الحَمدُ لِلَّه ربِّ العالمينَ، والصّلاة والسّلام على سيِّدنا محمد، الصّادقِ الوَعدِ الأمين، اللهُمَّ لا عِلمَ لنا إلا ما علّمْتَنا، إنّك أنت العليمُ الحكيمُ، اللهمَّ علِّمنا ما ينفعُنا، وانفعْنَا بما علَّمْتَنا، وزِدْنا عِلْماً، وأرِنَا الحقَّ حقًّا وارْزقْنَا اتِّباعه، وأرِنَا الباطِلَ باطلاً وارزُقْنا اجتِنابَه، واجعَلْنا ممَّن يسْتَمِعونَ القَولَ فيَتَّبِعون أحسنَه، وأَدْخِلْنَا برَحمَتِك في عبادِك الصَّالِحين.
مخاطبة الله جل جلاله الناس عامة بالآيات الكونية ليؤمنوا به:
أيها الإخوة المؤمنون، مع الدرس الرابع عشر من دروس سورة النساء، ومع الآية الثلاثين والواحدة والثلاثين، وهي قوله تعالى:
﴿ يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ لَا تَأۡكُلُوٓاْ أَمۡوَٰلَكُم بَيۡنَكُم بِٱلۡبَٰطِلِ إِلَّآ أَن تَكُونَ تِجَٰرَةً عَن تَرَاضٍ مِّنكُمۡۚ وَلَا تَقۡتُلُوٓاْ أَنفُسَكُمۡۚ إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ بِكُمۡ رَحِيمًا(29) وَمَن يَفۡعَلۡ ذَٰلِكَ عُدۡوَٰنًا وَظُلۡمًا فَسَوۡفَ نُصۡلِيهِ نَارًاۚ وَكَانَ ذَٰلِكَ عَلَى ٱللَّهِ يَسِيرًا(30)﴾
﴿وَمَن يَفۡعَلۡ ذَٰلِكَ عُدۡوَٰنًا وَظُلۡمًا فَسَوۡفَ نُصۡلِيهِ نَارًاۚ وَكَانَ ذَٰلِكَ عَلَى ٱللَّهِ يَسِيرًا﴾ في الدرس الماضي وقفنا مع هذه الآية، ولا بد من تتمة لشرح هذه الآية.
أيها الإخوة الكرام، قلت لكم في الدرس الماضي: إن الإنسان مخير أن يؤمن أو ألاّ يؤمن، لذلك نجد أن الله جل جلاله يخاطب الناس عامة بالآيات الكونية ليؤمنوا به.
﴿ يَٰٓأَيُّهَا ٱلنَّاسُ ٱعْبُدُواْ رَبَّكُمُ ٱلَّذِى خَلَقَكُمْ وَٱلَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ(21)﴾
﴿ أَفَلَا يَنظُرُونَ إِلَى الإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ(17) وَإِلَى السَّمَاءِ كَيْفَ رُفِعَتْ(18) وَإِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ(19) وَإِلَى الْأَرضِ كَيْفَ سُطِحَتْ(20)﴾
إذا دخلت في الدين فأنت ملزم بتطبيق ما جاء في القرآن والسُّنّة:
الآيات الكونية التي تزيد على ألف وثلاثمئة آية يُخاطَب بها الناس كي يؤمنوا بالله، هم مُخيَّرون، هوية الإنسان مخير، يؤمن أو لا يؤمن، أما حينما يؤمن فقد دخل مع الله في عقد إيماني، إذا آمن صار لِزاماً عليه أن يصغي إلى قوله تعالى: ﴿يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ﴾ لأنك آمنت بي فينبغي أن تفعل كذا وينبغي ألا تفعل كذا، فحينما يلزمك الله بغض البصر، أو حينما يلزمك الله بتحرِّي الحلال، أو حينما يلزمك الله بالقِسط، ألزمك بعد أن آمنت به، هذا من متطلبات عقدك الإيماني مع الله، إذاً هذه مقدمة مهمة.
﴿ لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ ۖ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ ۚ فَمَن يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِن بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَىٰ لَا انفِصَامَ لَهَا ۗ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (256)﴾
الدخول في الدين حر، أنت مُخيَّر، لكنك إذا دخلت في الدين أنت مُلزَم أن تنفذ تعليمات الخالق، تماماً كما لو كان التطوع في الجيش أمراً اختيارياً، أنت تتطوع أو لا، أما إذا تطوّعت فهناك نظام، وهناك أمر، وهناك نهي، وهناك عقوبات، لو أن الإنسان لم يقبل الدخول في الدين أصلاً، طبعاً هذا الاختيار السيئ سوف يدفع ثمنه في الدنيا والآخرة، لكن يدفع ثمنه بسبب سوء اختياره، الآن إذا دخلت في الدين فأنت ملزم بتطبيق ما جاء في القرآن الكريم، وما جاء على لسان سيد المرسلين.
