وضع داكن
10-03-2025
Logo
الدرس : 33 - سورة النساء - تفسير الآيات 65-70 الاحتكام إلى سنة رسول الله
   
 
 
 بسـم اللـه الرحمـن الرحيـم  
 
الحَمدُ لِلَّه ربِّ العالمينَ، والصّلاة والسّلام على سيِّدنا محمد الصّادقِ الوَعدِ الأمين، اللهُمَّ لا عِلمَ لنا إلا ما علّمْتَنا، إنّك أنت العليمُ الحكيمُ، اللهمَّ علِّمنا ما ينفعُنا، وانفعْنَا بما علَّمْتَنا، وزِدْنا عِلْماً، وأرِنَا الحقَّ حقًّا وارْزقْنَا اتِّباعه، وأرِنَا الباطِلَ باطلاً وارزُقْنا اجتِنابَه، واجعَلْنا ممَّن يسْتَمِعونَ القَولَ فيَتَّبِعون أحسنَه، وأَدْخِلْنَا برَحمَتِك في عبادِك الصَّالِحين.

الفرق الكبير بين مقام الألوهية المطلق و مقام النبوة:


 أيها الإخوة المؤمنون، مع الدرس الثالث والثلاثين من دروس سورة النساء، ومع الآية الخامسة والستين، وهي قوله تعالى: 

﴿ فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤۡمِنُونَ حَتَّىٰ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيۡنَهُمۡ ثُمَّ لَا يَجِدُواْ فِيٓ أَنفُسِهِمۡ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيۡتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسۡلِيمًا(65)﴾

[ سورة النساء  ]

 أراد الله سبحانه وتعالى من هذه الآية أن يبين عصمة النبي، فالله سبحانه وتعالى عصمه من أن يخطئ في أقواله، وأفعاله، وإقراره، وبالتالي أمرَنا أن نأخذ منه قال تعالى: 

﴿ مَّآ أَفَآءَ ٱللَّهُ عَلَىٰ رَسُولِهِۦ مِنْ أَهْلِ ٱلْقُرَىٰ فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِى ٱلْقُرْبَىٰ وَٱلْيَتَٰمَىٰ وَٱلْمَسَٰكِينِ وَٱبْنِ ٱلسَّبِيلِ كَىْ لَا يَكُونَ دُولَةًۢ بَيْنَ ٱلْأَغْنِيَآءِ مِنكُمْ ۚ وَمَآ ءَاتَىٰكُمُ ٱلرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَىٰكُمْ عَنْهُ فَٱنتَهُواْ ۚ وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ ۖ إِنَّ ٱللَّهَ شَدِيدُ ٱلْعِقَابِ(7)﴾

[ سورة الحشر ]

 أيها الإخوة، الإيمان برسالة رسول الله، والإيمان بعصمة رسول الله جزء أساسي من الإيمان، الله عز وجل أعطى النبي هامشاً اجتهادياً ضيقاً، ليكون هناك فارق كبير بين مقام الألوهية المطلق وبين مقام النبوة، هذا الهامش إنْ أصاب النبي فيه أقرّه الوحي على حكمه، وإن لم يصب صحح له الوحيُ، إذاً هناك مقام النبوة، وهناك مقام الألوهيّة، على كلٍّ في النهاية النبي عليه الصلاة والسلام: 

﴿  وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى(3) إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى(4)﴾

[  سورة النجم ]


سبب نزول الآية التالية:


 عصمه الله في أقواله، وفي أفعاله، وفي إقراره، وفي صفاته، فلذلك حينما يحكم النبي بحكمٍ ما، هذا الحكم لا يمكن أن يكون عن الهوى، إنه حكمٌ حق مؤيّدٌ من قِبَل الحق، فالذي يعترض على حكمه يعترض على نبوته، والذي يعترض على حكمه يعترض على رسالته، والذي يعترض على حكمه يعترض على عصمته، من هنا قال الله عز وجل: ﴿فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤۡمِنُونَ حَتَّىٰ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيۡنَهُمۡ﴾ تروي كتب أسباب النزول أن صحابياً جليلاً اسمه الزبير بن العوام، هذا الصحابي الجليل له أرض مرتفعة في المدينة، ولصحابيٍّ آخر اسمه حاطب بن بَلتَعة أرض في جوار أرض الزبير بن العوام، لكنها أخفض من أرض الزبير، فحصل بينهما تنازع، واحتكما إلى النبي عليه الصلاة والسلام، فالنبي عليه الصلاة والسلام نطق بالعدل، فأعطى حُكماً أن يبدأ ابن العوام بسقي أرضه، ثم تنتقل الماء إلى أرض حاطب، لأن أرض ابن العوام أعلى، أما إذا بدأنا بحاطب فلا بد أن تجتمع الماء إلى وقت طويل حتى تنتقل إلى أرض الزبير، فصدر عن هذا الصحابي كلمة، وبالمناسبة أصحاب النبي عليه الصلاة والسلام وعليهم رضوان الله ليسوا معصومين، وهم درجات متفاوتة، فقال هذا الصحابي: ألأنه ابن عمتك؟ فكان الزبير بن العوام ابن عمة رسول الله، هذه الكلمة تركت أثراً بالغاً في النبي عليه الصلاة والسلام، مقام النبوة أعظم بكثير من أن ينحاز الإنسان إلى ابن عمته، عندئذٍ قال عليه الصلاة والسلام: أن تبدأ السقيا من عند حاطب تطييباً لقلبه، لكن وجد مشقة كبيرة عندئذٍ، لا بد من أن يجتمع الماء إلى وقت طويل جداً حتى يمكن أن تنتقل إلى أرض الزبير بن العوام، يقول بعض العلماء: إن هذه القصة سبب نزول هذه الآية: ﴿فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤۡمِنُونَ حَتَّىٰ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيۡنَهُمۡ﴾

