الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا، إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا، وزدنا علماً، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين.
المؤمن مأخوذ بصنعة الله والشارد عن الله مأخوذٌ بصنعة البشر:
أيها الإخوة المؤمنون؛ مع الدرس الثالث من سورة النازعات، ومع الآية السابعة والعشرين وهي قوله تعالى:
﴿ أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمِ السَّمَاءُ بَنَاهَا (27)﴾
أي أأنتم أشدّ خلقاً أم الذي خلق السماوات والأرض؟ المؤمن مأخوذ بصنعة الله، والشارد عن الله مأخوذٌ بصنعة البشر، المؤمن يحدِّثك عن المجَّرات، وعن الكواكب، وعن الشمس والقمر، وعن الليل والنهار، وعن الجبال، وعن الأنهار، وعن البحار، وعن الأطيار، وعن الأسماك، مأخوذٌ بآيات الله، بصنعة الله، بروعة خلق الله عز وجل، بينما أهل الدنيا مأخوذون بصِناعات الكفار؛ بمركباتهم، بأجهزتهم، بما عندهم من وسائل سريعة، فنفس المؤمن مُمْتَلئةٌ تعظيماً لله، ونفس غير المؤمن ممتلئةٌ تعظيماً لأهل الدنيا، اللهُ عز وجل في هذه الآية يلفت نظرنا: ﴿أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمِ السَّمَاءُ بَنَاهَا﴾ .
أيها الإخوة؛ لو وازنت بين هذه العين التي ترى صوراً لا نهايةَ لها، بحجمها الطبيعي، وبألوانها الدقيقة، وبحركاتها وسكناتها مباشرةً، وبين آلةٍ تصوِّر، شتانَ بين الجهازين، لو وازنت بين كُلْيةٍ صناعيةٍ وبين كُلْيةٍ طبيعية شتانَ بين الصنعتين، الكليةُ الصناعية حجمها كبير، ويحتاج الإنسان أن يتمدد إلى جنبها ثمانِيَ ساعات، وفي النهاية لا تستطيع أن تصفي مِن دم الإنسان إلا ثمانين بالمئة، ويبقى بعض حمض البول في الدم، مما يزعجه ويحمله على سلوكٍ غير سوي، بينما الكُلْية الطبيعية بحجمها الصغير، بلا صوت، وأنت تعمل هي تعمل، وأنت نائم هي تعمل، وأنت تعمل عملاً شاقاً هي تعمل، ﴿أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمِ السَّمَاءُ بَنَاهَا﴾ .
موازنة بين صنعة الله عز وجل وصنعة الإنسان:
محرِّك صغير له صوت، يملأ الدنيا صَخَبَاً، بينما سُحُبٌ كالجبال تمرّ مَرَّ السحاب بلا صوت!!
﴿ وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ إِنَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَفْعَلُونَ (88)﴾
عوِّد نفسك أن توازن بين صنعة الله عز وجل وصنعة الإنسان، أعلى طبيب أسنان في الأرض من أجل أن يقلع السن لابدّ من أن يضع المخدِّر، ووضع المخدر مؤلمٌ جداً، بينما الطفل الصغير يسقط سنه دون أن يشعر، دون أن يتألَّم، إذا هو مع لقمة الطعام، هل عندك لطفٌ بهذه الطريقة؟ دققْ.
الدماغ البشري حينما يصيبه ألمٌ لا يُحتمل، يفرز من تلقاء ذاته مادةً مخدِّرةً، هذا الغياب عن الوعي، الإنسان إذا أصيب بحادث، والألم بلغ درجة لا تحتمل، الدماغ نفسه يفرز مادة مخدرة فيتخدر، ما هذه الصنعة؟ هذه العين، لو سافرت إلى بلدٍ في القطب الشمالي، والحرارة هناك سبعون تحت الصفر، ترتدي الثياب الصوفية، والجوارب، وكلَّ شيء، لكن هل تستطيع أن تغطي عينيك؟ لا تستطيع، لابد أن تكون صفحة العين على مساسٍ مع الهواء الخارجي، وفي العين ماء، لمَ لا يتجمَّد الماء وهو على اتصالٍ بجوّ حرارته سبعون تحت الصفر؟! قال: لأن في العين مادةً تمنع التجمد، مضادةً للتجمد، ﴿أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمِ السَّمَاءُ بَنَاهَا﴾ .