كل المنهيات التي نهيت عنها أمر الله جميع المؤمنين أن يفعلوها معك أو ألاّ يفعلوها:
﴿يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ لَا تَأۡكُلُوٓاْ أَمۡوَٰلَكُم بَيۡنَكُم بِٱلۡبَٰطِلِ﴾ أيها الإخوة، لو قلنا لعشرة أشخاص عندهم مركبات: اركبوا سياراتكم، ليركبْ كلٌّ منكم سيارته، إذا وُجِّه الأمر إلى جمع، وكان المفعول جمعاً، فكل واحد يركب مركبته، إذا قال المعلم للطلاب: افتحوا كتبكم، فكل طالبٍ ينبغي أن يفتح كتابه، لكن لو قال أحد الطلاب لأستاذه: ضاع قلمي، فإذا قال المعلم: لا تسرقوا أقلامكم، ما المقصود؟ لا تسرقوا أقلام غيركم، لأن الإنسان لا معنى أن يسرق ماله، لا يُسمَّى هذا سرقة، قاس بعض العلماء هذه الآية على هذه القاعدة، إذا قال الله عز وجل: ﴿لَا تَأۡكُلُوٓاْ أَمۡوَٰلَكُم﴾ أي لا تأكلوا أموال غيركم، لكن قد يغيب عن المؤمن أن الله حينما ضيَّق عليك حركتك اليومية –دقق- لا تغش، لا تكذب في البيع والشراء، لا تدلِّس، لا تحتكر، لا تستغل، حينما ضيق حركتك اليومية، ضيق على مليار ومئتي مليون مسلم حركتهم معك، وإذا نهاك الله عن السرقة، فقد نهى ملياراً ومئتي مليون مسلم أن يسرقوا منك، هذا قد يغيب عنا، إذا أمرك ألّا تعتدي على أعراض المسلمين، هذا الأمر مُوجَّه إلى كل المسلمين ألا يعتدوا على عِرْضك، إذاً أنت المنتفِع الأول من تضيق هذه الحركة، إذاً أيُّ نهيٍ تجده في كتاب الله، أو تجده في سنة رسول الله ينبغي أن تعلم أنه إذا شعرت أنّ الأمر قد ضاق عليك يجب أن تشعر مع هذا الشعور أن الله سبحانه وتعالى أمرَ كل المؤمنين أن يحترموك، أن يحترموا مالك، ألّا يعتدوا على عِرْضك، ألا يكذبوا عليك، ألا يسرقوا منك، كل المنهِيّات التي نُهِيت عنها أُمِر جميع المؤمنين أن يفعلوها معك أو ألاّ يفعلوها، إذاً هذا الأمر لصالحك، النقطة الدقيقة أيها الإخوة، والتي أتمنى أن أُوفَّق في شرحها في هذا اللقاء؛ الإنسان له في الحياة حركة، هذه الحركة تزيد وتقل، فمتى تزيد؟ تزيد في حالة واحدة؛ إذا ضُمِن لك أن تقطف ثمار حركتك، وأن تكون آمناً على نتيجة عملك، هذه الحركة تزداد، أما إذا لم يُضمَن لك أن تقطف ثمار حركتك، وجاء إنسان آخر فأكل ثمرة عملك، هذا الوضع غير المقبول من شأنه أن يُضعِّف حركة الإنسان في الأرض، ليس شرطاً أن تنوي خدمة الناس، ولا خدمة المسلمين، إذا كنت تريد مصلحتك، وضُمِنت لك مصلحتك عمّ الخير على كل الناس، قد تكون مؤمناً، وفي مستوى عالٍ من الإيمان، فتحمل همَّ الناس، إنْ فعلت هذا كانت لك الدنيا والآخرة، أما كنظام حينما أضمن لكل إنسان نتائج عمله، وثمرة عمله، وحينما لا أسمح لإنسان أن يأكل ثمرة عمل الآخرين لذكائه، أو لقوته، أو لاحتياله، أو ما شاكل ذلك، حينما أضمن للناس ثمار أعمالهم تزداد هذه الحركة، وحينما تزداد هذه الحركة يعم الخير.
النظام الإسلامي والمنهج الرباني موضوعي:
أضرب بعض الأمثلة، أنا حينما أشجع الناس أن يزرعوا، والإنسان في مخيلته مصلحته الشخصية بادئ ذي بَدء، إذا تسابق الناس إلى زراعة الأرض كثُر الإنتاج، ورخُصت الأسعار، وعمَّ الخير، هذا الخير الذي عمَّ ليس في نية الناس، بل كان ذلك رغبة في تحقيق مصالحهم فقط، لكن لأنه ضُمِنت لهم نتائج أعمالهم، وضُمِنت لهم ثمار أعمالهم فتحركوا حركة واسعة، عندئذٍ عمَّ الخير جميع الناس، كأن هذه الآية تريد أن توضح للناس أنّ حركة الإنسان إذا كانت طليقة، وإذا كانت مضمونة النتائج فإن هذا الشيء يعمُّ بخيره على كل الناس، عندئذٍ تنتعش الحياة، أما إذا لم يُضمَن لك نتائج عملك لا تعمل، والمجتمعات التي لا يستطيع الفرد فيها أن يقطف ثمار عمله مجتمعات خاملة، ومجتمعات ضعيفة الحركة، ومجتمعات متدهورة وفقيرة، أما حينما يُضمَن للإنسان ثمار عمله عندئذٍ يتحرك، ويعمّ الخير، لذلك حينما يلد المالُ المال تتجمّع الأموال في أيدٍ قليلة، ويُحرَم من المال الكثرة الكثيرة، ولا أبالغ إذا قلت: إنّ معظم المشكلات التي تعاني منها البشرية بسبب أن الأموال تلد الأموال، أما إذا ولدت الأعمال الأموال فلا بد من توزيع هذه الأموال على أوسع شريحة في المجتمع، وكأن التصميم الإلهي لِئلّا يكون دُولةً بين الأغنياء منكم، الحالة المرضية السيئة جداً أن يكون المال متداوَلاً بين الأغنياء، بينما السواد الأعظم، الخط العريض في المجتمع محروم من المال، والمال قِوام الحياة.
