الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا، إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا، وزدنا علماً، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين.
التقيد بمنهج الله في علاقة الإنسان بزوجته:
أيها الإخوة الكرام؛ مع الدرس الثاني من سورة الطلاق، ومع الآية الأولى وهي قوله تعالى:
﴿ يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ وَاتَّقُوا اللَّهَ رَبَّكُمْ لَا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلَا يَخْرُجْنَ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ لَا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا (1)﴾
أما قوله تعالى في هذه الآية: ﴿وَاتَّقُوا اللَّهَ رَبَّكُمْ﴾ أي اتقوا أن تعصوه، واتقوا أن تخالفوا أمره، واتقوا أن تقعوا تحت سخطه، واتقوا ألا تأخذوا بهذا المنهج القويم في علاقتكم بأزواجكم.
أي خلافٍ بين الزوجين إذا انتهى إلى طلاقٍ رجعي فبقاء الزوجة في بيت زوجها أفضل:
من دقائق هذا التوجيه الإلهي: ﴿لَا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلَا يَخْرُجْنَ﴾ من حقِّها عليك ألا تُخرجها من البيت إذا طلَّقتها، ومن حقك عليها ألا تخرج من دون إذنك بعد الطلاق، من حقها عليك ألا تخرجها، ومن حقك عليها ألا تخرج، وهذا تشريع الحكيم الخبير، لأن أي خلافٍ بين الزوجين إذا انتهى إلى طلاقٍ رجعي فبقاء الزوجة في بيت زوجها مما يُقَلل من قيمة هذا الخلاف، ومما يجعله يتضاءل إلى أن ينعدم، والرجعة ميسورة، وبيد الزوج لفظاً أو سلوكاً، أما إذا خرجت من بيت زوجها فإن أي خلافٍ مهما بدا لك صغيراً يتفاقم، السبب أنها وهي عند بيت أهلها تأتيها المُغَذِّيات، تأتيها التوجيهات، تأتيها التحدِّيات من أخواتها، من أمها، من أبيها، من خالاتها، من عمَّاتها، هُنّ لا يعشن مشكلتها، يُشرن عليها أن تعانده، يُشرن عليها أن تستكبر عليه، يُشرن عليها ألا تعبأ به، بل يُشرن عليها أن ترِّبيه، فيكبر رأسها، ويزداد انحرافها، وهو حينما يراها لا تتصل به، ولا تعبأ به، ولا تعود إلى البيت، وتهمل أمره، هو أيضاً يحقد عليها، فلمجرَّد أن تُخرجها من البيت أو أن تخرج، إن أخرجتها فقد تجاوزت حقوقها، من حقِّها ألا تُخرجها، وإن خرجت فمن حقك ألا تخرج، إن خرجت فقد أساءت، وضيَّعت حقّ زوجها وأولادها، وإن أخرجتها فقد أسأت إليها، وأضعت حقها في بقائها في بيتها، هذا التوجيه الإلهي رافقه تشديد، ما هو هذا التشديد وهو قوله تعالى: ﴿لَا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ﴾؟ هذه النون نون النسوة، أُضيفت إلى البيوت التي تسكن فيها النساء، وكأن البيت الذي تسكنه الزوجة أضيف إليها لا إضافة تملّكٍ، بل إضافة تشبُّث، أي أيتها المرأة تشبَّثي في بيتك، لا تخرجي منه، إن خرجت منه أسأتِ إلى زوجك، إن خرجتِ منه تفاقم الأمر، بالتعبير الجديد، تفجَّر الأمر، مشكلة، إما أن تحاصرها، وإما أن تحتويها، وإما أن تصغِّرها وأن تحجِّمها، وإما أن تتفاقم، وأن تكبر إلى أن تنفجر.
من طبق التوجيهات الإلهية في الزواج تضاءلت المشكلات الزوجية إلى العُشر:
أيها الإخوة الكرام؛ يُستنبط من هذا التوجيه الحكيم أن المرأة إذا خرجت من بيتها إلى بيت أهلها من دون إذن زوجها عَقِب طلاقٍ رجعي، إذا خرجت فقد ضيّعت حقّ زوجها وأولادها، وقد عَصَتْ ربَّها، وقد أساءت إلى أسرتها، وعقابها أن هذه المشكلة التي بينها وبين زوجها تتفاقم، تزيد إلى أن تنتهي بالطلاق الحقيقي، وكم من امرأةٍ خرجت من بيت زوجها إلى بيت أهلها ولم ترجع أبداً! جاء دور الشيطان ينفخ فيها، وينفخ فيه، يقول لها: لم يتِّصل بك، لم يأت لزيارتكِ، لم يسأل عنكِ، ويقول له: لم تتصل بك، ولم تعُد إلى البيت، ولم تعبأ بك، حينما تخرج الزوجة من بيت زوجها إلى بيت أهلها عَقِب طلاقٍ رجعي من دون إذن زوجها أساءت، وفجَّرت الموقف بيدها، وإن أخرجها من بيته عنوةً، وقسوةً، وإكراهاً أيضاً حملها على أن تزيد المشكلة سوءاً، لو أن الأزواج والزوجات طبَّقوا جميعاً هذا التوجيه الإلهي الكريم لتضاءلت قضايا المشكلات الزوجية إلى العُشر، هذا كلام خالق الكون، وكأن الله سبحانه وتعالى أراد أن يحملها على البقاء في البيت، وكأنه بيتك: ﴿لَا تُخْرِجُوهُنَّ﴾ لم يقل: من البيوت، لم يقل: لا تخرجوهن من بيوتكم، البيت للزوج، وهو مسجلٌ باسم الزوج، وهو مالكه، هو الذي يبيعه، والقرآن الكريم نسبه إلى الزوجة قال: ﴿لَا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ﴾ أي أيها الزوج، وإن كان البيت لكَ في السجلّات الرسمية هو لها في حق التشبّث به، ويا أيتها الزوجة، ولو أنكِ لا تملكين هذا البيت فإنما هو بيتك في نص القرآن الكريم لا نسبة ملكية، بل نسبة تشبُّث، الخلاصة أن كل خلافٍ زوجي يتضاءل إذا بقيت المرأة في بيت زوجها، وإن كل خلافٍ زوجي يتفاقم إذا خرجت من بيت زوجها.