قرأت مرةً كلمة في موسوعة علمية مِن أرقى الموسوعات، العدد كان عن الطيران، الذي لفت نظري مقدِّمة صغيرة، يقول صاحبها: إن أعظم طائرةٍ صنعها الإنسان على وجه الأرض لا ترقى إلى مستوى الطير، قد يطير الطير ستاً وثمانين ساعةً بلا توقُّف، وقد يقطع سبعة عشر ألف كيلو متر في رحلةٍ من الشمال إلى الجنوب دون أن يضلّ الطريق، يعتمد على ماذا؟ على أي جهازٍ يعتمد؟ والعلماء حتى هذه الساعة في حيرةٍ مِن أمر اتجاه الطير إلى هدفه، بماذا يهتدي؟ بالتضاريس؟ كيف يهتدي في الليل؟ بساحة الأرض المغناطيسية؟ صنعوا له ساحةً مضادةً فسار وفق هدفه، أخذوه بعد الولادة إلى شرق الأرض، فعاد إلى مكان مسقط رأسه في شمالها، لَمْ يَدَعُوا افتراضاً إلا طبَّقوه، والطير يهتدي إلى هدفه، والعلم اليوم لا يعرف ما الذي يهدي الطير، لكن الله أجاب عن هذا السؤال، فقال:
﴿ أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ فَوْقَهُمْ صَافَّاتٍ وَيَقْبِضْنَ مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا الرَّحْمَنُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ بَصِيرٌ (19)﴾
أي ربنا عز وجل مباشرةً مِن دون واسطة يهدي الطير إلى أهدافها.
أنت اجعل لك جولاتٍ في الكون، وازنْ بين الطير والطائرة، وبين الأرض والمركبة، المركبة الفضائية مِن أجل أن تقطع ثانيةً ضوئيةً واحدة، من أجل أن تقطع ثلاثمئة وستين ألف كيلو متر، كلَّفتْ رقماً أرهق ميزانية أمريكا، مِن أجل أن يركب بها اثنان، ويستطيعا أن يعيشا على سطح القمر بجو القمر، ركبا مركبةً فيها علم البشرية كلِّه؛ الرياضيات، مع الفيزياء، مع الفلك، مع الكيمياء، مع الصحة، علم البشرية كله في مركبةٍ كلَّفت أربعة وعشرين ألف مليون دولار، من أجل أن نقطع بها ثانية ضوئيّة واحدة.
وهذه الأرض التي وزنها ستة آلاف مليون ملْيون مليون طن، هذه الأرض التي تسير حول الشمس بسرعة ثلاثين كيلو متر في الثانية، ولا تتأخَّر عن ميعاد وصولها ولا ثانية، دقةٌ ما بعدها دقَّة، بل إن بعض الساعات العِملاقة في الأرض قد تقدِّم ثانيةً أو تؤخِّر ثانية في العام كله، وبعض الكواكب تُضبَط ساعاتُ الأرض على حركة الكواكب، ﴿أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمِ السَّمَاءُ بَنَاهَا﴾ تبعد عنا بعض المجرات عشرين مليار سنة ضوئية، بعض المجرات تزيد عن مجرتنا ثمانية وعشرين مرة، وتبدو نجماً واحداً من بعدٍ سحيق، من بعد مليوني سنة ضوئية، ﴿أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمِ السَّمَاءُ بَنَاهَا﴾ بناها، كَوْنٌ، مئة ألف مليون مجرَّة، أحدث رقم، وفي كل مجرة تقريباً بشكل متوسط مئة ألف مليون نجم، أي مئة ألف مليون نجم ضرب مئة ألف مليون مجرة، وكل نجمٍ له حجمٌ، وسرعةٌ، وكتلةٌ، وجاذبيةٌ، وهو يسير في مسار مغلقٍ حول نجمٍ آخر، والمحصلة كونٌ يتحرك بسكونٍ مُطْلَق، هذا التوازن الحركي، ﴿أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمِ السَّمَاءُ بَنَاهَا* رَفَعَ سَمْكَهَا فَسَوَّاهَا﴾ .
