- تفسير القرآن الكريم / ٠2التفسير المطول
- /
- (044)سورة الدخان
الحمد لله رب العالمين، والصّلاة والسّلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين.
اللهم لا علم لنا إلا ما علّمتنا إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علّمنا ما ينفعنا وانفعنا بما علّمتنا وزدنا علمًا وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين.
أيها الأخوة المؤمنون؛ مع الدرس الثاني من سورة الدخان، ربنا - سبحانه وتعالى- يقول في الآية العاشرة:
﴿ فَٱرْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِى ٱلسَّمَآءُ بِدُخَانٍۢ مُّبِينٍۢ (10) يَغْشَى ٱلنَّاسَ ۖ هَٰذَا عَذَابٌ أَلِيمٌ (11) رَّبَّنَا ٱكْشِفْ عَنَّا ٱلْعَذَابَ إِنَّا مُؤْمِنُونَ (12) أَنَّىٰ لَهُمُ ٱلذِّكْرَىٰ وَقَدْ جَآءَهُمْ رَسُولٌ مُّبِينٌ (13) ثُمَّ تَوَلَّوْاْ عَنْهُ وَقَالُواْ مُعَلَّمٌ مَّجْنُونٌ (14)﴾
من سنن الله في خلقه نقل الحق إلى الناس وعليهم الاستجابة:
أيها الإخوة؛ قبل أن نمضي في الحديث عن هذه الآيات وعن اختلاف العلماء في تفسيرها، لابد من مقدمة دقيقة وتلقي ضوءاً على مضمون هذه الآيات.
أيها الإخوة؛ ربنا -سبحانه وتعالى- من سننه في خلقه أنه ينقل الحق إلى الناس عن طريق الأنبياء والمرسلين والدعاة الصادقين، يبلّغ الناس الحق بطريقة أو بأخرى عن طريق نبي أو رسول أو داعية أو عالِم أو عن طريق مؤلَّف... إلخ، هذا الإبلاغ؛ الموقف الذي ينبغي أن يقفه الإنسان من بلاغ ربه أن يستجيب.
وكل واحد من الإخوة الأكارم ينبغي إذا سمع مقالة تدعوه إلى الهدى، إذا سمع خطبة تدله على الخير، إذا جلس في مجلس علم بيّن له الطريق إلى الله، إذا قرأ كتاباً من الكتب المعتمدة التي تبيّن له حقيقة الدين، إذا سمع شريطاً... أي أسلوب من أساليب إبلاغ الحق إلى الناس ينبغي أن تستجيب وينبغي أن تعلم أن هذا بشكل أو بآخر من عند الله، ينبغي أن تستجيب ولاسيما إذا جاءت الدعوة مؤيدَة بالآيات الكريمة ومفسرة وفق القواعد الصحيحة والسنة الصحيحة المطهرة، إذا دُعيت إلى الحق عليك أن تستجيب، فإن لم تستجب ما الذي ينبغي أن يكون حرصاً على مصلحتك ورحمة بك ودفعاً لك إلى الهدى؟ عندئذ لابد من المعالجة، والله -عزَّ وجلَّ- عنده أنواع منوعة وأساليب عديدة من أنواع المعالجة لأنك كلك في ملكه؛ أجهزتك كلها، أعضاؤك، أنسجتك، أحياناً النسيج ينمو نمواً عشوائياً، الأنسجة، الأعضاء، الحواس، الأجهزة، كل شيء تتمتع به في ملك الله -عزَّ وجلَّ- من حولك الزوجة والأولاد، من فوقك، من تحتك، الرزق، كل شيء بيد الله.
مراحل الدعوة إلى الله وما يترتب على المدعو:
المرحلة الأولى: الدعوة الشفهية
لذلك ربنا -عزَّ وجلَّ- حينما يُصمّ الإنسان أذنيه عن سماع الحق، حينما تأتيه الدعوة شفهية، كلامية، سلمية، لطيفة، لا يستجيب لها، يكون هو باختياره عرّض نفسه لمرحلة ثانية في الدعوة.
