وضع داكن
19-04-2025
Logo
الدرس : 35 - سورة النساء - تفسير الآيات 71-76 نماذج بشرية أشار إليها القرآن الكريم
   
 
 
 بسـم اللـه الرحمـن الرحيـم  
 
الحَمدُ لِلَّه ربِّ العالمينَ، والصّلاة والسّلام على سيِّدنا محمد الصّادقِ الوَعدِ الأمين، اللهُمَّ لا عِلمَ لنا إلا ما علّمْتَنا، إنّك أنت العليمُ الحكيمُ، اللهمَّ علِّمنا ما ينفعُنا، وانفعْنَا بما علَّمْتَنا، وزِدْنا عِلْماً، وأرِنَا الحقَّ حقًّا وارْزقْنَا اتِّباعه، وأرِنَا الباطِلَ باطلاً وارزُقْنا اجتِنابَه، واجعَلْنا ممَّن يسْتَمِعونَ القَولَ فيَتَّبِعون أحسنَه، وأَدْخِلْنَا برَحمَتِك في عبادِك الصَّالِحين.

الإنسان خليفة الله في أرضه:


 أيها الإخوة الكرام، مع الدرس الخامس والثلاثين من دروس سورة النساء، ومع الآية الواحدة والسبعين، والتي تليها: 

﴿ يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ خُذُواْ حِذۡرَكُمۡ فَٱنفِرُواْ ثُبَاتٍ أَوِ ٱنفِرُواْ جَمِيعًا(71)﴾

[ سورة النساء ]

 الله جل جلاله جعلنا خلفاء في الأرض، قال تعالى: 

﴿  وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَٰٓئِكَةِ إِنِّى جَاعِلٌ فِى ٱلْأَرْضِ خَلِيفَةً ۖ قَالُوٓاْ أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ ٱلدِّمَآءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ ۖ قَالَ إِنِّىٓ أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ(30)﴾

[  سورة البقرة ]

 أوكلَ إلى المؤمن عمارة الأرض، وأوكل إلى المؤمن إحقاق الحق، ومحاربة الباطل، وإقامة العدل، هذا معنى أن الإنسان خليفة الله في أرضه. 
﴿إِنِّى جَاعِلٌ فِى ٱلْأَرْضِ خَلِيفَةً﴾ من لوازم خليفة الله في أرضه أن يكون حذِراً لأن الإنسان مُخيَّر، وقد أُودِعت فيه الشهوات، فبعض الناس سوف يتحركون وفق منهج الله، وهم أهل الحق، وبعض الناس سوف يتحركون من دون منهج الله عز وجل وفق أهوائهم وشهواتهم، ولا بد من أن تنشأ بين الفريقَين معركة من آدم إلى يوم القيامة، معركة الحق والباطل معركة أزلية أبدية، وكل الصراعات التي تسمعون عنها الآن تندرج تحت هذه المعركة معركة الحق بالباطل.

نموذج من النماذج البشرية التي أشار إليها القرآن الكريم:


 المؤمن ينبغي أن يأخذ حِذره، وأن يكتشف الخطر قبل أن يظهر، وأن يكتشف العداوة قبل أن تُعلَن، وينبغي أن يكتشف عدوه قبل أن يكون أمامه صارخاً، وهذا معنى قول الله عز وجل: ﴿يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ خُذُواْ حِذۡرَكُمۡ﴾ ثم يقول الله عز وجل: ﴿فَٱنفِرُواْ ثُبَاتٍ أَوِ ٱنفِرُواْ جَمِيعًا﴾ معنى كلمة ثُبَات جمع ثُبَة، وهي الطائفة الصغيرة، فلو أن مناوشة من جهة محدودة كافرة ينبغي أن يُرسَل إليها سرية محدودة، أما إذا كان الخطر داهماً ينبغي أن ننفر جميعاً، كل حالة تُعالَج بمقتضاها، وكل عدوان يُعالَج بما يكافئه، فإذا كان العدوان محدوداً سيّرنا له قوة محدودة تغطي عدوانه، أما إذا كان العدوان شمولياً فلا بد أن ننفر جميعاً ﴿يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ خُذُواْ حِذۡرَكُمۡ فَٱنفِرُواْ ثُبَاتٍ أَوِ ٱنفِرُواْ جَمِيعًا﴾ 
الآن هناك نموذج بشري، وهذا في كل مكان وزمان، والحقيقة الصارخة أن في القرآن الكريم نماذج بشرية، وإذا قرأ الإنسان في هذه الآيات يجد نموذجاً يعيشه الناس، قال تعالى: 

﴿ وَإِنَّ مِنكُمۡ لَمَن لَّيُبَطِّئَنَّ فَإِنۡ أَصَٰبَتۡكُم مُّصِيبَةٌ قَالَ قَدۡ أَنۡعَمَ ٱللَّهُ عَلَيَّ إِذۡ لَمۡ أَكُن مَّعَهُمۡ شَهِيدًا (72)﴾

[ سورة النساء ]

 كما قال الله عز وجل: 

﴿ يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ ٱنفِرُواْ فِى سَبِيلِ ٱللَّهِ ٱثَّاقَلْتُمْ إِلَى ٱلْأَرْضِ ۚ أَرَضِيتُم بِٱلْحَيَوٰةِ ٱلدُّنْيَا مِنَ ٱلْآخِرَةِ ۚ فَمَا مَتَٰعُ ٱلْحَيَوٰةِ ٱلدُّنْيَا فِى ٱلْآخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ(38)﴾

[  سورة التوبة ]

