الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيّدنا محمد الصادق الوعد الأمين، اللهم لا علم لنا إلا ما علَّمْتنا إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علِّمنا ما ينْفعنا وانْفعنا بِما علَّمتنا وزِدْنا عِلماً، وأَرِنا الحق حقاً وارْزقنا اتِّباعه وأرِنا الباطل باطِلاً وارزُقنا اجْتنابه، واجْعلنا ممن يسْتمعون القول فَيَتَّبِعون أحْسنه وأدْخِلنا برحْمتك في عبادك الصالحين.
أيها الإخوة الكرام، مع الدرس الثاني من سورة المجادلة، ومع الآية الثامنة وهي قوله تعالى:
﴿ أَلَمۡ تَرَ إِلَى ٱلَّذِينَ نُهُواْ عَنِ ٱلنَّجۡوَىٰ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا نُهُواْ عَنۡهُ وَيَتَنَٰجَوۡنَ بِٱلۡإِثۡمِ وَٱلۡعُدۡوَٰنِ وَمَعۡصِيَتِ ٱلرَّسُولِۖ وَإِذَا جَآءُوكَ حَيَّوۡكَ بِمَا لَمۡ يُحَيِّكَ بِهِ ٱللَّهُ وَيَقُولُونَ فِيٓ أَنفُسِهِمۡ لَوۡلَا يُعَذِّبُنَا ٱللَّهُ بِمَا نَقُولُۚ حَسۡبُهُمۡ جَهَنَّمُ يَصۡلَوۡنَهَاۖ فَبِئۡسَ ٱلۡمَصِيرُ(8)﴾
﴿ أَلَمۡ تَرَ أَنَّ ٱللَّهَ يَعۡلَمُ مَا فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَمَا فِي ٱلۡأَرۡضِۖ مَا يَكُونُ مِن نَّجۡوَىٰ ثَلَٰثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمۡ وَلَا خَمۡسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمۡ وَلَآ أَدۡنَىٰ مِن ذَٰلِكَ وَلَآ أَكۡثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمۡ أَيۡنَ مَا كَانُواْۖ ثُمَّ يُنَبِّئُهُم بِمَا عَمِلُواْ يَوۡمَ ٱلۡقِيَٰمَةِۚ إِنَّ ٱللَّهَ بِكُلِّ شَيۡءٍ عَلِيمٌ(7)﴾
أيها الإخوة، إن هذه الآية تبدأ بقوله تعالى: ﴿أَلَمۡ تَرَ﴾ فكيف نرى أن الله يعلم؟ هناك معنىً مركب؛ فحينما ترى بعينك مصير الظالم كيف يدمره الله عز وجل، وحينما ترى بعينك مصير آكل المال الحرام كيف يُذهِب الله ماله، وحينما ترى بعينك كيف ينتقم الله من المعتدي، كما ترى بعينك أن المستقيم يُوفَّق ويُنصَر ويُحفَظ ويؤيَّد، فهذه الأحداث كلها وقعت تحت سمعك وبصرك، ومعنى ذلك أن الله يعلم، لأن الله سبحانه وتعالى يجازي المحسن على إحسانه والمسيء على إساءته، معنى ذلك أن الله يعلم.
أيها الإخوة، إن الإنسان حين يعلم أن الله يعلم يكون قد قطع أربعة أخماس الطريق إلى الله عز وجل.
﴿أَلَمۡ تَرَ أَنَّ ٱللَّهَ يَعۡلَمُ مَا فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَمَا فِي ٱلۡأَرۡضِۖ﴾ يعني: ألا ترى أفعاله؟ ألا ترى توفيقه للمؤمنين وعقابه للكافرين؟ ألا ترى أن الله سبحانه وتعالى ينمّي المال الحلال ويبارك فيه ويمحق المال الحرام ويُذهِبه؟ ألم ترَ أن المؤمن المستقيم يحيا حياة طيبة، وأن المُعرض عن الله يعيش معيشة ضنكاً؟ هذه الحوادث بين يديك وتحت سمعك وبصرك، فإذا كان الله يجازي المحسن على إحسانه والمسيء على إساءته فمعنى ذلك أن الله يعلم، وهذا ردع للإنسان عن أن يقترف معصية وهو يعلم أن الله يعلم.
﴿أَلَمۡ تَرَ﴾ فأفعال الله تعالى تدل عليه، كما أن خلقه وكلامه يدلان عليه، فهذه الآية تشير إلى أفعال الله عز وجل، فإذا تتبع الإنسان أحوال الناس رأى أن الله سبحانه وتعالى مع المستقيم مؤيداً وناصراً وحافظاً وموفقاً، كما أنه يعاقب المنحرف إما بإتلاف ماله أو بإلقاء الخوف في قلبه أو بمشكلة تجعل حياته جحيماً.
إذاً: الله يعلم، فإذا علمت أن الله يعلم انحلت مشكلاتك مع الله، لأن الله سبحانه وتعالى جعل معرفته علة وجودك على وجه الأرض، قال:
﴿ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنْ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا(12)﴾
وكما قلت في درس سابق: الإنسان لمجرد وجود جهة قوية تضبط حركاته وسكناته، وتعلم كل أفعاله، وسوف تحاسبه حساباً عسيراً، فأي إنسان مع هذه الجهة يستقيم على أمرها مُرغَماً؛ لأن حركته مسجلة عليه، فهذه الجهة تعلم حركته وسوف تحاسبه، فكيف إذا كان الله سبحانه وتعالى هو الذي يعلم؟
﴿أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ﴾ علم الله ليس قاصراً على حركاتك وسكناتك، بل إن كل ما في الكون خاضعٌ لعلم الله، فعلم الله يتعلق بكل ممكن، كل ممكن في الكون يعلمه الله، والله سبحانه يعلم السرّ وأخفى، يعلم ما تعلن ويعلم ما تخفي ويعلم ما يخفى عنك، وإذا علمت أن الله يعلم فلا بدّ لك من أن تضبط سلوكك.