فيا أيها الإخوة، أنا حينما أضمن للإنسان نتائج عمله، أقول له: افعل، أنشِئ مصنعاً، ازرع أرضاً، روِّج تجارة، أسِّس شركة، ماذا يفعل هذا الإنسان؟ سيؤسس وسيبني وسيوظف وسيوفر فرص عمل كبيرة جداً وسيخفف الأعباء عن الناس دون أن يشعر، أما إذا شعر أنه في خدمة المسلمين هذا إنسان راقٍ جداً، هذا له الدنيا والآخرة، لأن النظام الإسلامي والمنهج الرباني موضوعي؛ بمعنى أنه لو طبّقه كافر لقطف ثماره، لو طبق المنهج الموضوعي كافر به، كافر بالله لقطف ثماره، وهذا ما نجده أحياناً في بعض البلاد المتقدمة، تعجب! تقدم كبير جداً، رخاء، أسعار منخفضة، فرص عمل كثيرة، لأن هناك شيء من النظام الرباني مطبق في هذا المجتمع، لا عن إيمان بالله إطلاقاً، ولكن عن إيمان بالمال.
حينما يسعى الإنسان لمصلحته الشخصية فقط وفق منهج الله يعم الخير على المجتمع كله:
إذاً حينما نهانا الله عز وجل عن أن نأكل أموال غيرنا، معنى أن تأكل مال أخيك؛ المال جهد أيها الإخوة، أوضح مثلاً، لو كلّفنا إنساناً أن ينقل مثلاً مئة حجر من مكان إلى مكان أعطيناه ألف ليرة، هذه الألف ليرة تعني جهداً، فإذا كان في الطريق إنسان قوي وشهَرَ عليه السلاح وأخذ منه الألف ليرة ماذا حصل؟ هذا الجهد الشاق الذي بذله هذا الإنسان أكله إنسان آخر، تكاد تكون معاصي المال -عدِّدها: الربا، الغش، التدليس، الاحتكار، الكذب، السرقة، القمار- تكاد تكون معاصي المال في مجملها تنطلق من مبدأ واحد: أن نسمح لإنسان قوي أو ذكي أن يأكل ثمرة إنسان آخر، ولمجرد أن نسمح لإنسان قوي أو ذكي، قوي لما معه من قوة وذكي باحتياله، المال يُأخَذ غصباً أو احتيالاً، القوي يأخذه غصباً، والذكي المنحرف يأخذه احتيالاً، حينما نسمح أن يقطف إنسان لم يعمل ثمرة إنسان عمِلَ تضعف حركة الحياة، ويعمّ الفقر في المجتمع، فلذلك حينما نهى الله عز وجل المؤمنين عن أن يأكلوا أموال بعضهم بعضاً، أي ضمن لهم نتائج عملهم، ضمن لهم أن يقطفوا ثمار عملهم، والإنسان كما أقول حينما يسعى لمصلحته الشخصية فقط وفق منهج الله يعمّ الخير على المجتمع كله.
إنسان معه في الصندوق مبلغ كبير، مثل واضح، لو أراد أن يبني بناءً، وبحسب نظام الإيجار ينتفع من أجرته، هذا المبلغ مُخزَّن في الصندوق، لو خرج من الصندوق لينقلب إلى بناء ماذا سوف يفعل صاحب هذا المال؟ سوف يشتري أرضاً، وسوف يأتي بعمال، وسوف يستصدر التراخيص، وسوف وسوف، وسوف يقلب هذا المبلغ الكبير إلى أموال أخذها أصحاب هذه المصلحة، تقاسموها، الذي حفر الأرض، والذي بنى، والذي صبّ السقف، والذي طلى البيت، والذي مدد، ثم جاء إنسانان، وسكنا في هذين البيتين، الإنسان دفع، لكن وجد بيتاً يسكنه، المبلغ الكبير الذي في الصندوق لو خرج فانقلب إلى بناء مؤلف من عشرة بيوت، وجاء أناس، واستأجروا هذه البيوت لحُلَّت مئات المشاكل، لذلك من بعض توجيهات الشارع الحكيم أن الزكاة حينما تُفرَض على المال الذي لا ينمو، الغنم مال، لكنه ينمو بطبيعته بسبب التوالد، البقر، الإبل، النبات تزرع حبة واحدة قد تنقلب هذه الحبة إلى مئة حبة، الزراعة تنمو، والأنعام تنمو، لكن المال لا ينمو، فُرِض على المال الزكاة، لأنك إذا لم تستثمره لصالح المسلمين أكلته الزكاة، وكأن فريضة الزكاة باعث على أن تستثمر المال وتنفع به المسلمين.
البطالة هي أكبر مشكلة تعاني منها المجتمعات الآن:
إذاً حينما قال الله عز وجل: ﴿لَا تَأۡكُلُوٓاْ أَمۡوَٰلَكُم بَيۡنَكُم بِٱلۡبَٰطِلِ﴾ أي يجب أن تضمنوا لبعضكم البعض قطْفَ ثِمار أعمالكم، أمّا لو أنّ هذا الإنسان بعد أن بنى هذا البناء، وقلبَ هذا المال الجامد في صندوقه إلى بناء من عشرة بيوت أخذناه منه عنْوة، كم من إنسان آخر يُحجِم عن استثمار ماله في البناء؟ معظم الناس، أما إذا ضمنا له أن يقطف ثمار ماله إذاً الحركة تتنشط، هذه الآية أيها الإخوة توجيه إلهي دقيق، ومعناها الدقيق أن نضمن لكل إنسان كائن من كان قطف ثمار حركته في الحياة، إذاً تنشأ حركة واسعة جداً، نشيطة جداً، مثمرة جداً وأنا لا أتصور أن الرخاء الذي تنعم به بعض المجتمعات الشاردة عن الله عز وجل إلا لأن مبدأ صون حركة المال وحركة الحياة مضمون هناك.
