وضع داكن
01-07-2024
Logo
الدرس : 4 - سورة الحشر - تفسير الآيات 18-21 أهمية الخطاب
   
 
 
 بسـم اللـه الرحمـن الرحيـم  
 
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله ربّ العالمين، والصّلاة والسّلام على سيدنا محمد الصّادق الوعد الأمين.
اللّهمّ لا علم لنا إلا ما علّمتنا إنّك أنت العليم الحكيم، اللّهمّ علّمنا ما ينفعنا وانفعنا بما علّمتنا، وزِدنا عِلماً وأرنا الحقَ حقاً وارزقنا أتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأدخلنا برحمتك في عبادكَ الصّالحين.
أيّها الإخوة الكرام؛ مع الدرس الرابع من سورة الحشر، ومع الآية الثامنة عشرة.

بِسْمِ ٱللَّهِ ٱلرَّحْمَٰنِ ٱلرَّحِيمِ 

﴿ يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ ٱتَّقُواْ ٱللَّهَ وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍۢ ۖ وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ ۚ إِنَّ ٱللَّهَ خَبِيرٌۢ بِمَا تَعْمَلُونَ (18)﴾

[ سورة الحشر ]


مضمون خطاب الله-عزَّ وجلَّ- للمؤمنين وأهميته:


هذا خطاب الله للذين آمنوا، والمؤمن يُدرك أهميَّة هذا الخِطَاب، خالق السماوات والأرض الذي خلق الإنسان في أحسنِ تقويم، وكرَّمه أعظم تكريم، يُخاطِبه فيقول: يا أيّها المؤمن، افعل كذا، ولا تفعل كذا.. 

1-التقوى:

(يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ ٱتَّقُواْ ٱللَّهَ) اتقوا الله: أي توبوا إليه، وأصلحوا ما مضى، وتقرَّبوا إليه، اتقوا أن تغضِبوه، اتقوا عقابه، اتقوا ناره، اتقوا أن تعصوه، (اتّقى) من وقى والوقاية من الخطر، والعاصي في خطر، الذي لا يفكِّر في منهج الله وتطبيقه في خطر، الذي لا يطبِّق تعليمات الصانع في خطر، الذي لا يعرف لماذا خلقه الله في خطر (يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ ٱتَّقُواْ ٱللَّهَ وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ)

2-التجهيز للانتقال من الدنيا للآخرة:

(ٱتَّقُواْ ٱللَّهَ وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ) الحقيقة أن الإنسان الجاهل يتغنَّى بماضيه والأقل جهلًا يبحث في حاضره، لكن العاقل هو الذي يعيش مستقبله، هو الذي يعيش غده، حياتنا كيف تسير؟ هناك خطٌ إجباري نسير عليه؛ نولد، نترعرع، ندرس، نتعلَّم، نتزوج، ننجِب، نُزَوَج ثم لابدَّ من اللقاء مع الله، لابدَّ من مغادرة الدنيا، لابدَّ من أن نغادر دون أن نعود، ولكن هذه ساعة المغادرة ألّا تستدعي أن نفكّرَ فيها؟!
حينما ينتقلُ الإنسان من كلّ شيء إلى لا شيء، فيما يبدو للعين من بيتٍ فخم إلى حفرةٍ تحت الأرض، من فراشٍ وثير إلى أرضٍ صلبة، من غرفٍ منوَّرة إلى قبرٍ مظلم، من طعامٍ وشراب إلى حسابٍ وعقاب، هذه النقلة من الدنيا إلى الآخرة هذه إن لم نفكّرْ فيها، إن لم ندخلْها في حساباتنا اليومية، إن لم ندخلْها في مواقفنا، في حركاتنا وسكناتنا فنحن في خطرٍ عظيم (يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ ٱتَّقُواْ ٱللَّهَ) اتقوا أن تعصوه، اتقوا أن تغضبوه، اتقوا ناره، (وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ)

ضرورة الاستعداد للإجابة على السؤال الخطير: يا عبدي ما العمل الذي أتيت به إليّ يوم القيامة؟


أحيانا أيّها الإخوة؛ يُستَهْلَك الإنسان من قِبَلِ دنياه، مستهلَكٌ من عملٍ إلى عملٍ، من لقاء إلى لقاءٍ، من موعدٍ إلى موعدٍ، من صفقةٍ إلى صفقةٍ، يأتيه ملَك الموت فجأةً وهو صفر اليدين من العمل الصالح، فلذلك من أفضل أو من أهمِّ ما ينبغي أن تفعلَه أن تقفَ فجأةً في زحمة العمل، وفي زحمة القيل والقال، وفي زحمة المُشكلات، وهموم العمل والمعاش والأسرة، أن تقتطعَ وقتاً ثميناً وتتأمَّل ماذا قدَّمت لغدٍ؟ إذا جئتُ الله -عزَّ وجلَّ- يوم القيامة، وطلب منّي: أن يا عبدي بماذا أتيت؟ ما العمل الذي جئتَ به؟ بعثت بك إلى الدنيا من أجل أن تعرفني، من أجل أن تطيعني، من أجل أن تتقرَّب إليّ، جعلتك خليفةً في الأرض، أعطيتك كلّ شيء، سَخَّرت لك السماوات والأرض، بماذا أتيتني؟ الحقيقة إنّه سؤال خطير، وسؤال مهم جداً، أنت أيّها الأخُ الكريم الجالس في هذا المسجد، هل فكَّرت في العمل الذي ينبغي أن تقدّمَه لله يوم القيامة؟ هل يُعقل أن تمضيَ الحياة الدنيا في المُباحات؟ أكلنا، وشربنا، ولهونا، وسافرنا، وعُدنا، واستقبلنا الضيوف، وودَّعنا، وتنزَّهنا، وربحنا، وأنفقنا، وأقمنا الحفلات، يا عبدي ما العمل الذي تأتي به يوم القيامة؟ هل واليت فيّ وليَّاً؟ هل عاديتَ فيَّ عدوَّاً؟ هل أمرت بالمعروف؟ هل نهيت عن المُنكر؟ هل علَّمت القرآن؟ هل نصحت لله ولرسوله ولكتابه ولأئمة المسلمين وعامَّتهم؟ هل ربّيت أولادك؟ هل دللت زوجتك على الله؟ هل أقمت الإسلام في بيتك؟ هل كسبت المال الحلال؟ هل نفعت المسلمين في عملك وهل نصحتهم؟ هل دعوت إلى الله؟ هل نشرت الحقّ؟ هل نصرت دِين الله؟ ما العمل الذي يمكن أن تنطقَ به يوم القيامة؟ هل وظَّفت اختصاصك في الحقّ؟ هل وظَّفت عملك في خدمة المسلمين؟ هل كنت في خندق الإيمان أم في الخندق المعادي؟ مع من عملت؟ من نصرت؟ لمن سخَّرتَ نفسك؟ لمن وهبتَ عمرك؟ لمن وهبتَ شبابك؟ ما العمل الذي يمكن أن تقدّمه بين يدي الله يوم القيامة؟
إذا أرسل أب ابنه إلى بلدٍ غربي وحوَّل له كلّ شهر ألف دولار (خمسين ألف ليرة)، بعد أربع سنوات ألّا ينبغي أن يسألَ الأبُ ابنه: ماذا فعلت يا بني؟ أين الشهادة؟ أين الوثيقة؟ ماذا حصَّلت؟ هل نلت الدرجة الجامعية؟ وبأيّ تقدير نلتها؟ هل صدَّقتها؟ من أيّ جامعة أخذتها؟ هذا الذي يُرسل إلى بلدٍ أجنبي وتُدفَعُ له النفقات كاملةً ألّا يُسأل عن عمله، ماذا فعلت؟ (يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ ٱتَّقُواْ ٱللَّهَ وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ) ، أنت أب أنجبت الأولاد فهل ربيتهم؟ هل عرَّفتهم بكتاب الله وبسنَّة رسول الله؟ هل أدَّبتهم على حبِّ نبيِّ الله، وعلى حبِّ أصحابه الكرام؟ هل أدبتهم بأدب الإسلام أم تركتهم لأجهزة اللهو يستقون منها كلّ طَيّبٍ وخبيث، وكلّ حقٍّ وباطل، وكلّ خيرٍ وشر؟ هؤلاء الذين أنجبتهم مَن قدوتهم؟ الملاكم الفلاني أم لاعب الكرة الفلاني أم الصحابي الفلاني، من قدوتهم؟ هذه الزوجة التي في بيتك ماذا فعلت من أجلها؟ هل دللتها على الله؟ هل رحمتها؟ هل أخذت بيدها إلى الله؟ (ٱتَّقُواْ ٱللَّهَ وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ) أي عبدي بمَ أتيتني؟ ما العمل الذي يصلح أن تعرضَه علي؟ ما العمل الذي يمكن أن تقدّمه بين يدي ربك؟ يا ربِّ فعلت كذا وكذا، كنت بارَّاً بوالديك؛ هذا عمل جيد، يا ربِّ اخترت زوجةً مؤمنةً لأولادي؛ هذا عمل جيد، ربّيت أولادي على طاعتك وعلى حبّ نبيك، أدبتهم بأدب الإسلام، هذا العمل جيد ومقبول، يا ربِّ كانت لي حرفة فنصحت بها المسلمين وما غششتهم، ما كذبت عليهم، ما ابتززت أموالهم، ما بخستُهم أموالهم بالباطل؛ جيد يا ربِّ كنت طبيباً نصحت المسلمين، ما كبَّرت الوهم على أحد المرضى، ما كلَّفته ما لا يطيق، ما كلَّفته من الأمور ما لا يحتمل، كنت نصوحاً له، هذا سؤال يجب أن تسألَه كلّ يوم، لابدَّ من ساعةٍ تخلو بها مع ربك.