قرار الطلاق قلَّما يبنى على محاكمة منطقية:
وقد ذكرت لكم من قبل أن قرار الطلاق قلَّما يُبنى على محاكمة منطقية، قلَّما يُبنى على ضرورة، أغلب ما يُبنى على انفعال، والانفعال مؤقت، الانفعال لا يدوم، الانفعال يتناقص، الانفعال يتلاشى بعد حين، فالله سبحانه وتعالى لئلا يكون فرقة بين الزوجين، لئلا يُشَرَّد الأولاد، لئلا تنهدم الأسرة، لئلا تُدمَّر الحياة في هذا البيت جعل الطلاق بهذه الطريقة.
إذاً روعة تنفيذ أمر الله بهذه الفقرة، طلقتها طلاقاً سُنِّياً، تطليقة واحدة في طهرٍ لم تمسَّها فيه، هذا الطلاق السنِّي، طبعاً لو طلقتها في حيض فهذا طلاقٌ بدعي، لو طلقتها في طهرٍ مسستها فيه فهذا طلاقٌ بدعي، لو طلقتها طلاقاً سنيّاً وفق السنة الشريفة في طهرٍ لم تمسها فيه، إلا أنك أخرجتها من بيتك إلى بيت أهلها من أجل أن تبتعد عنك أنت عَطَّلْتَ حكمة أمر الله عزَّ وجل، أرادها الله أن تبقى إلى جانبك، أراد الله أن تنسى بعد يومين أو ثلاثة هذه المشكلة، أرادها أن تتضاءل، وأنت حينما أخرجتها إلى بيت أهلها أردتها أن تتفاقم.
نسبة البيت إلى الزوجة ليس نسبة تملُّك بل نسبة تشبُّث:
أعيد وأكرِّر: أي خلافٍ بين الزوجين مهما كان كبيراً يتضاءل ويتلاشى بعد حين إذا بقيت الزوجة في بيت زوجها، وأي خلافٍ بين الزوجين مهما كان صغيراً يتفاقم، وقد ينتهي إلى الطلاق إذا خرجت من بيت زوجها إلى بيت أهلها، خروجها من بيت زوجها إلى بيت أهلها من دون إذن زوجها تَضْيِيعٌ لحقّ زوجها، وإخراجها من بيت زوجها إلى بيت أهلها مكرهةً تضييعٌ لحقِّها، من حقِّها أن تبقى في بيت زوجها، ومن حقِّه أن تبقى له، وهي مطلَّقة، لأن هذا الطلاق في الأعمِّ الأغلب ينتهي إلى المراجعة لو طُبِقَت سنة رسول الله صلى الله عليه وسلَّم، هذا كلامٌ ليس للاستمتاع، ولا لأخذ العلم، ولكن للتطبيق.
فكثيراً ما يأتي إخوةٌ كرام طلَّقوا زوجاتهم طلاقاً وَفْقَ السنَّة، ولكن طردوهنّ إلى بيت أهلهن، وفي هذا الطرد يتفاقم الأمر، وقد ينتهي إلى الطلاق، هذا توجيه الله عزَّ وجل، ولا أدلّ على هذا التوجيه القويم من أن هذا البيت ينبغي أن تتشبَّث به الزوجة، وكأنه بيتها، وهذا البيت الذي هو لك أيها الزوج ينبغي أن تتحرَّج أن تخرجها منه، ولو كان بيتك، إنه في كتاب الله بيتها، وإنه في كتاب الله منسوبٌ إليها، لا أقول: نسبة تملُّك بل أقول: نسبة تشبُّث.
المرأة تؤكد ذاتها وتظهر عبقريتها وكفاءتها في بيتها:
هناك معنى آخر؛ المعنى الآخر حينما نسب الله هذا البيت الذي تسكنه أنت وزوجتك إلى زوجتك، أضافه إليها ﴿مِنْ بُيُوتِهِنَّ﴾ بعض العلماء استنبطوا أن الزواج عند الرجل أحد فصول حياته، له فصلٌ في علاقته مع ربِّه، وله فصلٌ في علاقته مع من حوله، وله فصلٌ في عمله، وله فصلٌ في تأكيد ذاته، وأحد فصول حياته زواجه، فإن لم تظهر كفاءة الزوج، ولم تظهر عبقرية الزوج في بيته ظهرت خارج البيت، إن لم تظهر في بيته ظهرت في عمله، إن لم تظهر في بيته ظهرت في إنجازه، في قوة شخصيته، في دقَّة صنعته، في براعة حرفته، في رواج تجارته، في نماء مزروعاته، الرجل يستطيع أن يؤكِّد ذاته في حقولٍ كثيرة، أحدها عمله، أحدها علاقاته، أحدها علاقته مع ربِّه، أما الزوجة فيعَدُّ الزواج بالنسبة إليها كل فصول حياتها، فإذا نجحت في أن يتزوَّجها رجلٌ كفء لها فقد نجحت في الحياة، وإن لم تنجح فقد أخفقت، لذلك في أي مكانٍ تؤكد الزوجة ذاتها، وتُظهر عبقريتها، وتُظهر كفاءتها، وتُظهر قوة شخصيتها، وتُظهر براعتها، وتُظهر حسن تدبيرها؟ في بيتها، فإذا منعها الزوج من حقِّها الطبيعي في أن تكون مسؤولةً عن بيت زوجها فقد حرمها كل فصول حياتها، لذلك هذا معنى آخر ذكره بعض العلماء في عِلّة نسبة البيت إلى الزوجة، أي أنت حقِق شخصيتك وكفاءتك خارج البيت، ودعها هي لتحقق إمكاناتها، وحسن إدارتها، وذوقها داخل البيت، طبعاً في حدود المستطاع، لأنكِ أيتها الزوجة إن أردتِ أن تُطاعي فائمري بما يُستطاع، وهذه حكمةٌ بليغة: "إذا أردت إن تُطاع فائمر بما يُستطاع" .
من لم يطبق الآية التالية فقد عطَّل حكمة الطلاق:
إذاً أول نسبةٍ للبيت إلى الزوجة نسبة تشبُّث، لا تخرجي، ارفضي أن تخرجي، وأيها الزوج لا تخرجها، إياك أن تخرجها كي تعود إليك، ولا تخرجي كي تعودي إليه، لا تُخرجها كي تعود إليك، ولا تخرجي أيتها الزوجة كي يعود إليكِ، أما إذا خرجتِ أو أخرجتها فإن أصغر قضيةٍ بينك وبينها تتفاقم، وتتفجَّر، وتنتهي إلى الطلاق، أما إذا بقيت في بيت زوجها فإن أكبر مشكلةٍ بينك وبينها تتلاشى، وتنتهي إلى الوفاق.