خبرة الله قديمة لا تحتاج إلى تعديل ولا إلى تطوير بينما خبرة الإنسان حادثة:
أيها الإخوة الكرام؛ البدء حينما قال الله عز وجل: ﴿أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمِ السَّمَاءُ بَنَاهَا﴾ وازنْ بين صنعة الله عز وجل وهو خَلْق الإنسان، منذ أن خُلِق الإنسانَ مِن عهد آدم إلى يوم القيامة أطرأ عليه تعديل؟ هل وجد اليد قصيرة فزاد طولها؟ أطرأ عليه تعديل؟ انظر إلى مركبةٍ صنعت في عام ألف وتسعمئة، ووازن بينها وبين مركبةٍ صنعت عام ألفين، الفرق شاسع جداً، المركبةُ القديمة تُدير محرِّكها مِن خارجها، تذكرون ذلك؟ وتُطلق البوق بطريقةٍ بدائيةٍ جداً، على الهواء، وتُشعل مصابيحهُا بالكبريت، فيها شمعات، وعجلاتها ليس فيها هواء، كتلة صُلبة، ومحركها له حركة واحدة، هذه مركبةٌ صنعت عام ألف وتسعمئة، أما التي صنعت عام ألفين فيها شيء لا يصدَّق، ماذا تستنبط؟ إن خبرة الله قديمة لا تحتاج إلى تعديل، ولا إلى تغيير، ولا إلى تبديل، ولا إلى تطوير، بينما خبرة الإنسان حادثة، الصنعات كلها، كلّ سنة هناك تطوير، هناك تحسين، هناك تسريع، في شتَّى المجالات، فأنت عوِّد نفسك أنْ توازن بين العين وآلة التصوير، وبين الأرض ومركبة الفضاء، وبين الكُلية الطبيعية والكلية الصناعية، لو دخلت إلى مستشفى لجراحة القلب لرأيت القلب الصناعي بحجم كبير جداً، بحجم ثلاجة كبيرة جداً، وأنابيب، وأجهزة، وساعات، أي شيء يحتاج إلى غرفة تقريباً، هذا القلب الصناعي، فإذا أجرى الإنسان عملية قلب مفتوح يوصل دمه بالقلب الصناعي، بينما قلبك الطبيعي لا يزيد عن قبضة اليد، يعمل ثمانين عاماً دون كَلَلٍ أو مَلَل، يضُخ من الدم في عمرٍ متوسط ما يملأ أكبر ناطحة سحابٍ في العالم، يضخ في اليوم ثمانية أمتار مكعبة من الدم باليوم الواحد، أنت قد تستهلك في العام كله ألف لتر من الوقود السائل، ألف لتر، بينما قلبك يضخ في اليوم الواحد ثمانية آلاف لتر، له دسامات، وله شرايين، وله أوردة، وازن بين صنعة الله في خلقك، الله أرادك أن تُوازِن.