حاجة الإنسان للخلوة للتفكّر واللجوء إلى الله:


أيّها الإخوة الكرام؛ كلنا بحاجةٍ إلى مغارتين أو إلى غارين، كلنا بحاجة إلى غار حِراء ولكن مجزَّأ لكلّ يوم خمس دقائق، أو عشر دقائق، وكلّنا بحاجة إلى غار ثور، نحن بحاجة إلى غار حراء كي نتفكَّر، ونحن بحاجة إلى غار ثور كي نلجأ إلى الله، كي نلوذ بحماه، فيا أيّها الإخوة الأكارم؛ هذه آية ينبغي أن تفعلَ فعلها في نفوس المؤمنين (وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ)، اسأل تاجرًا فإنّه يبيع ويشتري، ويحاسب، ويشحن البضاعة، ويستقدم بضاعة، ويقبض الثمن، هل فكَّرت في أن هذه التجارة ترضي الله أم لا ترضي الله؟ هل أدَّيت زكاة مالك؟ هل نصحت المسلمين في هذه التجارة؟ هل استغللت حاجتهم إلى هذه البضاعة فرفعت السعر؟ ماذا قدَّمت لله -عزَّ وجلَّ-؟
إخواننا الكرام؛ النبي -عليه الصلاة والسلام- علَّمنا أن الإنسان إذا ضاقت به الأمور عليه أن يذكر صالح عمله، فلو كنت في أزمةٍ، أو في ملمَّةٍ، أو في نازلةٍ -لا سمح الله- وأردت أن تدعوَ الله بصالح عملك، ما العمل الصالح الذي تتذكَّره؟ أردت أن تدعوَ الله بصالح عملك، يا ربِّ أنا فعلت هذا في سبيلك، مرَّة حدَّثني أخ -وهو من تجَّار الغنم- كان في البادية ومعه قطيع غنم كبير، وأصابهم عطشٌ شديد كاد يموت هو وغنمه، فناجى ربه، قال: يا ربِّ، إنّك تعلمُ أنني ما عرفت الحرام في حياتي ولا أكلت درهماً حراماً، إن كان هذا العمل عندك مقبولاً فَفَرِّج عنَّا، النبي علَّمنا إذا كنَّا في ضائقة، في مشكلة، في أزمة أن نذكرَ صالح أعمالنا، نحن بلا أزمة وسألت نفسك ما العمل الذي سأُقدِّمه لله يوم القيامة؟ من خلال أسرتك أنت ابن من بنوّتك، أنت أب من أبوَّتك، والأخت مستمعة أم من أمومتها، الزوج من كونه زوجاً، إذا كانت زوجة هل أدَّت حقَّ زوجها؟

(( اعْلَمِي وَأَعْلِمِي مَنْ وَرَاءَكِ مِنَ النِّسَاءِ: أَنَّ حُسْنَ تَبَعُّلِ الْمَرْأَةِ لِزَوْجِهَا وَاتِّبَاعِهَا مُوَافَقَتِهِ وَمَرْضَاتِهِ يَعْدِلُ ذَلِكَ كُلَّهُ. ))

[ أخرجه أبو نعيم في "معرفة الصحابة" عن أسماء بنت يزيد الأنصارية بسند ضعيف ]

لو أنَّ الزوجة سألت نفسها: هل قمت بحقِّ الزوج؟ هل كنت زوجةً طَيّعةً؟ هل كنت زوجةً صالحةً؟ هل جعلته يسكنُ إليّ أم كنت منفِّرةً له؟ كنت عبئاً عليه؟ كنت أبحث عما يغيظُهُ؟ إن كنتِ زوجةً فاسألي نفسك هذا السؤال، وإن كنتَ زوجاً فاسأل نفسك هذا السؤال: هل رحمتها؟ هل أدَّيت حقَّها؟ هل دللتها على الله؟ هل أكرمتها؟ وإن كنتَ ابناً فاسأل نفسك هذا السؤال: هل كنت بارَّاً بوالديك؟ وإن كنت جاراً فهل أديت حقّ الجار؟ إن كنت صاحب معمل فهل قدمت بضاعةً للمسلمين جيدة، بسعر معتدل أم وضعت مواد غير جيدة؛ مواد مسرطنة لأنها رخيصة ولا أحد يعلم؟ هناك دقَّة بالغة، هناك سؤال: ما العمل الذي قدَّمته لله -عزَّ وجلَّ- من خلال الأسرة، من خلال المهنة، من خلال العبادة، هل دعوت إلى الله؟ هل كنت قدوةً؟ هل كنت مُرغّباً في الدين أم مُنفِّراً منه؟ هذا سؤال كبير: أمُرغّب أم مُنفِّر؟ هل كنت واصلاً أم قاطعاً؟ هناك من يقطع الناس عن سبيل الله، هل وصلتهم أم قطعتهم؟ عمل سيء واحد يقطعهم، قال بعضهم: "إنَّ ألف سلوكٍ ذكيٍّ يشدُّ الناس إلى شيءٍ ما، وسلوك أحمق واحد ينفِّرهم منه" ، ألف سلوكٍ ذكيٍّ صادقٍ مخلصٍ يجذبُ الناس إلى مبدأ ما، وسلوكٌ أحمقٌ واحدٌ ينفِّرهم منه (وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ) ، ماذا قدَّمت؟ هناك مدرِّس، مهندس، طبيب، صانع، أصحاب الحرف، يا تُرى هل أتقن الحرفة؟ هل تعلم أن إتقان العمل جزءٌ من الدِّين؟ هل تعلم أن الناس لا يحترمون دينك إذا كنت مهملاً لعملك؟ هل تعلم أنّك تنتزع إعجاب الناس بدينك من خلال إعجابهم باستقامتك والتفوِّق في عملك؟ ماذا قدَّمت؟ هل استعملت المواد المُحَرَّمة دولياً في تنمية النبات من أجل أن تربحَ ولم تعبأْ بصحَّة الناس؟ هؤلاء الذين يستخدمون الهرمونات في تنمية النبات عند العقد؛ هؤلاء لا يبالون بصحَّة الناس، هل استخدمت موادّ مضرَّة من أجل أن تربح؟.
إخواننا الكرام؛ هناك مسؤولية كبيرة، وقد قالوا عن كاتب أدبه سخيف: "تقرأ قصَّته وتتثاءب وتنام، بينما الكاتب الخطير تقرأ قصَّته وتنتهي من قراءتها فتبدأ متاعبك مع نفسك"، هذا كلام خطير، هذا كلام ربِّ العالمين، هذا كلام خالق الأكوان، هذا كلام الذي سيسألنا وسيُحاسبنا. 