 مِلْتم إلى الراحة والقعود، هذا النموذج أميل إلى الراحة، لا يبذل شيئاً، يتابع كل الأخبار، ويصنف كل الناس، ويوزع التهم والاستحسانات على كل الناس، أما هو فلا يتحرك، مؤمن سكوني طوبائي، طوبى لفلان، طوبى لفلان، أما هو فلا يفعل شيئاً، هذا النموذج نموذج الإنسان الذي لا يعمل، ليس هنا في موضع المدح، بل هو في موضع الذم ﴿وَإِنَّ مِنكُمۡ لَمَن لَّيُبَطِّئَنَّ﴾ أي:

﴿ سَيَقُولُ لَكَ ٱلْمُخَلَّفُونَ مِنَ ٱلْأَعْرَابِ شَغَلَتْنَآ أَمْوَٰلُنَا وَأَهْلُونَا فَٱسْتَغْفِرْ لَنَا ۚ يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِم مَّا لَيْسَ فِى قُلُوبِهِمْ ۚ قُلْ فَمَن يَمْلِكُ لَكُم مِّنَ ٱللَّهِ شَيْـًٔا إِنْ أَرَادَ بِكُمْ ضَرًّا أَوْ أَرَادَ بِكُمْ نَفْعًۢا ۚ بَلْ كَانَ ٱللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًۢا(11)﴾

[ سورة الفتح ]


لا يستوي أصحاب النار وأصحاب الجنة:


 يقول الله عز وجل: ﴿فَإِنۡ أَصَٰبَتۡكُم مُّصِيبَةٌ قَالَ قَدۡ أَنۡعَمَ ٱللَّهُ عَلَيَّ إِذۡ لَمۡ أَكُن مَّعَهُمۡ شَهِيدًا﴾ حينما يتخلف عن رسول الله، وعن أصحابه الكرام، وينجو من مصيبة ألمّت بالمؤمنين يرى نجاته من هذه المصيبة نعمة كبيرة، وحينما يُمتحَن المؤمن يبتلَى بماله، أو بنفسه، أو بأولاده، أو بحريته قد يبتلى، أو بدخله وقف موقفاً صحيحاً فخسر موقفه، أو خسر من يعينه، فلما يكون الإنسان مبدئياً قد يدفع الثمن باهظاً، فهذا الإنسان النموذج إذا تخلف عن رسول الله وأصحابه، وأصاب النبي وأصحابه مصيبة يرى نجاته من هذه المصيبة نعمة، وأية نعمة! نعمة كبيرة، لكن لا يستوي عند الله من نجا بجلده من مصيبة، لأنه تخاذل، وقعد عن نصرة الحق، لا يستوي مع مَن بذل وقته وجهده وماله وحياته ودفع حياته ثمناً لجهاده، فلا يعقل أن يستوي هذا مع هذا، لا يستوي أصحاب النار وأصحاب الجنة. 

﴿  أَفَمَن كَانَ مُؤْمِناً كَمَن كَانَ فَاسِقاً لَّا يَسْتَوُونَ(18)﴾

[ سورة التوبة ]

﴿ أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ(35) مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ(36)﴾

[ سورة القلم ]

﴿ أَفَمَن وَعَدْنَٰهُ وَعْدًا حَسَنًا فَهُوَ لَٰقِيهِ كَمَن مَّتَّعْنَٰهُ مَتَٰعَ ٱلْحَيَوٰةِ ٱلدُّنْيَا ثُمَّ هُوَ يَوْمَ ٱلْقِيَٰمَةِ مِنَ ٱلْمُحْضَرِينَ(61)﴾

[ سورة القصص ]


من سنة الله في خلقه أن يُبتلى المؤمن:


 ﴿وَإِنَّ مِنكُمۡ لَمَن لَّيُبَطِّئَنَّ فَإِنۡ أَصَٰبَتۡكُم مُّصِيبَةٌ قَالَ قَدۡ أَنۡعَمَ ٱللَّهُ عَلَيَّ إِذۡ لَمۡ أَكُن مَّعَهُمۡ شَهِيدًا﴾ لو أن إنساناً في بلاد عديدة لزِم درس علم، ولزم عملاً صالحاً، ودعوة، فابتلاه الله بشيء من ابتلائه الذي يرفع الله به درجات المؤمن، الذي لم يعمل، ولم يبذل، ولم يُبتلى يشمت به، ألم أقل لك: هذا عمل فيه مخاطر؟ كيف يرقى الإنسان إلى الله عز وجل حينما يسأل الله سلامته دائماً؟ حتى إنه ورد في بعض الآثار أن هذا الذي ينجو من كل مصيبة، ولا يقع في ورطة سمي "العفريت النِّفريت"، بل إن بعض الصحابيات الجليلات رأت زوجها لم يُبتلَ أبداً، فذهبت تشكوه لرسول الله، وفي الطريق وقع فتعثر، فقالت: ارجع لقد حُلَّت المشكلة، الإمام الشافعي سئل: أندعو الله بالابتلاء أم بالتمكين؟ قال: لن تُمكَّن قبل أن تبتلى! من سنة الله في خلقه أن يبتلى المؤمن. الخطاب موجه للمؤمنين: 

﴿ وَلَنَبْلُوَنَّكُم بِشَىْءٍۢ مِّنَ ٱلْخَوْفِ وَٱلْجُوعِ وَنَقْصٍۢ مِّنَ ٱلْأَمْوَٰلِ وَٱلْأَنفُسِ وَٱلثَّمَرَٰتِ ۗ وَبَشِّرِ ٱلصَّٰبِرِينَ(155) ٱلَّذِينَ إِذَآ أَصَٰبَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُوٓاْ إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّآ إِلَيْهِ رَٰجِعُونَ(156) أُوْلَٰٓئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَٰتٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ ۖ وَأُوْلَٰٓئِكَ هُمُ ٱلْمُهْتَدُونَ(157)﴾

[ سورة البقرة ]

