- تفسير القرآن الكريم / ٠2التفسير المطول
- /
- (044)سورة الدخان
الحمد لله رب العالمين، والصّلاة والسّلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين.
اللهم لا علم لنا إلا ما علّمتنا إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علّمنا ما ينفعنا وانفعنا بما علّمتنا وزدنا علمًا وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين.
معنى العبودية لله -عزَّ وجلَّ-:
أيها الأخوة الكرام؛ مع الدرس الثالث من سورة الدخان، مع الآية السابعة والثلاثين وهي قوله تعالى:
﴿ أَهُمْ خَيْرٌ أَمْ قَوْمُ تُبَّعٍۢ وَٱلَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ ۚ أَهْلَكْنَٰهُمْ ۖ إِنَّهُمْ كَانُواْ مُجْرِمِينَ (37)﴾
معنى
قوة المال والعلم والسلطان من دون إيمان تحمل صاحبها على الطغيان:
﴿ كَلَّآ إِنَّ ٱلْإِنسَٰنَ لَيَطْغَىٰٓ (6) أَن رَّءَاهُ ٱسْتَغْنَىٰٓ (7)﴾
الإنسان قبل أن يعرف الله متى يطغى؟
((
معنى القوي: أي أن القوة من دون إيمان خطرة لأنها تهلك صاحبها، كيف تهلكه؟ توقعه في الغرور، القوة تحجب عن الحقائق، المال يحجب، التفوق العلمي في العلوم المادية تحجب، فهناك
﴿ قَالَ
فبلحظة واحدة وبغفلة يسيرة يصبح في الحضيض، ما الذي أهلكه؟ شركه، إذا قال:
﴿ قَالُواْ
فقد هووا.
﴿ قَالَ أَنَا۠ خَيْرٌ مِّنْهُ ۖ خَلَقْتَنِى مِن نَّارٍۢ وَخَلَقْتَهُۥ مِن طِينٍۢ (76)﴾
فقد هلك،
﴿
انتبه الله-عزَّ وجلَّ- يعطي ويمتحن، إن أعطاك شيئاً فلا تنس أن الله هو الذي تفضل عليك به.
﴿ وَلَوْلَا فَضْلُ ٱللَّهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُۥ لَهَمَّت طَّآئِفَةٌ مِّنْهُمْ أَن يُضِلُّوكَ وَمَا يُضِلُّونَ إِلَّآ أَنفُسَهُمْ ۖ وَمَا يَضُرُّونَكَ مِن شَىْءٍۢ ۚ وَأَنزَلَ ٱللَّهُ عَلَيْكَ ٱلْكِتَٰبَ وَٱلْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُن تَعْلَمُ ۚ
إذا ملكت النعمة فلا تنس المنعم، إذا ملكت الذكاء فلا تنسَ أن الله -سبحانه وتعالى- بقطرة دم لا يزيد حجمها عن حجم رأس دبوس تفقد ذاكرتك، ويختل عقلك، ويتوسط أهلك كي يودعوك في مستشفى الأمراض العقلية، بوساطة وبجهد جهيد وكان قد اشترى هذا البيت ورتبه ونظمه، وأولاده يتوسطون الآن كي يضعوا أباهم في مستشفى الأمراض العقلية، نقطة دم إذا تجمدت في بعض أوعية المخ تنسى الذاكرة كلها، قد تكون تحمل دكتوراة فَتُمْحى المعلومات كلها، زالت شخصية الإنسان كلها، أردتُ من هذه الأمثلة أن أبين أن الله إذا أعطى الإنسان شيئاً وهو في نعمة القوة فعليه ألاّ ينسى الذي أنعم عليه بهذه القوة، وهو في نعمة المال لا ينسى الذي أنعم عليه بنعمة المال، وهو في نعمة الصحة لا ينسى أن الله سمح له أن يعيش صحيحًا، فإذا بقي في النعمة ونسي المُنعم فقد أشرك، وإذا أشرك يُؤدب، كيف يُؤدب؟ يريه الله النعمة بفقدها لا بدوامها، وكان عليه الصّلاة والسّلام يدعو ربه ويقول: " اللهم أرنا نعمك بدوامها لا بزوالها".