﴿أَلَمۡ تَرَ أَنَّ ٱللَّهَ يَعۡلَمُ مَا فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَمَا فِي ٱلۡأَرۡضِۖ مَا يَكُونُ مِن نَّجۡوَىٰ ثَلَٰثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمۡ﴾ فإذا كان هناك ثلاثة أشخاص جالسون في مجلس، وكان فيهم رجل موظف بسيط من قبل جهة قوية بيدها زمام الأمور، فالكلام عندها سيكون منضبطاً إلى أقصى درجة، موظف بسيط جداً تابع لجهة قوية بيدها زمام الأمور فترى أن الانضباط في أعلى مستوى، فالقائل يحاسب نفسه على الكلمة، فكيف إذا علمت أن الله مع كل ثلاثة! أن الله موجود مع كل اثنين، أن الله موجود مع كل واحد، أن الله موجود مع كل أربعة، مع كل خمسة، مع كل ستة ﴿وَلَآ أَدۡنَىٰ مِن ذَٰلِكَ وَلَآ أَكۡثَرَ﴾
﴿مَا يَكُونُ مِن نَّجۡوَىٰ ثَلَٰثَةٍ﴾ النجوى: هي الكلام غير الصالح للنشر؛ أي: كلام مؤامرة، وقد ذكرت في الدرس الماضي أن عمير بن وهب قال لصفوان بن أمية: "لولا ديون ركبتني ما أطيق سدادها، ولولا أطفال صغار أخشى عليهم العنت لذهبت وقتلت محمداً وأرحتكم منه" ، فهذه نجوى؛ أي: مؤامرة وكلام لا يمكن أن يُعلَن، يكون بين شخصين على انفراد، في مكان آمن، لا يستمع فيه أحد، والأبواب مُغلّقة، وربما يكون في مكان بعيد، أو في فلاة، أو قمة جبل، أو في غرف مغلقة، اثنان أو ثلاثة يتناجيان بالسوء بالإثم بالعدوان، يجب أن يعلما أن الله معهم.
﴿مَا يَكُونُ مِن نَّجۡوَىٰ ثَلَٰثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمۡ﴾ أي: إنه معهم يستمع إلى أقوالهم، ويعلم نواياهم ويعلم خبثهم وسوء طواياهم، وسوف يحاسبهم أشدّ الحساب.
أيها الإخوة: لو علم هؤلاء الثلاثة الذين يتناجون بما يسخط الله أن الله معهم وسيحاسبهم هل كانوا سيتناجون؟ إطلاقاً، لو أن كل من يعصي الله علم أن الله معه فهل يعصي ربه؟ هذا مستحيل، ولو علم كل من أراد أن يقترف معصية أن الله ناظر إليه لما اقترفها.
إذاً: ألا ترون معي أنك إذا علمت أن الله يعلم استقمت على أمره؟ وأن الذي لا يستقيم على أمره لا يعلم أن الله يعلم.
﴿ أَلَمۡ تَرَ أَنَّ ٱللَّهَ يَعۡلَمُ مَا فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَمَا فِي ٱلۡأَرۡضِۖ مَا يَكُونُ مِن نَّجۡوَىٰ ثَلَٰثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمۡ﴾ لذلك روى الإمام أحمد في "الزهد" (354)، وابن أبي شيبة في "المصنف" (2/245): عن وَكِيع، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ أَبِي مَرْوَانَ الأسلمي، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ كَعْبٍ قَالَ:
"قَالَ مُوسَى عليه السلام: يَا رَبِّ، أَقَرِيبٌ أَنْتَ فَأُنَاجِيكَ، أَوْ بَعِيدٌ فَأُنَادِيكَ؟ قَالَ: يَا مُوسَى، أَنَا جَلِيسُ مَنْ ذَكَرَنِي" .
فيجب عليك أن تعلم أن الله معك حتى وإن كنت وحدك، "اعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك"
التطبيق العملي لهذه الآية:
﴿مَا يَكُونُ مِن نَّجۡوَىٰ ثَلَٰثَةٍ﴾ إن التطبيق العملي لهذه الآية هو أن الإنسان إذا كان مع أصدقائه، مع إخوانه، مع جيرانه، مع زملاء عمله، مع أقربائه، مع من يلوذ به في مكان مغلق، لا أحد يستمع فيه، في نجوة من الأرض، في مكان مرتفع، في فلاة، وكان يتكلم كلاماً لا يرضي الله وجب عليه أن يعلم أن الله معه، وأنه موجود، فكم من مجلس يُغتاب فيه المسلمون، ولو علم هؤلاء المُغتابون أن الله يعلم ما يقولون لمَا اغتابوا، لو علم الأفّاكون أن الله يعلم ما يأفِكون ما أفَكوا، ولو علم العصاة أن الله معهم يراقبهم لمَا عصَوه، وإذا علم الإنسان العادي أن الله يعلم انضبط أشد الانضباط، فإذا زارك أحد عِلية القوم مثلاً، وكان إنساناً وقوراً قوياً كريماً استحييت أن ترتدي ثياباً مبتذلة أمامه، كما استحييت أن تسبّ ابنك أمامه، أو أن ترفع صوتك أو أن تنطق بكلمة سوء أو أن تفعل فعلاً شائناً أمامه، وهو إنسان من علية القوم، فكيف إذا علمت أن الله معك؟ لذلك كان أفضل إيمان المرء أن يعلم أن الله معه أينما كان، "اعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك "
﴿مَا يَكُونُ مِن نَّجۡوَىٰ ثَلَٰثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمۡ وَلَا خَمۡسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمۡ وَلَآ أَدۡنَىٰ مِن ذَٰلِكَ وَلَآ أَكۡثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمۡ أَيۡنَ مَا كَانُواْۖ﴾ قد يقول قائل: لماذا ذُكر العدد لثلاثة والعدد خمسة؟ لماذا لم يذكر الاثنين أو الأربعة، إن قوله تعالى: ﴿وَلَآ أَدۡنَىٰ مِن ذَٰلِكَ﴾ يعني: أقل من ثلاثة، وقوله: ﴿وَلَآ أَكۡثَرَ﴾ يعني ولا أكثر من أربعة أو خمسة أو ستة، وقد قال بعض المفسرين: إن بعض المنافقين كانوا ثلاثة فتآمروا على رسول الله صلى الله عليه وسلم، كما قد كان منهم خمسة تآمروا عليه، فأراد الله أن ينوه بهم وبمؤامرتهم وبنجواهم التي تسخط الله عز وجل.
إن ملخص هذه الآية: إذا علمت أن الله يعلم فلا بدّ من أن تستقيم على أمره، فاجهد أن تعلم أن الله معك، فاجهد أن تعلم أن الله يراقبك، وهناك الكثير من الآيات التي تدلك على هذا المعنى:
﴿ إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ ٱلرِّزْقَ لِمَن يَشَآءُ وَيَقْدِرُ ۚ إِنَّهُۥ كَانَ بِعِبَادِهِۦ خَبِيرًۢا بَصِيرًا (30)﴾
﴿ يَٰٓأَيُّهَا ٱلنَّاسُ ٱتَّقُواْ رَبَّكُمُ ٱلَّذِى خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍۢ وَٰحِدَةٍۢ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَآءً ۚ وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ ٱلَّذِى تَسَآءَلُونَ بِهِۦ وَٱلْأَرْحَامَ ۚ إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا (1)﴾
الله عز وجل يراقب عباده.