ربنا عز وجل سمح لذاته العليَّة أن يوازنها مع مخلوقاته:
﴿أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمِ السَّمَاءُ بَنَاهَا﴾ أم الذي بنى السماء؟ انظر إلى تلوين العصافير، إلى تلوين الفراشات، شيء لا يصدق، أساساً المهندسون الجماليون، مهندسو الفنون الجميلة الذين يصممون الأشكال والألوان يقتدون بالفراشات والأطيار في تلوين الآلات وتزيينها، ﴿أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمِ السَّمَاءُ بَنَاهَا﴾ وازن بين الطائر والطائرة، وازن بين العين وآلة التصوير، وازن بين الكُلية وبين الكُلية الصناعية، بين القلب الطبيعي وبين القلب الصناعي، وازن بين صنعة الله وصنعة البشر، لذلك ربنا عز وجل سمح لذاته العليَّة أن يوازنها مع مخلوقاته، قال:
﴿ ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ (14)﴾
جولات بين صنعة الله وصنعة الإنسان:
هل اقتنى أحد سيارة فوجد بعد سنة سيارة صغيرة ولدتها؟! لا يوجد مثل هذا الشيء، أم تشتري الحصان يلد لك حصاناً صغيراً، تشتري البقرة تلد لك بقرة أخرى، هل هناك معمل يعمل بصمت، يأكل الحشيش والبرسيم، يعطيك مادة أساسية جداً جِداً في حياة الإنسان؟ يعطيك الحليب متوازناً، فيتامينات، بروتينات، معادن، مواد سكرية، مواد دسمة، حموض، غذاء كامل، انظر إلى الدجاجة، تأكل من خشاش الأرض، تعطيك بيضة فيها كل شيء، فيها ستة عشر فيتاميناً، ومعادن، وأشباه معادن، ومواد أساسية، ومواد دسمة، ومواد بروتينية، لأن البيضة يمكن أن تصبح طيراً، إذاً هي كاملة في كل شيء، غذاء كامل، دقق، عود نفسك أن تعمل جولات بين صنعة الله وصنعة الإنسان، ربنا وازَنَ ذاته العليّة مع خلقه، قال: ﴿فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ﴾ ووازن ذاته العلية مع خلقه أيضاً قال:
﴿ ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلَاهُمُ الْحَقِّ أَلَا لَهُ الْحُكْمُ وَهُوَ أَسْرَعُ الْحَاسِبِينَ (62)﴾
الآن الكمبيوتر، حَسْب معلوماتي القديمة جداً يقرأ أربعمئة وخمسين مليون حرف في الثانية، والله عز وجل قال عن ذاته: ﴿وَهُوَ أَسْرَعُ الْحَاسِبِينَ﴾ معنى ذلك لا يوجد وقت إطلاقاً، ألغي الوقت، كن فيكون، عالم مصري أراد أن يكتشف ما يجري في داخل الذرة، فأراد أن يخترع مقياساً يصور ما يجري في داخل الذرة بمقياس واحد من بضعة ملايين من الثانية، فمن أجل أن يقرأ ما يجري في ثانية يجب أن يراه في أربعين سنة، موضوع نال به أعلى جائزة في العالم، فقضية الوقت، وقضية الخلق، وقضية الذرة والمجرة والخلايا.
ذكرت مِن مُدة الغدة التيموسية، عبارة عن كلية حربية، تنمو مع الجنين، وتضمر بعد عامين من الولادة، كُلِّيةٌ حربية بكل معاني هذه الكلمة، تدخلها الكريات البيضاء المُقاتلة، تصطف على مُدرّجات كالمدرجات الرومانية، تتلقى دروساً في العناصر الصديقة والعناصر العدوة، دروساً عَبْرَ مناعة الأم، وعبر الأمراض، وعبر عادةٍ خلقها الله في الطفل؛ أنه يضع كل شيء في فمه كي يتعرَّف، بعد عامين تخرج هذه الكريات مِن مخرج امتحاني، هناك فاحصان يفحصان كل كريةٍ بيضاء، يعطيانها عنصراً صديقاً، فإذا قتلته تُقتل، يعطيانها عنصراً عدواً، فإذا لم تقتله تُقتل، ثم تتخرَّج هذه الخلايا وقد سُمِّيت بالخلايا التائيّةَ، كانت همجيةً فأصبحت مثقفةً، تعرف الصديق من العدو، هي خلايا مُقاتلة معها سلاح فتَّاك، شخص معه مدفعٌ ضد الطائرات، أهم شيء لصاحب هذا المدفع أن يعرف الطائرة الصديقة من العدوة، هذه الكلية تضمر بعد عامين، وتُكلِّف الخلايا المثقَّفة أن تعلم الأجيال اللاحقة، بعد ستين عاماً يضعف هذا التعليم، فينشأ ما يسمَّى بالخَرَفَ المناعي، حرب أهلية ضمن الجسم، فأكثر أمراض البشر في الستينات عبارة عن هجوم كريات الدم البيضاء، التي هي في الأصل مُكلفة أن تدافع عن الجسم، تهاجم أعضاء الجسم ومفاصله وأماكنه الحسَّاسة، هذه الكلية الحربية من صممها؟ ﴿أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمِ السَّمَاءُ بَنَاهَا﴾ عَوِّد نفسك أن توازن بين صنعة الله عز وجل وبين صنعة البشر، وازن بين وردةٍ مِن البلاستيك، وبين وردةٍ طبيعية، وازن بين شرابٍ كيماوي مصنوعٍ يضرُّ أجسامنا، وبين شرابٍ طبيعيٍ ينفع أجسامنا، ﴿أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمِ السَّمَاءُ بَنَاهَا﴾ .