 إخوتنا الكرام، تماماً الوضع كطبيب جاءته حالة مرضية، ورم خبيث منتشر في كل الأمعاء والأحشاء، هذا المريض سأل الطبيب: ماذا آكل؟ قال له: كُلْ كُلَّ شيء، لا شيء عليك محظور إطلاقاً، أما المريض الثاني فمعه التهاب حاد في المعدة، والحمية وحدها كافية لشفائه، فالطبيب يشدد على الثاني تشديداً غير معقول، لأنه قابل للشفاء، فحينما تكون في العناية المشددة، حينما تُحاسَب حساباً دقيقاً، حينما يسوق الله لك لكل غفلة، أو كل سهوة، أو كل انحراف، أو كل خطأ مصيبة يردعك بها، فاشكر الله عز وجل، لأنك في العناية المشددة، أما حينما يكون المرض عُضالاً، ولا شفاء منه، ولا أمل في الخلاص منه تنطبق على المريض الثاني أن الطبيب يقول له: كُل ما شئت. 

يسوق الله للمؤمن من المصائب ما يرقى به وينقيه من الآثام على عكس الكافر:


 قال تعالى: 

﴿ فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّىٰ إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُم بَغْتَةً فَإِذَا هُم مُّبْلِسُونَ (44)﴾

[ سورة الأنعام  ]

 لذلك قد يتساءل الإنسان: إن هؤلاء الأقوياء غارقون في كل أنواع المعاصي والموبقات؛ الزنى، الشذوذ، زنى المحارم، الخمور، المخدرات، الإباحية، والظلم، والعدوان، ومع ذلك فهم أقوياء، وبلادهم جميلة جداً، وأموالهم غزيرة، وقوتهم كبيرة، وهم يُملون إرادتهم على كل الشعوب، ما من آية في القرآن الكريم تنطبق على هؤلاء كقوله تعالى: ﴿فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّىٰ إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُم بَغْتَةً فَإِذَا هُم مُّبْلِسُونَ﴾

﴿ إِنَّمَا مَثَلُ ٱلْحَيَوٰةِ ٱلدُّنْيَا كَمَآءٍ أَنزَلْنَٰهُ مِنَ ٱلسَّمَآءِ فَٱخْتَلَطَ بِهِۦ نَبَاتُ ٱلْأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ ٱلنَّاسُ وَٱلْأَنْعَٰمُ حَتَّىٰٓ إِذَآ أَخَذَتِ ٱلْأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَٱزَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَآ أَنَّهُمْ قَٰدِرُونَ عَلَيْهَآ أَتَىٰهَآ أَمْرُنَا لَيْلًا أَوْ نَهَارًا فَجَعَلْنَٰهَا حَصِيدًا كَأَن لَّمْ تَغْنَ بِٱلْأَمْسِ ۚ كَذَٰلِكَ نُفَصِّلُ ٱلْآيَٰتِ لِقَوْمٍۢ يَتَفَكَّرُونَ(24)﴾

[ سورة يونس ]

 ظن أهلها أنهم يرصدون أي مكان في العالم بالأقمار الصناعية، وبإمكانهم أن يقصفوا أي مكان في العالم.

العبرة من يضحك آخراً:


 قال تعالى: ﴿وَظَنَّ أَهْلُهَآ أَنَّهُمْ قَٰدِرُونَ عَلَيْهَآ أَتَىٰهَآ أَمْرُنَا لَيْلًا أَوْ نَهَارًا﴾ وقد يكون هذا الأمر عاماً لكل القارات، فجاء ليلاً أو نهاراً، ليلاً على أناس ونهاراً على أناس ﴿فَجَعَلْنَٰهَا حَصِيدًا كَأَن لَّمْ تَغْنَ بِٱلْأَمْسِ﴾ هذا نموذج لمؤمن مبتلى، لأنه قابل للشفاء، مبتلى لأن الله سبحانه وتعالى وضعه في العناية المشددة، يسوق له من المصائب ما يرقى به، ما ينقّيه من الآثام.

(( عن جابر رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل على أم السائب أو أم المسيب فقال: ما لك يا أم السائب أو يا أم المسيب تزفزفين؟ فقالت: الحمى لا بارك الله فيها فقال: لا تسبي الحمى فإنها تذهب خطايا بني آدم كما يذهب الكير خبث الحديد. ))

[ صحيح مسلم  ]

 فهذا النموذج نموذج يحب مصالحه، ولا يأبه لمبادئه، يعتني بمصالحه وشهواته، ولا يعبأ بقيمه ولا بمبادئه، فإذا نجا من مصيبة وقع بها المسلمون بسبب دعوتهم وجهادهم وغَيرتهم وحبهم للعمل الصالح يشمت بهم، ويرى نجاته من هذه المصيبة نعمة كبيرة أنعم الله بها عليه. 
﴿وَإِنَّ مِنكُمۡ لَمَن لَّيُبَطِّئَنَّ فَإِنۡ أَصَٰبَتۡكُم مُّصِيبَةٌ قَالَ قَدۡ أَنۡعَمَ ٱللَّهُ عَلَيَّ إِذۡ لَمۡ أَكُن مَّعَهُمۡ شَهِيدًا﴾ هو نجا من هذه المصيبة لكنه لم ينجُ من عذاب النار، نجا من هذا الامتحان لكنه لم ينجُ من هلاك الآخرة، نجا من هذا الفقر، الذي ينافق أحياناً لا يفتقر، والذي يمالئ لا يفتقر، والذي يضحي بمبادئه من أجل دنياه ربما لا يفتقر، فهذا الذي لا يفتقر، وينجو من بعض المتاعب التي يتحملها المؤمنون الصادقون يظن نفسه متفوقاً عليهم، ويظن أنه قد فاز في حين أنهم قد وقعوا، هو الذي وقع وهم الذين فازوا، فالعبرة من يضحك آخراً، هناك من يضحك أولاً، من ضحك أولاً بكى كثيراً، ومن ضحك آخراً ضحك كثيراً.