﴿ إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ(14)﴾
﴿ الَّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ(218) وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ(219)﴾
شيء آخر؛ لمجرد أن تعلم أن الله معك هذا شيء له وزن كبير في حسابات الإيمان، فكيف إذا علمت أيضاً أن الله يعلم ما تقول؟ وأنه سوف يحاسبك على ما تقول؟ فكيف لو علمت أن هذه النجوى التي تجري بينك وبين زيد أو عبيد على انفراد، وفي غرف مغلقة من دون أن يشعر بكم أحد سوف تُلقى على رؤوس الأشهاد يوم القيامة، فالإنسان أحياناً قد يتكلم بكلمة لا ينبغي له أن يقولها، فإذا بها تُنشَر في الصحف فيقرؤها الناس جميعاً، والخبر إذا أُذِيع أو نُشِر في محطات إعلامية استمع إليه العالم كله، لاسيما إذا كان خبراً شائناً أو فضيحة أو خيانة، فإذا ضُبِط الإنسان بالخيانة أو التجسس، ثم أُذِيع اسمه في شتى بقاع الأرض لكان هذا مما يندى له الجبين، كذلك هو حال النجوى التي كانت بينك وبين فلان على انفراد، وقد كنت تظن أن أحداً لا يراكما، سوف تُلقى على رؤوس الأشهاد يوم القيامة، وما أعظمها من فضيحة! ما أعظمها من فضيحة أن يصبح هذا الكلام غير الخاضع للنشر ولا للإعلان معروضاً على رؤوس الأشهاد يوم القيامة.
﴿أَلَمۡ تَرَ أَنَّ ٱللَّهَ يَعۡلَمُ مَا فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَمَا فِي ٱلۡأَرۡضِۖ مَا يَكُونُ مِن نَّجۡوَىٰ ثَلَٰثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمۡ وَلَا خَمۡسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمۡ وَلَآ أَدۡنَىٰ مِن ذَٰلِكَ وَلَآ أَكۡثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمۡ أَيۡنَ مَا كَانُواْۖ ثُمَّ يُنَبِّئُهُم بِمَا عَمِلُواْ يَوۡمَ ٱلۡقِيَٰمَةِۚ﴾ قال لي أحد الأصدقاء –القصة لها مناسبة وتفيدنا في هذه الآية- أنه كان قد وضع جهاز (الأنترفون) في بيته بين غرفة الضيوف والمطبخ، وزاره يوماً بعض الضيوف، وأطالوا الجلوس، وكان هذا الجهاز مفتوحاً وهو لا يشعر، فدخل إلى المطبخ وقال لزوجته: هؤلاء الثقلاء لم يذهبوا إلى الآن، فماذا حلّ به؟ قال: لقد بقيت سنوات وأنا أخجل أن أنظر إليهم، لأن هذا الكلام نُقِل إليهم عبر هذا الجهاز، فقد يتكلم الإنسان أحياناً بكلمة شائنة، كلمة دنيئة، كلمة قذرة، كلمة فيها خِسّة نفس، كلمة فيها مؤامرة، كلمة فيها عدوان، فما رأي الإنسان وما موقفه يوم القيامة إذا أُعلنت هذه الكلمة على رؤوس الأشهاد؟ هذه هي الفضيحة الحقة.
لذلك من عظمة إيمان المؤمن أنّ سرّه كعلانيته، وأن علانيته كسرّه، وأن خلوته كجلوته، وجلوته كخلوته، قال عليه الصلاة والسلام:
(( تركتُكم على البيضاءِ ليلِها كنهارِها لا يزيغُ عنها بعدي إلا هالِكٌ. ))
فالمؤمن واضح ليس عنده أسرار أو شيء لا يقال، وليس عنده موقف حقيقي وموقف مُعلن، فليس ثمة شيء يفعله في السرّ ويستحيي أن يجهر به في العلن، فأموره واضحة لأنه يطبق منهج الله، فهو يسمح بكل ما سمح الله به ولا يستحيي به، فالله تعالى سمح بالزواج مثلاً، فترى الناس يطلقون أبواق السيارات يوم العرس، وهم لا يستحون من ذلك لأنه شيء مسموح به، كما أن المؤمن يحرم ما حرمه الله تعالى، وإن أجمل ما في المؤمن هو الوضوح، لا يوجد شيء وراء الشيء، أما غير المؤمن فهو مخيف، لغم، لأن مظهره غير مخبره، وظاهره غير باطنه، علانيته غير سريرته، ما يقوله أمام الناس يقول عكسه فيما بينه وبين بعض الناس، قال تعالى:
﴿ إِذَا لَقُواْ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ قَالُوٓاْ ءَامَنَّا وَإِذَا خَلَوْاْ إِلَىٰ شَيَٰطِينِهِمْ قَالُوٓاْ إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِءُونَ (14) ٱللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِى طُغْيَٰنِهِمْ يَعْمَهُونَ(15)﴾
فذو الوجهين لا يكون عند الله وجيهاً، هناك فرق واضح، لذلك أجمل ما في حياة المؤمن الوضوح، فهو لا يقول شيئاً يستحيي أن يُنقَل عنه، أو شيئاً يرجو السامع ألّا يتكلم به لأنه يتكلم الحق، والحق -أيها الإخوة بالمناسبة- لا يخشى البحَث أبداً، فالحق حق والباطل باطل، فقد يكون الإنسان أحياناً أسير كلمة قالها، قال أحدهم:
اِحفَظ لِسانَكَ أَيُّهــــا الإِنسـانُ لا يَلدَغَنَّكَ إِنَّــــــهُ ثُعبــانُ
كَم في المَقابِرِ مِن قَتيلِ لِسانِهِ كانَت تَهابُ لِقاءَهُ الأَقرانُ
وقد يتكلم الإنسان كلمة أحياناً ترديه وتشقيه وتبعده، وكلكم يعلم الحديث الصحيح الذي قال فيه عليه الصلاة والسلام:
(( إنَّ الرَّجلَ ليتَكَلَّمُ بالكلمةِ من سخطِ اللَّهِ لا يرى بِها بأسًا فيَهْوي بِها في نارِ جَهَنَّمَ سبعينَ خريفًا. ))
فحينما تعلم أن كلامك من عملك، كلامك عمل، وأنك محاسب على هذا العمل عندئذ تنجو.
﴿ثُمَّ يُنَبِّئُهُم بِمَا عَمِلُواْ يَوۡمَ ٱلۡقِيَٰمَةِۚ﴾ وهذا أقوى شاهد على أن كلام الإنسان من عمله، دققوا في هذه الآية: ﴿مَا يَكُونُ مِن نَّجۡوَىٰ ثَلَٰثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمۡ وَلَا خَمۡسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمۡ وَلَآ أَدۡنَىٰ مِن ذَٰلِكَ وَلَآ أَكۡثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمۡ أَيۡنَ مَا كَانُواْۖ ثُمَّ يُنَبِّئُهُم بِمَا عَمِلُواْ﴾ لم يقل: بما قالوا، بل: بما عملوا، فمعنى ذلك أن نجواهم عمل، فقد جاء الأنبياء بالكلمة، كما كفر الكفار بالكلمة، والزواج الشرعي يتم بكلمة، والزنى يتم بكلمة، فالكلمة لها دور خطير جداً، إنك قد ترقى وتعلو بكلمة وقد تسقط وتهلك بكلمة.