بالشكر تدوم النعم:
أيها الإخوة الكرام؛ بالشكر تدوم النعم، كان عليه الصلاة والسلام تعظُم عنده النعمة مهما دقّت، كم منا من يدخل إلى بيته، معه مفتاح البيت، عنده مأوى، وكم ممن لا مأوى له، لو ذهبت إلى شرق آسيا ملايين الأسر تنام على قارعة الطريق هو وزوجته وأولاده، أو في القوارب، فمعك مفتاح وعندك مأوى، لو وجدت ثمن الطعام فهذه نعمة كبرى أطعمك، سيدنا عمر استقبل رسول عامله على أذربيجان فلما استضافه في بيته قال: يا أم كلثوم ما عندك من طعام؟ قالت:
﴿ لَّا تَرَىٰ فِيهَا عِوَجًا وَلَآ أَمْتًا (107)﴾
الله كبير، إذا بلدة فسقت يدمرها، إذا إنسان فسق يزلزله، إذا إنسان تجاوز يرسل إليه مرضاً عضالاً.
من هم التبابعة؟
فيا أيها الإخوة الكرام، هذه الآية
﴿
المعاصي تدمر:
أي الإنسان حينما يعصي لسان حاله يقول: يا ربِّ دمرني، هذه الآية حيرت العلماء، أمعقول أنّ إنسانًا يدعو على نفسه؟! بلادهم جنات، بساتين، أنهار، خيرات.
﴿ وَإِلَىٰ مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا ۚ قَالَ يَٰقَوْمِ ٱعْبُدُواْ ٱللَّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَٰهٍ غَيْرُهُۥ ۖ وَلَا تَنقُصُواْ ٱلْمِكْيَالَ وَٱلْمِيزَانَ ۚ
وفرة المواد ورخص الأسعار،
﴿
أيعقل أن يلتقط إنسان طفلاً ليكون له عدواً؟! هذه الآية أيضاً حيرت العلماء، هذه اللام لام التعليل فاخترع علماء النحو إعرابًا لهذه اللام، قالوا: هذه لام المآل، لا يُعقل لإنسان أن يلتقط طفلاً ليكون له عدواً، لكن في النهاية ما الذي حصل؟ أن هذا الطفل -سيدنا موسى- هو الذي قوّض عرش فرعون حينما دخل في البحر فتبعه فرعون فأغرقه الله -عزَّ وجلَّ-، إذًا أردت من هذا التفصيل أن الإنسان في بيته، مع زوجته، مع أولاده، في عمله عندما يعصي على علم- يعرف نفسه أنه يعصي- فكأن لسان حاله يقول: يا ربِّ دمرني، يا ربِّ امحق هذا الرزق، يا ربِّ أنشب خلافاً بيني وبين زوجتي، عندما يتطلع الإنسان إلى غير زوجته ويطلق بصره في الحرام كأنه يقول: يا ربِّ دمر سعادتي الزوجية، الله يخلق مشكلات يتصورها كل منهما وكلاهما يتجاوز حدوده إلى أن يقع الخلاف والخصومة ويدخل الشيطان فيحلف بالطلاق لأتفه سبب ويُشرَّد الأولاد، وكان بيتاً عامراً بذكر الله صار بيتًا خرباً من المعصية، المعاصي تدمر، فلذلك:
﴿ إِنَّ ٱلَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ ٱللَّهَ
عليك أن ترى أن الله:
﴿
عليك أن ترى:
﴿ قُلِ ٱللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُواْ ۖ لَهُۥ غَيْبُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلْأَرْضِ ۖ أَبْصِرْ بِهِۦ وَأَسْمِعْ ۚ
عليك أن ترى أن:
﴿ ٱللَّهُ خَٰلِقُ كُلِّ شَىْءٍۢ ۖ وَهُوَ عَلَىٰ كُلِّ شَىْءٍۢ وَكِيلٌ (62)﴾
عليك أن ترى أنه:
﴿ وَعِندَهُۥ مَفَاتِحُ ٱلْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَآ إِلَّا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِى ٱلْبَرِّ وَٱلْبَحْرِ