هناك نموذج تحركه مصالحه فهو لا يعبد إله المؤمنين ولا إله الكفار:


 قال تعالى: 

﴿ وَإِنَّ مِنكُمۡ لَمَن لَّيُبَطِّئَنَّ فَإِنۡ أَصَٰبَتۡكُم مُّصِيبَةٌ قَالَ قَدۡ أَنۡعَمَ ٱللَّهُ عَلَيَّ إِذۡ لَمۡ أَكُن مَّعَهُمۡ شَهِيدًا (72) وَلَئِنۡ أَصَٰبَكُمۡ فَضۡلٌ مِّنَ ٱللَّهِ لَيَقُولَنَّ كَأَن لَّمۡ تَكُنۢ بَيۡنَكُمۡ وَبَيۡنَهُۥ مَوَدَّةٌ يَٰلَيۡتَنِي كُنتُ مَعَهُمۡ فَأَفُوزَ فَوۡزًا عَظِيمًا(73)﴾

[ سورة النساء ]

 انتصرتم في المعركة، وحققتم العزة للمؤمنين، ونلتم مغانم كثيرة، يسيل لعابه لا على النصر بالحق بل على المغانم. 
﴿وَلَئِنۡ أَصَٰبَكُمۡ فَضۡلٌ مِّنَ ٱللَّهِ لَيَقُولَنَّ كَأَن لَّمۡ تَكُنۢ بَيۡنَكُمۡ وَبَيۡنَهُۥ مَوَدَّةٌ يَٰلَيۡتَنِي كُنتُ مَعَهُمۡ فَأَفُوزَ فَوۡزًا عَظِيمًا﴾ أرأيت إلى هذا النموذج تحركه مصالحه، فإن كانت مصالحه مع المؤمنين ادّعى أنه مؤمن، لا من أجل الإيمان، بل من أجل مصالحه، وإذا كانت مصالحه مع الكفار انضم إليهم، فهو لا يعبد إله المؤمنين، ولا إله الكفار، ولكن يعبد ذاته، يعبد شهواته ومصالحه، يقول الله عز وجل: 

﴿ أفَرَءَيْتَ مَنِ ٱتَّخَذَ إِلَٰهَهُۥ هَوَىٰهُ وَأَضَلَّهُ ٱللَّهُ عَلَىٰ عِلْمٍۢ وَخَتَمَ عَلَىٰ سَمْعِهِۦ وَقَلْبِهِۦ وَجَعَلَ عَلَىٰ بَصَرِهِۦ غِشَٰوَةً فَمَن يَهْدِيهِ مِنۢ بَعْدِ ٱللَّهِ ۚ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ(23)﴾

[ سورة الجاثية ]

 أقصد بإله الكفار شهواتهم ومصالحهم ﴿وَلَئِنۡ أَصَٰبَكُمۡ فَضۡلٌ مِّنَ ٱللَّهِ لَيَقُولَنَّ كَأَن لَّمۡ تَكُنۢ بَيۡنَكُمۡ وَبَيۡنَهُۥ مَوَدَّةٌ يَٰلَيۡتَنِي كُنتُ مَعَهُمۡ فَأَفُوزَ فَوۡزًا عَظِيمًا﴾ .

البطولة أن تكون جريئاً في مواجهة الحقيقة:


 الله عز وجل يعطينا نماذج بشرية في هذا القرآن، لذلك بعض الصالحين قرأ القرآن ليرى نفسه أين هو؟ في أي نموذج، قرأ نماذج من الكفار فقال: لا، أنا لست من هؤلاء، قرأ نماذج من المؤمنين الصادقين أيضاً فقال أيضاً: لا، أنا لست من هؤلاء، قرأ من الذي يخطئ ويصيب وله عمل صالح وآخر سيئ فقال: أنا من هؤلاء، فأنت حينما تقرأ القرآن ينبغي أن تعلم أنت مع من؟ أي نموذج ينطبق عليك أي نموذج بشري أنت تنتمي إليه؟ فليكن الإنسان مع نفسه صادقاً وواقعياً وجريئاً في الحكم على نفسه، فهو بالعادة يمالئ نفسه، ويحابيها، ويصفها بصفات ليست فيها، لكن البطولة أن تكون جريئاً في مواجهة الحقيقة. يقول الله عز وجل: 

﴿ فَلۡيُقَٰتِلۡ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ ٱلَّذِينَ يَشۡرُونَ ٱلۡحَيَوٰةَ ٱلدُّنۡيَا بِٱلۡأٓخِرَةِۚ وَمَن يُقَٰتِلۡ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ فَيُقۡتَلۡ أَوۡ يَغۡلِبۡ فَسَوۡفَ نُؤۡتِيهِ أَجۡرًا عَظِيمًا(74)﴾

[ سورة النساء ]

 ما دامت الآخرة ليست داخلة في حساباتنا فمشكلتنا كبيرة جداً، وما دامت الدنيا هي كل شيء، هي مبلغ علمنا، ومنتهى آمالنا، ومحط رحالنا، وميزاننا فلنا مشكلة كبيرة، لأن الدنيا تحتاج إلى مال، وقد تنزلق إلى كسب المال غير المشروع، والدنيا تحتاج إلى شهوات، وقد تقع في إرواء شهوات لا ترضي الله عز وجل، لكن حينما تؤمن بالآخرة تضحي بالدنيا من أجل الآخرة، وقد يشاء الله أن يهبك الدنيا والآخرة. 