إذاً أيها الإخوة؛ هذا كلامٌ للتطبيق، لا لأخذ العلم، ولا للمتعة المجرَّدة، ولا للترنّم بكتاب الله، هذا توجيه ربنا لنا، حافظ على تطبيق هذه الآية، بل إن الزوج -كما قلت قبل قليل-لو طَلَّقَ امرأته طلاقاً سنياً راعى فيه كل الشروط، ولم يطبِّق هذا البند من هذه الآية، في قوله تعالى: ﴿لَا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلَا يَخْرُجْنَ﴾ فقد عطَّل حكمة الطلاق، ولم يكن الطلاق عندئذٍ سنّياً، بل كان بدعياً، وهذه الحقيقة لها ألف شاهدٍ وشاهد، ولها ألف دليلٍ ودليل، وعليها ألف قصِّةٍ وقصّة، عمَّتها من جهة، وخالتُها من جهة، وأختها من جهة، وأخوها من جهة، وأبوها من جهة، وأمها من جهة، كلُّهم جميعاً يوغرن صدرها على زوجها، وبالمقابل أمه وأبوه، وإخوته وأخواته، وعمَّاته وخالاته يوغرن صدره على زوجته، هم يعودون إلى بيوتهم مطمئنين، والنساء يعدن إلى أزواجهن مطمئنات، وتبقى أنت وحدك في البيت تتلوّى، وتبقى هي وحدها تتلوّى، وهؤلاء الذين أوغروا صدوركما ما نفعوكما، لذلك اقبل نصيحة الله عزَّ وجل، لا تخرجها من البيت، ويا أيتها الزوجة لا تخرجي من البيت: ﴿لَا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلَا يَخْرُجْنَ﴾ .
لا يحلف بالطلاق إلا من استخفَّ بهذا العقد الغليظ:
أنا أشعر بألمٍ شديد حينما أجد إنساناً يطلب العلم، يحضر الدروس، يرتاد المساجد، محسوبٌ على المسلمين، محسوبٌ على الأتقياء، يُخالف أمر الله في علاقته بزوجته، كما قلت لكم: عن ابن عبَّاسٍ جاءه رجل، وقد حلف يمين طلاقٍ، قال: "أيرتكب أحدكم أحموقته، ويقول: يا بن عبَّاس، يا بن عبَّاس!!".
أي لو أن غضباً شديداً بين الزوجين افعل كل شيءٍ إلا الطلاق، لو فعلت كل شيءٍ بيدك إصلاحه، أما إذا وقعت منك كلمة الطلاق فالآن صار هناك قواعد شرعية لا يجوز أن تخالفها، وإلا كان الزنا بينك وبينها، قضية كبيرةٌ جداً، لذلك لا يحلف بالطلاق، ولا يستحلف به إلا منافق، لا يحلف بالطلاق إلا من لم يعرف حقَّ الزوجة، ولا حقَّ الزوج، إلا من استخفَّ بهذا العقد الغليظ، بهذا الميثاق الغليظ الذي كان بين الزوجين، وأنا لا أكتمكم في أن أقول: إن أوثق ميثاقٍ بين شخصين على الإطلاق هو عقد الزواج، هذا العقد يبيح لك من المرأة ما لا يستطيع أبوها، ولا أخوها، ولا عمُّها، ولا خالها، ولا أمُّها أن ترى منها شيئاً، وهذا العقد يبيح للزوجة أن ترى منه ما لا يستطيع أحدٌ أن يرى منه.
﴿ وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا (21)﴾
هذا الميثاق الغليظ هو عقد الزواج.
الفاحشة هي الخيانة والبذاءة والسرقة وهذه حالات نادرة:
أيها الإخوة الكرام؛ ﴿لَا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلَا يَخْرُجْنَ إِلَّا﴾ هناك استثناء، ﴿إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ﴾ إلا أن تقع الفاحشة في البيت، إلا أن تقع الخيانة في البيت، هكذا فسَّر بعض العلماء الفاحشة، وفسروها أيضاً ببذاءة اللسان، لو أن هذه الزوجة سليطة اللسان، تُصيب بلسانها المقذع كل من في البيت، ولعلَّ هذا اللسان المقذع ينتهي إلى مشاجراتٍ، وإلى تفجُّراتٍ، في هذه الحالة ينبغي أن تُخرجها من البيت حسماً للشر، وحسماً لتفاقمه، ﴿إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ﴾ أو أن تأخذ من البيت ما ليس لها، وقعت الخصومة، وبدأت تأخذ ما ليس لها سرقةً، أو بذاءةً، أو خيانةً، فُسِّرت الفاحشة بالخيانة، وبالبذاءة، وبالسرقة، هذه حالات نادرة جداً، أي قلَّما تُرافق حالة طلاق، لكن الاستثناء له حكمه.
الطائع في ظلّ الله ومشمولٌ برعايته:
﴿لَا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلَا يَخْرُجْنَ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ﴾ ما دمت لم تتعدَّ حدود الله فأنت في ظلِّ الله.
أيها الإخوة؛ الطائع في ظلّ الله، مشمولٌ برعاية الله، وحفظ الله، وتوفيق الله، الله يسدد خُطاه، يُنير له الطريق، يوفِّقه، يحفظه، يدافع عنه، أنت حينما تقيم حدود الله يوفق الله بينك وبين زوجتك.
أكبر مهمَّات الشيطان التفرقة بين المرء وزوجته:
دائماً أيها الإخوة؛ القاعدة أن الشيطان من أولى مهمَّاته أن يفرِّق بين المرء وأهله، أي أحد أكبر مهمَّات الشيطان أن يُفرِّق بين المرء وزوجته، فالشيطان ماذا يفعل؟ يوسوس للزوج أن يخرج عن منهج الله، ويوسوس للزوجة أن تخرج عن منهج الله، وحينما يُبنى زواجٌ على معصية الله عندئذٍ تنشأ الكراهية والحقد والبغضاء، المودة أساسها أن تقيم منهج الله في بيتك، ما من بيت يُبنى على طاعة الله إلا ويتولَّى الله التوفيق بين الزوجين، وما من بيتٍ يُبنى على معصية الله إلا ويتولَّى الشيطان التفريق بينهما، ﴿وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ﴾ كيف أن تياراً كهربائياً شدَّته ثمانية آلاف فولط، لو أن الإنسان اقترب منه إلى أقلّ من ستة أمتار يجذبه التيار، ويجعله قطعةً من الفحم في ثوانٍ معدودات، ماذا نقول للمواطنين حيال هذا التيار؟ نقول: احذروا أن تمسَّوه أم احذروا أن تقتربوا منه؟ احذروا أن تقتربوا منه، وكلَّما كنت ورعاً جعلت بينك وبين حدود الله هامش أمان، لذلك المؤمن لا يستخدم الطلاق، ولا حرف الطاء، ولا حرف اللام، ولا حرف القاف إلا في حالات نادرة جداً جداً، لا تُطلَّق المرأة إلا من ريبة، أما أن تجعل من الطلاق سلاحاً مشهوراً على الزوجة، يُذهِب عنها طمأنينتها ويقلقها، وتكون في دوامةٍ من الفِراق فهذا ليس من تشريع الله عزَّ وجل.
