيَسلم من العقاب، وأنه سيتمتع بهذا المال، ولو أنه استحضر الإعدام لَما أقدمَ على هذه الجريمة، والسارق، لماذا يُقدِم على السرقة؟ لأنه يغفل عن العقاب، يستحضر الجانب الذي يتوهمه صحيحاً، أنه سيستمتع بهذا المال، ولو استحضر أنه يُلقى القبض عليه ويُودَع في السجن لما سرق، لذلك ضعف رؤية، وأخطر شيء في حياة الإنسان رؤيته، ماذا ترى أنت؟ مِن الناس مَن يرى كسب المال الحرام غنيمة، وإيقاع الأذى بالناس غنيمة، والاحتيال على الناس مغنم كبير، ما من خطأ يقع من الإنسان إلا لخطأ في رؤيته، لو رأى الحق حقاً فاتبعه، ورأى الباطل باطلاً فاجتنبه لمَا شقي لا في الدنيا ولا في الآخرة، قضية الرؤية، مرة أقول: لا تحب أحداً أحِب نفسك. إن كنت مفرطاً في حب ذاتك فلا بد أن تستقيم على أمر الله، لأن الخير كله في طاعة الله، ولأن الشر كله في معصية الله، ومستحيل وألف ألف مستحيل أن تطيعه وتخسر، أو أن تعصيه وتربح، صحِّح رؤيتك، الناس يعيشون لحظتهم ولا يعيشون مستقبلهم، يريد مالاً وفيراً، بيتاً كبيراً، زوجةً رائعةً، مركبة فارهة، يعيش لحظته، فإذا جاء يوم الحساب نـدم أشد الندم.
البطولة أن ترى مستقبلك قبل أن تصل إليه:
إذا جاء يوم الحساب يقول:
﴿ يَقُولُ يَٰلَيْتَنِى قَدَّمْتُ لِحَيَاتِى(24) فَيَوْمَئِذٍۢ لَّا يُعَذِّبُ عَذَابَهُۥٓ أَحَدٌ(25) وَلَا يُوثِقُ وَثَاقَهُۥٓ أَحَدٌ(26)﴾
كل بطولتك أن ترى المستقبل قبل أن تصل إليه، أن ترى العقاب قبل أن تناله، أن ترى الثواب قبل أن تأخذه، أن تعيش المستقبل.
﴿ٱللَّهُ لَآ إِلَٰهَ إِلَّا هُوَۚ﴾ ألا ترون ما يجري في العالم؟ ألا ترون ما يجري من انتهاك لحقوق الإنسان؟ من قتل وتدمير؟ من إذلال وتقتير؟ من إفقار وتجهيل؟ هؤلاء الذين يفعلون هذا ليس لهم رؤية صحيحة أبداً، يرون الفوز في السيطرة، يرون القوة في الغطرسة، أما حينما ترى أن لهؤلاء العباد إلهاً سوف يحاسبك عن كل قطرة دم أُرِيقت، وعن كل دمعة هطلت من عين بائس، وعن كل طفل، لو رأى الطاغية الذي يفعل هذه الأفعال ما ينتظره من عقاب لصُعِق ومات.