﴿ فَوَرَبِّكَ لَنَسْـَٔلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ(92) عَمَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ (93)﴾

[ سورة الحجر  ]

﴿ فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُۥ (7) وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍۢ شَرًّا يَرَهُۥ (8)﴾

[ سورة الزلزلة ]

هذا سؤال كبير، لك بيت، لك زوجة، لك أولاد، لك عمل، لك حرفة، لك لقاءات، وسهرات، ونُزُهات، وعلاقات، وسفر، ماذا فعلت في السفر؟ هل لأعمالك هدفٌ بعيد ترضي الله -عزَّ وجلَّ-به؟ (ٱتَّقُواْ ٱللَّهَ وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ) أي بالأمثلة البسيطة القريبة منا: الطالب في العام الدراسي: مَن هو الذي سيأخذ الدرجة الأولى على مستوى القطر؟ هو الذي لم تغادرْ لحظة الامتحان مخيّلته ولا ثانية، ماذا سأكتب في الامتحان؟ لو جاءتنا مسألة ماذا سأجيب، وكيف سأحلُّها؟ هذا الذي يفكّر في ساعة الامتحان ينال الدرجة الأولى (وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ)

وجوب الاستعداد للموت والآخرة في كل وقت:


هل يستطيع أحد أن يُلغيَ الموت من حياته؟ هل منَّا واحد يستطيع أن يضمنَ حياةً لساعةٍ قادمة؟ كنَّا مرَّةً في احتفال المولد في جامع قريب منَّا، دخلت إلى المسجد، أحد أفراد الجمعية استقبلني، ورَحَّب، وابتسم فدخلت، وبعدما جلست بدقائق رأيت أن هناك حركة غير طبيعية في المسجد، فلم أعرف ما السبب، اضطراب، وعريف الحفلة اضطرب، ولكن الحفل استمر، ثم أُنبئتُ أن هذا الذي استقبلني ورَحَّب بي توفي لفوره بعد دقائق، كان قبل دقيقة واقفًا يرتدي أجمل الثياب؛ فمن منَّا يضمن أن يعيشَ ساعة، قيل: "من عدَّ غداً من أجله فقد أساء صحبة الموت"، وهناك قصص كبيرة ومؤثِّرة جداً، فهذا السؤال إخواننا الكرام يجب أن نطرحَه على أنفسنا، لأن الله أمرنا أن نطرحَه على أنفسنا، أمر إلهي (وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ) ، أحياناً أخ كريم شاب ابن ثمانية عشر عامًا، أو عشرين، أو خمسة وعشرين يقول: أنا ما زلت صغيراً، هل يراعي الموت عمراً؟ أبداً، شباب يموتون في سنٍ مبكر، وهناك جلطات في سن الثلاثين، والخمسة وعشرين، واثنين وثلاثين، الموت لا أحد يعلمُ متى يأتي.
أيّها الإخوة الكرام؛ يجب أن تعدَّ للآخرة عملاً صالحاً، "إن الله لا يقبلُ من العمل إلّا ما كان خالصاً وصوابا"ً هكذا قال الفُضَيْل، خالصاً: ما ابتغي به وجه الله، وصواباً: ما وافق السنَّة ، فإذا اقتطعت من وقتك الثمين، من زحمة المشاغل، من الانهماك في الأعمال واللقاءات، والمواعيد والصفقات، إذا انتزعت من وقتك الثمين وقتاً من نوع غار حِراء، من أنا؟ لماذا خلقني الله -عزَّ وجلَّ-؟ ماذا ينبغي عليَّ أن أفعلَ في الدنيا؟ ماذا بعد الموت؟ اتخذْ قراراً، هذا الذي لا يفكّرُ، ويعيشُ على هامش الحياة إلى أن يأتيَه الموت بغتةً هذا إنسان جاهل (وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍۢ ۖ وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ) بعض علماء التفسير قال: "الأولى: اتقوا الله في التوبة والإصلاح عن ما مضى، والثانية: للمستقبل" ؛ أيّ اعقِدوا العزم على أن لا تعصوا الله أبداً في المستقبل، والأولى اعقدوا توبةً نصوحاً مع الله -عزَّ وجلَّ-، لكن قد تقولُ أيّها الأخ الكريم: أنا فعلت كذا، وفعلت كذا، وقدَّمت كذا، ودفعت كذا، وتكلَّمت كذا، وألقيت كلمة في الوقت الفلاني، لكن هذا العمل من يعرف حقيقته؟ الله وحده (إِنَّ ٱللَّهَ خَبِيرٌۢ بِمَا تَعْمَلُونَ) لأنه:

(( إنَّما الأعمالُ بالنِّيَّاتِ وإنَّما لِكلِّ امرئٍ ما نوى فمن كانت هجرتُهُ إلى اللَّهِ ورسولِهِ فَهجرتُهُ إلى اللَّهِ ورسولِهِ ومن كانت هجرتُهُ إلى دنيا يصيبُها أو امرأةٍ ينْكحُها فَهجرتُهُ إلى ما هاجرَ إليْهِ ))

[ متفق عليه عن عمر بن الخطاب  ]


 احذر ألاّ يكون عملُك خالصًا وصوابًا:


(( إنَّ أوَّلَ النَّاسِ يُقْضَى يَومَ القِيامَةِ عليه رَجُلٌ اسْتُشْهِدَ، فَأُتِيَ به فَعَرَّفَهُ نِعَمَهُ فَعَرَفَها، قالَ: فَما عَمِلْتَ فيها؟ قالَ: قاتَلْتُ فِيكَ حتَّى اسْتُشْهِدْتُ، قالَ: كَذَبْتَ، ولَكِنَّكَ قاتَلْتَ لأَنْ يُقالَ: جَرِيءٌ، فقَدْ قيلَ، ثُمَّ أُمِرَ به فَسُحِبَ علَى وجْهِهِ حتَّى أُلْقِيَ في النَّارِ، ورَجُلٌ تَعَلَّمَ العِلْمَ، وعَلَّمَهُ وقَرَأَ القُرْآنَ، فَأُتِيَ به فَعَرَّفَهُ نِعَمَهُ فَعَرَفَها، قالَ: فَما عَمِلْتَ فيها؟ قالَ: تَعَلَّمْتُ العِلْمَ، وعَلَّمْتُهُ وقَرَأْتُ فِيكَ القُرْآنَ، قالَ: كَذَبْتَ، ولَكِنَّكَ تَعَلَّمْتَ العِلْمَ لِيُقالَ: عالِمٌ، وقَرَأْتَ القُرْآنَ لِيُقالَ: هو قارِئٌ، فقَدْ قيلَ، ثُمَّ أُمِرَ به فَسُحِبَ علَى وجْهِهِ حتَّى أُلْقِيَ في النَّارِ، ورَجُلٌ وسَّعَ اللَّهُ عليه، وأَعْطاهُ مِن أصْنافِ المالِ كُلِّهِ، فَأُتِيَ به فَعَرَّفَهُ نِعَمَهُ فَعَرَفَها، قالَ: فَما عَمِلْتَ فيها؟ قالَ: ما تَرَكْتُ مِن سَبِيلٍ تُحِبُّ أنْ يُنْفَقَ فيها إلَّا أنْفَقْتُ فيها لَكَ، قالَ: كَذَبْتَ، ولَكِنَّكَ فَعَلْتَ لِيُقالَ: هو جَوادٌ، فقَدْ قيلَ، ثُمَّ أُمِرَ به فَسُحِبَ علَى وجْهِهِ، ثُمَّ أُلْقِيَ في النَّارِ. ))

