- تفسير القرآن الكريم / ٠2التفسير المطول
- /
- (054)سورة القمر
الحمد لله رب العالمين، والصّلاة والسّلام على سيدنا محمد الصّادق الوعد الأمين.
اللهم لا علم لنا إلا ما علّمتنا إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علّمنا ما ينفعنا وانفعنا بما علّمتنا وزدنا علمًا وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين.
الهوى والحق لا يجتمعان:
أيها الإخوة الكرام؛ مع الدرس الثاني من سورة القمر، ومع الآية التاسعة:
بِسْمِ ٱللَّهِ ٱلرَّحْمَٰنِ ٱلرَّحِيمِ
﴿ كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍۢ فَكَذَّبُواْ عَبْدَنَا وَقَالُواْ مَجْنُونٌ وَٱزْدُجِرَ (9)﴾
القرآن الكريم أحياناً آياته تفسِّر آياته، بعض آياته يفسر بعض آياته، فقال تعالى:
﴿
أي كذبوا لأنهم اتبعوا أهواءهم، أو كذبوا لأن حالتهم اتباع الهوى، فالهوى والحق لا يجتمعان، وقد قلت لكم من قبل: إن وراء كل عملٍ يفعله الإنسان أحد باعثين: العقل أو الشهوة؛ إرضاء الذات أو إرضاء الله -عزَّ وجل-، الإحسان أو الإساءة، القِيَم أو الحاجات، العمل للدنيا أو العمل للآخرة، وهذان الباعثان لا ثالث لهما، فإن لم تكن بالباعث الأول فأنت بالباعث الثاني، فالآية الثالثة وهي قوله تعالى:
﴿
فإن لم تجد الاستخلاف موجودًا، ولا التمكين، ولا التطمين، لا استخلاف ولا تمكين ولا تطمين، كيف تفسر هذه الآية؟ هذا الوضع تفسره آية ثانية:
﴿ فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُواْ ٱلصَّلَوٰةَ وَٱتَّبَعُواْ ٱلشَّهَوَٰتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا (59)﴾
أما إضاعة الصلاة فلا تعني أنهم تركوا الصلاة ولكن أضاعوا قيمتها بعدم الاستقامة، الإنسان إذا استقام فإنه يتَّصل، وإن لم يستقم لا يتصل، كل إنسانٍ بإمكانه أن يتوضأ، وأن يقف، وأن يقرأ، ويركع، ويسجد، لكن ليس بإمكانه أن يتصل إن لم يكن مستقيماً، فمن إضاعة الصلاة عدم الاستقامة، من إضاعة الصلاة أكل المال الحرام، من إضاعة الصلاة عدم التقيُّد بأوامر الشرع، من إضاعة الصلاة التفلُّت في العلاقات النسائية؛ فلذلك التكذيب يرافقه اتباع الهوى
معنى التكذيب وأنواعه ونتائجه:
ولكن أيها الإخوة أرجو الله -سبحانه وتعالى- أن يوفقني إلى توضيح عميق لمعنى التكذيب، أحياناً الإنسان يصدِّقُ بلسانه وهذا شأن عامة المسلمين، ما من مسلمٍ في العالم الإسلامي يمكن أن يقول: " أنا لا أعتقد بالآخرة، ولست مؤمناً بها"، هذا كلام لا يقع ما دام الإنسان نشأ من أبوين مسلمين في عالمٍ إسلامي، أي الجو العام جو أنه يوجد آخرة، وجنة، ونار، وحساب، وعذاب، وصلاة، وصوم، وحج، وزكاة، ليس هذا هو التكذيب العميق، التكذيب العميق ألا يأتي عملك مطابقاً لمعتقدك، فالإنسان حينما يرتكب الحرام، أو يأكل المال الحرام، أو يتفلَّت من منهج الله، وهو مقيمٌ على هذه المعصية وليس في رغبته أن يقلع عنها، وهو يقرأ القرآن ويحضر خطب الجمعة، هذا مكذبٌ بعمله لا بلسانه.