خبرة الإنسان خبرةٌ حادثةٌ متنامية لكن خبرة الله عز وجل خبرةٌ قديمة:
أي تعديل يطرأ على خلق الله عز وجل يسير نحو الأسوأ، مثلاً الاستنساخ، ما الاستنساخ؟ محاولة توليد جنين لا من نطفةٍ وبويضة، بل من نطفة أو من بويضة فقط، قال تعالى:
﴿ إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا (2)﴾
فنشأت مضاعفات، ونشأ هَرَم مبكِّر جداً، ونشأت أمراض، لأن الإنسان أراد أن يطوِّر صنعة الله عز وجل، فإذا طورها فنحو الأسوأ، أكثر ما يعانيه البشر الآن مِن تغيير خلق الله، يكافح أمراض النبات بالمواد الكيماوية، فإذا بالتربة تتملَّح، وإذا بأمراض النبات تستشري، الآن عادوا إلى المكافحة الحيوية، يسمدون الأرض بأسمدةٍ كيماوية، فإذا هناك أمراض للنبات كثيرة، عادوا إلى السماد الطبيعي.
عود نفسك من خلال هذه الآية أن توازن بين صنعة الله عز وجل وصنعة الإنسان، صنعة الإنسان تنقصها الخبرة، بل إن خبرة الإنسان خبرةٌ حادثةٌ متنامية، لكن خبرة الله عز وجل خبرةٌ قديمة، قال تعالى:
﴿ إِنْ تَدْعُوهُمْ لَا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلَا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ (14)﴾
والبشرية اليوم كلما تاهت، وكلما انحرفت، وكلما ضلَّت سواء السبيل، ترجع مقهورةً إلى أصل الدين، هناك جامعاتٌ في بعض البلاد المنحلَّة عادت إلى فصل الذكور عن الإناث، لأنهم وجدوا أعداداً مخيفةً من الأجِنَّة توضع في أطراف الحدائق، عادوا إلى فصل الذكور عن الإناث، يوجد بلد من بلاد الشرق الكبيرة حرَّمت الخمر لأسبابٍ صحيةٍ فقط، قبل أن ينهار هذا البلد حرم الخمر تحريماً كلياً، أي كلما تقدَّم العلم اكتشف أن أكمل حالةٍ هي التي شَرَعَها الله عز وجل.
الموازنة بين خلق الله وخلق البشر:
مؤلف كتاب (الإنسان ذلك المجهول) وهو أليكسي كارينجي فيما أذكر، قال: إن أفضل نظام للبشرية أن يَقْصر الرجل طرفه على امرأةٍ واحدة، على زوجته، هذا غض البصر، إذاً وازن بين خلق الله وخلق البشر، وازن بين جهازٍ صنعه ربنا عز وجل وبين جهازٍ صنعه الإنسان.