﴿ثُمَّ يُنَبِّئُهُم بِمَا عَمِلُواْ﴾ فلو كان العمل شيئاً غير الكلام لقال الله عز وجل: ثم ينبئهم بما قالوا، والنجوى كلام ﴿ثُمَّ يُنَبِّئُهُم بِمَا عَمِلُواْ يَوۡمَ ٱلۡقِيَٰمَةِۚ﴾ ولعل النبي عليه الصلاة والسلام قد استنبط هذا المعنى الدقيق في حديثه السابق من هذه الآية، ﴿ثُمَّ يُنَبِّئُهُم بِمَا عَمِلُواْ﴾ فكلام الإنسان من عمله، وإذا عدّ الإنسان كلامه من عمله استقام على أمر الله وضبط لسانه، ومن صفات المؤمن ضبط اللسان، فهو يفكر ملياً قبل أن يتكلم.
كان عمر بن الخطاب _ وهو عملاق الإسلام _ يتمنى لو أن له رقبة كرقبة الجمل، لأنه يفكر بالكلمة ملياً قبل أن يلقيها، فأحياناً كلمة تفرق بها بين زوجين أو بين شريكين، أو بين أم وابنها، فكل شر الأشرار عبارة عن كلمات تُلقَى.
ثم يقول الله عز وجل:
﴿ أَلَمۡ تَرَ إِلَى ٱلَّذِينَ نُهُواْ عَنِ ٱلنَّجۡوَىٰ﴾ ويبدو أن النبي عليه الصلاة والسلام كان قد نهى المنافقين عن هذه اللقاءات الجانبية، وعن هذه المؤامرات الخفية، وعن هذه الدسائس التي لا ترضي الله، وعن ذاك العمل الخسيس، لأن الإنسان الواضح يعمل تحت ضوء الشمس، أما الإنسان غير المستقيم فهو يعمل في الظلام بعيداً عن الظهور.
﴿ أَلَمۡ تَرَ إِلَى ٱلَّذِينَ نُهُواْ عَنِ ٱلنَّجۡوَىٰ﴾ لقد كان هؤلاء المنافقون الذين كانوا يجلسون مع اليهود ويتآمرون على النبي صلى الله عليه وسلم، يظهرون أمام النبي الولاء، وفيما بينهم وبين اليهود يظهرون العداء، فهم أصحاب موقف ازدواجي، والمنافق _كما قلت في درس سابق_ حالة قَبْل انفصام الشخصية، فهو يتقن أدواراً متباينة، فيتقن دور المؤمن المُعظّم المستسلم للنبي صلى الله عليه وسلم، كما يتقن دور الكافر العدو اللئيم، فإذا التقى بالنبي عليه الصلاة والسلام أظهر له الولاء وإذا خلا بمن معه أظهر العِداء، وهذا شأن المنافق.
نهيُ النبي صلى الله عليه وسلم تشريعٌ:
قال تعالى: ﴿أَلَمۡ تَرَ إِلَى ٱلَّذِينَ نُهُواْ عَنِ ٱلنَّجۡوَىٰ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا نُهُواْ عَنۡهُ﴾ فالنبي عليه الصلاة والسلام إذا نهى عن شيء فنهيه تشريع، وأذكر مرة أن امرأة ضاقت ذرعاً بزوجها، فطلبت من النبي صلى الله عليه وسلم أن تنخلع منه، فقال عليه الصلاة والسلام لها:
(( أنَّ زَوْجَ بَرِيرَةَ كانَ عَبْدًا يُقَالُ له: مُغِيثٌ، كَأَنِّي أنْظُرُ إلَيْهِ يَطُوفُ خَلْفَهَا يَبْكِي ودُمُوعُهُ تَسِيلُ علَى لِحْيَتِهِ، فَقالَ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم لِعبَّاسٍ: يا عَبَّاسُ، ألَا تَعْجَبُ مِن حُبِّ مُغِيثٍ بَرِيرَةَ، ومِنْ بُغْضِ بَرِيرَةَ مُغِيثًا! فَقالَ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: لو رَاجَعْتِهِ، قالَتْ: يا رَسولَ اللَّهِ؛ تَأْمُرُنِي؟ قالَ: إنَّما أنَا أشْفَعُ، قالَتْ: لا حَاجَةَ لي فِيهِ. ))
أي: لو تقبلين به، فقالت هذه المرأة العاقلة: (يا رَسولَ اللَّهِ؛ تَأْمُرُنِي؟ قالَ: إنَّما أنَا أشْفَعُ) فلو أنه أمرها وعصت لكانت عاصية لله، فيجب أن نعلم علم اليقين أن طاعة رسول الله هي عين طاعة الله، وأن إرضاء رسول الله هو عين إرضاء الله، قال تعالى:
﴿ مَّن يُطِعِ ٱلرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ ٱللَّهَ ۖ وَمَن تَوَلَّىٰ فَمَآ أَرْسَلْنَٰكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا(80)﴾
﴿ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ(132)﴾
وقال:
﴿ مَّآ أَفَآءَ ٱللَّهُ عَلَىٰ رَسُولِهِۦ مِنْ أَهْلِ ٱلْقُرَىٰ فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِى ٱلْقُرْبَىٰ وَٱلْيَتَٰمَىٰ وَٱلْمَسَٰكِينِ وَٱبْنِ ٱلسَّبِيلِ كَىْ لَا يَكُونَ دُولَةًۢ بَيْنَ ٱلْأَغْنِيَآءِ مِنكُمْ ۚ وَمَآ ءَاتَىٰكُمُ ٱلرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَىٰكُمْ عَنْهُ فَٱنتَهُواْ ۚ وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ ۖ إِنَّ ٱللَّهَ شَدِيدُ ٱلْعِقَابِ(7)﴾
إن هؤلاء الذين نهاهم النبي عن النجوى ثم يعودون لما نُهوا عنه قد وقعوا في معصية الله عز وجل، فهناك إنسان واحد إذا عصيته فقد عصيت الله وهو رسول الله صلى الله عليه وسلم.
﴿وَيَتَنَٰجَوۡنَ بِٱلۡإِثۡمِ وَٱلۡعُدۡوَٰنِ وَمَعۡصِيَتِ ٱلرَّسُولِۖ﴾ (بالإثم) : بالمنكرات، فقد يكون هناك عن النساء، أو عن مغامرات بعض الأشخاص في المعاصي والآثام، عن مغامراتهم في الفحشاء والمنكر، فالحديث في المعصية وفي أساليبها وفي مسبباتها وفي نتائجها إثم، وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن أشياء كثيرة كل واحد منها يجرح عدالة الإنسان، فالعدالة والضّبط صفتان في المؤمن، فالضبط صفة عقلية، والعدالة صفة نفسية، وقد تسقط العدالة أو تُجرَح، فمن عامل الناس فلم يظلمهم وحدثهم فلم يكذبهم ووعدهم فلم يخلفهم، فهو ممن كملت مروءته وظهرت عدالته ووجبت أخوَّته وحرمت غيبته، فإنك إن ظلمت الناس سقطت عدالتك، إن كذبتهم سقطت عدالتك، إن أخلفت ما وعدتهم سقطت عدالتك.