إذا سمعت الأخبار وقرأتها فافهمها بعقل موحد، افهمها بأن الله وراء كل شيء، وأنه بيده كل شيء، وأنه لا رادّ لمشيئته،
التفسير الديني والقرآني هو التفسير الصحيح لكل شيء:
يمكن أن تشاهد مثلاً حرباً أهلية في بلد، تسمع أخباراً خلال عشر سنوات عن التدمير وعن القتل، وعن مئات الألوف، الأبنية كلها مدمرة، ويمكن أن تقرأ مئة تفسير لهذه الحرب لكن لا تنس تفسير الله لها:
﴿ وَضَرَبَ ٱللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ ءَامِنَةً مُّطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِّن كُلِّ مَكَانٍۢ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ ٱللَّهِ فَأَذَٰقَهَا ٱللَّهُ لِبَاسَ ٱلْجُوعِ وَٱلْخَوْفِ بِمَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ (112)﴾
لا تغب عن تفسير الله -عزَّ وجلَّ-، لا تغب عن القرآن الكريم فهو يعطيك تفسير أي شيء، حتى لو رأيت أمة متقدمة تتحكم بمعظم الشعوب رخاء، بيوتًا رخيصة، مواصلات رخيصة، مركبات رخيصة، وكل شيء فيها جميل، كلها خضراء، لا تغتر بهؤلاء:
﴿ لَا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ فِى ٱلْبِلَٰدِ (196)﴾
لا تنس القرآن الكريم:
﴿ مَتَٰعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْوَىٰهُمْ جَهَنَّمُ ۚ وَبِئْسَ ٱلْمِهَادُ (197)﴾
﴿
لا تنس القرآن، لو قرأت القرآن كل يوم لعشت مع التفسير الصحيح لكل شيء، فلا تغترّ أبداً:
﴿ وَلَا تَحْسَبَنَّ ٱللَّهَ غَٰفِلًا عَمَّا يَعْمَلُ ٱلظَّٰلِمُونَ ۚ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍۢ تَشْخَصُ فِيهِ ٱلْأَبْصَٰرُ (42)﴾
﴿ فَلَا تَحْسَبَنَّ ٱللَّهَ مُخْلِفَ وَعْدِهِۦ رُسُلَهُۥٓ ۗ إِنَّ ٱللَّهَ عَزِيزٌ ذُو ٱنتِقَامٍۢ(47)﴾
فهذا القرآن الكريم حينما تقرأه يطمئن قلبك، ترتاح نفسك، كلام خالق الكون يقول لك: أنا يا عبدي أفعل كذا وأفعل كذا، كن دائماً مع التفسير الديني للأشياء.
الفرق بين اللعب والباطل وبين الحق:
ثم يقول الله -عزَّ وجلَّ-:
﴿ وَمَا خَلَقْنَا ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَٰعِبِينَ (38)﴾
ما هو اللعب؟ هو العبث؛ عمل لا طائل منه، يقول لك: لعبنا لعبة الطاولة، ما نتيجتها؟ هل حررت القدس؟ أسست مشروعاً؟ أخذت شهادة عليا؟ حللت مشكلة بلدك؟ ماذا عملت؟! ما معنى اللعب؟ عمل لا طائل منه ليس له ثمرة إطلاقاً؛ عبث، اللعب هو العبث، ربنا -عزَّ وجلَّ- ينفي أن يخلق الأرض والسماوات لاعباً، بالكون لا يوجد عبث، إله عظيم لا يعبث ولا يلعب، كمال الخلق يدل على كمال التصرف
﴿
ربنا -عزَّ وجلَّ- نفى عن أن يكون خلق السماوات والأرض باطلاً، ونفى عن أن يكون خلق السماوات والأرض لعباً، فإذا عرفنا ما اللعب عرفنا ما يقابله، وإذا عرفنا ما الباطل عرفنا ما يقابله، أي أن الله -عزَّ وجلَّ- خلق السماوات والأرض بالحق، ما خلق السماوات والأرض باطلاً ولا لعباً، فالحق ما يقابل اللعب وما يقابل الباطل،
الهدف من الدنيا:
أحياناً يحتار الإنسان فيقول لك: ما هذه الحياة؟ إلى أن استقر وضعه بالأربعين، ومن الأربعين للخمسين استكمال تثبيت مكانة واستكمال تركيز أوضاع، من الخمسين إلى الستين كلها متاعب صحية، الميزان نزل، معترك المنايا بين الستين والسبعين هذا إذا وصل إلى الستين، وغالبًا لم يعد يصل، فهل من المعقول ثلثا العمر إعداد وثلث العمر كله متاعب، كل هذا الكون من أجل عشر سنوات!! لا يتناسب الكون مع العشر سنوات، مجرة تبعد عن الأرض أربعاً وعشرين ألف مليون سنة ضوئية، يوجد في الكون مليون مليون مجرة، لكل مجرة مليون مليون كوكب، شيء لا يُصدق من أجل عشر سنوات!! انظروا إذا كنت مخطئاً هذه النعوات أمامكم، كلما رأيت نعوة اسأل: ما عمر صاحبها؟ إما 53، 42، 39، 47 ،62 -ما شاء الله -معمر؛ هذه الأعمار، فمتى استقر؟ متى تزوج؟ متى أصبح له دخل ثابت؟ متى رتب وضعه؟ متى رسّخ مكانته؟ بالأربعينات أو بالخامس والأربعين، كون من أجل عشر سنوات لا يتناسب، لا يتناسب أن تعمر غرفة ضمن معرض من الأسمنت المسلح عرض الحائط متر من أجل عشرة أيام ثم تهدمها بالمهدّة الآلية، إنه عمل غير عاقل، فإذا كان الشيء مديداً يجب أن يكون الهدف كبيراً، ربنا -عزَّ وجلَّ- قال:
﴿ أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ (115)﴾
أي لعباً:
﴿ أَيَحْسَبُ ٱلْإِنسَٰنُ أَن يُتْرَكَ سُدًى (36)﴾
حياة دنيا فقط تنتهي بالموت وانتهى كل شيء؟! هذا ظن الجاهل، الإنسان مخلوق ليحاسب، جاء الله بك إلى الدنيا لتعرفه وتعرف منهجه وتطبقه، وسوف تحاسب عن كل حركة وسكنة، وسوف تلقى جزاء العمل في جنة يدوم نعيمها أو في نار لا ينفد عذابها
﴿ وَمَا خَلَقْنَا ٱلسَّمَآءَ وَٱلْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَٰطِلًا ۚ
الذي يؤمن بالعبثية والزوال وأن الموت نهاية الحياة وأنه لا شيء بعد الموت فهو كافر بأوسع معاني هذه الكلمة، الذي يؤمن بالعبثية وأن الكون بلا هدف وأن الموت نهاية الحياة هو كافر، لكن الموت بداية الحياة.
﴿ يَقُولُ يَٰلَيْتَنِى قَدَّمْتُ لِحَيَاتِى(24) فَيَوْمَئِذٍۢ لَّا يُعَذِّبُ عَذَابَهُۥٓ أَحَدٌ (25) وَلَا يُوثِقُ وَثَاقَهُۥٓ أَحَدٌ (26)﴾
الحياة الآخرة هي الحيوان:
الحياة الآخرة هي الحيوان؛ أي هي الحياة الحقيقية لو كانوا يعلمون، هي الحياة الحقيقية التي خُلقت من أجلها، حياة لا يوجد فيها قلق ولا حر ولا برد ولا هرم ولا مرض ولا تنافس ولا حزن ولا تقدم بالسن ولا حسد أبدًا، حياة خُلقنا من أجلها.
(( قالَ اللَّهُ تَبارَكَ وتَعالَى:
﴿ لِمِثْلِ هَـٰذَا فَلْيَعْمَلِ ٱلْعَـٰمِلُونَ (61)﴾
﴿ خِتَٰمُهُۥ مِسْكٌ ۚ
﴿ قُلْ بِفَضْلِ ٱللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِۦ
المؤمن الحق لا يفرح إلا بعطاء الله العطاء الأبدي السرمدي، أما العطاء الدنيوي زائل ولا يسمى هذا عطاء،
﴿
لهدف كبير ودون عبث أو لعب:
جِئتُ لا أَعلَمُ مِن أَين وَلَكِنّي أَتَيتُ
وَلَقَد أَبصَرتُ قُدّامي طَريقاً فَمَشَيتُ
كَيفَ جِئتُ كَيفَ أَبصَرتُ طَريقي لَستُ أَدري
كلمة (لا أدري) والقرآن بين يديك؟ هذا حمق، كلمة
﴿ وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ (56)﴾
الآية واضحة كالشمس.