﴿ أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمِ السَّمَاءُ بَنَاهَا (27) رَفَعَ سَمْكَهَا فَسَوَّاهَا (28)﴾
﴿رَفَعَ سَمْكَهَا﴾ المسافات بين النجوم مسافات فلكية، شيء لا يصدَّق، عشرون مليار سنة ضوئية بين الأرض وبين بعض المجرات، يسير الضوء في الثانية الواحدة ثلاثمئة ألف كيلو متر، وفي الدقيقة ثلاثمئة ألف ضرب ستين، بالساعة ثلاثمئة ألف ضرب ستين ضرب ستين، باليوم ثلاثمئة ألف ضرب ستين ضرب ستين ضرب أربع وعشرين، بالشهر ثلاثمئة ألف ضرب ستين ضرب ستين ضرب أربع وعشرين ضرب ثلاثين، بالسنة ضرب اثني عشر، الآن بعد الرقم الكبير، ضرب عشرين مليار، ما هذه المسافة؟ قال تعالى:
﴿ فَلَا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ (75) وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ (76)﴾
﴿رَفَعَ سَمْكَهَا﴾ المسافات في الفضاء الخارجي صعب على العقل أنْ يتصورها، أقرب شيء لنا، أقرب نجم ملتهب لأرضنا بعده عنا أربع سنوات ضوئية، تلك المجرة تبعد عشرين ألف مليون، أنا أريد أقرب نجم أربع سنوات ضوئية، لو أردت أن تصل لهذا النجم بمركبة أرضية تحتاج إلى خمسين مليون سنة، هل تصل؟!
﴿أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمِ السَّمَاءُ بَنَاهَا* رَفَعَ سَمْكَهَا﴾ السمْك أي المسافات، ﴿فَسَوَّاهَا﴾ معنى سواها، المعنى دقيق:
﴿ سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى (1) الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى (2)﴾
أنت ممكن أن تبني مكاناً مِن جدران وسقف وأرض وباب، لكن لو أردت لهذا المكان أن تبيت فيه سيارتك، تحتاج إلى ماذا؟ تحتاج إلى قياسات، يجب أن يكون عرض هذا المكان بعرض المركبة مع فتح الأبواب، لو كان مِن دون فتح أبواب كيف تخرج من السيارة؟ لابدّ مِن فتح البابين، يجب أن يكون طول هذا المكان أكبر من طول السيارة، يجب أن يكون ارتفاع السقف أعلى من سقف السيارة، حينما تتوافق أبعاد هذا المكان مع أبعاد السيارة أنت سوَّيته مع السيارة.
مثلاً تفاحة، هذه مَن سوَّاها مع الإنسان؟ الله سبحانه! حجمها معقول، لو كان حجمها بحجم السمسم فهي غير معقولة، أخي قشر لنا هذه التفاحة؟ كيف نقشرها؟! لو كان حجمها مثلاً متر بمتر، كيف تحمل التفاحة؟ لو كانت بُنيتها كالفولاذ كيف تأكلها؟ لو كانت كريهة، لا تؤكل، رائحتها كريهة، دقق: حجمها معتدل، ولونها جميل، وقِوامها مناسب، وطعمها طيِّب، لكن لو ينضج هذا التفاح كله في يوم واحد، ماذا تفعل به؟ لو أن البطيخ ينضج في يوم واحد ماذا نصنع به؟ حدثني أخ قال لي: ضمنت حقل بطيخ، حمَّلت كل يوم منه سيارة خلال تسعين يوماً، البطيخ ينضج تِباعاً على مدى أشهر الصيف، معنى هذا أنه مسوَّى مع الإنسان، البطيخ على الأرض والتفاح في الشجر، لو كانت الآية معكوسة، لو البطيخ على الشجر يصبح قاتلاً، لو بطيخة فلتت تقتل الإنسان، انظر إلى التسوية، كل فاكهة لها وقت، البطيخ ينضج في الصيف، لو كان في الشتاء النفس تنفر منه، أما في الصيف فالبطيخ محبب جداً، بالشتاء البرتقال، أكثره مواد فيها فيتامين "C"، مضادة للرشح، البرتقال والحمضيات تتوافق مع أمراض الشتاء، وفاكهة الصيف تتناسب مع حر الصيف، انظر إلى التسوية، التناسب، معنى ذلك أنه يوجد إله حكيم، هذه التسوية.