على الإنسان أن يجعل هامش أمان بينه وبين حدود الله:
﴿وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ﴾ حدود الله لا تقترب منها، اجعل بينك وبينها هامش أمان، حدود الله إذا تجاوزتها خرجت من مظلَّة الله عزَّ وجل، ألم يقل النبي عليه الصلاة والسلام:
(( عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ، عَنِ النَّبِيِّ قَالَ: «سَبْعَةٌ يُظِلُّهُمُ اللَّهُ فِي ظِلِّهِ يَوْمَ لا ظِلَّ إِلا ظِلُّهُ: الإِمَامُ الْعَادِلُ، وَشَابٌّ نَشَأَ فِي عِبَادَةِ رَبِّهِ، وَرَجُلٌ قَلْبُهُ مُعَلَّقٌ فِي الْمَسَاجِدِ، وَرَجُلانِ تَحَابَّا فِي اللَّهِ اجْتَمَعَا عَلَيْهِ وَتَفَرَّقَا عَلَيْهِ، وَرَجُلٌ طَلَبَتْهُ امْرَأَةٌ ذَاتُ مَنْصِبٍ وَجَمَالٍ فَقَالَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ، وَرَجُلٌ تَصَدَّقَ أَخْفَى حَتَّى لا تَعْلَمَ شِمَالُهُ مَا تُنْفِقُ يَمِينُهُ، وَرَجُلٌ ذَكَرَ اللَّهَ خَالِيًا فَفَاضَتْ عَيْنَاهُ» ))
أنا يهمني من هذا الحديث: ((يظلّهم الله تحت ظلِّه يوم لا ظلَّ إلا ظلّه)) أنت إذا كنت في طاعة الله فتحت ظلِّ الله، ومعنى ظلّ الله أي رعايته، وتوفيقه، وتأييده، وحفظه، ونصره، والدفاع عنك ما دمت في طاعة الله، وهذا أمر الزواج أمرٌ خطير، هو أخطر حدثٍ في حياتك، بل إن أخطر علاقةٍ على الإطلاق هي علاقتك بزوجتك، فإذا كنت مع الله تولَّى الله هذه العلاقة بالنماء، تولاها بالرعاية، تولاها بالحفظ.
من طبق التوجيهات الإلهية كان الطلاق في طريقه إلى المراجعة:
لذلك:
﴿ وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (21)﴾
ومن آياته أنك تسكن إليها، وتسكن إليك، ﴿وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ﴾ لا تُطلِّق وأنت غضبان، لا تُطلِّق وهي حائض، لا تُطلِّق في طهرٍ مسستها فيه، لا تُطلِّق إلا من ريبة، لا تُطلِّق وتُخْرِج، لا تخرجي أيتها الزوجة إذا طُلِّقت، تشبَّثي ببيتكِ، هذه كلّها ضمانات لكي يكون الطلاق في طريقه إلى المراجعة، إذا طبَّقت هذه التوجيهات الإلهية كان الطلاق في طريقه إلى المراجعة، وإلى التلاشي، أما إذا خالفت هذه التوجيهات فعندئذٍ يتفاقم الأمر.
من يَتعَدَّ حُدودَ اللَّهِ فقدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ:
﴿ يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ وَاتَّقُوا اللَّهَ رَبَّكُمْ لَا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلَا يَخْرُجْنَ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ لَا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا (1)﴾
الله عزَّ وجل كما يقول في الحديث القدسي الصحيح:
(( عن أبي ذر الغفاري عَنِ النَّبيِّ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ فِيما رَوَى عَنِ اللهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى، أنَّهُ قالَ: يا عِبَادِي، إنِّي حَرَّمْتُ الظُّلْمَ علَى نَفْسِي، وَجَعَلْتُهُ بيْنَكُمْ مُحَرَّمًا، فلا تَظَالَمُوا، يا عِبَادِي، كُلُّكُمْ ضَالٌّ إلَّا مَن هَدَيْتُهُ، فَاسْتَهْدُونِي أَهْدِكُمْ، يا عِبَادِي، كُلُّكُمْ جَائِعٌ إلَّا مَن أَطْعَمْتُهُ، فَاسْتَطْعِمُونِي أُطْعِمْكُمْ، يا عِبَادِي، كُلُّكُمْ عَارٍ إلَّا مَن كَسَوْتُهُ، فَاسْتَكْسُونِي أَكْسُكُمْ، يا عِبَادِي، إنَّكُمْ تُخْطِئُونَ باللَّيْلِ وَالنَّهَارِ، وَأَنَا أَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا، فَاسْتَغْفِرُونِي أَغْفِرْ لَكُمْ، يا عِبَادِي، إنَّكُمْ لَنْ تَبْلُغُوا ضَرِّي فَتَضُرُّونِي، وَلَنْ تَبْلُغُوا نَفْعِي فَتَنْفَعُونِي، يا عِبَادِي، لو أنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ وإنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ، كَانُوا علَى أَتْقَى قَلْبِ رَجُلٍ وَاحِدٍ مِنكُمْ؛ ما زَادَ ذلكَ في مُلْكِي شيئًا، يا عِبَادِي، لوْ أنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ وإنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ، كَانُوا علَى أَفْجَرِ قَلْبِ رَجُلٍ وَاحِدٍ؛ ما نَقَصَ ذلكَ مِن مُلْكِي شيئًا، يا عِبَادِي، لو أنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ وإنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ، قَامُوا في صَعِيدٍ وَاحِدٍ فَسَأَلُونِي، فأعْطَيْتُ كُلَّ إنْسَانٍ مَسْأَلَتَهُ؛ ما نَقَصَ ذلكَ ممَّا عِندِي إلَّا كما يَنْقُصُ المِخْيَطُ إذَا أُدْخِلَ البَحْرَ، يا عِبَادِي، إنَّما هي أَعْمَالُكُمْ أُحْصِيهَا لَكُمْ، ثُمَّ أُوَفِّيكُمْ إيَّاهَا، فمَن وَجَدَ خَيْرًا فَلْيَحْمَدِ اللَّهَ، وَمَن وَجَدَ غيرَ ذلكَ فلا يَلُومَنَّ إلَّا نَفْسَهُ. وفي روايةٍ: إنِّي حَرَّمْتُ علَى نَفْسِي الظُّلْمَ وعلَى عِبَادِي، فلا تَظَالَمُوا. ))
أي:
﴿ يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا (71)﴾
﴿ مَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَمَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِأَنْفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ (44)﴾
﴿ مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ (15)﴾
﴿وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ﴾ أحياناً تجد زوجاً عنده زوجة صالحة، تدير أمر بيته، عنده منها خمسة أولاد، راضيةٌ به، وراضٍ بها، لسببٍ تافهٍ تافه، وفي ساعة غضبٍ طارئ يطلِّقها طلقاتٍ ثلاثة، ويخرجها إلى بيت أهلها، الأمر يتفاقم، أهلها يتشبثون بها، يحرمونها منه، ويحرمونه منها، يأتي إلى البيت بيتٌ لا امرأة فيه، لا زوجة فيه، بيتٌ موحش، المرأة وجودها في البيت مؤنس، وحركتها في البيت تُقَدِّم خدمات كثيرة لزوجها وأولادها، أولاده جياع، الطعام غير موجود، البيت غير نظيف، الثياب غير جيدة، هو حائر، هو مضطرب، أنت الذي ظلمت نفسك، كانت هي عندك، وكانت في خدمتك، وكانت طَوْعَ إرادتك فكفرت بهذه النعمة.