﴿  ِ وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ(46)﴾

[ سورة الرحمن ]

 بعضهم قال: جنة في الدنيا، وجنة في الآخرة، لكن جنة الدنيا للمؤمن هي جنة القرب، لقول بعض العلماء العاملين: في الدنيا جنة من لم يدخلها لم يدخل جنة الآخرة، إنها جنة القرب، ويؤكد هذا المعنى أن الله سبحانه وتعالى يقول: 

﴿ وَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ عَرَّفَهَا لَهُمْ(6)﴾

[ سورة محمد ]

 ذاقوا طعمها في الدنيا، إنما هي جنة القرب.

المؤمن باع نفسه في سبيل الله وهو راض عن أفعال الله:


 قال تعالى: ﴿فَلۡيُقَٰتِلۡ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ ٱلَّذِينَ يَشۡرُونَ ٱلۡحَيَوٰةَ ٱلدُّنۡيَا بِٱلۡأٓخِرَةِۚ﴾ باع الدنيا من أجل الآخرة، ﴿يَشۡرُونَ﴾ بمعنى يبيعون، شرى بمعنى باع واشترى، بدليل قول الله عز وجل: 

﴿ وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍۢ دَرَٰهِمَ مَعْدُودَةٍۢ وَكَانُواْ فِيهِ مِنَ ٱلزَّٰهِدِينَ(20)﴾

[ سورة يوسف ]

 أي باعوه، والله عز وجل يقول: 

﴿ إِنَّ ٱللَّهَ ٱشْتَرَىٰ مِنَ ٱلْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَٰلَهُم بِأَنَّ لَهُمُ ٱلْجَنَّةَ ۚ يُقَٰتِلُونَ فِى سَبِيلِ ٱللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ ۖ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِى ٱلتَّوْرَىٰةِ وَٱلْإِنجِيلِ وَٱلْقُرْءَانِ ۚ وَمَنْ أَوْفَىٰ بِعَهْدِهِۦ مِنَ ٱللَّهِ ۚ فَٱسْتَبْشِرُواْ بِبَيْعِكُمُ ٱلَّذِى بَايَعْتُم بِهِۦ ۚ وَذَٰلِكَ هُوَ ٱلْفَوْزُ ٱلْعَظِيمُ(111)﴾

[ سورة التوبة ]

 أنت حينما تبيع بيتاً، وتقبض ثمنه بالتمام والكمال عداً ونقداً، والثمن مرتفع بعد أن بِعت البيت، هل لك أن تسأل الذي اشتراه: لماذا دمجت الغرفتين ببعضهما؟ هو حر، اشترى منك البيت، ونقدك ثمنه، ثم يفعل بالبيت ما يشاء، هذا المعنى يريحنا، أنت حينما تبيع نفسك في سبيل الله، والله سبحانه وتعالى اشتراها منك، إذاً ينبغي أن تصبر، قد يجعل دخلك غير محدود، وقد يجعل دخلك محدوداً، قد يهبك إناثاً فقط أو يهبك ذكوراً، أو يهبك إناثاً وذكوراً، أو يجعلك عقيماً، أنت بعت نفسك في سبيل الله، قد تكون غنياً أو فقيراً، قد تكون في مكانة مرموقة أو في مكانة قليلة، أنت بعت، فالمؤمن باع نفسه في سبيل الله، وهو راض عن أفعال الله، وراض عنه في السراء والضراء، في إقبال الدنيا وإدبارها، بايعنا رسول الله في المنشط والمكره. 

﴿ مِّنَ ٱلْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُواْ مَا عَٰهَدُواْ ٱللَّهَ عَلَيْهِ ۖ فَمِنْهُم مَّن قَضَىٰ نَحْبَهُۥ وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ ۖ وَمَا بَدَّلُواْ تَبْدِيلًا(23)﴾

[ سورة الأحزاب ]


آيات قرآنية تبين أهمية الفرض الجهادي في الإسلام:


 قال تعالى: ﴿فَلۡيُقَٰتِلۡ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ ٱلَّذِينَ يَشۡرُونَ ٱلۡحَيَوٰةَ ٱلدُّنۡيَا بِٱلۡأٓخِرَةِۚ وَمَن يُقَٰتِلۡ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ فَيُقۡتَلۡ أَوۡ يَغۡلِبۡ فَسَوۡفَ نُؤۡتِيهِ أَجۡرًا عَظِيمًا﴾ هذه الفريضة التي غفل عنها المسلمون من أربعمئة عام يدفعون الآن ثمن هذا التفريط باهظاً، وما ترون وما تسمعون هو نتيجة تعطيل هذا الفرض الجهادي في الإسلام ﴿فَلۡيُقَٰتِلۡ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ ٱلَّذِينَ يَشۡرُونَ ٱلۡحَيَوٰةَ ٱلدُّنۡيَا بِٱلۡأٓخِرَةِۚ وَمَن يُقَٰتِلۡ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ فَيُقۡتَلۡ أَوۡ يَغۡلِبۡ فَسَوۡفَ نُؤۡتِيهِ أَجۡرًا عَظِيمًا﴾  

﴿ قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَآ إِلَّآ إِحْدَى ٱلْحُسْنَيَيْنِ ۖ وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَن يُصِيبَكُمُ ٱللَّهُ بِعَذَابٍۢ مِّنْ عِندِهِۦٓ أَوْ بِأَيْدِينَا ۖ فَتَرَبَّصُوٓاْ إِنَّا مَعَكُم مُّتَرَبِّصُونَ(52)﴾

[ سورة التوبة ]

﴿  قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ إِلَى جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمِهَادُ(12)﴾

[ سورة آل عمران ]

﴿  إِنَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ يُنفِقُونَ أَمْوَٰلَهُمْ لِيَصُدُّواْ عَن سَبِيلِ ٱللَّهِ ۚ فَسَيُنفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ ۗ وَٱلَّذِينَ كَفَرُوٓاْ إِلَىٰ جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ(36)﴾

[ سورة الأنفال ]