[ أخرجه مسلم عن أبي هريرة ]

 شيءٌ مخيف، إن الله لا يقبلُ من الأعمال إلّا ما كان خالصاً وصواباً؛ خالصاً ما ابتغي به وجه الله، وصواباً ما وافق السنَّة، امتحن دائماً عملك، هل هو وفق السنَّة؟ نعم، وفق السنة جيد،50%... ماذا تبتغي منه أن تنتزعَ إعجاب الناس؟ أن يقولَ الناس عنك: إنسان صالح، إنسان كريم، محسن كبير، رجل فقيه، رجل عالم، أم أّنك تبتغي وجه الله -عزَّ وجلَّ-؟ هنا "إنّ الله لا يقبل من الأعمال إلّا ما كان خالصاً وصواباً" خالصاً ما ابتُغيَ به وجه الله، وصواباً ما وافق السنَّة.
(إِنَّ ٱللَّهَ خَبِيرٌۢ بِمَا تَعْمَلُونَ) حجم العمل، مُؤدَّى العمل، غاية العمل، بواعث العمل، خلفيات العمل، ملابسات العمل، حجم التضحية، كلّه محسوبٌ بدقَّةٍ بالغةٍ عند الله -عزَّ وجلَّ-، حجم عملك، مقدار التضحية، الهدف البعيد، البواعث، الخلفيات، الصراعات هذا كلّه يعلمُه الله -عزَّ وجلّ-، فلذلك اتَّقِ الله أن تماريّ أحداً، اتَّقِ الله أن تعرضَ عملك على الناس كي تنتزع إعجابهم (وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ ۚ إِنَّ ٱللَّهَ خَبِيرٌۢ بِمَا تَعْمَلُونَ) فأنت لما تبيّن للخبير تكون إنسانًا أحمق، أنت أمام خبير مثلاً بالألماس، أو بالذهب، إن قلتَ له: هذا ذهب عيار 24، هذا كلامٌ ليس له معنى إطلاقاً، لأن الخبير يعلمُ كلّ شيء، لذلك أنت أمام الخبير عليك أن تلوذَ بالصمت فقط (إِنَّ ٱللَّهَ خَبِيرٌۢ بِمَا تَعْمَلُونَ) .

نسيان الله-عزَّ وجلَّ- وعواقبه:


أيّها الإخوة الكرام؛ 

﴿ وَلَا تَكُونُواْ كَٱلَّذِينَ نَسُواْ ٱللَّهَ فَأَنسَىٰهُمْ أَنفُسَهُمْ ۚ أُوْلَٰٓئِكَ هُمُ ٱلْفَٰسِقُونَ (19)﴾

[ سورة الحشر ]

وهذه آية من أدق الآيات (نَسُواْ ٱللَّهَ) نسي ربَّه، ليس معنى نسي الله أنه أنكر وجوده، لا، ما أنكر وجوده.

﴿ وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلْأَرْضَ وَسَخَّرَ ٱلشَّمْسَ وَٱلْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ ٱللَّهُ ۖ فَأَنَّىٰ يُؤْفَكُونَ(61)﴾

[ سورة العنكبوت   ]

لكنه لم يُقبِلْ عليه، لم يعبأْ بأمره ونهيه، لم يتوجَّهْ إليه، لم يجعلْه هدفاً لأعماله، سمع الناس يقولون شيئاً فقاله، عاش في مجتمعٍ إسلامي، سمع خُطَب الجمعة، عرف أن لهذا الكون خالقاً هو الله، لكن أمره ونهيه لم يدخلْه في حساباته اليومية، ما أقام بيته على مبدأ الإسلام، ما ربى أولاده تربيةً إسلامية، ما أقام عمله على منهج الله -عزَّ وجلَّ-، نسي الله، نسي أمره، نسي نهيه، نسي منهجه، نسي أنّه هو الهدف، نسي أن الحياة الدنيا مؤقَّتة، نسي الآخرة.
 (وَلَا تَكُونُواْ كَٱلَّذِينَ نَسُواْ ٱللَّهَ فَأَنسَىٰهُمْ أَنفُسَهُمْ) نسيان الله أنساهم أنفسهم، حينما لا تعرف أنّ الله خلق السماوات والأرض، وأنّ الله -سبحانه وتعالى-:

﴿ هُوَ ٱلْأَوَّلُ وَٱلۡأٓخِرُ وَٱلظَّٰهِرُ وَٱلْبَاطِنُ ۖ وَهُوَ بِكُلِّ شَىْءٍ عَلِيمٌ (3)﴾

[ سورة الحديد   ]

وأنَّه:

﴿ وَلِلَّهِ غَيْبُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلْأَرْضِ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ ٱلْأَمْرُ كُلُّهُۥ فَٱعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ وَمَا رَبُّكَ بِغَٰفِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (123)﴾

[ سورة هود ]

بيده كلّ شيء، الله -عزَّ وجلَّ-:

﴿ مَّا يَفْتَحِ ٱللَّهُ لِلنَّاسِ مِن رَّحْمَةٍۢ فَلَا مُمْسِكَ لَهَا ۖ وَمَا يُمْسِكْ فَلَا مُرْسِلَ لَهُۥ مِنۢ بَعْدِهِۦ ۚ وَهُوَ ٱلْعَزِيزُ ٱلْحَكِيمُ (2)﴾

[ سورة فاطر ]

حينما نسيت الله فنسيانك لله أنساك هويَّتك، من أنت؟ أنت المخلوق الأول، لم يعرفْ نفسه، أنت مخيَّر، لم يعرفْ نفسه، أنت مكلَّف، لم يعرفْ نفسه، أنت في دنيا محدودة، الدنيا إعدادية لحياةٍ أبديةٍ عُليا، لم يعرفْ، جعل الدنيا أكبر همِّه، ومبلغ علمه، جعل الدنيا نهاية آماله، ومحطَّ رحاله، حينما نسي الله، ونسي سرَّ الخلق نسي نفسه، نسيانه لله -عزَّ وجلَّ- أنساه نفسه؛ لذلك الكافر نفسه هَينةٌ عليه، لا قيمة لنفسه عنده، إخواننا الكرام؛ هناك أشياء ترفضها لأنّك تحتقرها، إلّا أنّك إذا رفضت الدِّين إنّما تحتقرُ نفسك.

﴿ وَمَن يَرْغَبُ عَن مِّلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلَّا مَن سَفِهَ نَفْسَهُ وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ (130)﴾

[ سورة البقرة ]

أنت حينما ترفض دِين الله -عزَّ وجلَّ- أن تعتنقَه، ترفض منهج الله أن تطبقَه، ترفض هذا الدِّين القويم أن تتمسَّكَ به، ترفض هذا التفسير الدقيق المُطْلَق في صحَّته أن تعتنقَه فأنت تحتقرَ نفسك.
 (وَلَا تَكُونُواْ كَٱلَّذِينَ نَسُواْ ٱللَّهَ فَأَنسَىٰهُمْ أَنفُسَهُمْ ۚ أُوْلَٰٓئِكَ هُمُ ٱلْفَٰسِقُونَ) كأنّها سلسلة، حينما فسق عن أمر ربه حُجِب عن الله -عزَّ وجلَّ- فما عرفه، وحينما لم يعرف الله -عزَّ وجلَّ- لم يعرف من هو، القضية مترابطة، إن عرفت أن لهذا الكون خالقاً، خلقَنا من أجل أن يسعدنا، من أجل أن يرحمنا، خلقنا لجنَّةٍ عرضها السماوات والأرض، جاء بنا إلى الدنيا لتكون إعداداً للجنَّة، أعطانا العقل، أعطانا الكون، أعطانا حرِّية الاختيار، أودع فينا الشهوات، أعطانا قوَّةً فيما يبدو كي نحقق اختيارنا، قلت: فيما يبدو، أعطانا المنهج: الكتاب والسنَّة، جعلنا المخلوق الأول، سُخّرت لنا السماوات والأرض، كلَّفنا بالأمر والنهي، أنت إن لم تعرف هذا فلا تعرف مَن أنت، القضية مترابطة (نَسُواْ ٱللَّهَ فَأَنسَىٰهُمْ أَنفُسَهُمْ) ما عرف نفسه، من أنت؟ يقول لك: نحن نعيش، لماذا أنت تعيش؟ مِن قلَّة الموت، ماذا تفعل؟ إنّنا نزاحم في الدنيا، والله شيء جميل! هذا كلام الناس، لماذا أنت عائش؟ قال: (كالناقة عقلها أهلها، فلا تدري لمَ عُقِلَت؟ ولمَ أُطلِقَت؟) لماذا هناك موت؟ لا يعرف، لماذا هناك مصائب؟ يقول لك: هكذا الله قدّر علينا، ما السبب؟ أين؟ 