((  عن عبد لله بن الزبير رضي الله عنهما أنه حدثه أن رجلا من الأنصار خاصم الزبير عن النبي صلى الله عليه وسلم في شراج الحرة التي يسقون بها النخل، فقال الأنصاري: سرح الماء يمر، فأبى عليه، فاختصما عند النبي صلى الله عليه وسلم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم للزبير: اسقِ يا زبير، ثم أرسل الماء إلى جارك. فغضب الأنصاري،  فقال: أن كان ابن عمتك، فتلون وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم قال: اسق يا زبير ثم احبس الماء حتى يرجع إلى الجدر، فقال الزبير: والله إني لأحسب أن هذه الآية نزلت في ذلك فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم. ))

[ أخرجه البخاري ]


قصة أخرى عن أسباب نزول الآية التالية:


 الحقيقة أنه هناك قصة أخرى لعلي ذكرتها في الدرس السابق؛ أن النبي عليه الصلاة والسلام أعطى توجيهاً لأصحابه ألا يقتلوا عمّه العباس، قال بعضهم، ولم يفهم حكمة النبي، أو لم يستوعب أبعاد رؤية النبي، أو لم يفهم ملابسات هذا الأمر، ابن عباس أسلم سراً، وبقي في مكة عين النبي عليه الصلاة والسلام، وقيادة النبي قيادة ذكية جداً، وتحتاج إلى معلومات كأية قيادة أخرى عالية المستوى، المعلومات عنصر أساسي جداً في اتخاذ القرار الصحيح، فكان هذا الإنسان عم النبي عليه الصلاة والسلام معلناً إسلامه لرسول الله فقط سراً، مخفياً إسلامه عن كفار قريش، وكان بينهم، وكان في أعلى مستوى من إدارتهم، كان من وجهاء قريش، فكان ينقل إلى النبي كل ما يجري في مكة، وكل ما يُزمِع عليه مشركو مكة، ينقل له أولاً بأول كل الأخبار الدقيقة، فجاءت معركة بدر، فلو أن هذا الصحابي الجليل لم يخرج مع المشركين لكشف نفسه، وانتهت مهمته، لو أن النبي عليه الصلاة والسلام أبلغ أصحابه نبأ إسلامه لكشفه، وانتهت مهمته، لو بقي النبي ساكتاً لقتله أصحابه، لأنه عندهم مع المشركين، إذاً لا بد أن يقول النبي هذا الكلام المختصر المفيد؛ لا تقتلوا عمي العباس، أحدهم قال: أحدنا يقتل أباه وأخاه، وينهانا عن قتل عمه، أساء الظن برسول الله، هؤلاء الأنبياء أيها الإخوة قمم البشر، أن يكون هناك بُعدٌ عن أن ينحازوا لأقربائهم كما بين الأرض والسماء، ثم كشف هذا الصحابي أن هذا العم الذي نهى عن قتله هو مسلم، وهو عين النبي في قريش، يقول هذا الصحابي: ظللت أتصدق عشر سنين رجاء أن يغفر الله لي سوء ظني برسول الله. 
﴿فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤۡمِنُونَ حَتَّىٰ يُحَكِّمُوكَ﴾ المرء الذي لا يحتكم إلى الشرع ليس مؤمناً بنص هذه الآية، المرء الذي يحتكم إلى قانون وضعي لأنه يتوهم أنه يعطيه أكثر من حقه ليس مؤمناً.

المؤمن الحق هو من يقبل بأمر الله دون مناقشة:


 قال تعالى: ﴿فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤۡمِنُونَ حَتَّىٰ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيۡنَهُمۡ﴾ ذلك أن الله سبحانه وتعالى يقول في آية أخرى: 

﴿  يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ(88) إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ(89)﴾

[  سورة الشعراء ]

 والقلب السليم صاحبه سلِمَ من شهوة لا ترضي الله، وسلِمَ من تصديق خبر يتناقض مع وحي الله، وسلِمَ من الاحتكام لغير شرع الله. 

﴿ إِنَّآ أَنزَلْنَا ٱلتَّوْرَىٰةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ ۚ يَحْكُمُ بِهَا ٱلنَّبِيُّونَ ٱلَّذِينَ أَسْلَمُواْ لِلَّذِينَ هَادُواْ وَٱلرَّبَّٰنِيُّونَ وَٱلْأَحْبَارُ بِمَا ٱسْتُحْفِظُواْ مِن كِتَٰبِ ٱللَّهِ وَكَانُواْ عَلَيْهِ شُهَدَآءَ ۚ فَلَا تَخْشَوُاْ ٱلنَّاسَ وَٱخْشَوْنِ وَلَا تَشْتَرُواْ بِـَٔايَٰتِى ثَمَنًا قَلِيلًا ۚ وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَآ أَنزَلَ ٱللَّهُ فَأُوْلَٰٓئِكَ هُمُ ٱلْكَٰفِرُونَ (44)﴾

[  سورة المائدة ]

﴿ وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَآ أَنَّ ٱلنَّفْسَ بِٱلنَّفْسِ وَٱلْعَيْنَ بِٱلْعَيْنِ وَٱلْأَنفَ بِٱلْأَنفِ وَٱلْأُذُنَ بِٱلْأُذُنِ وَٱلسِّنَّ بِٱلسِّنِّ وَٱلْجُرُوحَ قِصَاصٌ ۚ فَمَن تَصَدَّقَ بِهِۦ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَّهُۥ ۚ وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَآ أَنزَلَ ٱللَّهُ فَأُوْلَٰٓئِكَ هُمُ ٱلظَّٰلِمُونَ (45)﴾