﴿ إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ فِى ٱلْحَيَوٰةِ ٱلدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ ٱلْأَشْهَٰدُ(51)﴾

[ سورة غافر ]

﴿ وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ رُسُلًا إِلَىٰ قَوْمِهِمْ فَجَاءُوهُم بِالْبَيِّنَاتِ فَانتَقَمْنَا مِنَ الَّذِينَ أَجْرَمُوا ۖ وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ (47)﴾

[ سورة الروم  ]

﴿ وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ ٱلْغَٰلِبُونَ(173)﴾

[ سورة الصافات ]

﴿ ٱلَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ فَإِن كَانَ لَكُمْ فَتْحٌ مِّنَ ٱللَّهِ قَالُوٓاْ أَلَمْ نَكُن مَّعَكُمْ وَإِن كَانَ لِلْكَٰفِرِينَ نَصِيبٌ قَالُوٓاْ أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ وَنَمْنَعْكُم مِّنَ ٱلْمُؤْمِنِينَ ۚ فَٱللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ ٱلْقِيَٰمَةِ ۗ وَلَن يَجْعَلَ ٱللَّهُ لِلْكَٰفِرِينَ عَلَى ٱلْمُؤْمِنِينَ سَبِيلً ا(141)﴾

[ سورة النساء ]

 هذه وعود الله للمؤمنين، وزوال الكون أهون على الله من أن لا يحقق وعوده للمؤمنين.

لا يحل مشكلات المسلمين اليوم إلا أن نعدَّ لأعدائنا ما أمرنا الله به:


 قال تعالى: ﴿فَلۡيُقَٰتِلۡ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ ٱلَّذِينَ يَشۡرُونَ ٱلۡحَيَوٰةَ ٱلدُّنۡيَا بِٱلۡأٓخِرَةِۚ﴾ لا تقل: لا يوجد تكافؤ، الله عز وجل ما كلفك إلا أن تعد للأعداء ما تستطيع، كلّفك بأن تعد القوة المتاحة لك، مع التفوق المذهل الذي عند الأعداء، قال أحدهم قبل يومين: ماذا نفعل بهذه الطائرات العملاقة، وهذه البوارج الحربية، وهذه الصواريخ العابرة للقارات، ماذا نفعل بها، وقد أصبح العدو شخصاً لا دولة؟ واحد أقلق مجتمعاً بأكمله عشرين يوماً، جاءت الطائرات، وجاء الاستنفار دون جدوى، فالله عز وجل قال: 

﴿ هُوَ ٱلَّذِىٓ أَخْرَجَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْ أَهْلِ ٱلْكِتَٰبِ مِن دِيَٰرِهِمْ لِأَوَّلِ ٱلْحَشْرِ ۚ مَا ظَنَنتُمْ أَن يَخْرُجُواْ ۖ وَظَنُّوٓاْ أَنَّهُم مَّانِعَتُهُمْ حُصُونُهُم مِّنَ ٱللَّهِ فَأَتَىٰهُمُ ٱللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُواْ ۖ وَقَذَفَ فِى قُلُوبِهِمُ ٱلرُّعْبَ ۚ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُم بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِى ٱلْمُؤْمِنِينَ فَٱعْتَبِرُواْ يَٰٓأُوْلِى ٱلْأَبْصَٰرِ(2)﴾

[ سورة الحشر ]

 مئتا ألف طالب عُطِّلت مدارسهم عشرين يوماً بسبب إنسان واحد أقلقَ مضاجعهم، فلا تقل: ليس هناك مساواة بين الكيانين، عليك أن تعد لهم القوة المتاحة، ولا يحل مشكلات المسلمين اليوم إلا أن نعدَّ لهم ما أمرنا الله به. 

﴿ وَأَعِدُّوا لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِن دُونِهِمْ لَا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ ۚ وَمَا تُنفِقُوا مِن شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنتُمْ لَا تُظْلَمُونَ (60)﴾

[  سورة الأنفال ]

﴿فَلۡيُقَٰتِلۡ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ ٱلَّذِينَ يَشۡرُونَ ٱلۡحَيَوٰةَ ٱلدُّنۡيَا بِٱلۡأٓخِرَةِۚ﴾ يشرون، أي يبيعون الحياة الدنيا بالآخرة، الحياة الدنيا سماها الله دنيا، والآخرة هي الحياة الحقيقية، ليس في الآخرة همٌّ، ولا حزن، ولا شيخوخة، ولا كبر، ولا زوجة سيئة، ولا ابن عاق، ولا قلق نفسي، ولا خوف من الفقر، ولا خوف من مرض عضال، 

﴿ لَهُم مَّا يَشَآءُونَ فِيهَا وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ(35)﴾

[ سورة ق ]

قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: قال الله تعالى:

(( أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر. ))

[ متفق عليه ]


ما من ركنين من أركان الإيمان جاءا متلازمين في القرآن كالإيمان بالله واليوم الآخر:


 أنا أؤكد لكم أن قلة من المؤمنين يدخلون الآخرة في حساباتهم اليومية، أما معظم الناس يعيشون الدنيا فقط، ومقاييسهم كمقاييس الطرف الآخر، مقاييس مادية، هؤلاء المؤمنون المسلمون رواد المساجد، أما الآخرة كشيء مهم جداً في حياتهم، كعامل خطير في حساباتهم، هذا هم بعيدون عنه، لذلك ما من ركنين من أركان الإيمان جاءا متلازمَين في القرآن كالإيمان بالله واليوم الآخر. أنت دائماً حاوِل حينما توازن بين شخصين وبين بلدين، بين أُمّتين أن تضيف الآخرة إلى الدنيا، أتيت بمثل صارخ: مطعم متواضع جداً في أطراف المدينة، ودخله محدود جداً، لكن صاحب هذا المطعم إنسان مؤمن، وعقيدته سليمة ومستقيم، وقائم بعباداته، ومطعم خمس نجوم، دخله اليومي مليون، ويبيع الخمور، ويأتي بالمغنين، طبعاً ليس هناك من أساس للموازنة بين هذين المطعمَين، لكن المطعم الثاني، لأنه يبني دخله على الحرام، وعلى بيع المحرمات وانتهاك الحرمات، أضف الآخرة إلى كل طرف من هو الرابح؟ الأول، لولا أن هناك يوماً آخر تُسوّى فيه الحسابات لحُقّ للمؤمنين أن ييئسوا، لكن هناك يوم آخر تسوى فيه الحسابات. 