1ـ التكذيب باللسان:
2 ـ التكذيب بالعمل:
الامتحان محدد في شهر حزيران، والطالب لا تراه إطلاقاً يفتح كتاباً، ولا يعكف على دراسةٍ، ولا يسأل سؤالاً، ولا يؤدي واجباً، عدم الاهتمام بالقراءة والمطالعة والحفظ والمراجعة وأداء الواجبات وهو يعلم علم اليقين أن الامتحان في حزيران فنقول: هذا يكذب بالامتحان لا بلسانه ولكن بعمله، فحذارِ أن يقع الإنسان في هذا المطب؛ أن تنفصل عقيدته عن سلوكه، ويعتقد أن الإسلام حق ودين عظيم، والآخرة حق، والجنة حق، والنار حق، وهناك حساب، وعذاب، وما شاكل ذلك، فإذا دخلت بيته أو زرته في عمله فلا تجده منضبطاً ولا على طريق الاستقامة قائماً، لا تجد دخله حلالاً ولا إنفاقه حلالاً، فكيف نوفِّق بين هذا الوضع؟ لا شك في أن يكون هناك ما يسمى بالتكذيب العملي، والتكذيب العملي أخطر بكثير من التكذيب النظري، والمؤمن الصادق -دائماً وأبداً- يطابق بين سلوكه وبين معتقده، بين سلوكه و بين منهجه، بين سلوكه وبين الحلال والحرام، وقِوام الدين بعد معرفة الله الحلال والحرام:
(( ... يا سعدُ، أَطِبْ مَطْعَمَكَ تَكُنْ مُستَجابَ الدَّعوةِ... ))
فالإنسان حينما يكذّب يكون متبعاً للهوى، اتبع الهوى فكذّب، أو كذّب فاتَّبع الهوى
عاقبة التكذيب:
أيها الإخوة الكرام؛
﴿ أَكُفَّارُكُمْ خَيْرٌ مِّنْ أُوْلَٰٓئِكُمْ أَمْ لَكُم بَرَآءَةٌ فِى ٱلزُّبُرِ (43) أَمْ يَقُولُونَ نَحْنُ جَمِيعٌ مُّنتَصِرٌ(44) سَيُهْزَمُ ٱلْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ ٱلدُّبُرَ (45) بَلِ ٱلسَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ وَٱلسَّاعَةُ أَدْهَىٰ وَأَمَرُّ(46)﴾
هذه الآية هي مغزى تلك القصص، أي إذا أهلك الله قوم نوح بأنهم كذبوا واتبعوا أهواءهم، وأهلك قوم عادٍ وقوم ثمود وقوم لوط وأصحاب الأيكة وقوم شُعيبٍ، فمن نحن؟ إن أهلك هؤلاء الأقوام فلابد من أن نهلك إن خالفنا واتبعنا أهواءنا؛ هذا هو المغزى، وقد يقول الأب لابنه أحياناً: انظر إلى فلان وفلان... لقد انحرفوا فدمّروا أنفسهم؛ أي لا تنحرف لئلا تُدمّر كما دُمِّروا، لا تأكل مالاً حراماً لئلا يتلف مالك كما أُتلف مالهم، لا تنحرف أخلاقياً تُصَاب بالمرض الذي أُصيبوا به، فالإنسان العاقل يستنبط من التاريخ أَجَلَّ المواعظ،
تكريم الله -عزَّ وجلَّ-للإنسان:
﴿
حينما يقول الله -عزَّ وجلَّ-:
﴿ نَبِّئْ عِبَادِىٓ أَنِّىٓ أَنَا ٱلْغَفُورُ ٱلرَّحِيمُ (49)﴾
﴿
﴿
هل تشعر أن هذا العبد إذا أضيف إلى ذات الله -عزَّ وجلَّ- فهذه إضافة تكريم وإضافة تشريف، أيليق بالإنسان وهو الذي سُخّرت له السماوات والأرض تسخير تعريف وتكريم أن يكون غافلاً عن الله في حين أن كل المخلوقات تسبح بحمد الله وتقدِّس له.