﴿يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ لَا تَأۡكُلُوٓاْ أَمۡوَٰلَكُم بَيۡنَكُم بِٱلۡبَٰطِلِ﴾ إذاً حينما نهى الله عز وجل عن أكل أموال الناس بالباطل فقد نهى كل المسلمين أن يأكلوا أموالك أيها المؤمن بالباطل، فهذا الأمر لصالحك، أنت واحد، أما هناك ملايين كثيرة أُمرتْ كما أُمرتَ أن يكفوا عن مالك، هذا المعنى الأول، والمعنى الثاني حينما أضمن للإنسان أن يقطف ثمار حركته في الحياة معنى ذلك أنني نشّطت العمل، الآن أكبر مشكلة تعاني منها المجتمعات البطَالة.
سيدنا عمر هذا الخليفة الراشد سأل أحد الولاة: ماذا تفعل إذا جاءك الناس بسارق أو ناهب؟ قال: أقطع يده، قال: إذاً فإن جاءني من رعيتك من هو جائع أو عاطل فسأقطع يدك، انتبه هذا الخليفة الراشد قبل ألف وأربعمئة عام إلى أن أكبر مشكلة في المجتمع البطالة، أحياناً يقال لك: في بعض الإحصاءات أن هذه النسبة لم تكن من خمسين عاماً 6.3، هناك مجتمعات البطالة فيها وصلت إلى ستين في المئة، هذا توجيه قرآني لكل المؤمنين، لذلك من هو السارق؟ السارق اعتدى على جهد الآخرين، إنسان تعب، وعمل، وقطف ثمار ماله، فجاء من أخذها منه، لذلك الحد قوي جداً؛ تُقطَع يده، صوناً لحركة الحياة.
في الآية التالية توجيه اقتصادي لمجموع المسلمين:
سأل بعضَ العلماء شاعرٌ فقال له:
يدٌ بخمسِ مئينَ عَسْجَدٍ وُدِيَت مَا بَالُها قُطِعَت في ربع دينار
أي لو إنساناً أصاب يد إنسانٍ خطأ، بحادث سير فرضاً، عشر مئين عسجد ذهب، دِيَّتها ألف دينار ذهبي، ما بالها قُطِعت في ربع دينار؟ لو سرقت هذه اليد ربع دينار لقُطِعت، فأجاب الإمام الشافعي:
عِزُّ الأمانةِ أغلاها وأرخصها ذلّ الخيانة فافهمْ حكمةَ الباري
لما كانت أمينة كانت ثمينة، فلما خانت هانت، لذلك يوم طبقت بعض الدول الإسلامية قطْع اليد فإنّ القصص التي تُروى لا تُصدَّق، هل يُعقَل أن يذهب صرّاف في موسم الحج ليصلي الأوقات الخمسة في المسجد، والأموال مُكدَّسة في صندوقه على قارعة الطريق، وهو آمن عليها، نظام، بينما في بعض البلاد المتقدمة في كل ثلاثين ثانية تُرتكَب جريمة قتل، أو سرقة، أو اغتصاب، فحينما نضمن للناس ثمار أعمالهم يتقدم المجتمع، وحينما نسمح، أو نتغاضى، أو نتهاون في تطبيق العقوبات على من يعتدي على ثمار عمل الآخرين تضعف الحركة في الحياة، سميت الحالة الأولى نماءً اقتصاديّاً، وسميت الحالة الثانية ركوداً اقتصادياً، هذه الآية فيها توجيه دقيق جداً، توجيه اقتصادي لمجموع المسلمين: ﴿يا أيها الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ﴾ .
وبالمناسبة ﴿لَا تَأْكُلُوا﴾ كما قلت في الدرس الماضي: قد يسكن الإنسان بيتاً طوال عمره، وقد يبقى على ثوب واحد لأشهر عديدة، أمّا الأكل فكل يوم، وأبرز عمل للإنسان أنه يأكل، حتى من تعريفات الإنسان أنه كائنٌ فاتحٌ فمَه ليأكل، فالأكل هنا نشاط يومي، وثمة أشخاص كلما تحركوا أكلوا أموال الناس بالباطل، يكذبون، ويدلّسون، ويغشون، وكأن الله سبحانه وتعالى ذكر كلمة لا تأكلوا لأن الأكل نشاط يومي، وهناك من يجعل نشاطه اليومي أكْلَ أموال الناس بالباطل، بالباطل أي بطريقة لا معاوضة فيها.
