بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله ربّ العالمين، والصّلاة والسّلام على سيدنا محمد الصّادق الوعد الأمين.
اللّهمّ لا علم لنا إلا ما علّمتنا إنك أنت العليم الحكيم، اللّهمّ علّمنا ما ينفعنا وانفعنا بما علّمتنا، وزِدنا عِلماً وأرنا الحقَ حقاً وارزقنا أتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأدخلنا برحمتك في عبادكَ الصّالحين.
أيّها الإخوة المؤمنون؛ مع الدرس الثاني من سورة الحشر، ومع الآية السادسة وهي قوله تعالى:
﴿ وَمَآ أَفَآءَ ٱللَّهُ عَلَىٰ رَسُولِهِۦ مِنْهُمْ فَمَآ أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍۢ وَلَا رِكَابٍۢ وَلَٰكِنَّ ٱللَّهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُۥ عَلَىٰ مَن يَشَآءُ ۚ وَٱللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَىْءٍۢ قَدِيرٌ (6)﴾
الفرق بين الغنيمة والفيء:
أيّها الإخوة؛ هناك الغنيمة وهناك الفيء، فالغنيمة ما تؤخذ من العدو عقب حربٍ سجالٍ بين المسلمين وأعدائهم، هذه الغنيمة شَرَّع الله طريقة توزيعها، فأربعة أخماسها للمقاتلين، وخُمُسُها مُقَسَّمٌ خمسة أخماس، لله وللرسول الخمس، ولذي القربى قرابة النبي -عليه الصلاة والسلام- الخمُس، وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ ثلاثة أخماس؛ هذه هي الغنائم، بينما الفيء هو الذي يؤخذ من العدو من دون قتال، هذا الفيء كلّه لله ولرسوله ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل، يقول الله -عزَّ وجلَّ-: (وَمَآ أَفَآءَ ٱللَّهُ عَلَىٰ رَسُولِهِۦ مِنْهُمْ) أي أن هذا الفيء ما كان بسبب قتالٍ مرير بينكم وبين أعدائكم، فبنوا النضير كانوا على مقربةٍ من المدينة، فأصحاب النبي-عليهم رضوان الله- ساروا إليهم مشياً على الأقدام، وقد ألقى الله في قلبهم الرعب فتركوا ديارهم وأموالهم، وكان هذا المال فيئاً للنبي-عليه الصلاة والسلام- وبيَّن الله -جلَّ جلاله- كيف يُوَّزَع هذا الفيء.
(وَمَآ أَفَآءَ ٱللَّهُ عَلَىٰ رَسُولِهِۦ مِنْهُمْ فَمَآ أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ) معنى: (مَا أَوْجَفْتُمٍ) : ما أسرعتم، ما ركبتم المَطايا إليهم ولا تَجَشَّمتم المشاقَّ إلى قتالهم، ولا لقيتم من قتالهم عَنتاً ولا مشقَّةً، إنّما ذهبتم إليهم مشياً على الأقدام، حتّى ولا استخدمتم البعير في الوصول إليهم (فَمَآ أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍۢ وَلَا رِكَابٍ وَلَٰكِنَّ ٱللَّهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُۥ عَلَىٰ مَن يَشَآءُ) هنا وقفةٌ متأنِّية؛ الله -سبحانه وتعالى- هو الفَعَّال، لكن قد يفعل فعله عن طريق إنسان، وقد يفعل فعله مباشرةً.
أفعال الله -سبحانه وتعالى- قد يجريَها عن طريق الخلق أو يجريها مباشرةً:
الله -سبحانه وتعالى- قادرٌ دائماً وأبداً أن يَمْحَقَ الكافرين بنفسه، ولكن أراد أن يمتحننا.