﴿ وَلَا تَحْسَبَنَّ ٱللَّهَ غَٰفِلًا عَمَّا يَعْمَلُ ٱلظَّٰلِمُونَ ۚ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍۢ تَشْخَصُ فِيهِ ٱلْأَبْصَٰرُ(42)﴾

[  سورة إبراهيم ]

﴿  فَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ(47)﴾

[ سورة إبراهيم ]

﴿ لَا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ فِى ٱلْبِلَٰدِ(196) مَتَٰعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْوَىٰهُمْ جَهَنَّمُ ۚ وَبِئْسَ ٱلْمِهَادُ(197)﴾

[ سورة آل عمران ]


أنواع الجهاد:


 أيها الإخوة: ﴿فَلۡيُقَٰتِلۡ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ ٱلَّذِينَ يَشۡرُونَ ٱلۡحَيَوٰةَ ٱلدُّنۡيَا بِٱلۡأٓخِرَةِۚ وَمَن يُقَٰتِلۡ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ فَيُقۡتَلۡ أَوۡ يَغۡلِبۡ فَسَوۡفَ نُؤۡتِيهِ أَجۡرًا عَظِيمًا﴾ طبعاً عندنا جهاد النفس والهوى، هذا هو الأصل، المهزوم أمام نفسه لا يستطيع أن يواجه نملة، وبعد جهاد النفس والهوى يأتي الجهاد الدعوي، إذا كان متاحاً للمسلم أن يدخل في الجهاد القتالي فلا بأس، لكن هناك جهادان مقدمان على الجهاد القتالي؛ جهاد النفس والهوى، ثم الجهاد الدعوي. 

﴿ وَمَا لَكُمۡ لَا تُقَٰتِلُونَ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ وَٱلۡمُسۡتَضۡعَفِينَ مِنَ ٱلرِّجَالِ وَٱلنِّسَآءِ وَٱلۡوِلۡدَٰنِ ٱلَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَآ أَخۡرِجۡنَا مِنۡ هَٰذِهِ ٱلۡقَرۡيَةِ ٱلظَّالِمِ أَهۡلُهَا وَٱجۡعَل لَّنَا مِن لَّدُنكَ وَلِيًّا وَٱجۡعَل لَّنَا مِن لَّدُنكَ نَصِيرًا(75)﴾

[ سورة النساء  ]

 أحد مشروعية الجهاد أن تقيم الأجواء المناسبة لمن حولك كي يعبدوا الله عز وجل، فإذا حال حائل بين الناس وبين عبادة الله ينبغي أن نجاهد فيه، كما يفعلون في الأراضي المحتلة، يهدمون المساجد، يقتلون الناس وهم يصلون، كما فعلوا من قبل. 

المؤمنون يعبدون الله سبحانه وتعالى والكافرون يعبدون الطواغيت:


 قال تعالى: 

﴿ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ يُقَٰتِلُونَ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِۖ وَٱلَّذِينَ كَفَرُواْ يُقَٰتِلُونَ فِي سَبِيلِ ٱلطَّٰغُوتِ فَقَٰتِلُوٓاْ أَوۡلِيَآءَ ٱلشَّيۡطَٰنِۖ إِنَّ كَيۡدَ ٱلشَّيۡطَٰنِ كَانَ ضَعِيفًا(76)﴾

[ سورة النساء ]

 هذا هو القتال الذي جزاؤه الجنة. 
﴿وَٱلَّذِينَ كَفَرُواْ يُقَٰتِلُونَ فِي سَبِيلِ ٱلطَّٰغُوتِ﴾ في سبيل المصالح، الطاغوت هنا من الطغيان، والطاغوت جمع: طاغي، والطاغي هو الظالم، لكن الطاغي يفترق عن الظالم بأنك كلما أطعته يزداد ظلماً، لذلك المؤمنون يعبدون الله سبحانه وتعالى، والكافرون يعبدون الطواغيت. 
﴿ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ يُقَٰتِلُونَ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِۖ وَٱلَّذِينَ كَفَرُواْ يُقَٰتِلُونَ فِي سَبِيلِ ٱلطَّٰغُوتِ فَقَٰتِلُوٓاْ أَوۡلِيَآءَ ٱلشَّيۡطَٰنِۖ إِنَّ كَيۡدَ ٱلشَّيۡطَٰنِ كَانَ ضَعِيفًا﴾ إذا كان الله معك فمن عليك، وإذا كان الله عليك فمن معك ﴿إِنَّ كَيۡدَ ٱلشَّيۡطَٰنِ كَانَ ضَعِيفًا﴾ لأنك إذا كنت مع الله فمعك القوة المطلقة، إذا كنت مع الله كان الله معك، كن لي كما أريد أكن لك كما تريد.