المرحلة الثانية: الشدة
﴿ وَلَنُذِيقَنَّهُم مِّنَ ٱلْعَذَابِ ٱلْأَدْنَىٰ دُونَ ٱلْعَذَابِ ٱلْأَكْبَرِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (21)﴾
كلام واضح كالشمس جلي في أكثر آيات القرآن الكريم، إن لم تستجب بالدعوة الكلامية، بالدعوة البيانية، بالدعوة اللطيفة، بالدعوة السلمية، فأنت بمحض اختيارك نقلت نفسك إلى أسلوب آخر من أساليب الدعوة، الآن الدعوة عن طريق الشدة؛ إن لم تستجب لله بلطائف الإحسان ساقك الله إليه بسلاسل الامتحان، إن لم تأته مسرعاً حملك على أن تأتيه مسرعاً، إن لم تأته مسرعاً طواعية حملك على أن تأته مسرعاً قهراً، والموقف الأول أكرم وأعظم وهذه الدنيا بين أيديكم، ما من قصة إلا وتؤكد هذه الحقيقة، ما من حدث إلا ويؤكد هذه الحقيقة، إن لم تستجب إلى الله في الدعوة السلمية الكلامية البيانية اللطيفة نقلت نفسك طواعية إلى مرحلة أخرى من مراحل الدعوة: البأساء والضراء، هموم، أحزان، أمراض، مشكلات، قهر، قلق، خوف.
المرحلة الثانية في الدعوة تستوجب المعالجة والتوبة والتضرع إلى الله:
الآن لو أن الإنسان -لا سمح الله- دخل في المرحلة الثانية طواعية، هو وضع نفسه في المرحلة الثانية، أحياناً يقول لك الطبيب: هذا المرض يُعالج بالحبوب إذا اعتنيت بأخذ الدواء، فإن لم تعتن بالدواء وتفاقم المرض فلابد من عملية جراحية، الأمر بيدك؛ إما أن تُعالج معالجة لطيفة بحبوب بعد الطعام على شهرين أو ثلاثة، وأما إذا أهملت الحبوب ولم تعتن بالمعالجة الدوائية فلابد من معالجة جراحية، ساعتئذٍ هناك تخدير وهناك غرفة عمليات وفتح بطن ومشكلات، فالإنسان أحياناً هو باختياره وبتقصيره وبعدم استجابته لربه ينقل نفسه إلى أسلوب آخر في الدعوة، على كلٍّ لو أن الإنسان انتقل إلى المرحلة الثانية فالله -عزَّ وجلَّ- سيسوق له من الشدائد والضيق لعله يعود، لعله يرجع، الموقف الكامل أن يتضرع، لو دخل إلى هذه المرحلة فالموقف الكامل عليه أن يقول: يا رب تبت إليك، إذا رجع العبد العاصي إلى الله نادى مناد في السماوات والأرض أن هنئوا فلاناً فقد اصطلح مع الله، أيضاً شيء رائع جداً أن الإنسان حينما يدخل وهو لا يشعر بالمرحلة الثانية أن يتوب إلى الله، وأن يقلع، وأن يتضرع، وأحياناً هذه الشدة يفسرها تفسيراً أرضياً لا سماوياً، يقول لك: هكذا الحياة؛ مد وجزر، يوم لك ويوم عليك، يقول لك عندما تأتيه المصيبة: قلب لي الدهر ظهر المجن، يفسر هذه المصائب تفسيرًا أرضياً ماديًا.
﴿ ثُمَّ بَدَّلْنَا مَكَانَ ٱلسَّيِّئَةِ ٱلْحَسَنَةَ حَتَّىٰ عَفَواْ وَّقَالُواْ قَدْ مَسَّ ءَابَآءَنَا ٱلضَّرَّآءُ وَٱلسَّرَّآءُ فَأَخَذْنَٰهُم بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (95)﴾
المرحلة ثالثة: مرحلة الإكرام الاستدراجي
الآن يوجد مرحلة ثالثة: مرحلة الإكرام الاستدراجي
المرحلة الأخيرة من مراحل التأديب الإلهي: القصم
لا استجاب بالدعوة البيانية، ولا تضرع بالمعالجة التأديبية، ولا شكر بالإكرام الاستدراجي، ماذا بقي؟! بقي القصم:
أيها الإخوة الكرام؛ هذا الملخص مستقى من آيات كثيرة، وهو في القرآن الكريم بأكثر من سورة وأكثر من موضع تؤكد هذه الحقائق؛
الله -عزَّ وجلَّ- يقول:
الفرق بين الغبي والعاقل:
الآن من هو الغبي؟ الغبي الذي يعيش لحظته؛ الآن لا يوجد شيء، يأكل كما يشتهي، ويشرب كما يشتهي، ويذهب إلى أي مكان يشتهي، ويلتقي مع من يشتهي، ويفعل ما يشتهي، ولا يعبأ بكل القيم والمبادئ، هذا الإنسان هو النموذج المعاصر يعيش لحظته، يعيش واقعه، فإذا جاءه الموت بغتة، أو جاءه المرض بغتة فعندئذ يقول:
﴿ يَقُولُ
والذي يندم هو الغبي، والعاقل لا يعمل عملاً يندم عليه، العاقل يرى الشيء قبل أن يصل إليه، العاقل يعيش مستقبله، والأقل عقلاً يعيش واقعه، والغبي يعيش ماضيه.