اللهُ جعل الليل ستراً وجعل النهار مشرقاً فالنهار يملأ القلب طمأنينةً والليل خوفاً:
﴿ رَفَعَ سَمْكَهَا فَسَوَّاهَا (28) وَأَغْطَشَ لَيْلَهَا وَأَخْرَجَ ضُحَاهَا (29)﴾
جعل ليلها مظلماً، جعل الليل سكناً:
﴿ وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُورًا (62)﴾
الليل ستر، في الليل يأوي الإنسان إلى فراشه، يلتقي مع أهله، يجلس في بيته، ينقل أغراضه في الليل، اللهُ جعل الليل ستراً:
﴿ وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِبَاسًا (10) وَجَعَلْنَا النَّهَارَ مَعَاشًا (11)﴾
مَن جعل الليل مظلماً؟ لو كان الليل ستة أشهر، تنام وتفيق، وتنام وتفيق، وتذهب إلى عملك في الليل، وتعود في الليل، وتنام في الليل، وتستيقظ في الليل، شيء لا يحتمل، لو كان النهار ستة أشهر كما هو في القطب شيء لا يحتمل، أما الليل والنهار يتناسبان مع طاقاتك، وجهدك، ووقتك، الليل والنهار متساويان تقريباً.
﴿وَأَغْطَشَ لَيْلَهَا﴾ أي جعل ليلها مظلماً ﴿وَأَخْرَجَ ضُحَاهَا﴾ وجعل النهار مشرقاً، إنسان يسير في الغابة ليلاً يمتلئ قلبه خوفاً إذْ كل شيء أمامه يظنه شبحَاً، شبح إنسان هجم عليه، يأتي النهار يطمئن قلبه، النهار يملأ القلب طمأنينةً، والليل يملؤه خوفاً، ﴿وَأَغْطَشَ لَيْلَهَا﴾ أما لو كان هناك نهار لفا يوجد نوم، أشدّ المدن صخباً تجدها بعد الساعة الثانية حيث يعمُّ الهدوء فيها، الناس آوَوا إلى بيوتهم.
رحمة الله واسعة شاملة بأنْ ذلَّل الأرض للإنسان:
﴿وَأَغْطَشَ لَيْلَهَا﴾ جعل ليلها مظلماً:
﴿ وَأَغْطَشَ لَيْلَهَا وَأَخْرَجَ ضُحَاهَا (29) وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا (30)﴾
من الممكن أن تذهب إلى منطقة في السويداء فتجد أرضها صخرية، وصخورها حادَّة، هذه الأرض هلْ يعاش بها؟ آثار البراكين صخور ناتئة، وحادة، ومؤنَّفة لا يُعاش بها.
﴿وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا﴾ مَن جعلها مستوية هكذا؟ ومَن جعل تربتها ليّنة؛ تفلحها، وتزرعها، وتسقيها، وتبني عليها، لو كانت الأرض كلها مائلة، الأراضي المائلة متعبة جداً تحتاج إلى جدر استنادية، وإلى مدرجات، والتربة قد تذهب مع الماء، مَن جعلها مستوية في معظمها؟ الله جلّ جلاله، مَن جعل تربتها صالحة للزراعة؟ لو أن الأرض مِن صخر كلها ماذا نأكل؟
ربنا عز وجل أمرُه كن فيكون:
﴿ وَأَغْطَشَ لَيْلَهَا وَأَخْرَجَ ضُحَاهَا (29) وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا (30) أَخْرَجَ مِنْهَا مَاءَهَا وَمَرْعَاهَا (31)﴾
مصر، ما قيمتها مِن دون النيل؟ صحراء، مصرُ هبَةُ النيل، قال سيدنا عمر لسيدنا عمرو بن العاص: صِفْ لي مصر؟ قال له: يا أمير المؤمنين، مصر طولها شهر، أي طولها مسيرة شهر، وعرضها عشرٌ، أي عشرة أيام، يخط وسطها نهرٌ ميمون الغدوات، مبارك الروحات، بحر، فيه أماكن عمقها حوالي ستين متراً، ويبلغ عرض النيل في بعض الأماكن أربعمئة متر، وأطول نهر في العالم، ومصر هبة النيل، ولولا نيلها لما عاش فيها أحد، فبينما هي يا أمير المؤمنين عنبرةٌ سوداء، في الشتاء التربة داكنة، إذا هي دُرَّةٌ بيضاء، عند طوفان النيل، ثم هي زبرجدةٌ خضراء، فتبارك الله الفعّال لما يشاء.