نعمة الزواج من نعم الله الكبرى:
أيها الإخوة؛ نعمة الزواج من نعم الله الكبرى، أنا أقول هذا الكلام للأزواج والزوجات: يا أيها الزوج لا تكفر بنعمة الزوجة فتطلقها لأتفه سبب، أو تبعدها عن بيتك لأتفه نزوة، ويا أيتها الزوجة لا تكفري بنعمة الزوج، كم من النساء من يتمنَّين أن يكن زوجات وعندهن أولاد؟ هذا الشيء لم يتح لهم، فيا أيها الزوج لا تكفر بنعمة الزوجة، ويا أيتها الزوجة لا تكفُري بنعمة الزوج فتُحرَمي منه، فعَنْ ثَوْبَانَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:
(( أيُّمَا امرأةٍ سألت زوجَها طلاقًا في غيرِ ما بأسٍ فحرامٌ عليها رائحةُ الجنةِ. ))
(( لا يَنظرُ اللَّهُ إلى امرأةٍ لا تَشكرُ لزوجِها وَهيَ لا تَستَغني عنهُ. ))
[ النسائي عن عبد الله بن عمرو ]
هذه أيها الإخوة بعض ما في هذه الآية من حقائق.
ليس من السنَّة أن تطلِّق المرأة تطليقاتٍ ثلاثة في مجلسٍ واحدٍ:
أما أن الله عزَّ وجل حينما قال: ﴿لَا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا﴾ قال بعض العلماء: هذه الكلمات في هذه الآية هي دليل أنه ليس من السنَّة أن تُطلِّق المرأة تطليقاتٍ ثلاثة في مجلسٍ واحدٍ، هذه الآية أصبحت لا معنى لها.
﴿يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا﴾ إن طلقتها تطليقةً واحدة، إذاً تُراجِعُها، يحنُّ قلبك إليها، تنسى ما أغضبك منها، تنسى خطأها، تنسى انفعالها، أما إذا طلقتها بالثلاث طلاقاً بائناً بينونةً كبرى فإن هذا الكلام لا معنى له، وهذه الفِقَرات في هذه الآية أكبر حجَّة على أن الطلاق السنِّي ما كان تطليقةً واحدة في كل طهر، أبداً، في كل طهر تطليقة واحدة، طهر وثلاثة أقْراء، طهر وثلاثة أقراء، طهر وبينونة كبرى.
﴿ الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ وَلَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا إِلَّا أَنْ يَخَافَا أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَعْتَدُوهَا وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (229)﴾
الثالثة : ﴿فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ﴾ .
مشكلاتنا سببها خروج عن منهج الله وكل خروجٍ سببه الجهل:
والله أيها الإخوة؛ تُرتكب حماقات، وتُرتكب مخالفات في شأن الطلاق بين شباب المسلمين وشابَّات المسلمين فيما لا يُحصى، هذا دليل جهل، هذا دليل بُعد المسلمين عن مجالس العلم.
مرَّةً -أذكر هذه القصَّة لأنها حدثت قبل عشرين عاماً فيما أذكر-في أول عهدي بالخطَابة، سألني أخٌ قال لي: إن امرأتي تخونني منذ ثلاث سنوات، قلت له: مع من؟ قال لي: مع جاري، قلت له: وكيف عرفت جارك؟ قال: زارنا مرَّةً فقلت لزوجتي: تعالي اجلسي معنا، إنه مثل أخيكِ، قلت له: لو حضرت مجلس علمٍ واحد، وعرفت حكم الله في شأن الاختلاط لما فعلت هذا، أي يجب أن نعلم علم اليقين أن كل مشكلاتنا على الإطلاق سببها خروجٌ عن منهج الله، وأن كل خروجٍ عن منهج الله سببه الجهل، وأن الجهل هو أعدى أعداء الإنسان، وأنّ الجاهل يفعل في نفسه ما لا يستطيع عدوّه أن يفعله به، وإنني والله أستمع إلى مآسي في بيوتات المسلمين، أحياناً يكون الزوج ضحيةً، وأحياناً تكون الزوجة هي الضحية، وأحياناً يكون الزوجان معاً هما الضحية بسبب الجهل، لذلك حينما تأتي إلى بيتٍ من بيوت الله لتتعرَّف إلى حكم الله في أخصِّ خصوصياتك، في زواجك، فأنت في هذا الوقت تستثمر الوقت لا تستهلكه، أنا لا أجد كلمة أشد جهلاً بصاحبها من الذي يقول: أنا لا يوجد عندي وقت لحضور مجلس علم، إذا قلنا لإنسان: تعال تعلَّم قيادة السيارة، يقول لك: أنا لا يوجد عندي وقت لتعلُّم القيادة لكن سأقود السيارة، إذا أردت أن تقودها بلا تَعَلُّم فالحادث حتمي، الحادث قد يكون مميتًا، فأنت شئت أم أبيت تقود سيارة، هي هذه الزوجة، أو هذا البيت تقوده أنت، فإن لم تتعلَّم فنّ القيادة، وإن لم تتعلَّم حدود الله، وإن لم تتعلَّم ما ينبغي، وما لا ينبغي، ما يجب وما لا يجب، ما يجوز وما لا يجوز، ما هو ممكن وما ليس بممكن، فالحادث حتمي، ممكن إنسان مهما كان ألمعياً ذكياً اجعله وراء المقود أول مرَّةٍ في حياته من دون أن يعرف عن هذه المركبة شيئاً، واجعله ينطلق بسرعة مئة، كم تظن احتمال الحادث؟ الحادث بالمئة مئة، وأي إنسان لا يتعلَّم، لا يعرف حكم الله في الزواج، ولا في الزوجة، ولا في أصول معاملتها، ولا في أصول تربية الأولاد سيخفق في بيته حتماً، وسيدفع الثمن باهظاً.