﴿ وَمَآ أَصَٰبَكُم مِّن مُّصِيبَةٍۢ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُواْ عَن كَثِيرٍۢ (30)﴾

[ سورة الشورى ]

وأين؟

﴿ مَّا يَفْعَلُ ٱللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِن شَكَرْتُمْ وَءَامَنتُمْ ۚ وَكَانَ ٱللَّهُ شَاكِرًا عَلِيمًا (147)﴾

[ سورة النساء ]

لماذا لا يوجد رزق وفير؟ لأن ثمة جفافًا، الله عنده جفاف؟! الإنسان يقنن تقنين عجز، أما هل الله يقنن تقنين عجز؟! إنّه تقنين تأديب.

﴿ وَأَلَّوِ ٱسْتَقَٰمُواْ عَلَى ٱلطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْنَٰهُم مَّآءً غَدَقًا (16) لِّنَفْتِنَهُمْ فِيهِ ۚ وَمَن يُعْرِضْ عَن ذِكْرِ رَبِّهِۦ يَسْلُكْهُ عَذَابًا صَعَدًا (17)﴾

[ سورة الجن ]

﴿ وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ ٱلْقُرَىٰٓ ءَامَنُواْ وَٱتَّقَوْاْ لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَٰتٍۢ مِّنَ ٱلسَّمَآءِ وَٱلْأَرْضِ وَلَٰكِن كَذَّبُواْ فَأَخَذْنَٰهُم بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ(96)﴾

[ سورة الأعراف  ]

هذا كلام ربنا. 

﴿ فَقُلْتُ ٱسْتَغْفِرُواْ رَبَّكُمْ إِنَّهُۥ كَانَ غَفَّارًا (10) يُرْسِلِ ٱلسَّمَآءَ عَلَيْكُم مِّدْرَارًا(11) وَيُمْدِدْكُم بِأَمْوَٰلٍۢ وَبَنِينَ وَيَجْعَل لَّكُمْ جَنَّٰتٍۢ وَيَجْعَل لَّكُمْ أَنْهَٰرًا (12) مَّا لَكُمْ لَا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا (13)﴾

[ سورة نوح ]

فلذلك الآية الكريمة فيها سلسلة، حينما يفسقُ الإنسان يُحجَب بمعصيته عن الله، إن حُجِبَ عنه ما عرفه، وإن لم يعرفِ الله ما عرف نفسه، إن الإنسان إذا عرف أن هناك جامعة، وهذه جامعة من يتخرَّجُ منها ينال أعلى المرتبات –مثلاً- إذا عرف قيمة هذه الجامعة، وعرف أنّها تعطي مرتبةً عُليا لمن ينجح في امتحاناتها، وأن مستقبلَه يصبحُ زاهراً، وهو طالبٌ فيها، متى عرف قيمته؟ حينما عرف قيمة جامعته، متى عرف قيمته كطالب في هذه الجامعة؟ حينما عرف قيمة جامعته، لو لم يعرفْ قدرها لم يعرفْ قدره؛ هذا مثل للتوضيح، (وَلَا تَكُونُواْ كَٱلَّذِينَ نَسُواْ ٱللَّهَ فَأَنسَىٰهُمْ) فاعل أنساهم: نسيان الله أنفسهم، فنسيان الله أنساهم أنفسهم.
(أُوْلَٰٓئِكَ هُمُ ٱلْفَٰسِقُونَ) فالفسق خطير، ومضاعفاته خطيرة، والإنسان عندما يفسُق ينحجب، وعندما ينحجب يجهل، يجهل فيجهل نفسه، جهل نفسه فجهل حقيقته، جهل هويّته، جهل دوره، جهل تكليفه، جهل أمانته، جهل مصيره، يأتيه الموت فجأةً.

﴿ فَذَرْهُمْ حَتَّىٰ يُلَٰقُواْ يَوْمَهُمُ ٱلَّذِى فِيهِ يُصْعَقُونَ(45)﴾

[ سورة الطور ]

ما قولك عن أحدهم- للتقريب- يبيع أرضه خمسمائة دنم، وبيته في المالكي، ومعمله، وفيلا راقية، وسيارته، ويقبض ثمنها عملة صعبة، ثمّ يكتشف فجأةً أن العملة كلّها مزوَّرة، هذا الخبر كيف وقعه عليه؟ كلّ شيء يملكه باعه بعملة صعبة، ثمّ اكتشف فجأةً أنّها كلّها مزوَّرة؛ هذا الصَعْق، عندما يأتي الإنسان يوم القيامة يجد أن كلّ شيءٍ فعله في الدنيا.

﴿ وَقَدِمْنَآ إِلَىٰ مَا عَمِلُواْ مِنْ عَمَلٍۢ فَجَعَلْنَٰهُ هَبَآءً مَّنثُورًا (23)﴾

[ سورة الفرقان ]

إخواننا الكرام؛ كلّ إنسان يندم فهذا يدلّ على وجود قصور في تفكيره،والعاقل ينبغي ألّا يندمَ؛ لأنّه عرف الحقائق المستقبلية وانسجم معها من الآن، تصوَّر طالبًا عرف خطورة الامتحان، واستعدَّ له أعلى استعداد، فإذا جاء الامتحان والأسئلة واضحة، و يعرفُ الأجوبة الكاملة وهو يكتبُ، فإنّه في الامتحان هو في أسعد لحظات حياته؛ لأن الحقيقة المستقبلية انسجم معها من الحاضر، حتّى إنّهم يقولون في علم النفس: "من أرقى أنواع الذكاء التكيُّف" .

الاستعداد لساعة المغادرة:


أنت إنسان، أنت بضعة أيام، ستة أو خمسة أيام كلّما انقضى يوم بقي أربعة.. انقضى بضعٌ منك، هل يوجد أحد ليس له عمر عندنا في الأرض؟ ضع رقمًا كمثال: ثلاث وسبعون سنة، وخمسة أشهر، وأسبوع، وخمسة أيام، وثماني ساعات، وأربع دقائق، وثلاث ثوان؛ هذا هو عمره، كلّ ساعة بل كلّ ثانية تقرَّبنا إلى الأجل، أنت كائن متحرِّك لهدف ثابت، كلَّما تمضي ثانية في الساعة معنى هذا أنّها ذهبت من عمرك، الإنسان بضعة أيام كلَّما انقضى يومٌ انقضى بضعٌ منه، أما عندما يأتي مَلَك الموت فلا رجعة، إذا كان أحدهم مقيمًا في دولة نفطية، ومعه إقامة، وكتبوا له: مغادرة بلا عودة، يمكن أن يصابَ بجلطةٍ، وكلّنا سوف نغادر ولا نعود، عندما يأتي ملك الموت تكون المغادرة بلا عودة، وإذا مات الإنسان، وشُيِّع، ودفن ، مساءً هل يقول أهله: لماذا لم يأتْ فلان؟ لا، إنّه لن يرجعَ، غرفته انتهت، وملابسه يوزِّعونها، لايوجد عودة، فهذه الساعة الحرجة -ساعة مغادرة الدنيا- ينبغي أن نعرفَ خطورتها، ينبغي أن نستعدَّ لها من الآن، والله أيّها الإخوة؛ الإنسان المؤمن الذي يستعدُّ لهذه الساعة بالتوبة والطاعة والاستقامة والعمل الصالح، والله حينما يأتي ملك الموت ليس في الأرض كلّها إنسانٌ أسعد منه