﴿ وَلَا تَحْسَبَنَّ ٱللَّهَ غَٰفِلًا عَمَّا يَعْمَلُ ٱلظَّٰلِمُونَ ۚ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍۢ تَشْخَصُ فِيهِ ٱلْأَبْصَٰرُ(42)﴾
﴿ لَا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ فِى ٱلْبِلَٰدِ(196) مَتَٰعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْوَىٰهُمْ جَهَنَّمُ ۚ وَبِئْسَ ٱلْمِهَادُ(197)﴾
كلما ازداد علمك بالله صحت رؤيتك وصحّ عملك فسعدت في الدنيا والآخرة:
قضية رؤية أيها الإخوة، أنت حينما ترى الحق حقاً تتبعه، وحينما ترى الباطل باطلاً تجتنبه، قضية رؤية فقط، إن صحت الرؤية صح العمل، وإن فسدت الرؤية فسد العمل، سيدنا يوسف هذا النبي الكريم حينما دعته امرأة العزيز ماذا رأى حتى قال: معاذ الله، إني أخاف الله رب العالمين؟ مليون إنسان يوضع في مثل ظرفه فيرى الإقبال على هذه المعصية مغنماً كبيراً، ماذا رأى؟ رؤية! صحِّح رؤيتك، كلما ازداد علمك تصح رؤيتك، لماذا يأتي إنسان يأكل فاكهة دون أن تُغسَل ولا يشعر بشيء، أما الطبيب الذي يرى الأمراض الفتاكة والأمراض الإنتانية، وعدوى الأمراض والجراثيم، وما تفتك بالإنسان، لا يأكلها قبل أن يغسلها، عِلمُ الطبيب أكسبه رؤية، فغسل كل شيء وعقمه قبل أن يأكله، والجاهل بأمور الجراثيم والعدوى والأمراض جهْله جعل رؤيته منطمسة، فأكل فاكهة دون أن يغسلها، فمرض! مشكلة الرؤية، قد يأتي إنسان يجهل القانون فيرتكب حماقة تدمره، يـأتي إنسان متمكن من القانون فيمشي وفق القوانين فيسلم في دنياه، قضية رؤية، قد يرى الإنسان أنه أنجب هذا الولد وانتهى الأمر، ولن يكون عبئاً عليه، أما حينما يكتشف بعد حين أنه خسر ولده وأن ولده غارق في الموبقات والمعاصي والآثام، يندم ندماً لا حدود له، أما إذا رأى أنه لا يسعد إلا بسعادة ابنه، ويشقى بشقائه، هذه رؤية، كلما ازداد علمك بالله صحت رؤيتك، وإن صحّت رؤيتك صحَّ عملك، وإن صحَّ عملك سعدت في الدنيا والآخرة، وكلما ضعف علمك فسدت رؤيتك، وإن فسدت رؤيتك فسد عملك، وإن فسد عملك شقيت في الدنيا والآخرة.
الله وحده يحاسب الناس يوم القيامة:
قال تعالى: ﴿ٱللَّهُ لَآ إِلَٰهَ إِلَّا هُوَۚ﴾ ليس في الكون إلا الله، وليس في الأرض إلا الله، وليس من متصرف إلا الله، وليس من مُعطٍ إلا الله، وليس من مانع إلا الله، أما هذه القِوى التي تتبجح وتهدد وتتغطرس هي بيد الله، هي في قبضة الله، لا ترَ الوحش الكاسر ولكن إلى من يملك زمامه، قال تعالى:
﴿ وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ ۚ وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (123)﴾
﴿ مِن دُونِهِ ۖ فَكِيدُونِي جَمِيعًا ثُمَّ لَا تُنظِرُونِ (55) إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُم ۚ مَّا مِن دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا ۚ إِنَّ رَبِّي عَلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ (56)﴾
أيها الإخوة، أبرز ما في هذه الآية أن الذي خلق، وأمَدَّ، وسيَّر، ووضع لك منهجاً هو وحده سوف يحاسبك يوم القيامة، ليس من إله آخر يحاسبك حساباً آخر، ليس من إله آخر يسوي مشكلات الناس تسوية أخرى، إله واحد، خالق، مُرَبٍّ، مُشرِّع، واضع المنهج، يعلم وسيحاسب وسيعاقب، هذا معنى الآية: ﴿ٱللَّهُ لَآ إِلَٰهَ إِلَّا هُوَۚ لَيَجۡمَعَنَّكُمۡ إِلَىٰ يَوۡمِ ٱلۡقِيَٰمَةِ لَا رَيۡبَ فِيهِۗ وَمَنۡ أَصۡدَقُ مِنَ ٱللَّهِ حَدِيثًا﴾ .