﴿
﴿ يَٰٓأَيُّهَا ٱلْإِنسَٰنُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَىٰ رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلَٰقِيهِ (6)﴾
هناك النظام:
﴿
اختيار فقط، لمجرد أن يقع في ذهنك طلب تراه أمامك
يوم القيامة هو يوم الفصل بين الخلائق:
﴿ إِنَّ يَوْمَ ٱلْفَصْلِ مِيقَٰتُهُمْ أَجْمَعِينَ (40)﴾
كم فرقة؟ وكم اتجاه؟ وكم مبدأ؟ وكم جماعة في الأرض الآن؟ خذ قارة قارة، مئات الجماعات كل جماعة لها مبدأ تدافع عنه وعندها أدلة، إذاً من على حق؟ أمر يحير، المسلمون آلاف الفرق، النصارى آلاف الفرق اليهود كذلك، الآن غير اليهود والنصارى والمسلمين البوذيين والسيخ والهندوس وشعوب إفريقيا وديانات إفريقيا وديانات أمريكا اللاتينية، كم دين يوجد في الأرض؟ وكم اتجاه؟ وكم فئة؟ وكم حزب؟ وكم طائفة؟ وكم جماعة؟ وكم مِلة؟ وكم نِحلة؟ حسنًا هؤلاء من على حق؟ الله -عزَّ وجلَّ-قال:
المقاييس التي تدل الإنسان على الله -عزَّ وجلَّ- هي:
1 ـ الكون:
في الدنيا مقاييس، ولندخل الآن في هذا المقياس: الشيء الثابت الكون، قال ديكارت:
2 ـ القرآن الكريم:
دخلنا في موضوع المقياس: الكون ثابت، كل ما في الكون يدل على الله على أنه خالق، ومرب، ومسير، واحد وكامل وموجود، الله موجود وخلقه كامل ومعجز، من لوازم خلقه المعجز الكامل تصرفاته الكاملة، أيعقل أن يبقى الناس بلا منهج؟ بلا دليل؟ فمثلًا وزارة المواصلات تشق طريقاً وبعد فترة تضع إشارات: هنا منعطف خطر، هنا يوجد منزلق، هنا يوجد جسر، هنا تقاطع خطر...لوحات تحذيرية وإلا تكثر الحوادث، إذاً بعد أن شققنا الطريق وضعنا إشارات لتنبيه الناس، الله -عزَّ وجلَّ-:
﴿
أي خلق الكون ونوّره بالوحي، يوجد معك كتاب، كتاب لا يقل عن الكون.
﴿
﴿
الكون في كفة والقرآن في كفة؛ منهج، حسنًا ما الدليل على أن هذا الكلام كلام الله؟ هنالك دليل قطعي: إعجازه: ففيه
3 ـ السنة الشريفة:
الذي جاء بهذا الكتاب رسول قطعاً ما دام هذا معجزاً فالذي جاء به رسول، فأصبح لديك ثلاثة ثوابت: الكون ثابت، والقرآن ثابت، والنبي وكلامه ثابت؛ ما صح عنه بالتمام فهو ثابت، أصبح لديك قرآن وسنة، أي شيء تسمعه ولو كان مليون مقولة تعرضها على القرآن والسنة فإن وافقت الكتاب والسنة فهي صحيحة، يوجد لدينا أدلة قبل يوم الفصل، وأما إذا كان هناك تعنت
(( تركتُ فيكم أَمْرَيْنِ لن تَضِلُّوا ما تَمَسَّكْتُمْ بهما: كتابَ اللهِ وسُنَّةَ نبيِّهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ ))
بكل قضية؛ تسمع أحياناً فكرة، تقرأ مقالة في مجلة، تسمع محاضرة، اِعْرِضْ هذا على كتاب الله، لذلك أهم عمل تفعله قبل كل شيء، قبل أن تأكل أن تفهم كلام الله لأنه هو المقياس، هو الكتاب الذي:
﴿
هو الكتاب المقرر، فيه النجاة، فلذلك عندما يجلس الإنسان في مجلس علم ليفهم كلام الله يقوم بأخطر عمل في حياته، ولا شيء يعلو على هذا العمل إطلاقاً، أنت الآن تتعلم كلام الله؛ منهجك، مقياسك، فلو أردت الحقيقة تعرفها في الدنيا قبل يوم الفصل، لو أردتها صادقاً، لو أردتها مخلصاً تعرفها قبل يوم الفصل، لكن لو ركب الإنسان رأسه وجر الحقائق إلى صالحه ولعب بالأفكار، وزوّر، ودجّل، وحاور لمصلحة يريدها، هذا يقول له حسابه يوم الفصل.