﴿ تُسَبِّحُ لَهُ ٱلسَّمَٰوَٰتُ ٱلسَّبْعُ وَٱلْأَرْضُ وَمَن فِيهِنَّ ۚ
استمرار وجود الإنسان منوط باتباع تعليمات الخالق:
حينما يأتي الإنسان ليستمع إلى تفسير آياتٍ من كتاب الله، فهل هناك عمل أجلُّ وأخطرُ وأنفعُ من أن تتعرف إلى منهجك في الحياة؟! فإذا اشتريت آلةً غالية الثمن؛ غاليةٌ جداً، ولها أرباح طائلة، وجعلتها قِوام عملك، فهل من عملٍ أخطر وأنفع وأجدى من أن تعكف على تعليمات الصانع فتدرسها؟ فالذي عنده آلة ثمنها ثلاثون مليونًا؛ آلة إلكترونية، ويعلق عليها آمالاً كبيرة، وهي مصدر رزقه الوحيد، فهل من عملٍ أجلُّ وأخطر من أن يعكف على تعليمات الصانع فيترجمها، ويفهمها، ويستعملها؟ وأنتم ألا تحبون أنفسكم؟ الإنسان يحب ذاته، يحب وجوده، ويحب كمال وجوده، واستمرار وجوده، وسلامة وجوده، فسلامة وجودك، وكمال وجودك، واستمرار وجودك منوطٌ باتباع تعليمات الصانع، فالإنسان حينما ينطلق من حبه لذاته في تطبيق تعاليم الله -عزَّ وجلَّ- فهذا من أعظم النعم.
ذكرت اليوم لمن فاته استماع هذه الحقيقة أن مركبةً فضائيةً أُرسلت إلى الفضاء الخارجي قبل أربع سنوات، وهي تقطع في الساعة أربعين ألف ميل، والميل كيلو ونصف تقريباً، قبل يومين أرسلت إشارةً إلى وجود مجرة تبعد عنا ثلاثمئة ألف بليون سنة ضوئية، أُذيعت هذه الحقائق في إذاعة عالمية، المجرة التي اكتشفت حديثاً جداً تبعد عن الأرض ثلاثمئة ألف بليون سنة ضوئية، معنى ذلك أن هذه المجرة كانت في هذا المكان قبل ثلاثمئة ألف بليون سنة وهي تمشي بسرعة مئتين وأربعين ألف كيلو متر في الثانية، أين هي الآن ؟ ألم يقل الله -عزَّ وجلَّ-:
﴿ فَلَآ أُقْسِمُ بِمَوَٰقِعِ ٱلنُّجُومِ (75) وَإِنَّهُۥ لَقَسَمٌ لَّوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ(76)﴾
أهذا الإله العظيم يعصى؟ أهذا الإله العظيم ألا يخطب وده؟ أينسى؟ يُغفل عنه؟ فالإنسان العاقل يطلب العلم ليتعرَّف إلى الله -عزَّ وجلَّ- وليتعرف إلى منهجه، يملك- كما يقولون- عزيمة قوية تحمله على تطبيق الأمر والنهي؛ هذا هو الفلاح، وهذا هو النجاح، وهذا هو الفوز، وهذا هو التّفوّق.
الاعتراف بفضل الله عبودية له:
﴿ كَلَّآ إِنَّ ٱلْإِنسَٰنَ لَيَطْغَىٰٓ(6)﴾
متى؟
﴿ أَن رَّءَاهُ ٱسْتَغْنَىٰٓ (7)﴾
إذا استغنى عن الله يطغى، أما إذا افتقر إلى الله يستقيم على أمره، إذا شعرت أنك عبدٌ وأن الله هو كل شيء، وأن هذا منهجه، إذاً عليك بطاعته، أمّا إذا شعرت أنك مستغنٍ عنه فهذه هي الطَّامة الكبرى، بالمناسبة أيها الإخوة ذكرت مرةً أن هذه الطاولة مثلاً موضوع عليها هذا المصحف، وهذه الآلات، وهذا الكأس، لكن هي تتحمل أوزانًا أكبر من هذا بكثير؛ بمعنى أن هناك احتياطاتٍ كثيرةً أودعت فيها، يمكن أن يقف عليها إنسان، يمكن أن تتحمَّل إنسانين يقفان عليها، إذاً قلَّما تُصاب بالعطب لأن احتياطها كبير، كان من الممكن أن يكون الإنسان على شاكلة هذه الطاولة، بكل عضو من أعضائه، بكل جهاز من أجهزته احتياط كبير بحيث لا يمرض أبداً، يعيش شاباً إلى أن يأتيه الأجل، فيموت فجأةً، كان من الممكن أن يكون الإنسان كذلك، لكن شاءت حكمة الله أن يُخلق الإنسان ضعيفاً، لماذا؟ ليفتقر في ضعفه، ليرى ضعفه، لعل من حكم الصيام أن الإنسان القوي الشديد العتيد حينما يدع الشراب والطعام في أيام الصيف الحارة يرى أنه ذاب كما تذوب الشمعة، ذبل كما تذبل الورقة، تتوقف نشاطاته على كأس ماء، لعله في الصيام يعرف حجمه، يعرف ضعفه، يعرف افتقاره.