حينما تكون المنافع متبادلة فالمال حلال وحينما تكون مبنية على الضرر فالمال حرام:
ذكرت قبل قليل المبدأ العميق جداً لجمع كل ألوان كسب المال الحرام، قمار، يانصيب، تدليس، غش، سرقة، ربا، كل شيءٍ حرّمه الله في كسب المال ينطلق من منفعة بُنيت على ضرر، منفعة نالها إنسان بُنيت على ضرر، أوضح شيء السارق، السارق انتفع، سرق مئة ألف، لكن ما تعب في كسبها، بُنيت على أنّ ثمرة إنسانٍ آخر ذهبت سُدى، الإنسان الآخر بحاجة إلى المئة ألف، قد يشتري بها حاجات العام، قد ينفقها على أشهر عدة، الآن وكل كسبٍ يُبنى على منافع متبادلة فهو كسبٌ حلال، فالتاجر يسافر، ويشتري، ويشحن، ويضمن الخسارة، ويتحمل أعباء السفر، وأعباء تخليص البضاعة، ثم بيع البضاعة، ثم جمع ثمنها، هذا جهد كبير مع ضمان، جهد مع ضمان له أن يربح، هذا الربح الذي يأكله التاجر ليس بالباطل، بالحق، لكن لو غشّ فقد أكلَ بالباطل، لو أوهمك أن هذا القماش فرنسي، وهو من مصدر آسيوي رخيص، وصدقت أنت، فدفعت له ثمن القماش الفرنسي، بينما أعطيته قماشاً رخيصاً، اعتديت عليه، فأكلت ماله بالباطل، كل إنسان غشاش يأكل أموال الناس بالباطل، أحياناً بعرض البضاعة يُوهِمك أن هذا اللحم طازج، يضع ضوءاً أحمر يعطي اللحم الأبيض لوناً زهرياً كأنه طازج، أحياناً عرْض البضاعة فيه غش، أحياناً الأوصاف التي يصفها البائع فيها غش، كل أنواع الغش أكل أموال الناس بالباطل، الربا أكل أموال الناس بالباطل، القمار أكل أموال الناس بالباطل، اليانصيب أكلُ أموال الناس بالباطل، شركات التأمين تأخذ منك مبلغاً كبيراً دون أن تعطيك شيئاً إذا سلمت من حادث، أكلُ أموال الناس بالباطل، إذا بُنيت منفعة على ضرر فهو مال حرام، أما إذا بُينت منفعة على منفعة، كشخص معه مال لا يحسن استثماره، فأعطاه لشاب مؤمن مهندس فاستثمره، والربح بينهما، صاحب المال في أعلى درجة من الراحة، لأنه استثمر ماله، وعاد إليه منه نفع كبير، والشاب المُتَّقد حيوية، والذي لا يملك مالاً اشتغل بهذا المال فربح، وأعطى صاحب المال نصيبه، إذاً كمبدأ عام حينما تكون المنافع متبادلة فالمال حلال، وحينما تكون المنافع مبنية على الضرر فالمال حرام، مبدأ عام.
إن أطيب الكسب كسب التجار:
قال: ﴿يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ لَا تَأۡكُلُوٓاْ أَمۡوَٰلَكُم بَيۡنَكُم بِٱلۡبَٰطِلِ إِلَّآ أَن تَكُونَ تِجَٰرَةً عَن تَرَاضٍ﴾ توسّع بعض العلماء في معنى التجارة التي عن تراضٍ، أي لو كُشِفت الحقائق للمشتري يرضى، لو كُشِفت الحقائق للبائع يرضى، أما إذا طُمِست الحقائق، وعُتِّم على بعضها رضي المشتري، إذا أوهمته أن هذه البضاعة سوف يُمنَع استيرادها خلال أيام، وليس عندي إلا قطعة واحدة، وعندك ألف قطعة في المستودع، ليس عندك إلا قطعة واحدة، أوهمتَه بذلك فاشتراها مباشرة دون أن يساومك على السعر، هذا مال حرام، لأنك غيّرت حركة السوق الطبيعية، حينما تغيّر الحركة الطبيعية للسوق فهذا نوع من الكسب الحرام: ﴿إِلَّآ أَن تَكُونَ تِجَٰرَةً عَن تَرَاضٍ﴾ لماذا ذكر الله التجارة، ولم يذكر الصناعة؟ لأن التجارة هي الوسيط بين المنتج والمستهلك، قد يكون الإنتاج زراعياً، فالتاجر يشترى الخضار والفواكه فيبيعها، وقد يكون الإنتاج صناعياً، التاجر يشتري ويبيع، فالوسيط الذي يتوسط بين المنتج والمستهِلك هو التاجر، فالله عز وجل ذكرَ التجارة على أنها طريقة من طرائق الكسب، إن أطيب الكسب كسب التجار، لكن أين هم التجار؟
(( إنَّ أطيبَ الكَسْبِ كَسْبُ التُّجَّارِ؛ الَّذِينَ إذا حَدَّثُوا لَمْ يَكذِبُوا، وإذا ائْتُمِنوا لَمْ يَخونُوا، وإذا وعَدُوا لَمْ يُخْلِفُوا، وإذا اشْتَرَوا لَمْ يَذُمُّوا، وإذا باعُوا لَمْ يَمْدَحُوا، وإذا كان عليهم لَمْ يَمْطُلُوا، وإذا كان لَهُمْ لَمْ يُعَسِّرُوا ))
سبع صفات إذا توافرت في التاجر كان هذا التاجر صدوقاً، وكان مع النبيين، والصديقين، والشهداء، والصالحين يوم القيامة، لأنه صار داعية إلى الله، وأكبر قطرَين إسلاميين في شرق آسيا أسلمت شعوبها عن طريق التجار فقط، التاجر يحتل مكانة كبيرة في المجتمع، لأنه أعطاك بضاعة جيدة بسعر معتدل، أما إذا غش فيحتل مكانة سيئة في المجتمع، كان السلف الصالح حينما يفتحون محلّاتهم التجارية ينوون خدمة المسلمين، إذاً هم في عبادة، المؤمن عاداته عبادات، والمنافق عباداته الصِّرفة سيئات.