أيها الإخوة الكرام؛ هل يستطيع أحد على وجه الأرض أن ينكر وقوع الموت؟ أيوجد إنسان خلّد، قوي، ضعيف، عالم، جاهل، مستقيم، منحرف؟! أي إنسان، أي نوع محكوم علينا بالموت جميعاً، هل هناك من حدث أشد واقعية وحتمية من الوقوع في الموت؟! من هو العاقل؟ الذي يُعِدّ له،
والحقيقة أيها الإخوة الكرام - لكيلا يدخل الإنسان في متاهات التشاؤم- لا علاقة إطلاقاً بين الموت وبين التشاؤم، الموت حدث لابد منه قد يأتي بعد ساعة وقد يأتي بعد خمسين عاماً، لكنه لابد من أن يأتي، وإذا أتى لا يؤخر ولا دقيقة، وما بعد الموت حياة أبدية سرمدية؛ إما في جنة يدوم نعيمها أو في نار لا ينفد عذابها، فمنتهى العقل يقتضي أن تُعِدّ لهذه الساعة فلك أن تعمل، ولك أن تدرس، ولك أن تشتري بيتاً، ولك أن تؤسس مشروعاً، ولك أن تتزوج، ولك أن تنجب، ولك أن تزوج بناتك... كل هذا مشروع، النقطة الدقيقة أن الله -عزَّ وجلَّ- نهى عن الهوى من غير هدى من الله، هناك ميول أودعها الله فينا، ميل أودعه الله فينا إذا تحركت به وفق منهج الله فلا شيء عليك، أي إذا تمنى الشاب أن يتزوج، وأن يستقل ببيت صغير، وأن يكون له عمل يدر عليه دخلاً معقولاً، فهل في هذا الميل ملامة؟ إطلاقًا، هذا الهوى وفق منهج الله، أما إذا تطلع إلى الزنا خرج عن منهج الله، لو أن إنساناً أراد أن يعمل وأن يكسب المال بطريق مشروع فلا شيء عليه، وإذا أنفقه في الوجه المشروع فلا شيء عليه، الشيء الذي حرمه الله أن تتبع الهوى من غير هدى من الله.
الفرق بين السعادة الحقيقية والشقاء الحقيقي:
إذًا الشيء الذي أود أن أقوله لكم: نحن أمام أربع مراحل: مرحلة الدعوة البيانية، مرحلة التأديب الإلهي، مرحلة الإكرام الاستدراجي، مرحلة القصم، السعيد من استجاب لله إذا دعي، القرآن دعوة من الله، الحديث النبوي الشريف دعوة من الله، العلماء الأمناء على هذه الرسالة العاملون المخلصون الذين ينقلون لك ما في الكتاب والسنة بأمانة تامة من دون إضافة شيء أو حذف شيء هؤلاء أيضاً ينوبون عن النبي -صلى الله عليه وسلم- في إبلاغ الناس، فالسعيد من استجاب لله ولرسوله إذا دعاه
﴿ وَمَا يَسْتَوِى ٱلْأَحْيَآءُ وَلَا ٱلْأَمْوَٰتُ ۚ إِنَّ ٱللَّهَ يُسْمِعُ مَن يَشَآءُ ۖ
مقبورون في شهواتهم، قال:
﴿
إذا جلست مع إنسان ساعات طويلة يحدثك عن كل شيء إلا عن الله واليوم الآخر وهذا الدين وماذا بعد الموت، هذه موضوعات لا يفقه عنها شيئاً، فإذا طرقت هذه الموضوعات تثاءب وتململ واعتذر وقام من المجلس؛ هذا ميت ومنتهٍ، الطبيب أحيانًا يضع يده على المريض ويقول لك:
﴿ يَعْلَمُونَ ظَٰهِرًا مِّنَ ٱلْحَيَوٰةِ ٱلدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ ٱلْءَاخِرَةِ هُمْ غَٰفِلُونَ (7)﴾
لذلك إذا سمح الله-عزَّ وجلَّ- للإنسان أن يتعرف إلى الحق في الدنيا؛ عرف سر وجوده، عرف عظمة هذا الإله العظيم، عرف ماذا بعد الموت، له عمل متعلق بالآخرة، له عمل لا يبتغي به لا أجراً ولا ثوابًا ولا سمعة ولا عطاءً ولا شكوراً.... إطلاقاً، له عمل هو زاده في الآخرة.