الله عز وجل إن أخبر عن شيء فينبغي أن يؤخذ وكأنه وقع:
طبعاً كلكم يعلم إن درستم علم البلاغة أن الكلام خبرٌ وإنشاء، فالإنشاء كالأمر، والنهي، والتمني، والترجي، والاستفهام، والحض، هذا كلام، لو قلت لأحدهم: كم الساعة؟ هل يمكن أن تقول له: كذاب؟ الكلام الذي لا يحتمل الكذب والصدق يُقال له كلام إنشائي، أي كلام لم يقع بعد، أسألك: ما اسمك؟ كم الساعة؟ السؤال، والاستفهام، والنداء، والتمني، والترجي، والحض، هذه أساليب الإنشاء، لأنها لا تحتمل الصدق والكذب، أما هناك نوع آخر من الجمل هي الجمل الخبرية، مثال: سافر أخي، ربما يكون قد سافر، وقد يكون لم يسافر، هذا الكلام الخبري يحتمل الصدق والكذب، لكن إذا كانت الآية خبرية الصيغة مثل هذه الآية: ﴿ٱللَّهُ لَآ إِلَٰهَ إِلَّا هُوَۚ لَيَجۡمَعَنَّكُمۡ إِلَىٰ يَوۡمِ ٱلۡقِيَٰمَةِ لَا رَيۡبَ فِيهِۗ﴾ هو كلام خبري بحسب علم البلاغة يحتمل الصدق والكذب، لكن لأنه كلام الله عز وجل: ﴿وَمَنۡ أَصۡدَقُ مِنَ ٱللَّهِ حَدِيثًا﴾ يجب أن تأخذه وكأنك تراه، يجب أن تأخذه وكأنه وقع، ألم يقل الله عز وجل:
﴿ أَتَىٰٓ أَمْرُ ٱللَّهِ فَلَا تَسْتَعْجِلُوهُ ۚ سُبْحَٰنَهُۥ وَتَعَٰلَىٰ عَمَّا يُشْرِكُونَ(1)﴾
معنى هذا أنه لم يأتِ بعد، يجب أن تأخذ أمر الله الذي لم يأت وكأنه أتى.
﴿ إِذْ قَالَ ٱللَّهُ يَٰعِيسَى ٱبْنَ مَرْيَمَ ءَأَنتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ ٱتَّخِذُونِى وَأُمِّىَ إِلَٰهَيْنِ مِن دُونِ ٱللَّهِ ۖ قَالَ سُبْحَٰنَكَ مَا يَكُونُ لِىٓ أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِى بِحَقٍّ ۚ إِن كُنتُ قُلْتُهُۥ فَقَدْ عَلِمْتَهُۥ ۚ تَعْلَمُ مَا فِى نَفْسِى وَلَآ أَعْلَمُ مَا فِى نَفْسِكَ ۚ إِنَّكَ أَنتَ عَلَّٰمُ ٱلْغُيُوبِ(116)﴾
إلى آخر الآية، هذا القول سيكون يوم القيامة، لأن الله عز وجل إذا أخبر عن شيء فينبغي أن يُؤخَذ وكأنه وقع.
لولا الإيمان باليوم الآخر لكان بطن الأرض خيرٌ لنا من ظهرها:
قال تعالى: ﴿ٱللَّهُ لَآ إِلَٰهَ إِلَّا هُوَۚ لَيَجۡمَعَنَّكُمۡ إِلَىٰ يَوۡمِ ٱلۡقِيَٰمَةِ لَا رَيۡبَ فِيهِۗ﴾ لا ترتاح النفوس أيها الإخوة إلا بالإيمان باليوم الآخر، والله الذي لا إله هو إن ما يجري في العالم اليوم لولا أن هناك يوماً آخر، يوماً تُسوَّى فيه الحسابات، يوماً يُعاقَب فيه الظلَمة، يوماً يكافَأ فيه المحسنون، يوماً يؤخذ للمظلوم من الظالم، وللضعيف من القوي، لكان بطن الأرض خيراً من ظهرها، لولا الإيمان باليوم الآخر، لولا الإيمان أن هؤلاء الذين يتجاوزون الحدود ويُذِلّون الشعوب، لولا أننا نؤمن أنهم خاسرون يوم القيامة، لكان بطن الأرض خيراً لنا من ظهرها.
﴿ ٱللَّهُ لَآ إِلَٰهَ إِلَّا هُوَۚ لَيَجۡمَعَنَّكُمۡ إِلَىٰ يَوۡمِ ٱلۡقِيَٰمَةِ لَا رَيۡبَ فِيهِۗ وَمَنۡ أَصۡدَقُ مِنَ ٱللَّهِ حَدِيثًا(87) فَمَا لَكُمۡ فِي ٱلۡمُنَٰفِقِينَ فِئَتَيۡنِ وَٱللَّهُ أَرۡكَسَهُم بِمَا كَسَبُوٓاْۚ أَتُرِيدُونَ أَن تَهۡدُواْ مَنۡ أَضَلَّ ٱللَّهُۖ وَمَن يُضۡلِلِ ٱللَّهُ فَلَن تَجِدَ لَهُۥ سَبِيلًا(88)﴾
﴿فَمَا لَكُمۡ﴾ استفهام تعجبي، لماذا أنتم هكذا؟ ما لك لا تدرس؟ ما لك لا تستجيب؟ ما لك لا تأخذ بالأسباب؟ ما لكم لا: استفهام تعجبي، ما لك لا تدرس؟ أنا أعجب من عدم دراستك، الأمور كلها مُيسَّرة، أنت في ثانوية جيدة، ولك أب ينفق عليك، ويتمنى أن تكون من الأوائل، والكتب بين يديك، والأساتذة متفوقون، والمدرسة رائعة جداً، ما لك لا تدرس؟ ﴿فَمَا لَكُمۡ﴾ استفهام تعجبي.