﴿ تِلْكَ ٱلرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَىٰ بَعْضٍۢ ۘ مِّنْهُم مَّن كَلَّمَ ٱللَّهُ ۖ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَٰتٍۢ ۚ وَءَاتَيْنَا عِيسَى ٱبْنَ مَرْيَمَ ٱلْبَيِّنَٰتِ وَأَيَّدْنَٰهُ بِرُوحِ ٱلْقُدُسِ ۗ وَلَوْ شَآءَ ٱللَّهُ مَا ٱقْتَتَلَ ٱلَّذِينَ مِنۢ بَعْدِهِم مِّنۢ بَعْدِ مَا جَآءَتْهُمُ ٱلْبَيِّنَٰتُ وَلَٰكِنِ ٱخْتَلَفُواْ فَمِنْهُم مَّنْ ءَامَنَ وَمِنْهُم مَّن كَفَرَ ۚ وَلَوْ شَآءَ ٱللَّهُ مَا ٱقْتَتَلُواْ وَلَٰكِنَّ ٱللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ(253)﴾
﴿ فَإِذَا لَقِيتُمُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ فَضَرْبَ ٱلرِّقَابِ حَتَّىٰٓ إِذَآ أَثْخَنتُمُوهُمْ فَشُدُّواْ ٱلْوَثَاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَآءً حَتَّىٰ تَضَعَ ٱلْحَرْبُ أَوْزَارَهَا ذَٰلِكَ وَلَوْ يَشَآءُ ٱللَّهُ لَٱنتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَٰكِن لِّيَبْلُوَاْ بَعْضَكُم بِبَعْضٍ وَٱلَّذِينَ قُتِلُواْ فِى سَبِيلِ ٱللَّهِ فَلَن يُضِلَّ أَعْمَٰلَهُمْ (4)﴾
فالله -عزَّ وجلَّ- حينما يكلِّفنا أن ننشرَ هذا الدِّين، حينما يكلفنا أن ننشرَ الحقّ من أجل أن نرقى عنده -سبحانه وتعالى-، هو غنيٌّ عنَّا، والحديث القدسي الصحيح:
(( عَنِ النَّبيِّ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ فِيما رَوَى عَنِ اللهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى، أنَّهُ قالَ: يا عِبَادِي، إنِّي حَرَّمْتُ الظُّلْمَ علَى نَفْسِي، وَجَعَلْتُهُ بيْنَكُمْ مُحَرَّمًا، فلا تَظَالَمُوا، يا عِبَادِي، كُلُّكُمْ ضَالٌّ إلَّا مَن هَدَيْتُهُ، فَاسْتَهْدُونِي أَهْدِكُمْ، يا عِبَادِي، كُلُّكُمْ جَائِعٌ إلَّا مَن أَطْعَمْتُهُ، فَاسْتَطْعِمُونِي أُطْعِمْكُمْ، يا عِبَادِي، كُلُّكُمْ عَارٍ إلَّا مَن كَسَوْتُهُ، فَاسْتَكْسُونِي أَكْسُكُمْ، يا عِبَادِي، إنَّكُمْ تُخْطِئُونَ باللَّيْلِ وَالنَّهَارِ، وَأَنَا أَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا، فَاسْتَغْفِرُونِي أَغْفِرْ لَكُمْ، يا عِبَادِي، إنَّكُمْ لَنْ تَبْلُغُوا ضَرِّي فَتَضُرُّونِي، وَلَنْ تَبْلُغُوا نَفْعِي فَتَنْفَعُونِي، يا عِبَادِي، لو أنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ وإنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ، كَانُوا علَى أَتْقَى قَلْبِ رَجُلٍ وَاحِدٍ مِنكُمْ؛ ما زَادَ ذلكَ في مُلْكِي شيئًا، يا عِبَادِي، لوْ أنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ وإنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ، كَانُوا علَى أَفْجَرِ قَلْبِ رَجُلٍ وَاحِدٍ؛ ما نَقَصَ ذلكَ مِن مُلْكِي شيئًا، يا عِبَادِي، لو أنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ وإنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ، قَامُوا في صَعِيدٍ وَاحِدٍ فَسَأَلُونِي، فأعْطَيْتُ كُلَّ إنْسَانٍ مَسْأَلَتَهُ؛ ما نَقَصَ ذلكَ ممَّا عِندِي إلَّا كما يَنْقُصُ المِخْيَطُ إذَا أُدْخِلَ البَحْرَ، يا عِبَادِي، إنَّما هي أَعْمَالُكُمْ أُحْصِيهَا لَكُمْ، ثُمَّ أُوَفِّيكُمْ إيَّاهَا، فمَن وَجَدَ خَيْرًا فَلْيَحْمَدِ اللَّهَ، وَمَن وَجَدَ غيرَ ذلكَ فلا يَلُومَنَّ إلَّا نَفْسَهُ. ))
[ أخرجه مسلم عن أَبِي ذَرٍّ الغفاري ]
لو أردنا أن نطبقَ هذه القاعدة على حياتنا اليومية، لمّا دُعي الكفَّار على الإنفاق على الفقراء ماذا قالوا؟
﴿ وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ أَنفِقُواْ مِمَّا رَزَقَكُمُ ٱللَّهُ قَالَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ لِلَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ أَنُطْعِمُ مَن لَّوْ يَشَآءُ ٱللَّهُ أَطْعَمَهُۥٓ إِنْ أَنتُمْ إِلَّا فِى ضَلَٰلٍۢ مُّبِينٍۢ (47)﴾
الله -عزَّ وجلَّ- قادر أن يطعمَ الفقير وأن ينصرَ المظلوم، ولكن الإنسان جعله الله خليفته في الأرض ليرقى عنده بالعمل الصالح، فأفعال الله -عزَّ وجلَّ- يمكن أن يجريَها عن طريق الخلق ويمكن أن يجريها مباشرةً؛ فلذلك هنا: (وَمَآ أَفَآءَ ٱللَّهُ عَلَىٰ رَسُولِهِۦ مِنْهُمْ فَمَآ أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍۢ وَلَا رِكَابٍ وَلَٰكِنَّ ٱللَّهَ) مع بني النضير اقتصَ منهم مباشرةً ألقى في قلبهم الخوف، المسلمون في معركة بدر قاتلوا المشركين وكان القتال مريراً وانتهى بانتصار المسلمين، إنَّ الله هو الذي نصرهم وهو الذي قوَّاهم على عدوِّهم، ولكن هذه المعركة انتهت بنصرٍ مؤزَّرٍ من خلال حربٍ حقيقيةٍ والتحامٍ مريرٍ، لكن الله -سبحانه وتعالى- في معركة الخندق المسلمون لم يقاتلوا، هبَّت رياحٌ عاتية خرَّبتْ خيامهم وأطفأتْ نيرانَهم وقلبت قدورَهم، وألقى الله بينهم وبين حلفائهم العداوة والبغضاء، قال تعالى:
﴿ وَرَدَّ ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُواْ خَيْرًا ۚ وَكَفَى ٱللَّهُ ٱلْمُؤْمِنِينَ ٱلْقِتَالَ ۚ وَكَانَ ٱللَّهُ قَوِيًّا عَزِيزًا (25)﴾
الله -عزَّ وجلّ- يمكن أن ينتصرَ من أعدائه عن طريق المؤمنين، ويمكن أن ينتصرَ منهم مباشرةً (وَلَوْ يَشَآءُ ٱللَّهُ لَٱنتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَٰكِن لِّيَبْلُوَاْ بَعْضَكُم بِبَعْضٍ) أي حينما يكلِّفُنا ربنا إطعام الفقراء ومعالجة المرضى والعطف على المساكين، حينما يكلفنا ربنا أن ننشرَ هذا الدِّين إنّما ليرقى بنا، إنما ليكسبنا عملاً صالحاً نسعد به إلى أبد الآبدين، فهذه الأعمال الصالحة التي يقوم بها المؤمنون هي في الحقيقة من فعل الله -عزَّ وجل-، فإذا أراد ربك إظهار فضلك عليك خلق الفضل ونسبه إليك.