أيها الإخوة الكرام: من هو الشقي؟ من هو التعيس؟ من هو الخاسر؟ من هو المخفق؟ الذي يعمل للدنيا فقط، والدنيا تنتهي بثانية واحدة، أثناء عملية لوزات مات، عملية بحصة بالمرارة مات، أحياناً بلا سبب إطلاقاً، مرة دعينا إلى مولد في بعض المساجد ودعيت أنا مع المدعوين ودخلت إلى المسجد واستقبلني أحد من أقام هذا المولد وصافحته ورحّب بي وجلست في مكاني في المولد، شعرت بحركة غير طبيعية بالمسجد، سألت فقالوا: توفي الآن الذي استقبلك، كان واقفًا فوقع ميتاً!! الموت قريب جداً وحينما يأتي تخسر كل شيء، الذي جمّعه الإنسان خلال سبعين عاماً يخسره بثانية واحدة إلا المؤمن، الموت تحفة المؤمن، الموت عرس المؤمن؛ لأن كل هذه الحياة لهذه الساعة ينتظرها بفارغ الصبر، تصور طالباً درس ليلاً نهاراً، صباحًا مساءً حتى أتقن الكتب كلها، قُرع جرس الامتحان يلقي في قلبه الفرح، هو ينتظر هذه الساعة بفارغ الصبر ليصب علمه كله على الورقة وليأخذ الدرجة الأولى ويتيه على زملائه بالفوز، فإذا تكلمت عن الموت من الناحية السلبية فأنا لا أنسى الناحية الإيجابية، فالإنسان عندما يموت يلقى الله -عزَّ وجلَّ- ، قال تعالى:
﴿ وَلَئِن مُّتُّمْ أَوْ قُتِلْتُمْ لَإِلَى ٱللَّهِ تُحْشَرُونَ (158)﴾
الفرق بين قيمة الدنيا وقيمة الآخرة:
يا إخواننا الكرام، الإنسان إذا نقل اهتماماته وأهدافه للآخرة تهون عليه الدنيا، والله يرضيه منها بيت صغير ولقمة تسد رمقه هذا أكثر طموحه، الدنيا ماضية، دائماً وأبداً تذكر أن الله أكرم محمداً أم أهانه حين زوى عنه الدنيا؟! فإن قال:
﴿ إِنَّهُۥ مَن يَأْتِ رَبَّهُۥ مُجْرِمًا فَإِنَّ لَهُۥ جَهَنَّمَ
حسنًا هذه الدنيا كلها ذات السنوات محدودة كلها متاعب، فهل من المعقول من أجلها أن نضيع الآخرة؟! معقول من أجل امرأة نضيع ديننا؟! من أجل مبلغ من المال كبر أو صغر نضحي بقيمنا ومبادئنا؟! يكون بلا عقل، العقل أن تصل إلى الشيء قبل أن تصل إليه.