فضل الجهاد في سبيل الله:


 أيها الإخوة، أرى أن كل مؤمن عليه أن يبدأ بمجاهدة نفسه حتى ينتصر على شهواته ومصالحه غير المشروعة، فإن انتصر على نفسه ربما أعانه الله على أن ينتصر على عدوه، لكن بين الجهادين؛ بين جهاد النفس والهوى وجهاد الأعداء الجهاد الدعوي، فإذا أمكنك أن تنشر هذا الدين بالطرق السِّلمية فهذا شيء جيد جداً، لأن الله عز وجل يقول –دققوا في هذه الآية-: 

﴿ فَلَا تُطِعِ ٱلْكَٰفِرِينَ وَجَٰهِدْهُم بِهِۦ جِهَادًا كَبِيرًا (52)﴾

[ سورة الفرقان ]

 حينما تبين هذا الكتاب الكريم، تبين أحكامه، وتبين أوامر الله عز وجل، وتبين ما عند الله من خير إذا أطعته، وما عنده من عقاب إذا عصيته، هذا أيضاً جهاد كبير بنص القرآن الكريم. فلنبدأ بجهاد النفس والهوى، ثم لِنُثنِّ بالجهاد الدعوي: 

﴿ وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِّمَّن دَعَآ إِلَى ٱللَّهِ وَعَمِلَ صَٰلِحًا وَقَالَ إِنَّنِى مِنَ ٱلْمُسْلِمِينَ(33)﴾

[ سورة فصلت ]

 حينما يتاح للمسلمين -إن شاء الله تعالى- أن تكون لهم الشوكة، وأن ينتصروا على عدوهم ينبغي ألاّ يقصر أحد منا في هذا العمل الذي سماه النبي ذروة سنام الإسلام.

(( رأس الأمر فالإسلام، وأما عموده فالصلاة، وأما ذروة سنامه فالجهاد ))

[ صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه  ]

(( من مات ولم يغز ولم يحدث نفسه بالغزو، مات على شعبة من نفاق ))

[ المستدرك على الصحيحين ]

 أحياناً تدعو لمن يجاهد كما ندعو لإخوتنا في الأراضي المحتلة، أحياناً تمدهم بالغذاء والمال، وهذا أيضاً نوع من الجهاد: 

((  مَنْ جَهّزَ غَازِياً في سَبِيلِ الله فقد غَزَا، وَمَنْ خَلَفَ غَازِياً في أهْلِهِ فَقَدْ غَزَا. ))

[ متفق عليه  ]

 من دعا لغاز تقبل الله دعاءه، فحسب الوضع؛ إما أن ندعو لهم بالنصر، أو نمدهم بالمال والمساعدات، أو نجهزهم بالمعدات، ثم ينبغي أن نجاهد أنفسنا وأهواءنا، لأن الأعداء يراهنون على علاقتنا بربنا، هم يحاربوننا بالفساد، وجدوا أن الفساد أهون من السلاح، بالقوة الناعمة، أي المرأة يحملوننا على أن نريد ما يريدون، كانوا من قبل بالقوة المسلحة يجبروننا على أن نفعل ما يريدون، الآن لا داعي، اصعد إلى جبل قاسيون، وألقِ نظرة على دمشق، ماذا يشغل الناس؟ تعرف الجواب.

لا يصلح آخر هذه الأمة إلا بما صلح بها أولها:


 أيها الإخوة، ينبغي أن نعود إلى الله عز وجل، أقول لكم كلاماً من القلب إلى القلب: إذا كنت مهزوماً أمام شهواتك وأمام مصالحك فلا يمكن أن تقابل نملة، أما إذا كنت منتصراً على شهواتك وعلى مصالحك، وكنت ربانياً عندئذ تستحق أن يتنزّل عليك نصر الله عز وجل، فبين الجهاد جهاد النفس والهوى وبين الجهاد الدعوي وبين الجهاد القتالي، أما حينما يجتاح العدو أرضنا فلا خيار لنا أبداً في الجهاد القتالي. فلنجهز أنفسنا بأن نجاهد أنفسنا وأهواءنا، ثم لنجاهد الجهاد الكبير في نشر الحق بين الناس، يوجد أزمة علم، وأخلاق، وإيمان، أنت حينما تعزز قيم الإيمان، وقيم العلم، وقيم الأخلاق في المجتمع تكون قد أعنتهم على أن ينتصروا على أنفسهم، وأنا حينما أدعو أقول: اللهم انصرنا على أنفسنا حتى نستحق أن تنصرنا على أعدائنا.
أيها الإخوة، هذا الإسلام دين عظيم، إذا حذفنا منه شيئاً ضعفنا، وإذا أضفنا عليه أشياء تفرقنا، فإن أضفت عليه أصبح الإسلام طوائف وشيعاً، وإن حذفت منه أصبحنا ضعافاً، فلا بد أن نأخذه كما جاء في أول الأمر، "فلن يصلح آخر هذه الأمة إلا بما صلح بها أولها" هكذا قال الإمام مالك رحمه الله، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: 

(( إنَّ الإسلامَ بدَأ غريبًا، وإنَّه سيَعُودُ كما بدَأ، فطُوبى للغُرباءِ، قالوا: ومَن هم يا رسولَ اللهِ؟ قال: الَّذينَ يَصلحونَ إذا فسدَ النَّاسُ. ))

[  سنن ابن ماجه  ]

كنت أقول سابقاً: هناك عقبات كبيرة جداً أمام الناس منها الشاشة، والمناهج العلمانية، في الجامعة يدرسون أن الإنسان جاء من القرود، وهذا خلاف الكتب السماوية، فالمناهج عقبة، والشاشة عقبة، والأسرة أحياناً عقبة، لأنها ألِفت المخالفات والمعاصي والآثام، فإذا أراد الشاب أن يتوب إلى الله وجد العقبة في أهله أحياناً، فلا بد من إصلاح ذات البين، فاتقوا الله، وأصلحوا ذات بينكم.

الملف مدقق

والحمد لله رب العالمين 

الاستماع للدرس

00:00/00:00

نص الزوار

نص الدعاة

إخفاء الصور