(( لَمَّا ثَقُلَ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ جَعَلَ يَتَغَشَّاهُ، فَقالَتْ فَاطِمَةُ عَلَيْهَا السَّلَامُ:  وا كَرْبَ أبَاهُ! فَقالَ لَهَا: ليسَ علَى أبِيكِ كَرْبٌ بَعْدَ اليَومِ، فَلَمَّا مَاتَ قالَتْ: يا أبَتَاهُ، أجَابَ رَبًّا دَعَاهُ، يا أبَتَاهْ، مَن جَنَّةُ الفِرْدَوْسِ مَأْوَاهْ، يا أبَتَاهْ، إلى جِبْرِيلَ نَنْعَاهْ، فَلَمَّا دُفِنَ، قالَتْ فَاطِمَةُ عَلَيْهَا السَّلَامُ: يا أنَسُ، أطَابَتْ أنْفُسُكُمْ أنْ تَحْثُوا علَى رَسولِ اللَّهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ التُّرَابَ؟! ))

[  أخرجه البخاري عن أنس بن مالك   ]

(( يقدُمُ عليكم قومٌ رقيقةٌ قلوبُهم فقدِم أبو موسَى الأشعريُّ والأشعريُّون فجعلوا يرتجِزون حين دنَوْا من المدينةِ من الرَّجَزِ: غدًا نلقَى الأحبَّةَ محمَّدًا وصَحبَه ))

[ أخرجه أحمد، وابن وهب، وابن عساكر عن أنس بن مالك  ]

تصوَّر طالباً يدرس في بلد أجنبي، يعملُ في مطعم خادمًا يغسلُ الصحون، ويدرسُ، وهو ساكن في غرفة قميئة إلى أن نالَ الدكتوراة، موعود في بلده بأعلى منصب، وأجمل بيت، وأجمل زوجة، وأجمل مركبة، أخذَ الشهادة وصَدَّقها، ووضعها في حقيبته، وقطع تذكرة السفر وصعد إلى الطائرة، وهو يصعد الطائرة هو في أسعد لحظات حياته، كيف القدوم على الله يا أبا حازم؟ قال: "كالغريب عاد إلى أهله" ، سيدنا رسول الله تفقَّدَ أحد أصحابه اسمه سعد بن الربيع، بحث عنه أصحابه، فإذا هو بين الموت والحياة في ساحة المعركة، قيل له: "يا سعد بن الربيع، إنّ النبي قد أمرنا أن نتفقَّدَ حالك، هل أنت مع الأحياء أم مع الأموات؟ -أيّ هل هناك أمل؟- فقال: بل أنا مع الأموات، ولكن بلِّغوا نبي الله مني السلام، وقولوا له -وهو في الرمق الأخير-: جزاك الله عنَّا خير ما جزى نبيّاً عن أمَّته، وقولوا لأصحابه: لا عُذْرَ لكم إذا خُلِص إلى نبيكم وفيكم عينٌ تطرف" ، ما حالة هذا الإنسان؟! حالة هذا الإنسان في أعلى درجات السعادة لأنه أدَّى ما عليه، اللهمَّ إنّي أديت الأمانة، وبلَّغت الرسالة، ونصحت الأمة، هكذا أنت تقول أمام قبر النبي: "نشهد أنّك بلغت الرسالة، وأدّيت الأمانة، ونصحت الأمة، وكشفت الغُمَّة، وجاهدت في الله حقّ الجهاد، وهديت العباد إلى سبيل الرشاد" .
الواحد منَّا الله خلقه في الدنيا، ثم كبر وصار أبًا، تزوج امرأة صالحة، وأنجب أولاداً، ربَّاهم تربية إسلامية، له عمل ابتغى به خدمة المسلمين، له دعوة إلى الله، له سَمْتُه الحسن، له أعماله الصالحة، له إنفاقه، ثمّ جاء ملَك الموت فقال له: أهلاً بك. 

﴿ سَلَٰمٌ قَوْلًا مِّن رَّبٍّۢ رَّحِيمٍۢ (58)﴾

[ سورة يس ]

الله يسلِّم عليه.

﴿ قِيلَ ٱدْخُلِ ٱلْجَنَّةَ ۖ قَالَ يَٰلَيْتَ قَوْمِى يَعْلَمُونَ(26) بِمَا غَفَرَ لِى رَبِّى وَجَعَلَنِى مِنَ ٱلْمُكْرَمِينَ(27)﴾

[ سورة يس ]


الناس صنفان:


فإنسان يكون على منهج الله، ويعرف حقيقة هذا الدِّين.

﴿ أَفَمَن كَانَ مُؤْمِنًا كَمَن كَانَ فَاسِقًا ۚ لَّا يَسْتَوُۥنَ (18)﴾

[ سورة السجدة ]

أي مَن عنده قطعة من الماس صغيرة، ثمنها ثمانية ملايين ليرة، وآخر عنده قطعة فحم كبيرة، هل هما مثل بعضهما؟ قطعة الماس ثمنها ثمانية ملايين، وقطعة فحم للحم المشوي كبيرة، يقول له: "قطعتي أكبر"، إنّه أحمق (أَفَمَن كَانَ مُؤْمِنًا كَمَن كَانَ فَاسِقًا ۚ لَّا يَسْتَوُۥنَ)

﴿  أَفَنَجْعَلُ ٱلْمُسْلِمِينَ كَٱلْمُجْرِمِينَ(35) مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ (36)﴾

[ سورة القلم ]

﴿ أَفَمَن وَعَدْنَٰهُ وَعْدًا حَسَنًا فَهُوَ لَٰقِيهِ كَمَن مَّتَّعْنَٰهُ مَتَٰعَ ٱلْحَيَوٰةِ ٱلدُّنْيَا ثُمَّ هُوَ يَوْمَ ٱلْقِيَٰمَةِ مِنَ ٱلْمُحْضَرِينَ (61)﴾

[ سورة القصص ]

﴿ أَمْ حَسِبَ ٱلَّذِينَ ٱجْتَرَحُواْ ٱلسَّيِّـَٔاتِ أَن نَّجْعَلَهُمْ كَٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّٰلِحَٰتِ سَوَآءً مَّحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ ۚ سَآءَ مَا يَحْكُمُونَ(21)﴾

[ سورة الجاثية ]

﴿ لَا يَسْتَوِىٓ أَصْحَٰبُ ٱلنَّارِ وَأَصْحَٰبُ ٱلْجَنَّةِ ۚ أَصْحَٰبُ ٱلْجَنَّةِ هُمُ ٱلْفَآئِزُونَ(20)﴾

[ سورة الحشر ]