[  سورة المائدة ]

﴿ وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ ٱلْإِنجِيلِ بِمَآ أَنزَلَ ٱللَّهُ فِيهِ ۚ وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَآ أَنزَلَ ٱللَّهُ فَأُوْلَٰٓئِكَ هُمُ ٱلْفَٰسِقُونَ (47)﴾

[  سورة المائدة ]

﴿ وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ ۗ وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُّبِينًا(36)﴾

[  سورة الأحزاب  ]

 إذا كنت مؤمناً بهذا الخالق العظيم، مؤمناً بعلمه المطلق، حكمته المطلقة، رحمته المطلقة، عدله المطلق، وثبت لك أن هذا الكلام كلامه، وأن هذا الشرح شرح نبيه، ثم تعترض، ثم تتريّث، ثم تضع حكم الله على بساط البحث، ثم تضع حكم الله تحت المناقشة والتصويب، فالذي يفعل هذا ليس مؤمناً ورب الكعبة.

إن لم نقبل حكم الله فلسنا مؤمنين:


 كنت مرة في بلد بعيد غربي في مؤتمر إسلامي، قام بعض الخطباء وقال: "نحن هنا كل شيء قابل للبحث، ليس عندنا شيء مقدس، وكل شيء قابل للرفض" ، هذا في مجتمع العولمة، في مجتمع الكفر، أما نحن بوصفنا مسلمين نؤمن بإله عظيم، أسماؤه حسنى، وصفاته فضلى، نؤمن بكلامه القديم، نؤمن برسالة نبيه العظيم، فإذا ثبت لدينا من خلال آية قرآنية أو من خلال حديث شريف صحيح أن هذا هو حكم الله، وترددنا في قبوله، أو وضعناه على بساط البحث، أو وضعناه على مِحَك التجربة فنحن لسنا مؤمنين: ﴿فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤۡمِنُونَ حَتَّىٰ يُحَكِّمُوكَ﴾ إن لم نقبل حكم الله فلسنا مؤمنين، لا يكفي: ﴿فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤۡمِنُونَ حَتَّىٰ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيۡنَهُمۡ﴾ وبعد أن يحكموك: ﴿ثُمَّ لَا يَجِدُواْ فِيٓ أَنفُسِهِمۡ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيۡتَ﴾ أي يرتاحون لهذا الحكم، ثم: ﴿وَيُسَلِّمُواْ تَسۡلِيمًا﴾ ينصاعون لهذا الحكم.

الذي ينكر حديثاً صحيحاً لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقد كفر:


 ينبغي أن تحتكم إلى رسول الله، وينبغي أن ترضى بحكم رسول الله، وينبغي أن تنفذ حكم رسول الله، هذا في حياته، فما معنى الآية بعد مماته صلى الله عليه وسلم؟ سنته بيننا، أحكامه بيننا، جمعها العلماء، وبوَّبوها، وصنفوها، ومحّصوها، فسنة النبي بين أيدينا متوافرة، لذلك بعد وفاة النبي عليه الصلاة والسلام الاحتكام إلى سنته، أو الاحتكام إلى ما صح من سنته، لأن القرآن الكريم قطعي الثبوت، بينما سنة النبي ظنية الثبوت، فيها الصحيح، وفيها الحسن، وفيها الضعيف، وفيها الموضوع. 

(( فَمَنْ كَذَبَ عَلَيَّ مُتَعَمِّداً فَلْيَتَبِوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ ))

[  رواه البخاري  ]

(( مَنْ رَوَى عَنِّي حَدِيثاً وَهُوَ يَرَى أَنَّهُ كَذِبُ فَهُوَ أَحَدُ الكَاذِبِينَ ))

[  رواه ابن ماجه وأحمد في مسنده ]

 كلما ذكرت القرآن أكتفي بكلمة القرآن، لأنه قطعي الثبوت، أما إذا ذكرت كلمة السنة ينبغي أن أُتبِعها بكلمة الصحيحة، والذي ينكر حديثاً صحيحاً لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقد كفر - كما قال العلماء- كفراً دون كفرٍ. 
﴿فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤۡمِنُونَ حَتَّىٰ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيۡنَهُمۡ﴾ من أحكام الفقه مثلاً أن الشريك المضارب على الربح والخسارة، كم من إنسان يضع أمواله في مؤسسة، في شركة، وهذه المؤسسة أو تلك الشركة لم تقصّر، ولم تعتدِ، وتتحقق خسارة، هذا الذي يرفض أن يدفع الخسارة هو يعترض على حكم الله عز وجل، ما الفرق بين المضاربة وبين إيداع المال في البنك؟ ما الفرق بين المضاربة وبين استثمار المال ربوياً؟ هو أن في الاستثمار الربوي نسبة ثابتة رابحة دائماً، بينما في المضاربة ربح وخسارة، فما لم يكن الشريك المضارب الذي يعمل بجهده، ما لم يكن معتدياً، وما لم يكن مقصراً، وما لم يكن مخالفاً لتعليمات صاحب المال، وتحققت خسارة، هذا الخسارة يتحملها صاحب المال، لأن صاحب الجهد خسر جهده، وأصبح الذي أنفقه دَيناً عليه، هذا هو حكم الله عز وجل، فكم من مسلم يضع ماله ليستثمره بالطريقة الشرعية، بطريق المضاربة، ويقبل الخسارة؟ لا يقبل الخسارة، بل لا يقبل نِسباً ضئيلةً من الربح، مهما تكن الظروف قاسية، فهذا الذي يرفض أن يخسر، ويرفض أن يساهم في الخسارة هذا رفض حكم الله عز وجل.