رعاية وعناية الله-عزَّ وجلَّ- مقترنة بمقدار الافتقار إليه:
لذلك أيّها الإخوة، يفتقر الإنسان إلى أن يكون عبداً لله، العبودية أن تعرف الله، ولا أبالغ إذا قلت: إن الدرس اليوميّ الذي نُمتحن به مقدارُ افتقارِنا إلى الله ومقدار اعتزازنا بِأنفسِنا، ففي اللحظة التي نفتقر إلى الله يتولاَّنا الله بالرّعاية والعِناية، وفي اللحظة التي نعتدُّ فيها بأنفسنا يتخلى الله عنا، لذلك مِن دُعاء النَّبي -عليهِ الصَّلاةُ والسَّلام-:
(( اللَّهمَّ رحمتَك أَرجو
لذلك القانون:
﴿ لَقَدْ نَصَرَكُمُ ٱللَّهُ فِى مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍۢ ۙ
يوم حنين أعجبتكم كثرتكم، في بدرٍ افتقرتم:
﴿
صدقوني أنَّ هذا الامتحان يصيبُ كلَّ مؤمنٍ في اليوم عشراتِ المرات، إذا خطر بباله أنه متمَكِّن، وأنّ خبرتهُ عميقة، أن مالهُ وفير، أنّه بالدّراهم يحلُّ كلَّ مشكلة، اعتدَّ بمالهِ، اعتدَّ بقوتهِ، اعتدَّ بعلمهِ، اعتدَّ بخبراتهِ، يتخلى اللهُ عنه، ويلقِّنه الله درساً لا يُنسى، تأتيهِ المشكلةُ من حيثُ لا يحتسب، من مكان طمأنينَتهِ، من مأمنه، يُؤتَى الحذِرُ من مَأمنِه، فأنا هذا الكلام تعليق على قوله تعالى:
﴿ فَأَوْحَىٰٓ إِلَىٰ عَبْدِهِۦ مَآ أَوْحَىٰ (10)﴾
أي أنتَ في أعلى مستوياتك حينما تشعر بعبوديتك لله -عزَّ وجلَّ-، أنتَ في أعلى درجاتِ رقيِّك حينما تشعرُ أنّكَ مفتقرٌ إلى الله، كُلَّما ازددتَ إدراكاً لعبوديتكَ لله ازددت رفعةً عِند الله وعندَ النّاس، وأمدَّكَ الله بقوةٍ منه، وبعلمٍ منه، و بغنىً منه، أنتَ غنيٌ بالله فقيرٌ بذاتك، أنتَ قويٌ بالله ضعيفٌ بذاتك، أنتَ عالمٌ بالله جاهلٌ بذاتك، فلذلك أيُّها الإخوة كانَ الأنبياء عُبَّاداً لله-عزَّ وجلَّ- والمؤمن يعرف هذه العبودية، لذلك حينما يعقل الإنسان هذه الحقيقة لا تجد على لسانه فلتةً تشير إلى شِرْكِهِ، دائماً يقول: إن شاء الله، لقد أكرمني الله، لقد منَّ الله عليّ بفضلهِ فأعطاني كذا، لا يرى أنَّ الذي حصّلهُ بجهدهِ، ولا بكسبهِ، ولا بذكائهِ، ماذا قال قارون؟
﴿
فأهلكه الله:
﴿
ماذا قال إبليس؟
﴿
فأهلكه الله -عزَّ وجلَّ-، ماذا قال قوم بلقيس:
﴿ قَالُواْ نَحْنُ أُوْلُواْ قُوَّةٍۢ وَأُوْلُواْ بَأْسٍۢ شَدِيدٍۢ وَٱلْأَمْرُ إِلَيْكِ فَٱنظُرِى مَاذَا تَأْمُرِينَ (33)﴾
ماذا قال قارون؟
﴿ هَلْ أَتَىٰ عَلَى ٱلْإِنسَٰنِ حِينٌ مِّنَ ٱلدَّهْرِ لَمْ يَكُن شَيْـًٔا مَّذْكُورًا (1)﴾
أنعم عليه بنعمة الوجود، أنعم عليه بنعمة الإمداد، أنعم عليه بنعمة الإرشاد، لذلك المؤمن دائماً يخترق النعمة إلى المُنْعِم، والكافر يقف عند النعمة، المؤمن يخرقها إلى المُنْعِم، أما الكافر يقفُ عندها ويستمتع فيها بلؤمٍ شديد.