كيفية التأديب عند الله-عزَّ وجلَّ-:
أيها الإخوة؛ الآن الآيات من هذا المعنى، يوجد دعوة بيانية، تأديب، إكرام استدراجي، قصم
إخواننا الكرام؛ أقرب تأديب: جسم الإنسان مثلاً القناة الدمعية هي أضيق قناة في جسم الإنسان بين مؤق العين وبين الأنف، لماذا الأنف رطب دائماً؟ لأن فائض الدمع يصل للأنف، هذه القناة الدمعية لو سدت صار هناك فيضان دمع على الخد دائماً والدمع مادة قلوية، بعد حين يصير مجرى أحمر، يتخرش الخد، ودائماً بحاجة لمنديل لمسح الدمع؛ أي حياة الإنسان تغدو جحيماً لو أن القناة الدمعية سُدت، أحدهم يرغب بالتنزه في الطرقات أيام الصيف مساء ليمتع عينيه بمنظر الغاديات الرائحات، الله -عزَّ وجلَّ- أدبه بارتخاء الجفون فنحن ننظر براحة والجفن مفتوح، عندما ننام يرتخي الجفن، هذا الشخص يرتخي جفنه أثناء النهار ولا يستطيع أن يرى إلا إذا فتح عينيه بيديه ليرى؛ هذا تأديب، وربنا -عزَّ وجلَّ- أحياناً يجعل التأديب من جنس الذنب كي يعلّم العبد وكي يجعله موعظة للناس، والدعاء الذي قرأته مرة وتأثرت به:
﴿ فَقَالُواْ رَبَّنَا بَٰعِدْ بَيْنَ أَسْفَارِنَا وَظَلَمُوٓاْ أَنفُسَهُمْ
لما الإنسان ينحرف، ويتجاوز الحدود، ولا يطبق أمر الله -عزَّ وجلَّ-، يظلم، يبغي، يجعله الله قصة ليُتَعظ به، فأنا أقول دائماً لإخواننا: الحياة مسرح وفيها أماكن للمشاهدين وخشبة مسرح، المستقيم له محل مع المشاهدين يرى ويسمع فإن لم يستقم جُرّ إلى خشبة المسرح ليكون قصة؛ يُشاهَد، فإن لم يستقم على أمر الله جُرّ إلى خشبة المسرح ليجري له حدث مؤلم يصبح قصة ومتعة للناس، والآن اسمع ما الذي يتناقله الناس؟ أحيانًا تجد قصة غريبة، أحياناً انهياراً لإنسان، أحيانًا تأديباً شديدًا لإنسان، فالناس يتسلون بهذه القصص، فالدعاء: اللهم لا تجعلنا عبرة لأحد من خلقك؛ أي ألا نكون نحن قصة، إذا سمع أحدنا قصة واتعظ فلا مانع، ولكن عليه ألا يكون هو نفسه قصة.
ما المقصود بالدخان؟
1-القحط والمجاعة:
﴿
وحدثنا الله عن أهل مدين، قال سيدنا شعيب:
﴿ وَإِلَىٰ مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا ۚ قَالَ يَٰقَوْمِ ٱعْبُدُواْ ٱللَّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَٰهٍ غَيْرُهُۥ ۖ وَلَا تَنقُصُواْ ٱلْمِكْيَالَ وَٱلْمِيزَانَ ۚ
2 - الدخان من علامات الساعة الكبرى:
بعضهم قال الدخان من أشراط الساعة، من أشراط الساعة: الدجال والدخان وطلوع الشمس من مغربها ودابة الأرض ويأجوج ومأجوج؛ هذه أشراط الساعة ومنها الدخان، بالتفسير الأول أي قحط من السماء، أي سنة من سنوات الجفاف الشديدة، أي فقر شديد يلحق بالعباد هو بمثابة دخان من السماء؛ إما أن العين من شدة الجوع ترى أنها مغشاة أو أن الجو مغبر وكأنه دخان،
الالتجاء إلى الله -عزَّ وجلَّ- عند الشدة:
من شأن العباد:
﴿ رَبَّنَا ٱكْشِفْ عَنَّا ٱلْعَذَابَ إِنَّا مُؤْمِنُونَ (12)﴾
أي لا يوجد إنسان أثناء الشدة إلا ويقول: يا ربِّ عدت إليك أنقذني، بالمناسبة هذا الالتجاء عند الشدة يستوي فيه كل الناس لا فضل لك فيه، أعتى الكفار يدعو ربه عند الشدة ويقول: يا ربِّ أنقذني؛ لذلك البطولة أن تكون في الرخاء ملتفتاً إلى الله -عزَّ وجلَّ- وأنت في بحبوحة وفي صحة، أما عند الشدة فكلهم يتضرع ولكن قد لا ينفع هذا التضرع.