أمثلة كثيرة عن رفض المسلمين لأحكام الله عز وجل:


 أمثلة كثيرة جداً أيها الإخوة، هذا الذي يرفض أن يعطي بناته حصصهم من الإرث، فيكتب كل أملاكه للذكور، متوهماً أن الإناث إذا ورثوا من أبيهم ينتقل هذا المال إلى أزواجهن، هذا إنسان يرفض حكم الله عز وجل، لو ذهبتُ لأضرب الأمثلة على أن المسلمين يرفضون حكم الله عز وجل لوجدتَ الأمثلة لا تعد ولا تحصى، وهذه الآية قاسمة أيها الإخوة: ﴿فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤۡمِنُونَ حَتَّىٰ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيۡنَهُمۡ﴾ الآن التحكيم إلى سنة النبي، إذا التجأت إلى عالم بالذكر، ألم يقل الله عز وجل: 

﴿ وَمَآ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُّوحِىٓ إِلَيْهِمْ ۚ فَسْـَٔلُوٓاْ أَهْلَ ٱلذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (7)﴾

[  سورة الأنبياء ]

 إذا التجأت إلى عالِم بالذكر بالقرآن والسنة، وحكم لك حكماً وفق القرآن والسنة، أعطاك الدليل من القرآن والسنة، ورفضت الحكم أنت عندئذٍ رفضت حكم الله عز وجل. 
﴿فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤۡمِنُونَ حَتَّىٰ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيۡنَهُمۡ ثُمَّ لَا يَجِدُواْ فِيٓ أَنفُسِهِمۡ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيۡتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسۡلِيمًا﴾ أيها الإخوة، لو ذهبت لأضرب الأمثلة على رفض حكم الله هي أمثلة كثيرة جداً لا تعد ولا تحصى، لذلك ينبغي أن توقن أن الله حينما يتخلى عن المسلمين في قضاياهم المصيرية، لا لأسباب بسيطة بل لأسباب كبيرة، ينبغي أن تحتكم إلى الشريعة السمحاء، ينبغي أن تقبل هذا الحُكم نفسياً لا بلسانك، ينبغي أن تنصاع لهذا الحُكم سلوكياً، أن تحتكم، ثم أن تقبل نفسياً لا لفظياً، ثم أن تنصاع لتنفيذ هذا الحكم، لو أن إنساناً يسكن في بيت ليس له، والقانون معه سابقاً والشرع ليس معه، وبإمكانه أن يشتري بيتاً، وأن يعطي البيت لصاحبه، ويرفض اعتماداً على مادة قانونية تحميه، هذا حاله كحال الذي رفض حكم الله عز وجل: ﴿فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤۡمِنُونَ حَتَّىٰ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيۡنَهُمۡ﴾

الخلطاء هم الشركاء والأزواج والجيران:


 الأهل الذين يصرّون على أن يجعلوا الاحتفالات، احتفالات الأفراح وفق النمط الغربي وهم مسلمون، وكتبوا على بطاقات الدعوة: 

﴿ ٱلْخَبِيثَٰتُ لِلْخَبِيثِينَ وَٱلْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثَٰتِ ۖ وَٱلطَّيِّبَٰتُ لِلطَّيِّبِينَ وَٱلطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّبَٰتِ ۚ أُوْلَٰٓئِكَ مُبَرَّءُونَ مِمَّا يَقُولُونَ ۖ لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ(26)﴾

[  سورة النور ]

 وهم من رواد المساجد، لكنهم يصرون على أن يكون الاحتفال على النمط الغربي، فيه اختلاط، ولا بد أن يجلس الزوج أمام كل المدعوات، وهنّ كاسيات عاريات: ﴿فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤۡمِنُونَ حَتَّىٰ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيۡنَهُمۡ﴾ لو انتقلنا إلى كلمة: ﴿لَا يُؤۡمِنُونَ﴾ ، يقول الله عز وجل: 

﴿ قَالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ إِلَىٰ نِعَاجِهِۦ ۖ وَإِنَّ كَثِيرًا مِّنَ ٱلْخُلَطَآءِ لَيَبْغِى بَعْضُهُمْ عَلَىٰ بَعْضٍ إِلَّا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّٰلِحَٰتِ وَقَلِيلٌ مَّا هُمْ ۗ وَظَنَّ دَاوُۥدُ أَنَّمَا فَتَنَّٰهُ فَٱسْتَغْفَرَ رَبَّهُۥ وَخَرَّ رَاكِعًا وَأَنَابَ۩(24)﴾

[  سورة ص ]

 الخلطاء من هم؟ الشركاء، الأزواج، الجيران: ﴿وَإِنَّ كَثِيرًا مِّنَ ٱلْخُلَطَآءِ لَيَبْغِى بَعْضُهُمْ عَلَىٰ بَعْضٍ﴾ الأقوى يأخذ ما عند الأضعف، والأغنى يستغل الأفقر ﴿وَإِنَّ كَثِيرًا مِّنَ ٱلْخُلَطَآءِ لَيَبْغِى بَعْضُهُمْ عَلَىٰ بَعْضٍ إِلَّا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّٰلِحَٰتِ وَقَلِيلٌ مَّا هُمْ﴾

الذي يبغي على خليطه ليس مؤمناً:


 استنبط الإمام الشافعي رحمه الله تعالى أن الذي يبغي على خليطه ليس مؤمناً، كم دعوة في قصر العدل بعشرات الألوف، في كل غرفة من غرف محكمة النقد دعاوى بعشرات الألوف، وفي معظمها دعاوى كيدية فيها افتراء وظلم ﴿فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤۡمِنُونَ حَتَّىٰ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيۡنَهُمۡ ثُمَّ لَا يَجِدُواْ فِيٓ أَنفُسِهِمۡ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيۡتَ﴾ أكثر هذه القضايا تبدو واضحة في قضايا الإرث، هناك رغبة أن نحرم أناساً، وأن نعطي أناساً، نأبى أن نوزع الإرث وفق منهج الله، وفق أحكام الإرث، هذا يندرج تحت الرفض، هذا الذي يرفض أن يكون الحفل وفق المنهج الإلهي، ويرفض حكم الله، هذا الذي يرفض أن تتحجب المرأة، أسر إسلامية تصلي في المساجد، ويرفضون الحجاب، والحجاب حق، والحجاب شرع، والحجاب حكم الله عز وجل: ﴿فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤۡمِنُونَ حَتَّىٰ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيۡنَهُمۡ﴾ أنا لا أتحدث عن الشاردين إطلاقاً، أتحدث عن روّاد المساجد، لو دخلت إلى بيوت رواد المساجد لا تجد حكم الله مقبولاً عندهم، كم أسرة تقبل أن تقيم وليمة فيها فصلٌ بين النساء والرجال، كم؟ لا يقبلون، يرفضون أشد الرفض أن يكون الرجال في مكان، والنساء في مكان، بدعوى أن هذا تفريق للأسرة، هو رفض لحكم الله عز وجل، كم من أسرة ترفض من ابنها أن يبتعد عن قريباته الأجنبيات عنه، يعدّونه جفاء.

من أبسط علامات الإيمان أن تحتكم إلى شرع الله وترضى به وتطبقه:


 والله قبل يومين جاءني سؤال، هذه المرأة تحضر حفلاً في مكان عام، حريصة على حجابها، قال مَن حولها لها، وهن ملتزمات فيما يدّعين: إن لم تخلعي عنك المعطف وغطاء الرأس فهذا جفاء لصاحبة الدعوى، هكذا، أسر إسلامية ملتزمة، يرتادون المساجد، يرفضون حكم الله عز وجل، يرفضون حكم الله في الحجاب، يرفضون حكم الله في الاختلاط، يرفضون حكم الله في عمل المرأة، يرفضون حكم الله في التجارة، يرفضون حكم الله في البيع، يرفضون حكم الله في الإرث. 

﴿ إِذْ تَلَقَّوْنَهُۥ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُم مَّا لَيْسَ لَكُم بِهِۦ عِلْمٌ وَتَحْسَبُونَهُۥ هَيِّنًا وَهُوَ عِندَ ٱللَّهِ عَظِيمٌ (15)﴾

[  سورة النور ]

 أما حينما يصلون لا يرفضون الصلاة، لأنها لا تغير من حياتهم شيئاً، يصلون، ويصومون، ويحجون، ويعتمرون، ويزكون، هذا شيء مقدور عليه، أما أن يعيشوا حياةً إسلامية، أن يعيشوا وفق منهج الله، أن تكون علاقاتهم إسلامية، أن تكون أفراحهم إسلامية، أن تكون أحزانهم إسلامية لا هذا مرفوض: ﴿فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤۡمِنُونَ حَتَّىٰ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيۡنَهُمۡ ثُمَّ لَا يَجِدُواْ فِيٓ أَنفُسِهِمۡ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيۡتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسۡلِيمًا﴾ طبعاً الآية الآن معناها بالنسبة إلينا الاحتكام إلى سنة رسول الله.
 أيها الإخوة الكرام، الاحتكام إلى سنة رسول الله أي أن تلجأ إلى الشريعة، لكن هناك أناس كثيرون يلجؤون إلى الشريعة لا تعظيماً للشريعة، ولا تحكيماً لشرع الله، حينما يتأكدون أن حقهم لن يصلوا إليه عن طريق القانون يلجؤون ساعتئذٍ إلى الشريعة، هم أنفسهم لو تيقّنوا أن حقهم يأخذونه من خلال القانون ما لجؤوا إلى العلماء، ولا إلى الشريعة. 
إذاً من أبسط علامات الإيمان أن تحتكم إلى شرع الله، ومن أبسط علامات الإيمان أن ترضى بحكم الله، ومن أبسط علامات الإيمان أن تسارع إلى تطبيق حكم الله. 

الفرق بين القتل وبين الموت:


 أولاً: الاحتكام. ثانياً: الراحة النفسية. ثالثاً: الانصياع للحكم.
ثم يقول الله عز وجل: 

﴿ وَلَوۡ أَنَّا كَتَبۡنَا عَلَيۡهِمۡ أَنِ ٱقۡتُلُوٓاْ أَنفُسَكُمۡ أَوِ ٱخۡرُجُواْ مِن دِيَٰرِكُم مَّا فَعَلُوهُ إِلَّا قَلِيلٌ مِّنۡهُمۡۖ وَلَوۡ أَنَّهُمۡ فَعَلُواْ مَا يُوعَظُونَ بِهِۦ لَكَانَ خَيۡرًا لَّهُمۡ وَأَشَدَّ تَثۡبِيتًا(66)﴾

[ سورة النساء ]

 أيها الإخوة الكرام، القتل هو موت قسري، مصباح الكهرباء قد تطفئ المفتاح فينطفئ المصباح، أنت ماذا فعلت؟ عطّلت النور، كيف عطلت النور؟ بقطع الكهرباء، هذا هو الموت، حينما تُسحَب الروح من جسم الإنسان، يُسحَب إمداد الله لهذا الإنسان، يموت الإنسان، أما حينما تكسر هذا المصباح ينطفئ، الكهرباء تصل إليه، لكن هذا المصباح الذي هو غلاف للكهرباء لم يعد صالحاً لقبول هذه القوة المحركة، فالموت تعطُّل القوة التي تُمِد هذا الجسم، لكن القتل تخريبٌ للجسم حيث لا يغدو صالحاً للروح، هذا هو الفرق بين القتل وبين الموت. 