من هو المَجْنُون؟
إذاً:
﴿ مَآ أَنتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ (2)﴾
﴿
المؤمن يرى طاعة الله هي كل شيء، يُصَدِّق الله -عزَّ وجل-، هناك نقطة دقيقة جداً ذكرتها اليُوم في الخطبة: كان من الممكن أن نأتي جميعاً إلى الدُّنيا دفعةً واحدة، وأن نغادرها دفعةً واحدة، لكن شاءت حِكمة الله أن نأتيها تباعاً، لماذا؟ لأنَّه يمكن لأحدنا أن يُعَلِّم الآخر، فالإنسانُ الذي عمره خمسونَ سنة قد تراكمت عندهُ الخِبرات، والحقائق، والتّجارب، والمعارف، وعرف الله، يُلَخِّص كلَّ هذا العمر وكلَّ هذه التَّجارِب لِمن كانَ صغيراً بِكلمات، فسرُّ التَّعليم أنَّك تأخذُ خِبرات الأجيال، هذا كِتابُ الله-عزَّ وجل- حينما تستَمِعُ إلى تفسيره، فهذا عمل خطير جِداً لأنَّه منهجُكَ في الحياة، فالتَّعليم عن طريق اللُّغة شيء راقٍ جداً، وهذا الشّيء يليقُ بالإنسان لأنَّ الله -عزَّ وجل - قال:
﴿ ٱلرَّحْمَـٰنُ (1) عَلَّمَ ٱلْقُرْءَانَ (2) خَلَقَ ٱلْإِنسَـٰنَ (3) عَلَّمَهُ ٱلْبَيَانَ (4)﴾
أنتَ مكرم بِالبيان، والبيانُ شفهيّ، وهُناك بيان كتابيّ، والكِتابيّ أرقى وأسمى لأنَّه ينقلُ المَعارِف من جيلٍ إلى جيل، ومن أُمّة إلى أُمّة، ومن قارةٍ إلى قارّة؛ فلذلك:
فإذا شخص أمسك إنسان بكيلو من الذهب الخالص، وقال له آخر: هذا ليس بذهب، هذا معدن رخيص، هذا الاتهام يجعل هذا المعدن رخيصاً؟ أبداً، تقييمك لا يغيِّر حقائق الأشياء، فلو قالوا عنه:
(( بَدَأَ الإسْلَامُ غَرِيبًا، وَسَيَعُودُ كما بَدَأَ غَرِيبًا، فَطُوبَى لِلْغُرَبَاءِ. ))
(( طوبى للغرباءِ، قيل: من الغرباءُ؟ قال: ناسٌ صالحون قليلٌ في ناسِ سوءٍ كثيرٍ من يعصيهم أكثرُ ممن يطيعُهم))
الإنسانُ إذا أقامَ شرعَ اللهُ وترك كلَّ المُوبقات، وتركَ كلَّ المُلهيات، وضبطَ لسانهُ، يُتَّهمُ عند النّاس بأنّه مجنون، وأنّه لا يعرف كيف يعيش، وأنَّ الذين أكلوا المال الحرام هم الأذكياء والأقوياء؛ هذا حال المجتمع في آخر الزَّمان، يُكذَّبُ الصَّادق ويُصدَّقُ الكاذب، يُؤتَمَنُ الخائن ويُخوَّنُ الأمين، هذا من علامات آخرِ الزمان التي أشار إليها النَّبيُّ - عليه الصلاة والسلام -.