(( لا إيمانَ لمَن لا أمانةَ له، ولا دينَ لمَن لا عَهدَ له. ))
فهناك أشياء ثلاثة تُسقط العدالة: الظلم والإخلاف والكذب، وهناك أشياء كثيرة تجرحها؛ كالتنزه في الطرقات المليئة بالكاسيات العاريات مثلاً، التنزه في هذه الطرقات يجرح العدالة، الحديث عن النساء في المجالس الخاصة، كقول أحدهم: فلانة شكلها كذا وطولها كذا، لونها كذا، فالحديث عن النساء يجرح العدالة، صحبة الأراذل تجرح العدالة، البول في الطريق يجرح العدالة، الأكل في الطريق يجرح العدالة، أن يمشي الإنسان حافياً في الطريق تُجرح عدالته، التطفيف بتمرة في الميزان يجرح العدالة، أكل لقمة من حرام تجرح العدالة، من علا صياحه في البيت تُجرَح عدالته، من قاد الكلب العقور ليتباهى به تُجرَح عدالته، من أطلق لفرسه العِنان (أسرع) فالآن الذي يسرع في مركبته تُجرَح عدالته، فهذه الأمور كلها تجرح عدالة الإنسان، فالمؤمن كامل، قال تعالى:
﴿أَلَمۡ تَرَ إِلَى ٱلَّذِينَ نُهُواْ عَنِ ٱلنَّجۡوَىٰ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا نُهُواْ عَنۡهُ وَيَتَنَٰجَوۡنَ بِٱلۡإِثۡمِ وَٱلۡعُدۡوَٰنِ﴾ الإثم: معروف؛ الحديث عن المعاصي، ودور اللهو، والأفلام والمسرحيات الفلانية، والممثلة الفلانية، والزاني الفلاني، والمنحرف الفلاني، والانحراف الجنسي الفلاني ومن يفعل هذا، دور الدعارة، هذه كلها إثم.
﴿وَيَتَنَٰجَوۡنَ بِٱلۡإِثۡمِ وَٱلۡعُدۡوَٰنِ﴾ العدوان؛ سلب أموال الناس بغير حق، والمؤامرة على ممتلكاتهم، وغصب حقوقهم، كأن يأخذ أحدهم المحل كله له ثم يلقي بشريكه في الطريق، أو أن يغتصب بيتاً، أو يأكل مالاً محرماً، أو يحوز على هذه المركبة، أو أن يماطل في وفاء الدين، فهذا كله من العدوان.
﴿وَيَتَنَٰجَوۡنَ بِٱلۡإِثۡمِ وَٱلۡعُدۡوَٰنِ وَمَعۡصِيَتِ ٱلرَّسُولِۖ﴾ أحياناً النبي عليه الصلاة والسلام له أوامر، فالأوامر الموجودة في القرآن الكريم هي أوامر الله، وهناك نبي كريم يأمر فهذه أوامر النبي، وهناك أوامر آنية تنظيمية، فلو أن النبي أعطى أمراً، ثم خُولف هذا الأمر لكانت هذه المخالفة معصيةً للرسول، ومن عصى الرسول فقد عصى الله.
تحية اليهود النبيَّ عليه الصلاة والسلام:
فهؤلاء الذين ﴿وَيَتَنَٰجَوۡنَ بِٱلۡإِثۡمِ وَٱلۡعُدۡوَٰنِ وَمَعۡصِيَتِ ٱلرَّسُولِۖ وَإِذَا جَآءُوكَ حَيَّوۡكَ﴾ يا محمد ﴿بِمَا لَمۡ يُحَيِّكَ بِهِ ٱللَّهُ﴾ كان اليهود إذا أرادوا أن يحيّوا النبي عليه الصلاة والسلام يقولون: السّام عليكم، والسّام هو الموت، فكان عليه الصلاة والسلام يقول: وعليكم
(( إنَّ اليهودَ إذا سلَّم عليكم أحدُهم فإنما يقول: السامُ عليكم. فقولوا: وعليكُم. ))
فهذه كانت تحية اليهود للنبي عليه الصلاة والسلام.
الله تعالى يمهل ولا يهمل:
قال تعالى: ﴿وَإِذَا جَآءُوكَ حَيَّوۡكَ بِمَا لَمۡ يُحَيِّكَ بِهِ ٱللَّهُ وَيَقُولُونَ فِيٓ أَنفُسِهِمۡ لَوۡلَا يُعَذِّبُنَا ٱللَّهُ بِمَا نَقُولُۚ﴾ أي: يقولون لو كان هذا رسول الله كما يدّعي لعذبنا الله بما نقول، فنحن حينما نقول له: السّام عليك يا محمد نستهزئ به وندعو عليه بالموت، فلو أن هذا نبي حقٌّ لعذبنا الله بما نقول وقد غاب عنهم أن الله يمهل ولا يهمل، وهناك الكثير من الأشخاص الذين ينطقون بكلمة الكفر فيقول أحدهم: أين الله؟ ويتحدى، وقد غاب عنه أنه في دار عمل لا دار جزاء، نحن في دار عمل ولا جزاء، وسوف نغدو على دار جزاء ولا عمل، والله سبحانه وتعالى قد يعاقب فوراً وقد لا يعاقب وذلك لحكمة يريدها، يقول الله عز وجل:
﴿ قُلْ سِيرُواْ فِى ٱلْأَرْضِ ثُمَّ ٱنظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَٰقِبَةُ ٱلْمُكَذِّبِينَ(11)﴾
وفي آية أخرى يقول:
﴿ قُلْ سِيرُواْ فِى ٱلْأَرْضِ فَٱنظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَٰقِبَةُ ٱلْمُجْرِمِينَ(69)﴾