﴿ وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ ٱلرُّسُلُ ۚ أَفَإِيْن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ ٱنقَلَبْتُمْ عَلَىٰٓ أَعْقَٰبِكُمْ ۚ وَمَن يَنقَلِبْ عَلَىٰ عَقِبَيْهِ فَلَن يَضُرَّ ٱللَّهَ شَيْـًٔا ۗ وَسَيَجْزِى ٱللَّهُ ٱلشَّٰكِرِينَ(144)﴾

[  سورة آل عمران ]

 الموت سحب القوة المحركة من جسم الإنسان، أما القتل فهو تخريب الجسم، حيث لا يصلح لبقاء الروح فيه.

الأمم التي قبلنا حُملت حكماً صعباً لحكمة أرادها الله سبحانه:


 يقول الله عز وجل: ﴿وَلَوۡ أَنَّا كَتَبۡنَا عَلَيۡهِمۡ أَنِ ٱقۡتُلُوٓاْ أَنفُسَكُمۡ أَوِ ٱخۡرُجُواْ مِن دِيَٰرِكُم مَّا فَعَلُوهُ إِلَّا قَلِيلٌ مِّنۡهُمۡۖ﴾ أي القتل هدمٌ قسري، وإخراج الإنسان من دياره إخراج قسري، وبينهما اتصال، والأمم التي قبلنا حُمِّلت حكماً صعباً لحكمة أرادها الله، لذلك جاء في أدعية القرآن الكريم: 

﴿ لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا ۚ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ ۗ رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا ۚ رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِنَا ۚ رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ ۖ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا ۚ أَنتَ مَوْلَانَا فَانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ (258)﴾

[ سورة البقرة ]

 الله عز وجل كتب على بني إسرائيل أن يقتلوا أنفسهم، لا يتوب الله عليهم إلا إذا قتلوا أنفسهم، الحمد لله الذي يسّر الله لنا طريق التوبة من دون قتل النفس، وقد حمد عمر بن الخطاب رضي الله عنه ربه على أن هذا الحكم لا يُطبَّق في شريعتنا: ﴿وَلَوۡ أَنَّا كَتَبۡنَا عَلَيۡهِمۡ أَنِ ٱقۡتُلُوٓاْ أَنفُسَكُمۡ أَوِ ٱخۡرُجُواْ مِن دِيَٰرِكُم مَّا فَعَلُوهُ إِلَّا قَلِيلٌ مِّنۡهُمۡۖ وَلَوۡ أَنَّهُمۡ فَعَلُواْ مَا يُوعَظُونَ بِهِۦ لَكَانَ خَيۡرًا لَّهُمۡ وَأَشَدَّ تَثۡبِيتًا﴾ 

﴿ وَإِذًا لَّأٓتَيۡنَٰهُم مِّن لَّدُنَّآ أَجۡرًا عَظِيمًا(67) وَلَهَدَيۡنَٰهُمۡ صِرَٰطًا مُّسۡتَقِيمًا(68)﴾

[ سورة النساء ]


مهما بدا الحكم الشرعي قاسياً فهو طريق إلى سعادة أبدية:


 أنت حينما ترى الدنيا فقط، ترى فقْدَ الحياة أكبر مصيبة، أما حينما تؤمن بالآخرة إيماناً يقينياً ترى أن هذه الحياة لا شيء أمام الآخرة، وكنت أقول دائماً: لو أنّ واحداً في الأرض وأصفاراً إلى الشمس، وبين الأرض والشمس 156 مليون كم، وكل ميليمتر صفر، هذا الرقم العملاق واحد في الأرض وأصفار 156 مليون كم، وكل ميليمتر صفر، هذا الرقم لو وُضِع صورة لكسرٍ مخرجه لا نهاية فقيمته صفر، فالإنسان حينما يرى الدنيا فقط تكبر عليه مصائبها، أما حينما يرى الآخرة تهون عليه مصائبها. 
﴿وَلَوۡ أَنَّهُمۡ فَعَلُواْ مَا يُوعَظُونَ بِهِۦ لَكَانَ خَيۡرًا لَّهُمۡ وَأَشَدَّ تَثۡبِيتًا*وَإِذًا لَّأٓتَيۡنَٰهُم مِّن لَّدُنَّآ أَجۡرًا عَظِيمًا*وَلَهَدَيۡنَٰهُمۡ صِرَٰطًا مُّسۡتَقِيمًا﴾ أيها الإخوة، مهما بدا لك الحكم الشرعي قاسياً إنه طريق إلى سعادة أبدية، طريق إلى جنة فيها ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر، طريق إلى سعادة لا تنتهي، فيا أيها الإخوة، مهما بدا لك الحكم الشرعي صعباً، مهما بدا لك الحكم الشرعي قاسياً، قطع اليد حكم شرعي، ولكن قطع يد واحدة أفضل ألف مرة من أن تُرتَكب كل ثلاثين ثانية جريمة قتل، أو سرقة، أو اغتصاب، في الدول المتقدمة مادياً، في دول الترف والبذخ وحرية الإنسان والتفلُّت الأخلاقي في كل ثلاثين ثانية تُرتكَب جريمة قتل، أو سرقة، أو اغتصاب، لكن في بلاد تُطبَّق فيها الشريعة الإسلامية لا يحتاجون إلى قطع أكثر من يد أو يدَين طوال العام هذا حكم الله عز وجل، مهما بدا قاسياً ينبغي أن تستوعب أن الذي أصدره هو خالق البشر، هو الحكيم، قال تعالى: 