الدنيا دار ابتلاء لا دار استواء:
﴿ كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍۢ فَكَذَّبُواْ عَبْدَنَا
الله -عزَّ وجلَّ- ما كان بالإمكان أن يخلق النبي وأصحابه المحبِّين في عصرٍ دون أن يخلق معهم إنساناً كافراً ولا مكذباً ولا مفترياً، فيعيش النَّبي مع أصحابه حياةً جميلةً وادعةً، كلها مودة، وكلها محبة، و كلها خدمة، و كلها مؤاثرة، والإسلام ينتشر هكذا ببساطة من دون جهد، وحروب، وغزوات، لا يُوجَد رجل كافر ينتقد النَّبي، ولا شاعر يهجوه، ولا كفار يُخرجُونه من بلده، ولا أشخاص يتَّبعونه في طريق الهِجرة، ولا أشخاص يؤذونهُ في الطَّائف، ولا أشخاص يَأتَمِرُونَ عليه في الخندق، ألم يَكُن هذا ممكناً؟ إنه ممكن، ولكن كيف يظهرُ كمالُ النَّبي؟! شاءت حكمة الله أن يجعل الحياة الدنيا دار ابتلاء، دار امتحان، والإنسان بالابتلاء والامتحان يظهر معدنه، فما كان لنا أن نعرف قدرَ النَّبي لولا هؤلاء الكفار الذين نَكَّلوا، واتَّهموا، وأخرجوا، وكذبوا، وفعلوا الأفاعيل، وقد صبر النَّبي وصبر حتى أكرمه الله -عزَّوجل-.
أنا أقول لكم هذا الكلام: الإنسان إذا اتّبع الحق فربما أصابته بعض المتاعب، أحياناً من أقرب النّاس إليهِ، أحياناً من زوجته، من أولاده أحياناً، من إخوته، من جيرانه،
أهمية الدعاء و أسبابه:
﴿
﴿
فالمضطر من له غير الله؟! إخواننا الكرام؛ يجب أن تعلموا علم اليقين أن الإنسان إذا أَلَمَّت به مصيبة وكان مستقيماً على أمر الله، عليه أن يعلم العلم القطعي أن هذه المصيبة التي شاءها الله له وهو على استقامةٍ على أمر الله سوف ترفعه مرَّتين، سوف ترفع مستوى معرفته بالله، وسوف ترفع مستوى محبَّته لله، هناك قفزتان وراء كل مصيبة للمؤمن المستقيم.