﴿ رَبَّنَا ٱكْشِفْ عَنَّا ٱلْعَذَابَ إِنَّا مُؤْمِنُونَ (12) أَنَّىٰ لَهُمُ ٱلذِّكْرَىٰ وَقَدْ جَآءَهُمْ رَسُولٌ مُّبِينٌ (13)﴾
الإنسان وهو تحت الشدة تكون استجابته أقل مما لو كان في رخاء، إذا كان يوجد رخاء ويوجد نبي ومعه أدلة ومعه كتاب وآيات وأشياء واضحة جداً هل يعقل أن تكون استجابته عند الشدة وهو في ضائقة كاستجابته وهو في بحبوحة؟!
ادعاءات الكفار الباطلة للنبي-صلى الله عليه وسلم-وأسبابها:
﴿ أَنَّىٰ لَهُمُ ٱلذِّكْرَىٰ وَقَدْ جَآءَهُمْ رَسُولٌ مُّبِينٌ (13) ثُمَّ تَوَلَّوْاْ عَنْهُ وَقَالُواْ مُعَلَّمٌ مَّجْنُونٌ (14)﴾
أي هناك من علّمه هذا الكلام أو هو مجنون، نبي كريم على الله، معه وحي من السماء، معه كتاب، أخلاقه رضية، ما عُرف عنه كذب قط، صادق أمين، عفيف ذو نسب، هذا النبي العظيم يقال عنه:
الحذر من الفرح عند رفع الشدة مؤقتًا مع عدم التوبة:
﴿ إِنَّا كَاشِفُواْ ٱلْعَذَابِ قَلِيلًا ۚ إِنَّكُمْ عَآئِدُونَ (15)﴾
هذا الإكرام الاستدراجي:
أنا أعرف رجلاً مغتصباً لحقوق كثيرة؛ محل تجاري وأراض وأبنية من إخوته، كان إخوته فلما توفي أبوه اغتصب هذه الأموال، جاءه مرض عضال ونقل إلى المستشفى، صرّح بأن المحل الفلاني لإخوته-تصريح رسمي- عند شعوره بأن أجله قريب، ثم رُدت له صحته وشعر أنه أصبح كما كان فطلب هذا الشريط الذي صرّح به وكسره وعاد إلى ما كان عليه، عاش بعد هذا الحادث ثمانية أشهر ثم جاءت الطامة الكبرى، من سنن ربنا -عزَّ وجلَّ- في خلقه أحياناً يرفع الشدة مؤقتاً، فالإنسان إذا رُفعت الشدة ولم يتب فلا يفرح بها فهذا رفع مؤقت
﴿ إِنَّا كَاشِفُواْ ٱلْعَذَابِ قَلِيلًا ۚ إِنَّكُمْ عَآئِدُونَ (15) يَوْمَ نَبْطِشُ ٱلْبَطْشَةَ ٱلْكُبْرَىٰٓ إِنَّا مُنتَقِمُونَ (16)﴾
الله -عزَّ وجلَّ- إذا عاقب عاقب، وإذا بطش بطش، وإذا انتقم انتقم، لذلك في مرة قرأ أحدهم على درع:
إذا جار الأميـــــــــر وحاجبــــــاه وقاضي الأرض أسرف في القضاء
فويل ثـم ويــــــــــل ثم ويــــــــــل لقاضي الأرض من قاضي الســماء
إنسان اشترى مع أخيه بيتاً ودفع الأخ نصف ثمن البيت بالتمام والكمال، وكان البيت باسم الأخ الأول وتمكن بفهمه بالقانون وخبرته أن يهدد أخاه بإخراجه من البيت مع أن نصف البيت لأخيه، وأخرجه منه وجعله في الطريق طمعاً بثمن البيت كله، والله أيها الإخوة أنا عشت هذه القصة، لم يمض شهر إلا وأصيب بورم خبيث في الأمعاء -الأول الذي اغتصب هذا البيت- وكنت أظن أنه يبقى سنتين في هذا المرض، بعد شهر ثان توفاه الله
خوف الإنسان من الله يتناسب مع حجم إيمانه:
أيها الإخوة الكرام؛
بعض الأحيان ترون بالصحف والأخبار بعض الزلازل، تجد بأن زلزالاً جعل بناء بكامله ركاماً في غمضة عين، الزلازل، البراكين، الفيضانات، الأعاصير، إعصار ضرب غربي أميركا فكانت الخسائر 30 ملياراً، هناك أعاصير وفيضانات وزلازل وصواعق وبراكين، هناك حروب أهلية الطاحنة وقهر ومجاعات، إذا كانت البلاد استمرأت الفساد والزنا ودور الدعارة كانت أكبر من دور السكن بكثير والكسب الحرام أكثر من الحلال بكثير فهذا المجتمع تنتظره بطشة من الله -عزَّ وجلَّ-، الأمثلة كثيرة جداً:
﴿ وَضَرَبَ ٱللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ ءَامِنَةً مُّطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِّن كُلِّ مَكَانٍۢ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ ٱللَّهِ فَأَذَٰقَهَا ٱللَّهُ لِبَاسَ ٱلْجُوعِ وَٱلْخَوْفِ بِمَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ (112)﴾
الأنبياء والرسل أمناء على وحي السماء:
﴿ وَلَقَدْ فَتَنَّا قَبْلَهُمْ قَوْمَ فِرْعَوْنَ وَجَآءَهُمْ رَسُولٌ كَرِيمٌ (17)﴾
سيدنا موسى، معنى
﴿
أي أيها العباد أدوا إلي طاعتكم وعهدكم الذي عاهدتم به ربكم، أو
متى يكون الإنسان مستعلياً على الله-عزَّ وجلَّ-؟!