فـ(الفاء) لها معنى، و(ثم) لها معنى، (الفاء): تعني أن تأتي عاقبة المكذبين عقب تكذيبهم، وهناك آلاف الحوادث من هذا القبيل، كإنسان يحلف يميناً غموساً كاذبة فيُصاب بالشلل لتوّه، وقد يكون هناك إنسان يحلف يميناً غموساً كاذبة ثم يحيا عشرين عاماً من دون مصيبة، وذلك لحكمة أرادها الله، فالله عز وجل عليم بكل شيء، وأفعاله كلها لحكمة، ولكننا لا نعلم الحكمة، فقد يأتي العقاب سريعاً وقد يتأخر، لكن العقاب إذا تأخر فلا يعني ذلك أن الله غافل، قال تعالى:
﴿ وَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصَارُ(42)﴾
لماذا يحسب الإنسان الله غافلاً؟ لأنه لا يرى العقاب السريع، والله أحياناً قد يؤخر العقاب، وإذا أخره كان ذلك لحكمة بالغة، وليس معنى ذلك أنه لا يقع، فلا بد له من أن يقع، ثم يقول الله عز وجل: ﴿لَوۡلَا يُعَذِّبُنَا ٱللَّهُ بِمَا نَقُولُۚ حَسۡبُهُمۡ جَهَنَّمُ يَصۡلَوۡنَهَاۖ فَبِئۡسَ ٱلۡمَصِيرُ﴾ يعني ذلك أن العقاب الحقيقي في النار، ويوم القيامة فيه رصيد الحساب، قال تعالى:
﴿ كُلُّ نَفْسٍۢ ذَآئِقَةُ ٱلْمَوْتِ ۗ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ ٱلْقِيَٰمَةِ ۖ فَمَن زُحْزِحَ عَنِ ٱلنَّارِ وَأُدْخِلَ ٱلْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ ۗ وَمَا ٱلْحَيَوٰةُ ٱلدُّنْيَآ إِلَّا مَتَٰعُ ٱلْغُرُورِ(185)﴾
ثم يقول: ﴿حَسۡبُهُمۡ جَهَنَّمُ يَصۡلَوۡنَهَاۖ فَبِئۡسَ ٱلۡمَصِيرُ﴾ وإذا عاقب الله عز وجل الإنسان في الدنيا كان ذلك أفضل بمليون مرة من أن يؤخر عقابه إلى الآخرة، فهو إذا عاقبه في الدنيا كان معنى ذلك أنه أعطاه فرصة للإصلاح والتغيير، وإذا أحب الله عبده عجّل له بالعقوبة، فإذا جاءك العقاب بعد الذنب فاعلم بأن هذه علامة طيبة، فقد أعطاك الله فرصة لتتوب، أما إذا ركب الإنسان رأسه واقترف المعاصي والآثام ثم لم يأتِه العقاب فمعنى ذلك أن عقابه أُخِّر ليوم القيامة، وهذا شيء خطير جداً، فإذا أحبّك الله عجّل لك بالعقوبة ﴿حَسۡبُهُمۡ جَهَنَّمُ يَصۡلَوۡنَهَاۖ فَبِئۡسَ ٱلۡمَصِيرُ﴾.
التناجي بالبر والتقوى:
﴿ يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ إِذَا تَنَٰجَيۡتُمۡ فَلَا تَتَنَٰجَوۡاْ بِٱلۡإِثۡمِ وَٱلۡعُدۡوَٰنِ وَمَعۡصِيَتِ ٱلرَّسُولِ وَتَنَٰجَوۡاْ بِٱلۡبِرِّ وَٱلتَّقۡوَىٰۖ وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ ٱلَّذِيٓ إِلَيۡهِ تُحۡشَرُونَ(9)﴾
يعني إذا جلستم، فليس هناك إنسان ليس له أصدقاء وإخوان وأصحاب وأقرباء، يجلس معهم في سهرة، في حفل، في نزهة، في سفر، يتناجى ويتكلم، فهذا الكلام لو سُجِّل يجب أن تفخر به؛ تتحدث عن أعمال البر، عن إصلاح ذات البين، عن خدمة الخلق، عن الدعوة إلى الله، عن الذكر، عن خدمة الشباب المؤمن، ﴿إِذَا تَنَٰجَيۡتُمۡ فَلَا تَتَنَٰجَوۡاْ بِٱلۡإِثۡمِ وَٱلۡعُدۡوَٰنِ وَمَعۡصِيَتِ ٱلرَّسُولِ﴾ كما فعل المنافقون ﴿وَتَنَٰجَوۡاْ بِٱلۡبِرِّ وَٱلتَّقۡوَىٰۖ﴾ ، والحقيقة أن هاتين الكلمتين جامعتان، فالبر صلاح الدنيا، فهناك آلاف الهموم التي تشغل المسلمين اليوم، فإذا ناجيت أخاك فناجِه في أمر يصلح شأن المسلمين، ناجِه في أمر من أعمال البر، كمشكلة توفير مساكن للشباب وتزويج الشباب مثلاً، أو مشكلة صيانة الأعراض، مشكلة ضبط المرأة المسلمة، مشكلة نشر الثقافة الإسلامية، مشكلة دعوة الناس إلى الله عز وجل، مشكلة أن يكون كتاب الله بين المسلمين هادياً ومرشداً، فإذا ناجيت أخوك فناجه في أعمال البر التي تعود على المسلمين بالخير.
﴿يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ إِذَا تَنَٰجَيۡتُمۡ فَلَا تَتَنَٰجَوۡاْ بِٱلۡإِثۡمِ وَٱلۡعُدۡوَٰنِ وَمَعۡصِيَتِ ٱلرَّسُولِ﴾ كما فعل اليهود والمنافقون.
﴿وَتَنَٰجَوۡاْ بِٱلۡبِرِّ وَٱلتَّقۡوَىٰۖ﴾ بشكل عام، لو أن هذا اللقاء مسجل خفية عنك مثلاً، لا يمكن لمؤمن أن يتكلم كلمة يستحيي بها أبداً، لأن المؤمن الصادق واضح كالشمس، فإذا تكلم في بيته، في خلوته، مع أصدقائه، مع إخوانه، مع جيرانه، مع من يلوذ به فهو لا يتكلم إلا في خير المسلمين، فهو يعنيه ما يعني المسلمين، ويؤلمه ما يؤلمهم، ويفرحه ما يفرح المسلمين، فكلامه لا يمكن أن يكون مأخذاً عليه، لأنه يعمل لله، ويعمل تحت ضوء الشمس، وعلى بيضاء نقية ليلها كنهارها.