﴿ ٱلزَّانِيَةُ وَٱلزَّانِى فَٱجْلِدُواْ كُلَّ وَٰحِدٍۢ مِّنْهُمَا مِاْئَةَ جَلْدَةٍۢ ۖ وَلَا تَأْخُذْكُم بِهِمَا رَأْفَةٌ فِى دِينِ ٱللَّهِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِٱللَّهِ وَٱلْيَوْمِ ٱلْءَاخِرِ ۖ وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَآئِفَةٌ مِّنَ ٱلْمُؤْمِنِينَ(2)﴾

[  سورة النور ]


بعض الأمثلة عن ثمار تطبيق حكم الله عز وجل:


 لأن البشر تساهلوا في أحكام السرقة والزنى، أكبر مشكلات العالم اليوم السرقة والزنى، أكبر مشكلات العالم حتى في البلاد الإسلامية السرقة والزنى، وهما جريمتان في الشريعة الإسلامية عليهما حدود قاسية جداً، وإلى حين بلاد تطبق الشرعية الإسلامية يمكن أن تُنقَل رواتب محافظة بأكملها بعيدة عن العاصمة ألفَي كيلومتر، تُنقَل بشاحنات عادية ولا يجرؤ أحد أن يسرق هذه السيارة، بينما في بلاد الغرب مركبات مصفحة مع تسليح، مع هيلكوبتر، مع مرافقة عالية جداً، حينما تُنقَل الأموال من مكان إلى مكان هذا حكم الله عز وجل، إلى مسافة قريبة في مواسم الحج الذي يبيع العمولات في صندوق خشبي بالملايين، يحين وقت الصلاة يضع عليه قماشة، ويذهب إلى المسجد، هذا نراه رأي العين نحن، هذا من ثمار تطبيق حكم الله عز وجل.
 أيها الإخوة الكرام، هذه الآيات فيها معنى دقيق جداً، فلو أن حُكم الله يقتضي أن نقتل أنفسنا، والحقيقة أن أكبر مصيبة على الإطلاق قتل النفس، فإذا نفذنا حكم الله لكان خيراً لهذا الذي نفذ الحكم وأشد تثبيتاً: ﴿وَإِذًا لَّأٓتَيۡنَٰهُم مِّن لَّدُنَّآ أَجۡرًا عَظِيمًا*وَلَهَدَيۡنَٰهُمۡ صِرَٰطًا مُّسۡتَقِيمًا﴾ لو قسمت المصائب في الدنيا، إنسان فقير، إنسان مريض، إنسان عنده مشكلة، إنسان في السجن، تقع على قمة هذه المصائب أن تنتهي حياته، لأن النبي عليه الصلاة والسلام يقول: 

(( بادروا بالأعمال سبعاً: هل تنتظرون إلا فقراً منسياً، أو غنى مطغياً، أو مرضاً مفسداً، أو هرماً مفنداً، أو موتاً مجهزاً ))

[ ضعيف الترمذي  ]

 الموت مصيبة كبيرة، انتهت الحياة، انتهى الاستغفار، انتهى العمل الصالح، انتهت التوبة، لو أن حُكم الله كما كان في بني إسرائيل، لو أن حكم الله هو القتل، أن يقتل الإنسان نفسه: ﴿وَلَوۡ أَنَّا كَتَبۡنَا عَلَيۡهِمۡ أَنِ ٱقۡتُلُوٓاْ أَنفُسَكُمۡ﴾ لو أن حكم الله يقتضي قتل النفس، وإنهاء الحياة، ونُفِّذ هذا الحكم برضا لكان العطاء الإلهي بعد هذا القتل جنة عرضها السماوات والأرض، فيها ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر، فكيف إذا كان حكم الله أن تصلي فقط، وأن تكون صادقاً، وأميناً، وعفيفاً، وطاهراً، صائماً، مصلياً، منفذاً لأمر الله عز وجل.

المؤمنون ليسوا مكلفين إلا بطاعة الله ورسوله:


 أعطاك الله عز وجل حكماً ليس في شريعتنا، أعطاك حكماً يحمِّل الإنسان ما لا يطيق، بدليل قول الله عز وجل: ﴿رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ﴾ ومع ذلك لو نفذت هذا الحكم الذي لا طاقة لك به لهداك الله إلى صراط الجنة، إلى طريق الجنة، وإلى سعادة أبدية، فيها ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر: ﴿وَإِذًا لَّأٓتَيۡنَٰهُم مِّن لَّدُنَّآ أَجۡرًا عَظِيمًا*وَلَهَدَيۡنَٰهُمۡ صِرَٰطًا مُّسۡتَقِيمًا﴾ أما أنتم أيها المؤمنون فلستم مُكلَّفين إلا بطاعة الله ورسوله. 

﴿ وَمَن يُطِعِ ٱللَّهَ وَٱلرَّسُولَ فَأُوْلَٰٓئِكَ مَعَ ٱلَّذِينَ أَنۡعَمَ ٱللَّهُ عَلَيۡهِم مِّنَ ٱلنَّبِيِّـۧنَ وَٱلصِّدِّيقِينَ وَٱلشُّهَدَآءِ وَٱلصَّٰلِحِينَۚ وَحَسُنَ أُوْلَٰٓئِكَ رَفِيقًا(69)﴾

[ سورة النساء  ]

 كل التكاليف مقدور عليها، كل التكاليف ضمن وُسْع الإنسان، كل التكاليف بإمكان أي مسلم أن يطبقها.