﴿ إِنَّ ٱلْمُنَٰفِقِينَ يُخَٰدِعُونَ ٱللَّهَ وَهُوَ خَٰدِعُهُمْ وَإِذَا قَامُوٓاْ إِلَى ٱلصَّلَوٰةِ قَامُواْ كُسَالَىٰ يُرَآءُونَ ٱلنَّاسَ وَلَا يَذْكُرُونَ ٱللَّهَ إِلَّا قَلِيلًا (42)﴾
للآية التالية ثلاثة معانٍ:
ثم يقول الله عز وجل: ﴿وَلَا تَقۡتُلُوٓاْ أَنفُسَكُمۡۚ﴾
.1 ـ يعلمنا الله أن نتلقى الشدائد بقوة متماسكة وألا نيئس من رحمته:
الذي يقتل نفسه يائس من رحمة الله، كأن الله يعلمنا أن نتلقى الشدائد بقوة متماسكة، سيدنا موسى -وهذا درس بليغ- حينما كان مع قومه، وفرعون من ورائهم، والبحر من أمامه، بحسب قوانين الأرض احتمال النجاة صفر، لا أمل أبداً، فرعون بطغيانه، وجبروته، وقسوته، وجنوده، وأسلحته، وحقده وراء شِرْذِمة قليلة من أتباع سيدنا موسى، والبحر أمامهم.
﴿ فَلَمَّا تَرَٰٓءَا ٱلْجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَٰبُ مُوسَىٰٓ إِنَّا لَمُدْرَكُونَ(61) قَالَ كَلَّآ ۖ إِنَّ مَعِىَ رَبِّى سَيَهْدِينِ(62)﴾
من هو المنتحِر؟ إنسان لا يعرف الله أبداً، لكن هناك أمل بالمليار واحد، مَن وجد نفسه لقمة في بطن حوت في ظلمة الليل، وفي ظلمة أعماق البحر، وفي ظلمة بطن الحوت:
﴿ وَذَا ٱلنُّونِ إِذ ذَّهَبَ مُغَٰضِبًا فَظَنَّ أَن لَّن نَّقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَىٰ فِى ٱلظُّلُمَٰتِ أَن لَّآ إِلَٰهَ إِلَّآ أَنتَ سُبْحَٰنَكَ إِنِّى كُنتُ مِنَ ٱلظَّٰلِمِينَ (87)﴾
لا يقال هنا: لا يوجد تغطية في هذا المحل.
﴿ وَذَا ٱلنُّونِ إِذ ذَّهَبَ مُغَٰضِبًا فَظَنَّ أَن لَّن نَّقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَىٰ فِى ٱلظُّلُمَٰتِ أَن لَّآ إِلَٰهَ إِلَّآ أَنتَ سُبْحَٰنَكَ إِنِّى كُنتُ مِنَ ٱلظَّٰلِمِينَ (87) فَٱسْتَجَبْنَا لَهُۥ وَنَجَّيْنَٰهُ مِنَ ٱلْغَمِّ ۚ وَكَذَٰلِكَ نُۨجِى ٱلْمُؤْمِنِينَ (88)﴾
ألا تكفي هذه الآية؟
2 ـ بحسب منهج الله الذي قتل الآخر كأنه في النهاية قتل نفسه:
من هو المنتحر؟ إنسان لا يعرف الله أبداً، بحسب قوانين الأرض لا أمل، لكن الله يخلق الأمل مِن لا شيء، يخلق من الضعف قوة، فالمنتحِر كافر لأنه لا يعرف الله، ولا يعرف أن الذي خلقه أمْره كن فيكون، لكن هناك معنى آخر لهذه الآية، لا تقتل غيرك فتُقتَل، بنظام خالق الأكوان.
﴿ وَلَكُمْ فِى ٱلْقِصَاصِ حَيَوٰةٌ يَٰٓأُوْلِى ٱلْأَلْبَٰبِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ(179)﴾
حينما يُشرَّع أن القاتل يجب أن يُقتَل، إذاً ضمِنّا الحياة للطرفين، للقاتل لم يَقتُل، وللمقتول لم يُقتَل، مادام هناك قناعة ثابتة أن هذا النظام الإسلامي القاتل يُقتَل، فالقاتل لا يَقتل، والمقتول لم يُقتَل، ضمِنّا حياة الاثنين، وهذا معنى قوله تعالى: ﴿وَلَكُمْ فِى ٱلْقِصَاصِ حَيَوٰةٌ يَٰٓأُوْلِى ٱلْأَلْبَٰبِ﴾ أحياناً أيها الإخوة، هناك حدود ردعيّة لو لم تُطبَّق، أو لو لم تُستَعمل بالأصح أثرها واضح، ما الذي يبعد الناس عن أن يأكلوا أموال بعضهم البعض؟ وجود السلطان، وعن عثمان بن عفان أنه قال:
وإن الله يزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن.
فحينما يعدم الإنسان مثلاً في مركز المدينة لأنه سارق، أو لأنه قاتل فهذا يعطي الناس ردعاً كبيراً جداً، يرتاحون حينما ينزل العقاب بالقاتل أو بالسارق، فلذلك: ﴿وَلَا تَقۡتُلُوٓاْ أَنفُسَكُمۡۚ﴾ أي لا تقتلوا بعضكم البعض، عندئذٍ بحسب منهج الله تُقتَلون، فالذي قتل الآخر كأنه في النهاية قتل نفسه. أذكر جريمة وقعت في ريف دمشق، خمسة أشخاص أخذوا بائع ذهب، وقتلوه، ووضعوه في بئر، وأخذوا من عنده تقريباً عشرة كيلو غرامات من الذهب، أنا أذكر أن المسافة أو الوقت الزمني بين السرقة وبين إعدامهم أسبوعان أو ثلاثة، هل يُعقَل لهذا الإنسان لو أيقن أنه مقتول أن يسرق، أو أن يقتل؟ ضعف اليقين، فالشارع الحكيم يأمرنا أن نجعل عقوبة القتل رادعة، لذلك: ﴿وَلَا تَقۡتُلُوٓاْ أَنفُسَكُمۡۚ﴾ حينما تقتل أخاك فقد قتلت نفسك حُكْماً، لأنك مقتول، وحينما يكون تشريع القاتلُ يُقتَل قائماً فالحياة ينعم بها من كان سيَقتُل، ومن كان سيُقتَل، فلذلك قضية المنهج الإلهي مهمة جداً: ﴿وَلَا تَقۡتُلُوٓاْ أَنفُسَكُمۡۚ﴾ .