فيا أيها الذين آمنوا إذا تناجيتم فتناجوا بالبر والتقوى: التقوى؛ بطاعة الله، كيف تدعو إلى الله، كيف تقنع الناس بأحقية هذا الدين، كيف يتعلمون كتاب الله، كيف تجذب الناس إلى بيوت الله، كيف تحملهم على الاستقامة على أمره، كيف تقنعهم بهذا الموضوع؛ إما بالبر وهو صلاح أمر المسلمين، أو بالتقوى وهي صلاح دينهم، وقد جاء في الدعاء الشريف:
(( اللَّهُمَّ أَصْلِحْ لي دِينِي الذي هو عِصْمَةُ أَمْرِي، وَأَصْلِحْ لي دُنْيَايَ الَّتي فِيهَا معاشِي، وَأَصْلِحْ لي آخِرَتي الَّتي فِيهَا معادِي، وَاجْعَلِ الحَيَاةَ زِيَادَةً لي في كُلِّ خَيْرٍ، وَاجْعَلِ المَوْتَ رَاحَةً لي مِن كُلِّ شَرٍّ. ))
فإذا اكتفى المسلمون في بلادهم ذاتياً، فأكلوا ما يزرعون، هذه نعمة كبيرة، ولبسوا ما ينسجون هذه نعمة أكبر، واستعملوا الآلات التي يصنعونها بأنفسهم فما كانوا عالة على أحد، وما كانوا تحت رحمة أحد، صنّعوا ثرواتهم، اكتفوا بمنتجاتهم الزراعية فهذه نعمة كبيرة، أن نكتفي زراعياً، أن نكتفي صناعياً، هذه نعمة، وإذا أُمِّنت المياه للبيوت جميعها، وعبّدت الطرقات، وأشيدت المستشفيات والمدارس والجامعات، وحوفِظ على الانضباط الأخلاقي والمحاسبة، كان كل هذا من البرّ، فالمجتمع المسلم يحتاج إلى طبابة جيدة، وإلى تجارة رابحة، وإلى تصنيع جيد، وإلى تصدير فهناك أعمال كثيرة تعود بالخير على المسلمين، فلا يكونون عالة على أمم أخرى، ولا تحت رحمة أمم أخرى، لقد ذكرت لكم مرةً أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه كان يزور بلدة إسلامية في عهده من رعاياه، فلفت نظره أن كل الفعاليات المعيشية في يد غير المسلمين فآلمه ذلك، فلما سألهم اعتذروا، فقال رضي الله عنه: كيف بكم إذا أصبحتم عبيداً عندهم؟ فقد أدرك هذا الخليفة الراشد أن الإنسان إما منتج أو مستهلك، فالمنتج قوي ومتحكم، أما المستهلك فهو ضعيف، ونحن مثلاً قد نبيع الصوف فيرجع إلينا قماشاً مصنوعاً بألف ضعف، والإحصاء في ذلك بسيط، فسعر الرطل من صوفنا سبع عشرة ليرة، فيعود هذا الصوف مصنعاً منسوجاً إلينا بألف وسبعمائة ليرة، فلو أننا صنعنا إنتاجنا من القطن بأيدينا، واستثمرنا بترولنا بأيدنا لكان أولى بنا.
فلذلك كان هذا البرّ صلاحاً للمسلمين، فالمسلم يحتاج إلى مدرسة وطبيب وطريق ومستشفى وبيت يسكنه، وبيت يزوج أولاده فيه، فكل مشروع من أجل كفاية المسلمين وتأمين حاجاتهم ومن أجل مستقبل أولادهم هو عمل طيب.
﴿وَتَنَٰجَوۡاْ بِٱلۡبِرِّ وَٱلتَّقۡوَىٰۖ﴾ فإن كان هناك ضمان صحي مثلاً، يستفيد منه الإنسان الفقير الذي قد يحتاج إلى عملية تكلف مئات الألوف، من خلال صندوق يرعى له هذه العملية، فهذا عمل طيب، الجمعيات الخيرية التي تلبي حاجات الفقراء والمساكين، هذا عمل طيب، جمعية دار الأيتام، فإذا كان هناك إنسان فقد والديه فإن رأى في المجتمع داراً تؤويه، وتعطف عليه وتطعمه أطيب الطعام وتلبسه أجمل الكساء، هذا شيء جيد جداً.
وعندنا من أعمال البرّ ما لا يُعد ولا يُحصى، فإذا ناجيت أخوك فناجِه بالبرّ، وحدِّثه عن طموحاتك وما تنوي أن تفعل في خدمة المسلمين فهذا هو البرّ.
والتقوى تكون في الدعوة إلى الله وتطبيق شريعة الله والأخذ بيد الناس إلى الله.
﴿وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ ٱلَّذِيٓ إِلَيۡهِ تُحۡشَرُونَ﴾ أي إن النهاية إلى الله.
﴿ إِنَّ إِلَيْنَا إِيَابَهُمْ(25) ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُمْ(26)﴾
﴿وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ ٱلَّذِيٓ إِلَيۡهِ تُحۡشَرُونَ﴾ فمهما كانت مظاهر الموت فخمة فلا بدّ من وقفة مع الله عز وجل، فهذه الآية تقول: ﴿وَتَنَٰجَوۡاْ بِٱلۡبِرِّ وَٱلتَّقۡوَىٰۖ وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ ٱلَّذِيٓ إِلَيۡهِ تُحۡشَرُونَ﴾ أطيعوا الله الذي إليه مآلكم ومصيركم.
﴿ إِنَّمَا ٱلنَّجۡوَىٰ مِنَ ٱلشَّيۡطَٰنِ لِيَحۡزُنَ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَلَيۡسَ بِضَآرِّهِمۡ شَيۡـًٔا إِلَّا بِإِذۡنِ ٱللَّهِۚ وَعَلَى ٱللَّهِ فَلۡيَتَوَكَّلِ ٱلۡمُؤۡمِنُونَ(10)﴾
هذا الكلام الخسيس والمؤامرات والدسائس والغيبة والنميمة والإفك والبهتان والسخرية والعِداء الخفي.
﴿إِنَّمَا ٱلنَّجۡوَىٰ مِنَ ٱلشَّيۡطَٰنِ﴾ فهذا من وسوسته ومن فعله، وهذه النجوى يفرح لها الشيطان لأنها تُوقع بين المؤمنين، توقع بينهم العداوة والبغضاء، وإن هدف الشيطان الأول هو أن يوقع العداوة والبغضاء بين المؤمنين، فهو يحرش بينهم، و يستفز بعضهم على بعض، فإذا كان بهم بقية جاهلية استجابوا لاستفزازه ووقعت بينهم العداوة والبغضاء، لذلك ورد في الحديث الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
(( ألا أخبركم بأفضل من درجة الصلاة والصيام والصدقة، قالوا: بلى يا رسول الله، قال: إصلاح ذات البين، فإن فساد ذات البين هي الحالقة، لا أقول حالقة الشعر ولكن تحلق الدين. ))
[ رواه أبو داوود والترمذي ]
ففساد العلاقة بين إنسانين هذا من شانه أن يُفسد دينهما، والإنسان بدينه:
(( يا بنَ عمرَ! دينُك دينُك، إنَّما هو لحمُكَ ودمُكَ، فانظُر عمَّن تأخذُ، خُذ عنِ الَّذينَ استَقاموا، و لا تأخُذ عن الَّذينَ مالوا. ))
فمن الممكن أن يحدث خطأ في أساس البيت فيُهدّم البيت عندئذ ويستغني عنه صاحبه، كما يمكن أن يحدث خطأ في العمل فيؤسس الإنسان عملاً جديداً، أما الخطأ الذي يصيب الدين فهو أمر خطير، (فإن فساد ذات البين هي الحالقة، لا أقول حالقة الشعر ولكن تحلق الدين) .
وإن الشيطان حينما يئس أن يُعبد في جزيرة العرب رضي بالتحريش بين المؤمنين، لذلك كان كل خلاف بين المسلمين أساسه من الشيطان، فإذا وقع بينهم الخلاف والعداوة والبغضاء فهذا من عمل الشيطان ﴿إِنَّمَا ٱلنَّجۡوَىٰ مِنَ ٱلشَّيۡطَٰنِ﴾ .