ما قيمة دمشق مِن دون بردى ونبع الفيجة؟ مَن يسكنها؟ ما قيمة الزبداني مِن دون ينابيعها؟ ما قيمة بلادنا مِن دون أنهارها؟ موت، مَن أخرج هذا الماء؟ هذا نبع الفيجة مَن يصدِّق أن حوض الفيجة في التقدير العادي القديم يصل إلى حمص، على سيف البادية، أي نصف لبنان فوق حوض الفيجة، ومِن عين الفيجة إلى القريب من حمص هذا امتداد الحوض نحو الشمال، وعرضاً من سيف البادية إلى أواسط لبنان، يعطينا في الثانية ستة عشر متراً مكعباً، وذلك في الأيام العادية، في الشام خمسة ملايين ونصف يشربون مِن هذا النبع.
﴿أَخْرَجَ مِنْهَا مَاءَهَا وَمَرْعَاهَا﴾ مرة نظرت إلى صورةٍ مِن القمر الصناعي للأرض في منطقة الشرق الأوسط، رأيت لطعة رمادية فوق الشرق الأوسط، قلت: سبحان الله!! كل هذا الخير، وكل هذه البركات، وكل هذه الثلوج، وكل هذه الأمطار، وكل هذا الفرح الذي أصاب الناس، وكل هذا الأمل بموسمٍ زراعي جيد من لطعةٍ رماديةٍ فوق الشرق الأوسط، هي المنخفض الجوي الذي جاء، فربنا عز وجل أمرُه: كن فيكون.
كل ما في الأرض مسخَّر لهذا الإنسان مِن أجل أن يعرف الله وأن يطيعه:
﴿أَخْرَجَ مِنْهَا مَاءَهَا وَمَرْعَاهَا﴾ إذا لم يكن هناك مرعى بالبادية، ربما لا تصدقون أنتم، قد يكلف استيراد العلف للمواشي مئات ألوف الملايين، فتجد مرعى جيداً، هذا المبلغ كله وفَّرناه، لأم المرعى للمواشي.
﴿ وَالْجِبَالَ أَرْسَاهَا (32)﴾
الأرض طبقات، وهذه الطبقات متباينة في بُنيتها، والأرض حينما تدور، إذا فيها طبقات متباينة في بنيتها قد تضطرب في دورانها، فمن أجل ألا تضطرب جعل الله الجبال أوتاداً، تثبت بها طبقات الأرض، جعلها أوتاداً، وجعل للأرض رواسي أن تميد بكم، أيضاً مُعَدِّلات للدوران، وجعلها مِصدَّات للرياح، وجعلها مخازن للماء، وجعلها أماكن للاصطياف، وجعل انحناءاتها أماكن تزيد مِن مساحة الأرض، أي مساحة ضلعي المثلث أكبر مِن قاعدته، تزيد المساحات، ويعتدل الجو، ويكون الجبل مِصداً للرياح، ومخزناً لمياه الأمطار، ووتداً في الأرض، ومِرساةً للأرض حينما تدور، هذه بعض فوائد الجبال.
﴿ أَخْرَجَ مِنْهَا مَاءَهَا وَمَرْعَاهَا (31) وَالْجِبَالَ أَرْسَاهَا (32) مَتَاعًا لَكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ (33)﴾
كل ما في الأرض مسخَّر لهذا الإنسان، مِن أجل أن يعرف الله، ومن أجل أن يطيعه، ومن أجل أن يسعد بقربه في الدنيا والآخرة.
الملف مدقق