يوم القيامة يأتي كل إنسان ربه فرداً:
﴿ إِنَّ يَوْمَ ٱلْفَصْلِ مِيقَٰتُهُمْ أَجْمَعِينَ (40) يَوْمَ لَا يُغْنِى مَوْلًى عَن مَّوْلًى شَيْـًٔا وَلَا هُمْ يُنصَرُونَ (41)﴾
الحياة الدنيا مبنية على العلاقات والجماعات والتحزبات والكتل، وهذا من جماعتنا وهذا ضدنا وهذا معنا وهذا ليس معنا؛ هكذا الحياة الدنيا، لكن يوم القيامة:
(( ...يا عَبَّاسُ بنَ عبدِ المُطَّلِبِ، لا أُغْنِي عَنْكَ مِنَ اللَّهِ شيئًا، ويَا صَفِيَّةُ عَمَّةَ رَسولِ اللَّهِ، لا أُغْنِي عَنْكِ مِنَ اللَّهِ شيئًا،
(( إنَّ أوليائيَ يومَ القيامةِ المتَّقونَ، وإن كان نسبٌ أقربَ من نسَبٍ،
(( ..... ومَنْ أبْطأَ بهِ عملُهُ لمْ يُسرِعْ بهِ نَسبُهُ ))
﴿ أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ ٱلْعَذَابِ أَفَأَنتَ تُنقِذُ مَن فِى ٱلنَّارِ (19)﴾
﴿
لذلك كل الدنيا مبنية على أن هناك جماعة محيطة بإنسان، يوم القيامة يأتي كل إنسان ربه فرداً.
﴿
الإنسان يسافر أحيانًا إلى بلد لا يعرفه فيه أحد؛ شخص عادي، قد يكون في بلده معروفاً ومخدوماً ومعززاً ومكرماً، بهاتف يحل ألف مشكلة، أما في بلد آخر لا أحد يعرفه والآخرة هكذا:
﴿ يَوْمَ لَا يُغْنِى مَوْلًى عَن مَّوْلًى شَيْـًٔا وَلَا هُمْ يُنصَرُونَ (41) إِلَّا مَن رَّحِمَ ٱللَّهُ ۚ إِنَّهُۥ هُوَ ٱلْعَزِيزُ ٱلرَّحِيمُ (42)﴾
إلا من رحم الله، طبعاً رحمة الله خير للإنسان من كل أهل الدنيا.
﴿ أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ ۚ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُم مَّعِيشَتَهُمْ فِى ٱلْحَيَوٰةِ ٱلدُّنْيَا ۚ وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍۢ دَرَجَٰتٍۢ لِّيَتَّخِذَ بَعْضُهُم بَعْضًا سُخْرِيًّا ۗ
بعض من مشاهد يوم القيامة:
1 ـ شجرة الزقوم:
﴿ إِنَّ شَجَرَتَ ٱلزَّقُّومِ (43) طَعَامُ الْأَثِيمِ (44)﴾
الآن مشهد من مشاهد النار، هذه الشجرة تنبت في البادية من أخبث أنواع الشجر، قال: هي طعام الأثيم، الذي وقع في الإثم والمعصية في الدنيا.
2 ـ الزيت المغلي:
﴿ كَالْمُهْلِ يَغْلِى فِي الْبُطُونِ (45)﴾
المهل: عكر الزيت والزيت إذا غلى فدرجته عالية جداً، يحترق فيه الشيء فوراً، الزيت المغلي لا يُحتمل، قال:
﴿ كَغَلْىِ ٱلْحَمِيمِ (46)﴾
3 ـ سوق الكافر إلى منتصف الجحيم:
﴿ خُذُوهُ فَٱعْتِلُوهُ إِلَىٰ سَوَآءِ ٱلْجَحِيمِ (47)﴾
عتالة، أما المؤمن يأتي ربه كالوفد وأما الكافر يُعتل عتالة كأنه من سقط المتاع
4 ـ عذاب الجحيم:
﴿ ثُمَّ صُبُّواْ فَوْقَ رَأْسِهِۦ مِنْ عَذَابِ ٱلْحَمِيمِ (48) ذُقْ إِنَّكَ أَنتَ ٱلْعَزِيزُ ٱلْكَرِيمُ (49)﴾
أي كنت في الدنيا عزيزاً فأخذته العزة بالإثم، أي ما صلى، تبع جنازة والجنازة دخلت إلى المسجد ليُصلى عليها، هو أكبر من أن يصلي بالمسجد بل أكبر بكثير، وقف خارج المسجد ليدخن وينتظر إلى إن تخرج الجنازة، قال له:
أحياناً الإنسان يوضع في موقف حرج لو صدق لتزلزل، يُؤثر أن يصدق وأن يتزلزل على أن يُغضب الله -عزَّ وجلَّ-ولكن الله ينقذه ويكرمه، أحياناً الإنسان حفاظًا على ما يتوهم أنه سلامة وكرامة يعصي الله، حفاظًا على سلامته الموهومة وعلى كرامته المزعومة يعصي الله، فإذا عصى الله يقال له يوم القيامة:
الإيمان باليوم الآخر من لوازم الإيمان بالله:
﴿ إِنَّ هَٰذَا مَا كُنتُم بِهِۦ تَمْتَرُونَ (50)﴾
عندما يغرق الإنسان في المعاصي كيف يتوازن مع نفسه؟ يقول لك: من مات ورجع وقال لك أنه في آخرة؟ حتى يتوازن أكثر الأشياء راحة أن ينفي الدار الآخرة؛ لأنه إذا نفى الدار الآخرة نفى الجزاء والحساب، عندئذ يتحرك حركة عشوائية، ويأكل مال هذا، يشتم هذا، يعتدي على هذا، يغتصب، يطغى، يبغي، صعب على الإنسان أن يتطاول ويأخذ ما ليس له إذا كان عنده يقين بأن هناك حساباً، لذلك أركان الإسلام خمسة: الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، أكثر ركنين بالإيمان متلازمين الإيمان بالله واليوم الآخر، إذا ألغيت اليوم الآخر يقيناً عندها لا توجد استقامة، وتصبح الدنيا كل شيء، فالحقيقة
أيها الإخوة-كما قلت قبل قليل- الإيمان بالله واليوم الآخر يتلازمان في أكثر سور القرآن، الإيمان باليوم الآخر أن تؤمن أن هناك حياة أبدية سرمدية هي الحياة الحقيقية، وهي الحياة التي خُلقت من أجلها؛ لذلك إذا آمنت باليوم الآخر تجعل هذه الحياة الدنيا مدرسة للآخرة، حياة إعدادية لحياة عليا أبدية فلذلك التناقض من أين يأتي؟ يأتي التناقض والهم والحزن من اعتبار الدنيا هي الحياة الأساسية؛ لذلك النقص مزعج؛ نقص المواد، ارتفاع الأسعار، شيء من الصحة فقده الإنسان، عدم التوفيق في زواجه أو في عمله، هذه الهموم يراها أكبر هموم، ساحقة؛ لأن آماله كلها في الدنيا، لو أنه نقل أهدافه وآماله واهتماماته إلى الآخرة، كل شيء في الدنيا يرضيه لأن الحياة مؤقتة، عش في الدنيا كأنك مسافر، عندما يسكن الإنسان في بيت شهراً واحداً بمصيف يكون فيه أخطاء كثيرة جداً ونواقص كثيرة جداً لا يعبأ بها أبداً، هو جاء استجماماً فأي شيء فيه نقص أو خلل أو خطأ يتجاوزه، لو أردت أن تعيش الدنيا كما تعيش شهراً في مصيف تُحل كل المشكلات؛ لأن الحياة مؤقتة، والشيء الذي يلفت النظر أن الإنسان يهيئ بيتًا لا يسكنه، ينال شهادة لا يستفيد منها فالمنايا بالمرصاد، لا يوجد إنسان لديه ضمانة أن يعيش بعد ساعة، وكل إنسان يموت يوجد في ذهنه أمل أن يعيش عشرين سنة قادمة فالموت يأتي بغتة،
في درس قادم إن شاء الله تعالى نتابع تفسير هذه الآيات، أما من حكمة ربنا -عزَّ وجلَّ- بعد كل مشهد من مشاهد العذاب هناك مشهد من مشاهد أهل الجنة.
﴿ إِنَّ ٱلْمُتَّقِينَ فِى مَقَامٍ أَمِينٍۢ(51) فِى جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (52) يَلْبَسُونَ مِن سُندُسٍۢ وَإِسْتَبْرَقٍۢ مُّتَقَٰبِلِينَ(53) كَذَٰلِكَ وَزَوَّجْنَٰهُم بِحُورٍ عِينٍۢ(54)﴾
والحمد لله رب العالمين.