﴿لِيَحۡزُنَ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ﴾ هذه الآية لها معنيان.
1- لو فرضنا أن مؤمناً _لا سمح الله ولا قدر_ زلّت قدمه وانزلق لسانه في مجلس وتكلم بكلمة لا ترضي الله، فإن هذه النجوى التي انزلق بها المؤمن تُحزِنه، فينكمش، لأن الإنسان الذي يتكلم بما يسخط الله محجوب عن الله، تُحزِنه هذا المعنى الأول.
2- إن المنافقين إذا تكلموا في مجالسهم الخاصة كادوا للمؤمنين، وإذا بلغ المؤمنين هذا الكلام حزنوا، فإذا تآمر إنسان عليك مثلاً يريد أن يطعن بك، أن يطعن بعلمك، أن يطعن باستقامتك، أن يطعن بنزاهتك، يكيل لك الصاع صاعين، قال: ﴿إِنَّمَا ٱلنَّجۡوَىٰ مِنَ ٱلشَّيۡطَٰنِ لِيَحۡزُنَ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ﴾ ، ولكن الله طمأننا فقال: ﴿وَلَيۡسَ بِضَآرِّهِمۡ شَيۡـًٔا إِلَّا بِإِذۡنِ ٱللَّهِۚ﴾ إنهم مهما تكلموا ومهما قالوا، ومهما تبجّحوا، ومهما تآمروا، ﴿وَلَيۡسَ بِضَآرِّهِمۡ شَيۡـًٔا إِلَّا بِإِذۡنِ ٱللَّهِۚ﴾ .
التوكل على الله من صفات المؤمن:
﴿وَعَلَى ٱللَّهِ فَلۡيَتَوَكَّلِ ٱلۡمُؤۡمِنُونَ﴾ يعني أنت مؤمن لك أن تستقيم على أمر الله، ولك أن تعبده، والله يتولى أمرك، قال تعالى:
﴿ إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمْ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ(30) نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ(31) نُزُلًا مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ(32)﴾
الله وليّك، والله عز وجل يدافع عنك، والله ينصرك، والله يؤيدك، والله يحفظك، والله يكرمك ويعطيك، والله عز وجل لا يستجيب لكل مَن يعاديك، فهذه بشارة من الله: ﴿إِنَّمَا ٱلنَّجۡوَىٰ مِنَ ٱلشَّيۡطَٰنِ لِيَحۡزُنَ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَلَيۡسَ بِضَآرِّهِمۡ شَيۡـًٔا إِلَّا بِإِذۡنِ ٱللَّهِۚ وَعَلَى ٱللَّهِ فَلۡيَتَوَكَّلِ ٱلۡمُؤۡمِنُونَ﴾ فإذا كنت مؤمناً حقاً فتوكل على الله، وإذا توكلت على الله فأنت أقوى الناس، وإن قنِعت بما أعطاك الله فأنت أغنى الناس، وإن أطعت الله فأنت أكرم الناس، ومن توكل على الله كان أقوى الناس، لأن أقوى قوة في الكون معك، وإذا كان الله معك فمن عليك؟ وإذا كان عليك من معك؟ ثم يقول الله عز وجل:
﴿ يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ إِذَا قِيلَ لَكُمۡ تَفَسَّحُواْ فِي ٱلۡمَجَٰلِسِ فَٱفۡسَحُواْ يَفۡسَحِ ٱللَّهُ لَكُمۡۖ وَإِذَا قِيلَ ٱنشُزُواْ فَٱنشُزُواْ يَرۡفَعِ ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ مِنكُمۡ وَٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلۡعِلۡمَ دَرَجَٰتٍۚ وَٱللَّهُ بِمَا تَعۡمَلُونَ خَبِيرٌ(11)﴾
نبدأ بهذه الآية في الدرس القادم إن شاء الله تعالى، لنشير إلى أدب المجلس فمجلس العلم أساسيّ في حياة المؤمن، ولهذا المجلس آداب نوّه بها القرآن الكريم تارة، ونوّه بها النبي عليه الصلاة والسلام في مواطن شتّى، والإنسان إذا حضر مجلس علم عليه أن يعلم آداب هذا المجلس، فله آداب كثيرة، فالإنسان أحياناً قد يسيء وهو لا يشعر، فكم من مخالفات تُرتَكب فـتشوّش على الجالسين في مجلس العلم درسهم، وهذا الذي يشوّش لا يدري ماذا يفعل، فحبذا لو تعلّمنا جميعاً آداب مجالس العلم، وكيفية الحضور والإنصات، والجلوس، فهناك آداب كثيرة، وهذه الآية أشارت إليها بشكل موجز.
﴿يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ إِذَا قِيلَ لَكُمۡ تَفَسَّحُواْ فِي ٱلۡمَجَٰلِسِ فَٱفۡسَحُواْ يَفۡسَحِ ٱللَّهُ لَكُمۡۖ﴾ فأحياناً يكون هناك ازدحام، وقد يأتي إنسان فلا يجد مكاناً فيستحيي، فهناك رجل جاء إلى مجلس النبي عليه الصلاة والسلام استحيا آوى إلى الله فآواه الله، وهناك رجل آخر ما وجد مكاناً أعرض فأعرض الله عنه، فإذا جاء أخ مسلم فلم يجد مكاناً، فأعطاه أحد الإخوة مكاناً وتفسّح قليلاً هذا من صفات المؤمنين الطيّبين، فالإنسان أحياناً يهمه أن يجلس في مكان مريح لوحده، بينما يكون أخوه غير مرتاح، وقد قال تعالى: ﴿إِذَا قِيلَ لَكُمۡ تَفَسَّحُواْ فِي ٱلۡمَجَٰلِسِ فَٱفۡسَحُواْ يَفۡسَحِ ٱللَّهُ لَكُمۡۖ﴾ والجزاء من نفس العمل، يعني إذا فسحت لأخيك فسح الله لك من رحمته، وإذا أعنت أخاك أعانك الله، وإذا نفّست عن أخيك كربة دنيوية نفّس الله عنك كربة من كرب يوم القيامة، فمن أساليب ربنا عز وجل أنه يجازي على الإحسان إحساناً مشابهاً له.
﴿وَإِذَا قِيلَ ٱنشُزُواْ﴾ أي اخرجوا ﴿فَٱنشُزُواْ يَرۡفَعِ ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ مِنكُمۡ وَٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلۡعِلۡمَ دَرَجَٰتٍۚ﴾ والدرجات عند الله هي درجات العلم والعمل وهذه الآية من أوضح الآيات.
﴿وَإِذَا قِيلَ ٱنشُزُواْ فَٱنشُزُواْ يَرۡفَعِ ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ مِنكُمۡ وَٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلۡعِلۡمَ دَرَجَٰتٍ وَٱللَّهُ بِمَا تَعۡمَلُونَ خَبِيرٌ﴾
الملف مدقق