أين الثرى من الثُريّا؟ لا توجد نسبة، إنسان جاهل جهلًا مطبقًا، وإنسان يحمل أعلى شهادة في العالم لو جلسا جنبًا إلى جنب وتحدَّثا، فلا توجد نسبة، أبو حنيفة النعمان -رضي الله عنه- كان يدرّس، يبدو أن هناك ألمًا في رِجله، وتلاميذه يحبونه -مع أن النبي ما رُئي ماداً رِجليه قط- يبدو أنّه معذور فمدَّ رِجله، دخل إنسان طويل القامة، عظيم الهيئة، يرتدي عمامة وجبَّة، فظنَّه عالماً، واستحيا، فرفع رجله، وجلس، وكان الدرس عن صلاة الفجر، بعد أن أتمَّ الدرس سأله، فقال له: تفضل، قال له: كيف نصلي الفجر إذا طلعت الشمس قبل الفجر؟ فقال له: عندئذٍ يمدُّ أبو حنيفة رِجله.
شتَّان بين العالم والجاهل، هناك عالِم وهناك جاهل، هناك إنسان رحيم، و هناك إنسان قلبه كالصخر، شتان بين الرحمة والقسوة، وبين العدل والجَوْر، بين الإحسان والإساءة، بين الاستقامة والانحراف، بين الصدق والكذب، بين الإخلاص والخيانة، لا يوجد شيء يجمع، الدنيا فيها مراتب، هل بائع متجوّل يشبه أكبر مستورد؟ إنسان يعملُ بأعلى منصب في الجيش، هل هو مثل جندي غر؟ هناك فرق كبير في كلّ شيء، هل الأستاذ في الجامعة كإنسان يحمل شهادة ابتدائية؟ هناك فرق كبير جداً (لَا يَسْتَوِىٓ أَصْحَٰبُ ٱلنَّارِ وَأَصْحَٰبُ ٱلْجَنَّةِ) ، لو قطعتَا لحم؛ قطعة لحم مشوية وهي من أجود الأنواع، وقطعة لحم متفسِّخة من خمسة أيام ورائحتها تصلُ لخمسين مترًا، إنَّ هذه لحم، وهذه لحم، فهل يستويان؟ والله البونُ شاسع بينهما، وأنا أعتقد أنّه لا توجد رائحة على وجه الأرض أكثر إيذاء للإنسان من اللحم المتفسِّخ، وكلّكم سافرتم، فإذا كان هناك حيوان ميت متفسِّخ من مئتي متر تجد أنّك لا تتحمَّلُ الرائحة، فتسدَّ أنفك، وتضاعفُ السرعة لكي تتخلَّص من هذه الرائحة، وهناك لحم مشوي، وكلاهما لحم (لَا يَسْتَوِىٓ أَصْحَٰبُ ٱلنَّارِ وَأَصْحَٰبُ ٱلْجَنَّةِ) ، لا يستويان المؤمن عالم (ما اتخذ الله ولياً جاهلاً ولو اتخذه لعلَّمه) والكافر جاهل، كتلة جهل وقد يكون يحمل أعلى شهادة، ولكنه ما عرف الله فهو جاهل، قد يكون في اختصاصه متفوّقًا، هذا يسمى ذكياً ولا يسمى عاقلاً، حسنًا بالمعاملة؛ هذا مستقيم وهذا منحرف، هذا وفيّ وهذا خائن، هذا حييّ وهذا وقح، هذا عفوّ وهذا منتقم، هذا صبور وهذا لجوج، هذا منصف وهذا ظالم، هذا سامٍ وهذا دنيء، هذا وديع وهذا فيه غلظة، هذا مُؤنس وهذا مُوحش؛ لا يستويان، المؤمن متصل بالله فاشتقّ من كماله، وأيّ مؤمن إن اتصلَ بالله -عزَّ وجلَّ- اشتقَّ من كماله، فتجدُ فيه الوداعة واللطف، والأدب والحياء، والرحمة والشفقة، والعدل والإنصاف، والورع والخوف، والافتقار والتواضع، وابتعد عن الكبر والغطرسة، والعنجهية والسيطرة، والدناءة والأنانية، والأثرة والقسوة والجحود (لَا يَسْتَوِىٓ أَصْحَٰبُ ٱلنَّارِ وَأَصْحَٰبُ ٱلْجَنَّةِ) والله لو عشت مع مؤمنٍ، وعشت مع عاصٍ أو كافر لو لم ينطقْ كلاهما بكلمة ترى البون شاسعاً بينهما، حدَّثني طبيب يعمل في مستشفى، قال لي: زارنا مريض معه ورم خبيث في أمعائه، و هو مؤمن، والعجيب أنّه كلَّما دخلنا عليه استأنسنا به، كلَّما دخل عليه إنسان يقول له: أتشهد أنني راضٍ عن الله؟ اشهد أنني راضٍ على ما ساقه الله لي، يا رب لك الحمد، قال لي: حينما يضغط على كبسة الجرس يتنافس الممرضون لخدمته، ويتنافس الأطبَّاء لخدمته، واضطروا أن يفتحوا أمعاءه، وأن يخرجَ الغائط من طرف أمعائه، قال لي: والله -وهو صادق- إذا دخلنا لغرفته فهي برائحة المسك، وجه منير، تسبيح وذكر وصبر، واعتراف بالفضل، ويا رب، إني راضٍ عن فعلك، فارضَ عني، ويُشهِد كلّ الناس أنّه راضٍ عن الله، ثمّ توفي هذا المريض وانصرف إلى رحمة الله، قال لي: لحكمةٍ أرادها الله ولدرسٍ تأديبيٍّ لنا جاءنا مريض بالمرض نفسه، ورم خبيث في الأمعاء، قال لي: لا يوجد نبي لم يسبَّه، رائحة الغرفة لا تطاق، كلَّما قرع الجرس لا أحد يستجيب له، يتكلَّم كلامًا غير معقول، نفس غليظة، اعتراض على حكم الله، يتكلَّم بالكفر، انظر الشاهد: (لَا يَسْتَوِىٓ أَصْحَٰبُ ٱلنَّارِ وَأَصْحَٰبُ ٱلْجَنَّةِ) المرض نفسه، هذا تلقَّاه بالصبر، والثاني بالضجر، هذا بالشكر، وهذا بالجحود، هذا بالهدوء، وهذا بالضجيج، هذا بالعرفان بالجميل، وهذا بإنكار الفضل (لَا يَسْتَوِىٓ أَصْحَٰبُ ٱلنَّارِ وَأَصْحَٰبُ ٱلْجَنَّةِ ۚ أَصْحَٰبُ ٱلْجَنَّةِ هُمُ ٱلْفَآئِزُونَ) ، قد يفوزُ الكافر في الدنيا.

﴿ لَا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ فِى ٱلْبِلَٰدِ (196) مَتَٰعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْوَىٰهُمْ جَهَنَّمُ ۚ وَبِئْسَ ٱلْمِهَادُ(197) لَٰكِنِ ٱلَّذِينَ ٱتَّقَوْاْ رَبَّهُمْ لَهُمْ جَنَّٰتٌ تَجْرِى مِن تَحْتِهَا ٱلْأَنْهَٰرُ خَٰلِدِينَ فِيهَا نُزُلًا مِّنْ عِندِ ٱللَّهِ ۗ وَمَا عِندَ ٱللَّهِ خَيْرٌ لِّلْأَبْرَارِ(198)﴾

[ سورة آل عمران ]

ينبغي أن تستخدمَ مقاييس كتاب الله، أن تُقيّمَ الناس لا بحجمهم المالي، ولا بقوَّتهم، بل بطاعتهم لله.

﴿ يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَٰلَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ ۗ وَمَن يُطِعِ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُۥ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا (71)﴾

[ سورة الأحزاب   ]

كلام ربّنا (فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا) ، أحياناً يقولُ لك أحدُهم: أخذنا أرضًا الدونم بعشرين ألف ليرة، الآن بستة ملايين لا أبيع هذا الدونم، خير إن شاء الله، يظنُ أنّه فاز فوزاً عظيماً، اشترى بيتًا بثلاثين ألفًا فأصبح ثمنه ثمانية ملايين، يظنُ نفسه فاز فوزاً عظيماً، وكيل شركة حصرية أرباحها طائلة، ومركزه مكين في الشركة، يظنُ أنّه قد فاز فوزاً عظيماً، وصل إلى منصبٍ رفيع، يظنُ أنّه قد فاز فوزاً عظيماً، لكن الله يقول: (وَمَن يُطِعِ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُۥ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا)

﴿ وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِّمَّن دَعَآ إِلَى ٱللَّهِ وَعَمِلَ صَٰلِحًا وَقَالَ إِنَّنِى مِنَ ٱلْمُسْلِمِينَ(33)﴾

[ سورة فصلت ]