﴿ وَأَن لَّا تَعْلُواْ عَلَى ٱللَّهِ ۖ إِنِّىٓ ءَاتِيكُم بِسُلْطَٰنٍۢ مُّبِينٍ (19)﴾
من هو المتكبر؟ الكبر بطر الحق وغمط الناس، بطر الحق: رد الحق، أي يتكبر على الله أن يطيعه، فقد لا يعجبه حكم الله في موضوع ما؛ ما هذا الحرام؟! فيقول لك: نحن في حياة عصرية، لابد من نماء الأموال، أنجمد الأموال؟! يقول لك: لابد من الربا، ويكون هناك حكم شرعي وآية قرآنية إلا أنه لا يعبأ، فهذا الذي لا يعبأ بحكم الله يستعلي على الله؛ لذلك:
﴿ وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍۢ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى ٱللَّهُ وَرَسُولُهُۥٓ أَمْرًا أَن يَكُونَ لَهُمُ ٱلْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ ۗ وَمَن يَعْصِ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُۥ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَٰلًا مُّبِينًا (36)﴾
لذلك لا يوجد خيار أبدًا، إذا كنت مؤمناً حقاً ورأيت أمر الله في الكتاب والسنة انتهى الأمر.
معنى العصمة:
﴿ وَإِنِّى عُذْتُ بِرَبِّى وَرَبِّكُمْ أَن تَرْجُمُونِ (20)﴾
أي أن الله يعصم النبي من الناس، يعصمه من أن يُقتل قبل أداء الرسالة لأنه إن قُتل قبل أداء الرسالة انتهت الدعوة بموته؛ لذلك الله يعصمه، وأما إذا أدى الرسالة فممكن.
﴿ وَإِنِّى عُذْتُ بِرَبِّى وَرَبِّكُمْ أَن تَرْجُمُونِ (20) وَإِن لَّمْ تُؤْمِنُواْ لِى فَٱعْتَزِلُونِ (21)﴾
هذه الآية تذكرنا بقوله:
﴿ مِن دُونِهِۦ ۖ فَكِيدُونِى جَمِيعًا ثُمَّ لَا تُنظِرُونِ (55) إِنِّى تَوَكَّلْتُ عَلَى ٱللَّهِ رَبِّى وَرَبِّكُم ۚ مَّا مِن دَآبَّةٍ إِلَّا هُوَ ءَاخِذٌۢ بِنَاصِيَتِهَآ ۚ إِنَّ رَبِّى عَلَىٰ صِرَٰطٍۢ مُّسْتَقِيمٍ (56)﴾
﴿ فَدَعَا رَبَّهُۥٓ أَنَّ هَٰٓؤُلَآءِ قَوْمٌ مُّجْرِمُونَ (22)﴾
فربنا -عزَّ وجلَّ-أوحى إلى سيدنا موسى:
﴿ فَأَسْرِ بِعِبَادِى لَيْلًا إِنَّكُم مُّتَّبَعُونَ (23)﴾
﴿ إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْدًا (15) وَأَكِيدُ كَيْدًا (16)﴾
﴿ وَأُمْلِى لَهُمْ ۚ
﴿ فَأَسْرِ بِعِبَادِى لَيْلًا إِنَّكُم مُّتَّبَعُونَ (23) وَٱتْرُكِ ٱلْبَحْرَ رَهْوًا ۖ إِنَّهُمْ جُندٌ مُّغْرَقُونَ (24)﴾
لما ضرب بعصاه البحر أصبح طريقاً يبساًن فلما كاد أن يخرج منه خاف أن يتبعه فرعون فهمَّ أن يضرب مرة ثانية ليعيد البحر كما كان قال:
مآل الكافر في الدنيا وأثر موته:
﴿ كَمْ تَرَكُواْ مِن جَنَّٰتٍۢ وَعُيُونٍۢ (25) وَزُرُوعٍۢ وَمَقَامٍۢ كَرِيمٍۢ (26) وَنَعْمَةٍۢ كَانُواْ فِيهَا فَٰكِهِينَ (27) كَذَٰلِكَ ۖ وَأَوْرَثْنَٰهَا قَوْمًا ءَاخَرِينَ (28)﴾
الإنسان حين يعصي يقصمه الله قصماً، يترك أموالاً وبساتين وبيوتًا وأراضٍ وزوجات ومُتعاً، فالإنسان كلما نما وكلما كبر يتنامى استمتاعه بالحياة، أما إذا قصمه الله قصماً ترك هذا كله، قال:
﴿ فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ ٱلسَّمَآءُ وَٱلْأَرْضُ وَمَا كَانُواْ مُنظَرِينَ (29)﴾
بالعكس فرحت السماوات والأرض؛ لأن المؤمن مبارك والكافر مؤذٍ، مؤذٍ بكل شيء، فإذا مات العبد الفاجر استراح منه كل شيء
إسراف فرعون في ظلم بني إسرائيل:
﴿ فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ ٱلسَّمَآءُ وَٱلْأَرْضُ وَمَا كَانُواْ مُنظَرِينَ (29) وَلَقَدْ نَجَّيْنَا بَنِىٓ إِسْرَٰٓءِيلَ مِنَ ٱلْعَذَابِ ٱلْمُهِينِ (30)﴾
كان فرعون يعذب بني إسرائيل عذاباً مهيناً.
﴿ مِن فِرْعَوْنَ ۚ إِنَّهُۥ كَانَ عَالِيًا مِّنَ ٱلْمُسْرِفِينَ (31)﴾
مستعلياً وقد أسرف في الظلم، ما ظلم فقط ولكنه أسرف في الظلم، طبعاً بلغه أن طفلاً من بني إسرائيل سوف يقضي على ملكه حيث رأى ذلك في المنام فبدل أن يتوب أمر بذبح كل أولاد بني إسرائيل، وأية قابلة لا تبلّغ رجال فرعون عن مولود ذكر تقتل مكان المولود، فالقابلة تبلّغ فيأتي الرجال لذبح المولود؛ هذا مبالغة في الظلم
إنكار البعث والنشور من قِبل الكفار في كل زمان وزمان:
﴿ وَلَقَدِ ٱخْتَرْنَٰهُمْ عَلَىٰ عِلْمٍ عَلَى ٱلْعَٰلَمِينَ (32) وَءَاتَيْنَٰهُم مِّنَ ٱلْءَايَٰتِ مَا فِيهِ بَلَٰٓؤٌاْ مُّبِينٌ (33) إِنَّ هَٰٓؤُلَآءِ لَيَقُولُونَ (34)﴾
أي قومك يا محمد يقولون:
﴿ إِنْ هِىَ إِلَّا مَوْتَتُنَا ٱلْأُولَىٰ وَمَا نَحْنُ بِمُنشَرِينَ (35)﴾
هذا قول الكفار كلهم، لا يوجد غير الدنيا وموتة واحدة، نحيا ونموت، فالجنة هنا والنار هنا، والذي معه مال في جنة، والمحروم من المال في جهنم، هذه مقولة الناس الجاهلين.
﴿ فَأْتُواْ بِـَٔابَآئِنَآ إِن كُنتُمْ صَٰدِقِينَ (36)﴾
وفي درس قادم-إن شاء الله- نتابع هذه القصة وننتقل إلى قصة أخرى.
الملف مدقق
والحمد لله رب العالمين