تعلُّم الشرع من أولويات الدين:
إذاً تعلُّم الشرع من أولويات الدين، تعلُّم أحكام الشرع يأتي في الدرجة الثانية بعد معرفة الله عزَّ وجل، فالوقت الذي تُمْضِيه في حضور مجلس علمٍ تتعرَّف فيه إلى كلام الله، وإلى سنَّة رسوله، هذا استثمارٌ للوقت، وليس استهلاكاً له، لذلك لو عندك وقتٌ طويل تُحلل فيه بعض المشكلات الزوجية لوجدت أن الجهل هو السبب، جهل الزوج بأحكام الله في الزواج، أو جهل الزوجة بأحكام الله في الزواج.
مرَّة فيما أذكر امرأةٌ وقفت عند بائعٍ لتشتري، ألانت له القول من أجل أن يخفض لها السعر فقط، هو ظنَّ شيئاً آخر، تسكن قريباً منه، ظنَّ شيئاً آخر فتبعها، فلمَّا فُتِحَ الباب اقتحمه، نادت إلى ابنها ليستنجد بزوجها، زوجها قريب، له عمل قريب، فجاء الزوج وقفل الباب، وجاء بالشرطة، وفُضِحَ الأمر، واتُهِمت بالخيانة، وطُلِّقت، والسبب فيما أعلم أنها بريئة إلا أنها جاهلة، قال تعالى:
﴿ يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلَا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلًا مَعْرُوفًا (32)﴾
المرأة حينما تلين القول مع الأجانب قد يفهمون شيئًا آخر، طُلِّقت، وفُضِحَت لماذا؟ لأنها ألانت القول، فلذلك لو حلَّلت ما يجري في البيوت من مآسٍ، ومن فِراق، ومن طلاق، لوجدت معظمه يعود إلى الجهل، والجهل أعدى أعداء الإنسان، والعلم هو العلاج، ولابدَّ للمسلم من مجلس علمٍ ينضمُّ إليه، لابدَّ من منهلٍ علمي يستقي منه، لابدَّ من مرجعٍ يسأله، أما أن يبقى الإنسان هكذا يتحرَّك حركةً عشوائية بلا علم، بلا حكم، بلا فهم، بلا حكمة فهذا شأن عامَّة الناس.
حكمة الطلاق كلِّه في الآيات التالية:
ثم قال تعالى:
﴿ فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ لِلَّهِ ذَلِكُمْ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا (2)﴾
أي: ﴿لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا﴾ أي حكمة الطلاق كلِّه في هذه الكلمات، أي طلِّقها ليست حائضة، في طهرٍ لم تلامسها فيه، طلِّقها تطليقةً واحدة، أبقها في بيتك، لها أن تتزين، ولها أن تأكل معك، ولها أن تفعل كل شيء، انتظر أول طهر أول شهر، وثاني طهر، وثالث طهر، فإن لم تراجعها ملكت نفسها، وإن ملكت نفسها بإمكانك أن تعيدها بعقدٍ جديد، ولا شيء عليك، فإن راجعتها عادت الأمور إلى مجاريها، نشأت مشكلة ثانية لك أن تطلقها تطليقةً واحدة في طهرٍ لم تلامسها فيه، وتبقى في بيتك أول قرء شهر، ثاني قرء شهر، ثلاثة أشهر، ففي الأعم الأغلب تسعة وتسعون بالمئة من الطلاق ناشئ عن غضب، ناشئ عن تحدٍّ، ناشئ عن انفعال، هذا الانفعال إلى تلاشٍ، هذا الغضب إلى تلاشٍ، أي الله وضع ثلاثة أشهر وثلاثة أشهر، أي ستة أشهر، أنا أعتقد أحياناً أن القضية تحلّ في ثلاثة أيام، في يومين، في جمعة، في أسبوعين، انتهى الأمر، فإذا أخرجتها من بيتك فقد عطَّلت حكمة الله في شرعه، وإذا خرجتِ أيتها الزوجة عطَّلتِ حكمة الله في شرعه.
الله عز وجل قد يُحدِث بعد الخصومة وفاقاً وبعد الحقد تسامحاً:
﴿لَا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلَا يَخْرُجْنَ﴾ من أجل ماذا؟ استمعوا بدقَّةٍ إلى حكمة هذا التشريع: ﴿لَا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا﴾ لعل الله يُحدِث بعد الخصومة وفاقاً، بعد الغضب هدوءاً، بعد الحقد تسامحاً، بعد النفرة ميلاً، هذا شأن الزوج، وشأن الزوجة، والله هو الخالق، هو الذي يعرف ماذا يخلق: ﴿لَا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا﴾ اتخذ بعض العلماء من هذه الآية دليلاً على أن طلاق الثلاث في مجلسٍ واحد، وفي موضوعٍ واحد لا يقع، وبعضهم قال: يقع، ولكن هذا الطلاق خلاف السنَّة، السنَّة أن تطلِّق في كل طهرٍ لم تلامسها فيه تطليقةً واحدة، وتنتظر ثلاثة قروء وهكذا.
للزوجة حقوق على الزوج هي أن ينفق عليها ويرعى أمرها ويحفظ غيبتها:
قال تعالى: ﴿فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ﴾ قال العلماء: ﴿بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ﴾ أي قاربن على انتهاء العدَّة، لا يوجد غير حلَّين: ﴿فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ﴾ .