3 ـ على الإنسان ألا يتهاون بأشياء تودي به إلى القتل:
هناك معنى ثالث: لا تتهاون بأشياء قد تودي بك إلى القتل، قضية بسيطة تفاقمت، ثم أصبحت جريمة، أحياناً السرقة تنقلب إلى قتل، دخل ليسرق، فقاومه صاحب البيت، معه مسدس فقتله، كان سارقاً فصار قاتلاً، أيها الإنسان لا تفعل شيئاً ينتهي بك إلى القتل، ولا تَقتل أخاك لئلا تُقتَل، وإنك إذا قتلت أخاك ضعَّفت المسلمين، لذلك الذي يقتل مؤمناً خطأً بحادث، في أصل التشريع عليه أن يُعتِق رقبة مؤمنة، لأن هذا المجتمع خسر عنصراً مؤمناً فلا بد من تعويضه بعنصر مؤمن.
حينما يعتدي الإنسان ويعلم أنه معتدٍ فهذا أعلى أنواع الشر:
قال: ﴿إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ بِكُمۡ رَحِيمًا*وَمَن يَفۡعَلۡ ذَٰلِكَ عُدۡوَٰنًا وَظُلۡمًا﴾ أحياناً يكون العدوان عن غفلة لا عن ظلم: ﴿عُدۡوَٰنًا وَظُلۡمًا﴾ يعني يعتدي، ويعلم أنه معتدٍ، هذا أعلى أنواع الشر، أسوأ أنواع الشر، يعتدي ويعلم أنه مُعتدٍ، لكن أحياناً إنسان لغفلةٍ عنده قد يعتدي ويعتذر، الذنب الذي يُبنى على الغفلة أو على الجهل سهلٌ غفرانه، أما حينما يعتدي وهو يعلم أنه مُعتدٍ، وهو يعلم أنه ظالم فهذا ذنب كبير جداً: ﴿وَمَن يَفۡعَلۡ ذَٰلِكَ عُدۡوَٰنًا وَظُلۡمًا فَسَوۡفَ نُصۡلِيهِ نَارًاۚ وَكَانَ ذَٰلِكَ عَلَى ٱللَّهِ يَسِيرًا﴾ مَن فَعلَ في النار فِعْل الإحراق؟ الله جل جلاله، قوتها من قوة الله عز وجل: ﴿وَمَن يَفۡعَلۡ ذَٰلِكَ عُدۡوَٰنًا وَظُلۡمًا فَسَوۡفَ نُصۡلِيهِ نَارًاۚ وَكَانَ ذَٰلِكَ عَلَى ٱللَّهِ يَسِيرًا﴾
كل معصية حولها منطقة لو دخلتها لجذبت إليها:
ثم يقول الله عز وجل:
﴿ إِن تَجۡتَنِبُواْ كَبَآئِرَ مَا تُنۡهَوۡنَ عَنۡهُ نُكَفِّرۡ عَنكُمۡ سَيِّـَٔاتِكُمۡ وَنُدۡخِلۡكُم مُّدۡخَلًا كَرِيمًا(31)﴾
إخواننا الكرام، في هذه الآية حقائق خطيرة جداً، أولاً: ﴿إِن تَجۡتَنِبُواْ﴾ معنى تجتنب في القرآن الكريم يقتضي أن تدعَ مسافة أمان، أو هامش أمانٍ بينك وبين المعصية، فإن كل معصية حولها منطقة لو دخلتها لجُذِبت إليها، أبداً.
الزنى: حول الزنى الاختلاط، حول الزنى الخلوة، حول الزنى إطلاق البصر، حول الزنى صحبة الأراذل، أنا سمعت قبل أيام مصطلحاً أعجبني، هناك مصطلح دقيق جداً هو التحرُّش بالمرأة، هناك مصطلح جديد تحرُّش المرأة بالرجل، كيف؟ من خلال ثيابها، حينما تكون ثياب المرأة فاضحة مُبرِزة لمفاتنها، هذه المرأة تتحرّش بالرجال، كيف أن الرجال لهم عبادات خاصة كالجهاد في سبيل الله، وحضور الجمع والجماعات، للمرأة عبادة خاصة ترقى بها، أنا سميتها عبادة إعفاف الشباب، فالمرأة مُحبَّبة إلى الرجل، فإذا أظهرت مفاتنها من خلال ثيابها الفاضحة فقد تحرشت بالشباب، ودفعتهم إلى مجموعة من المعاصي، إمّا أن يقعوا في الزنى، أو في المِثلية، أو في العادة، أما إذا كانت ثياب المرأة سابغة، وثخينة لا تصف ما تحته، وواسعة لا تصف حجم أعضائها، إذاً هي ساهمت في إعفاف الشباب، لها عند الله أجر، لعلّ المرأة في الصيف محرومة من ثياب خفيفة، قد يفعلها الشاب، ولا شيء عليه، لكن الفتاة ممنوعة أن ترتدي ثياباً خفيفة تُظهِر مفاتنها، هذه المرأة حينما ترتدي معطفاً في الصيف، وحينما ترتدي ثياباً سابغةً، ثياباً محتشمةً طويلةً واسعةً، وحينما تغطي شعرها ووجهها، ماذا تفعل هذه؟ تعبد ربها، تعبد ربها وكأنها في صلاة، لذلك والله أيها الإخوة، حينما أرى امرأة محجبة حجاباً إسلامياً صحيحاً لا يسعني إلا أن أقول:
﴿ فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّآ أُخْفِىَ لَهُم مِّن قُرَّةِ أَعْيُنٍۢ جَزَآءًۢ بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ(17)﴾
أما حينما تسبب أزمات وانحرافات لمَن يراها متفلِّتة في ثيابها فهذه مشكلة.