﴿فَمَا لَكُمۡ فِي ٱلۡمُنَٰفِقِينَ فِئَتَيۡنِ﴾ لماذا تعددت رؤيتك للمنافقين؟ لماذا وقعتم في حيرة من موقفكم منهم؟ لماذا ذهب فريق إلى رأي وفريق آخر إلى رأي آخر؟ لمَ لمْ توحدوا موقفكم منهم؟ لمَ لمْ تكن لكم رؤية واحدة تجاه المنافقين؟ ﴿فَمَا لَكُمۡ فِي ٱلۡمُنَٰفِقِينَ فِئَتَيۡنِ﴾
المنافق مكانه في الدرك الأسفل من النار لأن إيمانه شكلي:
ثم يقول الله عز وجل: ﴿وَٱللَّهُ أَرۡكَسَهُم بِمَا كَسَبُوٓاْۚ﴾ أركسهم بمعنى أعادهم لما كانوا عليه، كانوا كفاراً فأسلموا، ونافقوا، وقد أعادهم الله كفاراً، بل إن عذابهم يوم القيامة أشد من عذاب الكفار، لقول الله عز وجل:
﴿ إِنَّ ٱلْمُنَٰفِقِينَ فِى ٱلدَّرْكِ ٱلْأَسْفَلِ مِنَ ٱلنَّارِ وَلَن تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرًا(145)﴾
أركسهم بالعدل، أركسهم بما ظلموا، بما كسبوا، هذا الذي يقطف ثمار المؤمنين وهو ليس مؤمناً، ويقطف ثمار التفلُّت من منهج الله، وهي مكاسب الكفار كما يتوهمون، هذا الذي يجمع بين مكاسب المؤمنين وهو ليس مؤمناً، وبين ما يتوهمه الكافر أنه مكاسب وهو كذلك، هذا مكانه في الدرك الأسفل من النار.
﴿فَمَا لَكُمۡ فِي ٱلۡمُنَٰفِقِينَ فِئَتَيۡنِ وَٱللَّهُ أَرۡكَسَهُم بِمَا كَسَبُوٓاْۚ﴾ أي أعادهم إلى سيرتهم الأولى، هم أرادوا بالنفاق أن يغنموا لا أن يوحدوا، أحياناً الإنسان يرى مصلحته أن يكون مع أهل الإيمان، قد يرى مصلحته التجارية فقط، وقد يرى مصلحته الأسرية فقط، فكم من إنسان أسلم ليتزوج فتاة رائعة! هي مسلمة، ولا ينعقد العقد إلا إذا أسلم، فالمنافق بالتعبير المعاصر وصولي، يبرر الوسائل غير الشريفة لأهداف غير شريفة، المنافق همه المصلحة، همه الهوى والدنيا، فإذا آمن إيماناً شكلياً فلمصلحة راجحة تتحقق عنده.