﴿فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ﴾ زوجة لها حقوق الزوجة، تُنفق عليها، وترعى أمرها، وتحفظ غيبتها، وتُبالغ في مودَّتها، وفي إكرامها، وتجلس إلى جانبها بالعدل، هذا هو الزواج، ﴿أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ﴾ انتظر حتى تنتهي عدَّتها، ثم أعطها مهرها المُعَجَّل والمؤخَّر، ومتعتها، وفارقها بإحسان، هذه المرأة التي قالت: "يا أبا أمية، لقد كان لك من نساء قومك من هي كفءٌ لك، وكان لي من رجال قومي من هو كفء لي، ولكن كنت لك زوجةً على كتاب الله وسنة رسوله، فاتَّقِ الله فيَّ، وامتثل قوله تعالى: ﴿فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ﴾ " هذا كلام الله، هناك من يُمسِك زوجةً بغير المعروف، لا يأتي إلى البيت، لا يُنفق عليها: ﴿فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ﴾ وإلا فالله سبحانه وتعالى ينتقم أشدّ الانتقام، وإلا فالله سبحانه وتعالى يدمِّر:
﴿ إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ (12)﴾
المرأة التي تحسن تَبَعُّل زوجها كالمجاهدة في سبيل الله:
إياك أن تظلم امرأةً ضعيفةً لا تملك من أمرها شيئاً، كم من زوجٍ ظلم زوجته فذاق وبال أمره؟! كم من زوجةٍ ظلمت زوجها فذاقت وبال أمرها؟! المؤمن يُعامل زوجته من خلال الله عزَّ وجل، أي لا يظلمها، ولا يُقَصِّر في حقِّها كي يرحمه الله عزَّ وجل، وهي كذلك لا تظلمه، ولا تقصّر في حقِّه كي يرحمها الله عزَّ وجل، بل إن المؤمن –ودققوا في هذا الكلام-يغضّ البصر عن سلبيَّات زوجته، ويؤدِّي ما عليه من حقوقٍ لها تقرَّباً إلى الله، والمؤمنة تغضُّ النظر عن سلبيات زوجها وتؤدِّي ما عليها من حقوقٍ تقرُّباً إلى الله، فإذا كان الزوجان يتقرَّبان إلى الله بخدمة بعضهما بعضاً فكم سعيد هذا البيت؟ هكذا، هي تتقرَّب إلى الله بخدمة زوجها، والقيام بحقوقه، والنبي عليه الصلاة والسلام وعد بأن المرأة التي تُحسن تَبَعُّل زوجها كالمجاهدة في سبيل الله، والجهاد في سبيل الله ذروة سنام الإسلام، ﴿وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ لَا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا ﴾.
معرفة حقوق الزوجة وحقوق الزوج معرفة واجبة على الطرفين:
أيها الإخوة؛ الزوجة لها حقوق، والزوج له حقوق، لابدَّ من أن يعرف الزوج حقوق زوجته، ولابدَّ من أن تعرف الزوجة حقوق زوجها، هذا من أجل أن نُطبِق هذه الآية: ﴿فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ﴾ أي وفق الشرع، فكيف تمسكها بمعروف ولا يعرف بعض الأزواج حقوق الزوجة؟ أحياناً يُهملُها، أحياناً لا يأتي إلى البيت، عنده زوجة ثانية، يعيش مع الثانية أسابيع وأسابيع تلو الأسابيع، ويُهمل الأولى، ومع إهمال الأولى قد تنحرف، لذلك كيف تُعامل الزوجة بالمعروف إن لم تعرف حدود هذا المعروف؟ ﴿فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ﴾ لذلك قالوا: العلم علمان، علمٌ فرض عين، وعلمٌ فرض كفاية، العلم الذي هو فرض عين ما ينبغي أن يُعلَم بالضرورة؛ أحكام الزواج، وحقوق الزوجة، وحقوق الزوج، علمٌ ينبغي أن يُعلَم بالضرورة لكل من الزوجة والزوج، لابد من أن تجلس في مجلس علم، أو أن تقرأ، أو أن تستمع إلى شريط.
أنا فيما أذكر قبل سنواتٍ عدَّة كان في دروس الأحد حقوق الزوجة عبارة عن شريطين، وحقوق الزوج عبارة عن شريطين أيضاً، وحقوق الآباء على أولادهم أربعة أشرطة، وحقوق الأولاد على آبائهم شريطان، أي إن المجموع عشرة، هذه المجموعة تبين حقوق الأزواج والزوجات، والآباء والأبناء، هذه أشياء دقيقة شرعية لابدَّ من أن تعرفها حتى لا يخالف الإنسان الشرع، فإذا خالف دفع الثمن باهظاً، نظام دقيق.
أضرب لكم مثلاً: قانون السقوط، هذا قانون، إن أردت ألا تعبأ به، إن احتقرته، إن لم تكترث به، وألقيت بنفسك من الطائرة من دون أن تراعي هذا القانون، القانون حينما لا تعبأ به يُطبَّق عليك وقد يُهلِك صاحبه، أما إذا عَبَأت به نزلت بالمظلَّة، أي القوانين والسنن لا تُلغى إن لم تعترف بها، إذا لم تعترف بها لا تُلغى، نافذة اعترفت بها أو لم تعترف، آمنت بها أم لم تؤمن، وَّقرَّتها أم لم توَقِّرها، هي نافذة، فهناك نظام دقيق جداً، فإن عرفته تكيَّفت معه، وإن لم تعرفه دفعت ثمنه.
السعادة الزوجية في البيوت مهمَّة جداً وهي أساس نجاح الإنسان خارج البيت:
لذلك: ﴿فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ﴾ كيف يُمسِكُها بمعروف؟ قال العلماء:
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّسَاءَ كَرْهًا وَلَا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا (19)﴾
فسَّروا المعروف لا أن تمتنع عن إيقاع الأذى بها، بل أن تحتمل الأذى منها، إذا وَطَّن الزوج نفسه أن يحتمل الأذى من زوجته، والزوجة إذا وَطَّنت نفسها أن تحتمل الأذى من زوجها، لم يعد هناك أية مشكلة، انتهت المُشكلات، إذا عرفت حقوقه، وعرف حقوقها، إذا عرفت حدودها، وعرف حدوده، إذا عرف ما له وما عليه، وعرفت ما لها وما عليها، انتهت المشكلة، إن سَعِدت البيوت سعِد المجتمع، إن اطمأنّ الإنسان في بيته أنتج في عمله، وضاعف إنتاجه، فقضية السعادة الزوجية في البيوت مهمَّة جداً هي أساس نجاحك خارج البيت، والأوامر معروفة، اطلب العلم، تعلَّم.