﴿ وَلَنَبْلُوَنَّكُم بِشَىْءٍۢ مِّنَ ٱلْخَوْفِ وَٱلْجُوعِ وَنَقْصٍۢ مِّنَ ٱلْأَمْوَٰلِ وَٱلْأَنفُسِ وَٱلثَّمَرَٰتِ ۗ وَبَشِّرِ ٱلصَّٰبِرِينَ (155) ٱلَّذِينَ إِذَآ أَصَٰبَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُوٓاْ إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّآ إِلَيْهِ رَٰجِعُونَ (156) أُوْلَٰٓئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَٰتٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ ۖ وَأُوْلَٰٓئِكَ هُمُ ٱلْمُهْتَدُونَ(157)﴾
إن الله-عزَّ وجلَّ- يحب الملحين في الدعاء:
أيها الإخوة؛
(( مَن لم يَدعُ اللَّهَ سبحانَهُ، غَضبَ علَيهِ ))
إن الله يحبُّ من عبده أن يسأله حاجته كلها، إن الله يحب من عبده أن يسأله ملح عجينه:
(( لِيَسْأَلْ أَحَدُكُمْ رَبَّهُ حَاجَتَهُ كُلَّهَا؛ حَتَّى يَسْأَلَ شِسْعَ نَعْلِهِ إِذَا انْقَطَعَ ))
ادع الله:
(( إنَّ اللَّهَ يُمْهِلُ حتَّى إذا ذَهَبَ ثُلُثُ اللَّيْلِ الأوَّلُ، نَزَلَ إلى السَّماءِ الدُّنْيا، فيَقولُ: هلْ مِن مُسْتَغْفِرٍ؟ هلْ مِن تائِبٍ؟ هلْ مِن سائِلٍ؟ هلْ مِن داعٍ؟ حتَّى يَنْفَجِرَ الفَجْرُ ))
يجب أن تجعل الدعاء أساس حياتك، حسنًا لو هناك مشكلة، كان -عليه الصلاة والسلام- إذا حزبه أمرٌ بادر إلى الصّلاة، ليكن لك صلاة الحاجة، النبي شَرَعَ لنا صلاة الحاجة، لك مشكلة صلّ صلاة الحاجة،
الدعاء سبب قوة الإنسان و غناه:
يقولون: إن نور الدِّين الشّهيد -هكذا قرأت والله أعلم- حينما أراد أن يدفع الفرنجة عن هذه البلاد وكانت هناك معركةٌ حاسمة فسجد وقال:
﴿
أنت بالدّعاء تصبح أقوى الناس، لأنَّ الله أقوى من كل قوي، أنت بالدعاء تصبح أغنى الناس لأن الله أغنى من كل غني، ملخَّص الدين كله أي أن تكون مع الله بالدعاء، وإذا قال الله -عزَّ وجلَّ-:
﴿ ٱلَّذِينَ هُمْ عَلَىٰ صَلَاتِهِمْ دَآئِمُونَ (23)﴾
أي يدعون الله دائماً في كل أحوالهم، والدعاء كما قال النبي -عليه الصلاة والسلام-:
((
ومن لا يدعوني أغضب عليه، والدعاء هو العبادة، الشّيء الدّقيق أن الإنسان بالدعاء يقفز قفزةً نوعيةً في معرفته بالله، وفي محبته له، وإذا أردت أن تُحدِّث الله فادعه، وإذا أردت أن يُحدِّثك الله -عزَّ وجلَّ- فاقرأ كلامه، هل هناك أمتع من أن تناجي الله -عزَّ وجلَّ-؟!
بعض من أدعية النبي -عليه الصلاة والسلام-:
لذلك احفظ أدعية النّبي-عليه الصلاة والسلام-؛ أدعيةٌ جامعةٌ مانعةٌ محكمة، اجعل كتاب دعاءٍ في جيبك، الإنسان في وقت ميِّت أحياناً يركب مركبة عامة، يسافر، يمشي في الطريق، فإذا معه كتيِّب دعاء، وقرأ أدعية النبي وحفظها وأصبحت ملكه فهو قادر على أن يدعو الله في كل لحظة، وإن كان بأي لغة، وبأية طريقة، وبأي أسلوب الدعاء مقبول، لكن تجد أن دعاء النبي جامع مانع، مثلاً:
((
فأحياناً يخلق الله من الشيء القليل شيئًا كثيرًا، هذا دعاء جامع مانع.