الإضلال إذا عُزي إلى الله فهو الإضلال الجزائي المبني على ضلال اختياري:
قال تعالى: ﴿فَمَا لَكُمۡ فِي ٱلۡمُنَٰفِقِينَ فِئَتَيۡنِ وَٱللَّهُ أَرۡكَسَهُم بِمَا كَسَبُوٓاْۚ﴾ أي أن نفاقهم مكشوف عند الله عز وجل:
﴿ إِنَّ ٱلْمُنَٰفِقِينَ يُخَٰدِعُونَ ٱللَّهَ وَهُوَ خَٰدِعُهُمْ وَإِذَا قَامُوٓاْ إِلَى ٱلصَّلَوٰةِ قَامُواْ كُسَالَىٰ يُرَآءُونَ ٱلنَّاسَ وَلَا يَذْكُرُونَ ٱللَّهَ إِلَّا قَلِيلًا(142)﴾
﴿ وَإِذَا لَقُواْ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ قَالُوٓاْ ءَامَنَّا وَإِذَا خَلَوْاْ إِلَىٰ شَيَٰطِينِهِمْ قَالُوٓاْ إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِءُونَ(14) ٱللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِى طُغْيَٰنِهِمْ يَعْمَهُونَ(15)﴾
﴿أَتُرِيدُونَ أَن تَهۡدُواْ مَنۡ أَضَلَّ ٱللَّهُۖ﴾ أقول دائماً أيها الإخوة: إن الضلال في بعض الآيات إذا عُزِي إلى الله عز وجل فهو الإضلال الجزائي المبني على ضلال اختياري، كقوله تعالى:
﴿ وَإِذْ قَالَ مُوسَىٰ لِقَوْمِهِۦ يَٰقَوْمِ لِمَ تُؤْذُونَنِى وَقَد تَّعْلَمُونَ أَنِّى رَسُولُ ٱللَّهِ إِلَيْكُمْ ۖ فَلَمَّا زَاغُوٓاْ أَزَاغَ ٱللَّهُ قُلُوبَهُمْ ۚ وَٱللَّهُ لَا يَهْدِى ٱلْقَوْمَ ٱلْفَٰسِقِينَ(5)﴾
الإنسان حينما يختار طريقاً آخر كي يصل إلى الله فلن يصل إليه:
الإضلال إذا عُزِي إلى الله في بعض الآيات قال العلماء: إنه الإضلال الجزائي، الذي يُبنى على ضلال اختياري، تماماً كما لو أن طالباً في الجامعة لم يدرس، ولم يداوم، ولم يشترِ الكتب، ولم يحضِّر، ولم يذاكر، ولم يؤدِّ الامتحان، وجاءه إنذارٌ تلو الإنذار كي يعود إلى الجامعة، فيداوم، ويدرس، وهو يرفض أشد الرفض، ثم صدر قرار بِتَرقين قيده، أليس هذا القرار تجسيداً لرغبة الطالب؟ هذا الإضلال الجزائي المبني على ضلال اختياري، المنافق أراد الدنيا، لكن أراد الدنيا من خلال اندساسه في صفوف المؤمنين، أراد الدنيا من خلال المؤمنين، هو منافق إذاً ﴿أَتُرِيدُونَ أَن تَهۡدُواْ مَنۡ أَضَلَّ ٱللَّهُۖ﴾ قد يُفهَم من الآية أنه أضل نفسه عن الله عز وجل، أراد الدنيا، أراد أهل الدنيا، أراد مال الدنيا، أراد متع الدنيا، أراد شهوات الدنيا، أعرض عن الدين، وعن بيوت الله، وعن تلاوة كتاب الله، وعن طلب العلم، وعن الاستقامة والعمل الصالح، أراد الدنيا ﴿أَتُرِيدُونَ أَن تَهۡدُواْ مَنۡ أَضَلَّ ٱللَّهُۖ وَمَن يُضۡلِلِ ٱللَّهُ فَلَن تَجِدَ لَهُۥ سَبِيلًا﴾ أي أن الله عز وجل رسم طريقاً إليه، لا يمكن أن تصل إليه إلا من خلال هذا الطريق، كيف أن الدولة اليوم رسمت طريقاً للطبيب، لا بد من شهادة ثانوية بمجموع عالٍ، لا بد من سنة في العلوم، وسنة في التشريح، وسنة في الفيزيولوجيا، وسنة في علم الأمراض، وسنة في الأدوية، هذا هو الطريق، لا يُسمَح لإنسان كائناً من كان أن يزاول مهنة الطب إلا من خلال هذا الطريق، فالذي أراد أن يكون طبيباً من خلال قراءة بعض المجلات الطبية يُودَع في السجن، لا يمكن أن تفتح عيادة وتقول: أنا طبيب، وثروتك في الطب قراءة بعض المجلات الطبية، فلذلك الله عز وجل رسم طريقاً إليه، لا يمكن أن تصل إليه إلا عن هذا الطريق، وهذا معنى قوله تعالى: ﴿أَتُرِيدُونَ أَن تَهۡدُواْ مَنۡ أَضَلَّ ٱللَّهُۖ وَمَن يُضۡلِلِ ٱللَّهُ فَلَن تَجِدَ لَهُۥ سَبِيلًا﴾ أي أن الإنسان حينما يختار طريقاً آخر كي يصل إلى الله فلن يصل إليه، أيها الإخوة الكرام نتابع هذه الآيات في درس قادم إن شاء الله.
الملف مدقق