(لَا يَسْتَوِىٓ أَصْحَٰبُ ٱلنَّارِ وَأَصْحَٰبُ ٱلْجَنَّةِ ۚ أَصْحَٰبُ ٱلْجَنَّةِ هُمُ ٱلْفَآئِزُونَ) أيّ إذا كان الإنسان في طريق الجنَّة فهذا من أسعد الناس، يوجد في الكون حقيقة: أنّ الله -جلَّ جلاله- هو كلّ شيء، هو الأول والآخر، والظاهر والباطن، أيّ شيء يقرِّبك منه فهو الحق، وأيّ شيءٍ يبعدك عنه فهو الباطل؛ فلذلك: (لَا يَسْتَوِىٓ أَصْحَٰبُ ٱلنَّارِ وَأَصْحَٰبُ ٱلْجَنَّةِ ۚ أَصْحَٰبُ ٱلْجَنَّةِ هُمُ ٱلْفَآئِزُونَ) هم الفائزون بنصِّ القرآن الكريم، وهناك مليون نص آخر غير قرآني يبين أن الغني هو الفائز، القوي هو الفائز، الذكي هو الفائز، المنتمي إلى فئة معيَّنة هو الفائز، لا (أَصْحَٰبُ ٱلْجَنَّةِ هُمُ ٱلْفَآئِزُونَ) ، وأصحاب الجنَّة هم الطائعون، الجنَّة لكلّ الناس، لكن لها ثمن، سلعة الله غالية، وثمنها طاعة الله -عزَّ وجلَّ-(أَصْحَٰبُ ٱلْجَنَّةِ هُمُ ٱلْفَآئِزُونَ) ثم يقولُ الله -عزَّ وجلَّ-:

﴿ لَوْ أَنزَلْنَا هَٰذَا ٱلْقُرْءَانَ عَلَىٰ جَبَلٍۢ لَّرَأَيْتَهُۥ خَٰشِعًا مُّتَصَدِّعًا مِّنْ خَشْيَةِ ٱللَّهِ ۚ وَتِلْكَ ٱلْأَمْثَٰلُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (21)﴾

[ سورة الحشر ]


مكانة القرآن الكريم:


هذه الآية لها تفسيرات عدَّة؛ أحد تفسيراتها: أنّ النبي-صلى الله عليه وسلَّم-أنزل الله عليه القرآن، وكان ثابتاً.

﴿ مَا زَاغَ ٱلْبَصَرُ وَمَا طَغَىٰ(17)﴾

[ سورة النجم ]

إذاً النبي-عليه الصلاة والسلام- كان أشدَّ رسوخاً من الجبال، وحي السماء ينزلُ على إنسان ويتحمَّله!! (لَوْ أَنزَلْنَا هَٰذَا ٱلْقُرْءَانَ عَلَىٰ جَبَلٍۢ لَّرَأَيْتَهُۥ خَٰشِعًا مُّتَصَدِّعًا مِّنْ خَشْيَةِ ٱللَّهِ) القرآن فيه الحقّ، فيه وعد خالق الكون، فيه وعيده، فيه حلالٌ وحرام، فيه أمر ونهي، فيه تاريخ البشرية، فيه مستقبل البشرية، فيه غيب الماضي، فيه غيب الحاضر، فيه غيب المستقبل؛ قرآن إذا أنزِل على جبلٍ وكان لهذا الجبل عقلٌ لاستوعبه، وآمن به، وخشع له، فكيف إذا أُنزِلَ على البشر العقلاء الذين وهبهم الله أعظم نعمةٍ على الإطلاق نعمة العقل، ومع ذلك لا يتأثَّرون، ولا يعبؤون به، ولا يلقون له بالاً، بل اتخذوه وراء ظهورهم، وأهملوه، الآن في حياة المسلمين ادخلْ إلى بيت مسلم تجدُ أنّه لا يطبِّقُ منهج الله، طبعاً القرآن موجود، معلَّق في غرفة، وتوجد لوحات كثيرة قرآنية، آية الكرسي موجودة في كل البيوت تقريباً، لكن العلاقات، اللقاءات، الاجتماعات، السهرات، الندوات، الحفلات، الكسب، الإنفاق، خروج الزوجة، خروج البنات، كلّه غير إسلامي، إذاً: هذا القرآن لا يحكَّمُ في بيوتنا، ولا في أعمالنا، يوجد مكاسب ربوية، وهناك غش، وكذب ودجل، وإخفاء عيوب، وبيعة في بيعتين، يوجد آلاف المخالفات في أعمالنا وفي بيوتنا، إذاً: هذا القرآن لا يُحكّم في حياتنا اليومية.
أيّها الإخوة الكرام؛ هذا القرآن الكريم إذا أنزل على جبلٍ لرأيته (خَٰشِعًا مُّتَصَدِّعًا) أيّ متشقِّقاً (مِّنْ خَشْيَةِ ٱللَّهِ) فكيف إذا أُنزِلَ على إنسان من لحمٍ ودم، له عقل وله نفس، وله قوةٌ إدراكية، وقد كُلِّفَ حمل الأمانة، واختاره الله على علم، وجعله سيد المخلوقات، وسخَّرَ له الأرض والسماوات؟ فهذا مثَلٌ يحثُّنا على أن نتمسَّكَ بهذا الكتاب، هذا منهج الله، هذا تعليمات الصانع، هذا حبل الله المتين، هذا ركنٌ ركين، هذا الملجأ، هذا المنهج، هذا الدستور، هذا الطريق القويم، هذا الصراط المستقيم، هذا كما يقولُ بعض الناس: المنهج الذي إن تمسَّكنا به وصلنا إلى سعادتنا في الدنيا والآخرة ، فعلينا أن نقرأَه، علينا أن نفهمَه، علينا أن نتدبَّرَه، علينا أن نطبِّقَه.
 (لَوْ أَنزَلْنَا هَٰذَا ٱلْقُرْءَانَ عَلَىٰ جَبَلٍۢ لَّرَأَيْتَهُۥ خَٰشِعًا مُّتَصَدِّعًا مِّنْ خَشْيَةِ ٱللَّهِ ۚ وَتِلْكَ ٱلْأَمْثَٰلُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ) فإذا كان الإنسان مستقيمًا، وكان الخط مع الله سالكًا، وقريبًا من الله يلقي الله في قلبه من المعاني الدقيقة، ومن السرور في قراءة هذا الكتاب ما لا يوصف، أما حينما يبتعد عن الله بالمعاصي.

﴿ وَنُنَزِّلُ مِنَ ٱلْقُرْءَانِ مَا هُوَ شِفَآءٌ وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ وَلَا يَزِيدُ ٱلظَّٰلِمِينَ إِلَّا خَسَارًا (82)﴾

[ سورة الإسراء ]

(وَنُنَزِّلُ مِنَ ٱلْقُرْءَانِ مَا هُوَ شِفَآءٌ وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ وَلَا يَزِيدُ ٱلظَّٰلِمِينَ إِلَّا خَسَارًا) معنى هذا أنّك إذا آمنت، واستقمت فإن هذا القرآن شفاءٌ لك، شفاءٌ لعقلك، شفاءٌ لنفسك، شفاءٌ لجسدك، شفاءٌ لمجتمعك، شفاءٌ في دنياك، سعادةٌ في آخرتك هذا الكتاب؛ لذلك الإنسان ينبغي ألّا يهجره، أن يعيشَه ليلاً ونهاراً، صبحاً ومساءً، في الدرس القادم -إن شاء الله- نتحدَّثُ عن آيات الله الكريمة:

﴿ هُوَ ٱللَّهُ ٱلَّذِى لَآ إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ ۖ عَٰلِمُ ٱلْغَيْبِ وَٱلشَّهَٰدَةِ ۖ هُوَ ٱلرَّحْمَٰنُ ٱلرَّحِيمُ(22)﴾

[ سورة الحشر ]


الملف مدقق

والحمد لله ربّ العالمين.

الاستماع للدرس

00:00/00:00

تحميل النص

إخفاء الصور