(( قلت يارسول الله: أرأيت إن علمت أي ليلة ليلة القدر ما أقول فيها، قال: قولي
(( اللَّهمَّ إنِّي أسألُكَ العفوَ والعافيةَ، في الدُّنيا والآخرةِ، اللَّهمَّ إنِّي أسألُكَ العفوَ والعافيةَ، في دِيني و دُنيايَ، وأهلي ومالي،
(( ما أصاب أحدًا قط همٌّ و لا حزنٌ، فقال:
((
(( عن عليٍّ رَضِيَ اللهُ عنه أنَّ مُكاتَبًا جاءه فقال: إنِّي عجزتُ عن كتابتي فأعِنِّي قال: ألا أعَلِّمُك كلماتٍ عَلَّمَنيهنَّ رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم لو كان عليك مِثلُ جَبَلٍ دَينًا أدَّاه عنك، قل:
المؤمن ينجِّيه الله من الكرب العظيم دائماً:
﴿ فَٱسْتَجَبْنَا لَهُۥ وَنَجَّيْنَٰهُ مِنَ ٱلْغَمِّ ۚ
﴿
سيدنا نوح ومن آمن معه
﴿
بحفظنا ورعايتنا، أحياناً الإنسان يتكلم كلمة لطيفة فيقول لك: هذه الحاجة لزمتني في وقت الشِّدة فكأنَّ ثمنها مليون ليرة، فالإنسان حينما تأتي مصيبةٌ كبيرة، يأتي كربٌ عظيم، يكون مستقيماً سابقاً والله ينجيه فيشعر بقيمة الإيمان، في الرخاء المؤمن غير واضح؛ مؤمن مستقيم لكنه ضائع مع النّاس، أما حينما يأتي الكرب العظيم والبلاء الشديد يجعلُ الله -عزَّ وجلَّ-النّاس كأعجازِ نخلٍ منقعر ترى هذا المؤمن قد حفظه الله -عزَّ وجلَّ- بحفظه الشديد، وهناك آلاف القِصص ولا مجال لذكرها هنا، آلاف القصص تؤكِّد أن المؤمن المستقيم ينجيه الله -عزَّ وجلَّ-، وأنا أقول لكم دائماً: أنه ما من مصيبةٍ أعظم من أن ترى نفسك فجأةً في البحر، في الليل وأنت لا تحسن السباحة في أعماق البحر، ثم يأتي حوتٌ فيلتقمك لتصبح في بطنه، في ظلمة بطن الحوت، وفي ظلمة البحر، وظلمة اللَّيل البهيم.. فسيدنا يونس نادى في الظلمات:
﴿ وَذَا ٱلنُّونِ إِذ ذَّهَبَ مُغَٰضِبًا فَظَنَّ أَن لَّن نَّقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَىٰ فِى ٱلظُّلُمَٰتِ
يجب أن توقن بهذه الآية،
عاقبة المكذبين بالدعوة إلى الله:
طبعاً:
﴿ قَالَ رَبِّ إِنِّى دَعَوْتُ قَوْمِى لَيْلًا وَنَهَارًا (5) فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَآءِىٓ إِلَّا فِرَارًا (6)﴾
والله -عزَّ وجلَّ- قال:
﴿ وَلَقَد تَّرَكْنَٰهَآ ءَايَةً فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍۢ(15)﴾
نحن يهمنا آخر آية التي هي مفصلية -كما يقولون- هنا:
﴿ فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِى وَنُذُرِ (16)﴾
دائماً العذاب يأتي قبله إنذار، وهذه السُّور وهذه القصص إنذار من الله -عزَّ وجلَّ-، فالإنسان العاقل يبادر إلى طاعة الله، والصُّلح معه، والإنابةِ إليه حتى ينجو من عذاب الله، والعذاب محقق ما دام هؤلاء الأقوام فعلوا فاحشة واحدة، أما في آخرِ الزمان الفواحش كلها مرتكبة؛ لذلك الله -عزَّ وجلَّ-قال:
﴿ وَإِن مِّن قَرْيَةٍ إِلَّا نَحْنُ مُهْلِكُوهَا قَبْلَ يَوْمِ ٱلْقِيَٰمَةِ أَوْ مُعَذِّبُوهَا عَذَابًا شَدِيدًا ۚ كَانَ ذَٰلِكَ فِى ٱلْكِتَٰبِ مَسْطُورًا (58)﴾
أي ما من
﴿ وَضَرَبَ ٱللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ ءَامِنَةً مُّطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِّن كُلِّ مَكَانٍۢ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ ٱللَّهِ فَأَذَٰقَهَا ٱللَّهُ لِبَاسَ ٱلْجُوعِ وَٱلْخَوْفِ بِمَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ (112)﴾
فنحن ينبغي أن نُعِدَّ الاستقامة والتَّوبة كَي يَنجو الإنسانُ إمّا من ساعةٍ خاصّة أو من ساعةٍ عامة.
الملف مدقق
والحمدُ للهِ ربِّ العالمين .