النبي عليه الصلاة والسلام قدوة لنا في أحواله كلّها:
كان عليه الصلاة والسلام قدوةً لنا في زواجه، في أحواله كلّها، في معاملته لزوجاته، جاء طبقٌ من الطعام من السيدة صفية إلى بيت عائشة، أصابتها الغيرة، أمسكت بالطبق وكَسَّرته، ماذا بإمكان النبي أن يفعل؟ بإمكانه أن يفعل كل شيء، ماذا قال؟
(( عَنْ أَنَسٍ قَالَ: كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عِنْدَ بَعْضِ نِسَائِهِ، فَأَرْسَلَتْ إِحْدَى أُمَّهَاتِ الْمُؤْمِنِينَ بِصَحْفَةٍ فِيهَا طَعَامٌ، فَضَرَبَتْ الَّتِي النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي بَيْتِهَا يَدَ الْخَادِمِ فَسَقَطَتْ الصَّحْفَةُ، فَانْفَلَقَتْ، فَجَمَعَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِلَقَ الصَّحْفَةِ، ثُمَّ جَعَلَ يَجْمَعُ فِيهَا الطَّعَامَ الَّذِي كَانَ فِي الصَّحْفَةِ، وَيَقُولُ: غَارَتْ أُمُّكُمْ، ثُمَّ حَبَسَ الْخَادِمَ حَتَّى أُتِيَ بِصَحْفَةٍ مِنْ عِنْدِ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا، فَدَفَعَ الصَّحْفَةَ الصَّحِيحَةَ إِلَى الَّتِي كُسِرَتْ صَحْفَتُهَا، وَأَمْسَكَ الْمَكْسُورَةَ فِي بَيْتِ الَّتِي كَسَرَتْ. ))
غضبت أمكم، غضبت أمكم، أي امتص هذا الغضب، غضبت أمكم، غضبت أمكم، هو قدوةٌ لنا، طبعاً لا نسمح لهن بتكسير الأطباق، ولكن نقتدي برسول الله بحلمه، برحمته، بامتصاص غضبها، بعطفه عليها، فنحن يجب أن نقرأ سيرة النبي كي نعرف كيف كان النبي زوجاً ناجحاً، تسأله من حينٍ لآخر أتحبُّني؟ يقول عليه الصلاة والسلام: كعقدة الحبل، تقول له: كيف العقدة؟ يقول: على حالها ، كان زوجاً ناجحاً.
ورد في بعض السير أنه حينما فتح مكَّة قال: انصبوا لي خيمةً عند قبر خديجة، وفاءً لها، الإنسان أحياناً يتزوج زوجة ثانية بعد وفاة زوجته الأولى فيتقرَّب للثانية بذم الأولى دائماً، يقول لها: الله بدل كذا كذا، لكن النبي عليه الصلاة والسلام كلَّما ذكر خديجة أثنى عليها، مرَّةً قالت له عائشة: ألم يُبدلك الله خيراً منها؟ قال: لا والله، لا والله، لا والله، وفاؤه لزوجاته عجيب، حلمه عليهن عجيب، رحمته بهن عجيب، لطفه لهن عجيب، كان إذا دخل بيته بسَّاماً ضحَّاكاً، كان يقول: "أكرموا النساء، فوالله ما أكرمهن إلا كريم، ولا أهانهن إلا لئيم، يغلبن كل كريم، ويغلبهن لئيم، وأنا أحبُّ أن أكون كريماً مغلوباً من أن أكون لئيماً غالباً"، كان يقول: "إنهن المؤنسات الغاليات" .
المساواة بين الرجل والمرأة في التكليف والتشريف والمسؤولية:
نحن في الإسلام لا يوجد عندنا تفرقة، الزوجان متكافئان في التكليف والتشريف والمسؤولية، والنساء شقائق الرجال، والآيات القرآنية كلَّها موجَّهة للنساء أيضاً، أبداً، وأبلغ آية:
﴿ إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتَاتِ وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقَاتِ وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِرَاتِ وَالْخَاشِعِينَ وَالْخَاشِعَاتِ وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقَاتِ وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِمَاتِ وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا (35)﴾
يريد الله عزَّ وجل أن يؤكِّد:
﴿ مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (97)﴾
﴿ فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لَا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ فَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَأُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي وَقَاتَلُوا وَقُتِلُوا لَأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ثَوَابًا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الثَّوَابِ (195)﴾
مساواةٌ تامَّة بين الزوجين، قال تعالى:
﴿ أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ وَلَا تُضَارُّوهُنَّ لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَّ وَإِنْ كُنَّ أُولَاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَأْتَمِرُوا بَيْنَكُمْ بِمَعْرُوفٍ وَإِنْ تَعَاسَرْتُمْ فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرَى (6)﴾
فهذا حكم الله في الزواج، وأرجو الله سبحانه وتعالى أن تُتَرْجَم هذه الآيات إلى سلوك، أن تنتهي هذه الآيات إلى بيوت سعيدة.
السعادة أيها الإخوة؛ لا تنبع من مساحة البيت، ولا من موقعه، ولا من ثمنه، ولا من مركبةٍ، ولا من دخلٍ كبير، تنبُع من داخل الزوجين إذا عرفا ربَّهما، وأقبلا عليه كان بيتهما قطعةً من الجنَّة، فإذا ابتعدا عن الله عزَّ وجل كان البيت قطعةً من الجحيم.
سِرُّ السعادة في الوفاق وسرّ الوفاق في طاعة الله:
أيها الإخوة الكرام؛ ما أردت من هذا الدرس أن يكون درس تفسير بقدر ما أردته أن يكون تطبيقًا عمليًّاً، أن يكون هذا الدرس سبباً لسعادتكم في بيوتكم، المرأة تصبر على كل شيء، لكن لا تصبر على أن تُهان، أو أن تُجرَح كرامتها، قد تأكل أخشن الطعام، وقد ترتدي أخشن الثياب، وقد تقبع في بيتٍ لا يُسكَن إذا كان زوجها يحبُّها، وهي راضيةٌ عنه وهو راضٍ عنها، فَسِرُّ السعادة في الوفاق، سرّ الوفاق في طاعة الله، أنت حينما تطيع الله عزَّ وجل كأنك تقول: يا رب وفق بيننا، نحن من عبادك الصالحين وفِّق بيننا، أما إذا خالفت منهج الله عزَّ وجل فكأنك تقول: يا أيها الشيطان تعال فرِّق بيننا، إذا بُنِي الزواج على طاعة الله تولَّى الله التوفيق بين الزوجين، بُنِي على المعصية، كأن يكون فيه اختلاط، هناك أجهزة لهو، الآن بعد قليل أقرأ لكم ما جاءني، عندئذٍ يدخل الشيطان، ويفرِّق بين الزوجين.
الملف مدقق