شريعتنا سمحاء تأمرنا بطاعة الله في قرآنه وطاعة نبينا في سنته:


 هذا الصحابي الجليل الذي عيّنه النبي قائداً ثالثاً في مؤتة، وقد أمسك الراية القائد الأول سيدنا زيد، فقاتل بها حتى قُتِل، وقد قال عليه الصلاة والسلام: وإني لأرى مقامه في الجنة، ثم أخذ الراية سيدنا جعفر فقطعت يده اليمنى، فأمسكها بيده اليسرى فقطعت يده اليسرى، فأمسكها بعضديه ثم قتل، قال: ثم أخذ الراية أخوكم جعفر فقاتل بها حتى قتل وإن له جناحين يطير بهما في الجنة، ثم سكت النبي، سكت عن القائد الثالث عبد الله بن رواحه، فقال أصحاب رسول الله: يا رسول الله ماذا فعل عبد =فسكت النبي بمقدار ما تردد عبد الله، عبد الله كان شاعراً قال: 

يا نَفسُ إِلّا تُقتَلي تَموتي    هَذا حِمامُ المَوتِ قَد صَليتِ

إِن تَفعَلي فِعلَهُمـا هُديتِ    وَإِن تَأَخَّرتِ فَقَـد شَقــــيتِ

[ عبد الله بن رواحة ]

 فقال: ثم أخذ الراية عبد الله فقاتل بها حتى قُتِل، وإني لأرى في مقامه ازوراراً عن صاحبيه.
 فالذي نُؤمر به أن نصلي، أن نصوم، أن نؤدي زكاة أموالنا، أن نحج بيت الله الحرام، أن نغض أبصارنا، أن نضبط لساننا، أن نكون أمناء وصادقين ليس غير، لذلك شريعتنا سمحاء: ﴿وَمَن يُطِعِ ٱللَّهَ وَٱلرَّسُولَ﴾ من يطع الله في قرآنه، ومن يطع الرسول في سنته: ﴿فَأُوْلَٰٓئِكَ مَعَ ٱلَّذِينَ أَنۡعَمَ ٱللَّهُ عَلَيۡهِم مِّنَ ٱلنَّبِيِّـۧنَ وَٱلصِّدِّيقِينَ وَٱلشُّهَدَآءِ وَٱلصَّٰلِحِينَۚ وَحَسُنَ أُوْلَٰٓئِكَ رَفِيقًا﴾ ومن أسباب نزول هذا الآية أن أحد أصحاب رسول الله الذين كانوا في خدمته، وكانوا فقراء، النبي عليه الصلاة والسلام سأله مرة: لمَ أنت حزين؟ قال: يا رسول الله أنا معك في الدنيا لكن في الآخرة أين أنا منك، أنت مع النبيين، فنزلت هذه الآية: ﴿وَمَن يُطِعِ ٱللَّهَ وَٱلرَّسُولَ فَأُوْلَٰٓئِكَ مَعَ ٱلَّذِينَ أَنۡعَمَ ٱللَّهُ عَلَيۡهِم مِّنَ ٱلنَّبِيِّـۧنَ وَٱلصِّدِّيقِينَ وَٱلشُّهَدَآءِ وَٱلصَّٰلِحِينَۚ وَحَسُنَ أُوْلَٰٓئِكَ رَفِيقًا﴾

العطاء الحقيقي:


 قال تعالى: 

﴿ ذَٰلِكَ ٱلۡفَضۡلُ مِنَ ٱللَّهِۚ وَكَفَىٰ بِٱللَّهِ عَلِيمًا(70)﴾

[ سورة النساء ]

 هذا هو الفضل، أما الذي اشترى أرضاً بألف، ثم أصبح ثمنها عشرة ملايين، يظن أن هذا فضل كبير، لا بد من أن يموت ويتركها، الذي معه وكالة حصرية أرباحه باليوم بالملايين لا بد من أن يموت ويتركها، تواضع الناس على قِيم الدنيا، وعلى مكاسب الدنيا، وعلى أموال الدنيا، وعلى مباهج الدنيا، وعلى ملذات الدنيا، لكن الله يقول: ﴿ذَٰلِكَ ٱلۡفَضۡلُ مِنَ ٱللَّهِۚ﴾ هذا هو العطاء الحقيقي، هذا هو الفوز العظيم، هذا هو الفلاح، هذا هو النجاح، هذا هو الفوز. 
﴿ذَٰلِكَ ٱلۡفَضۡلُ مِنَ ٱللَّهِۚ وَكَفَىٰ بِٱللَّهِ عَلِيمًا﴾ إذاً هذه الآيات كُلِّف بنو إسرائيل بأحكام لا طاقة لهم بها، ولكننا والحمد لله كُلِّفنا بأحكام نستطيعها، ضمن وسعنا وإمكاننا، قابلة للتطبيق، قابلة للتنفيذ، إذاً ملخص هذه الآيات: ﴿وَمَن يُطِعِ ٱللَّهَ وَٱلرَّسُولَ فَأُوْلَٰٓئِكَ مَعَ ٱلَّذِينَ أَنۡعَمَ ٱللَّهُ عَلَيۡهِم مِّنَ ٱلنَّبِيِّـۧنَ وَٱلصِّدِّيقِينَ وَٱلشُّهَدَآءِ وَٱلصَّٰلِحِينَۚ وَحَسُنَ أُوْلَٰٓئِكَ رَفِيقًا* ذَٰلِكَ ٱلۡفَضۡلُ مِنَ ٱللَّهِۚ وَكَفَىٰ بِٱللَّهِ عَلِيمًا﴾ .

الملف مدقق

والحمد لله رب العالمين 

الاستماع للدرس

00:00/00:00

نص الزوار

إخفاء الصور