على الإنسان أن يدع هامش أمان بينه وبين المعصية:
إذاً: ﴿إِن تَجۡتَنِبُواْ﴾ الكبائر، فيجب أن تدعَ بينك وبينها هامش أمان، كأن نهراً مخيفاً له شاطئ مائل زلِق، وله شاطئ مستوٍ جاف، فحينما تمشي على الشاطئ المائل الزلِق احتمال أن تسقط في النهر كبير جداً:
(( الحَلَالُ بَيِّنٌ، والحَرَامُ بَيِّنٌ، وبيْنَهُما مُشَبَّهَاتٌ لا يَعْلَمُهَا كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ، فَمَنِ اتَّقَى المُشَبَّهَاتِ اسْتَبْرَأَ لِدِينِهِ وعِرْضِهِ، ومَن وقَعَ في الشُّبُهَاتِ: كَرَاعٍ يَرْعَى حَوْلَ الحِمَى، يُوشِكُ أنْ يُوَاقِعَهُ، ألَا وإنَّ لِكُلِّ مَلِكٍ حِمًى، ألَا إنَّ حِمَى اللَّهِ في أرْضِهِ مَحَارِمُهُ، ألَا وإنَّ في الجَسَدِ مُضْغَةً: إذَا صَلَحَتْ صَلَحَ الجَسَدُ كُلُّهُ، وإذَا فَسَدَتْ فَسَدَ الجَسَدُ كُلُّهُ، ألَا وهي القَلْبُ.))
إذاً من كلمة: ﴿إِن تَجۡتَنِبُواْ﴾ ينبغي أن نفهم أن تدع هامش أمان بينك وبين المعصية، الزنى، الخلوة، الخلوة طريق للزنى، الاختلاط، إطلاق البصر، صحبة الأراذل، متابعة الأفلام الإباحية، هذا كله ينتقل إلى الزنى.
الخمر:
(( لَعَنَ اللَّهُ الْخَمْرَ وَشَارِبَهَا وَسَاقِيَهَا وَبَائِعَهَا وَمُبْتَاعَهَا وَعَاصِرَهَا وَمُعْتَصِرَهَا وَحَامِلَهَا وَالْمَحْمُولَةَ إِلَيْهِ ))
هؤلاء جميعاً ملعونون، لم يقل لك الله عز وجل: حُرِّمت عليكم الخمر، بل قال:
﴿ يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ إِنَّمَا ٱلْخَمْرُ وَٱلْمَيْسِرُ وَٱلْأَنصَابُ وَٱلْأَزْلَٰمُ رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ ٱلشَّيْطَٰنِ فَٱجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ(90)﴾
الاجتناب أبلغ من التحريم، أبلغ بكثير، الاجتناب أن تدعَ منطقة أمان كبيرة، بربكم لو أن وزير الكهرباء أنشأ خط توتر عالٍ جداً ثمانية آلاف فولت، وكتب لوحة: ممنوع مسّ التيار، قبل التيار بثمانية أمتار مَن دخل إلى هذه المنطقة يصبح فحمة سوداء، ماذا ينبغي أن يكتب؟ ممنوع الاقتراب من التيار، ممنوع مس التيار كلام لا معنى له إطلاقاً.
﴿ أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ ٱلصِّيَامِ ٱلرَّفَثُ إِلَىٰ نِسَآئِكُمْ ۚ هُنَّ لِبَاسٌ لَّكُمْ وَأَنتُمْ لِبَاسٌ لَّهُنَّ ۗ عَلِمَ ٱللَّهُ أَنَّكُمْ كُنتُمْ تَخْتَانُونَ أَنفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنكُمْ ۖ فَٱلْـَٰٔنَ بَٰشِرُوهُنَّ وَٱبْتَغُواْ مَا كَتَبَ ٱللَّهُ لَكُمْ ۚ وَكُلُواْ وَٱشْرَبُواْ حَتَّىٰ يَتَبَيَّنَ لَكُمُ ٱلْخَيْطُ ٱلْأَبْيَضُ مِنَ ٱلْخَيْطِ ٱلْأَسْوَدِ مِنَ ٱلْفَجْرِ ۖ ثُمَّ أَتِمُّواْ ٱلصِّيَامَ إِلَى ٱلَّيْلِ ۚ وَلَا تُبَٰشِرُوهُنَّ وَأَنتُمْ عَٰكِفُونَ فِى ٱلْمَسَٰجِدِ ۗ تِلْكَ حُدُودُ ٱللَّهِ فَلَا تَقْرَبُوهَا ۗ كَذَٰلِكَ يُبَيِّنُ ٱللَّهُ ءَايَٰتِهِۦ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ(187)﴾
اجعل بينك وبينها هامش أمان، والشريف من يهرب من أسباب المعصية، لا من المعصية نفسها، أنا أقول لكم: لو حلَّلت مئة حالة زنى لوجدت خمسة وتسعين في المئة من هذه الحالات لم يكن يخطر في بال الواحد منهم أن يصل إلى الزنى، لكن لأنه دخل المنطقة المحرمة فهذه المنطقة المحرمة ساقته إلى الزنى، وهكذا: ﴿إِن تَجۡتَنِبُواْ﴾ ولهذه الآية أيها الإخوة، وقفة متأنية إن شاء الله في الدرس القادم.
الملف مدقق