كلنا ضعفاء أيها الإخوة، كلنا فقراء، كلنا لا نعلم لكن من طلبَ من الله العلم علَّمه الله، ومن طلبَ المال من الله لينفقه على الفقراء والمساكين أغناه الله، ومن طلبَ القوة ليقوِّي بها الحقّ قوَّاه الله، فنحن ضعاف وفقراء ولا نعلم، أما إذا طلبنا من الله العلم علَّمنا، إذا طلبنا القوة قوَّانا، إذا طلبنا الغنى أغنانا من أجل أن نعملَ صالحاً نرقى به عند ربنا (وَلَٰكِنَّ ٱللَّهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُۥ عَلَىٰ مَن يَشَآءُ)
﴿ وَمَا جَعَلْنَآ أَصْحَٰبَ ٱلنَّارِ إِلَّا مَلَٰٓئِكَةً ۙ وَمَا جَعَلْنَا عِدَّتَهُمْ إِلَّا فِتْنَةً لِّلَّذِينَ كَفَرُواْ لِيَسْتَيْقِنَ ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلْكِتَٰبَ وَيَزْدَادَ ٱلَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ إِيمَٰنًا ۙ وَلَا يَرْتَابَ ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلْكِتَٰبَ وَٱلْمُؤْمِنُونَ ۙ وَلِيَقُولَ ٱلَّذِينَ فِى قُلُوبِهِم مَّرَضٌ وَٱلْكَٰفِرُونَ مَاذَآ أَرَادَ ٱللَّهُ بِهَٰذَا مَثَلًا ۚ كَذَٰلِكَ يُضِلُّ ٱللَّهُ مَن يَشَآءُ وَيَهْدِى مَن يَشَآءُ ۚ وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ ۚ وَمَا هِىَ إِلَّا ذِكْرَىٰ لِلْبَشَرِ (31)﴾
من جنود الله الرعب والخوف:
أحياناً فيروسٌ لا يُرى بالعين من أضعف خلق الله قاطبةً، هذا فيروس الإيدز أضعف فيروسٍ عرفه العلماء حتّى الآن، إنْ خرج في الهواء ثوانٍ ويموت، هذا الفيروس الضعيف دولٌ عُظمى، وهيئات علميةٌ في أعلى درجات العلم، وأموالٌ فلكية ألوف المليارات أُنفقَتْ من أجل أن نبحثَ عن مصلٍ مضادٍّ لهذا الفيروس، لم يصلِ العلم الآن إلى هذا المَصْل، والعالم كلّه مكتوف اليدين ينظرُ إلى خمسةٍ وثلاثين مليون مصاب بالإيدز، وفي كلّ عشر ثوانٍ يموت إنسانٌ بالإيدز في بعض البلاد الغربية فقط، هذا من جنود الله، الطاعون من جنود الله، وإلقاء الخوف في قلوب الكفَّار من جنود الله، الخوف أحد الجنود، وربنا -عزَّ وجلَّ- لا يعلمُ جنوده إلا هو، أن يُلقي الله في قلب أعدائه الخوف هذا من جنود الله -عزَّ وجلَّ-، أن يبتليَهم بالأوجاع التي لم تكنْ في أسلافهم من جند الله -عزَّ وجلَّ-.
الآن جنون البقر لم يعرفِ العلماء حتّى الآن مسببات هذا المرض، لكنهم يرجِّحون أن مسببات هذا المرض أقلّ من الفيروس(كائن حي) لكن لم يهتدوا إلى طبيعته، هذا الكائن الحيّ المسبب العامل المُمرِض سبَّب كارثة لبلدٍ تعيش على بيع لحوم البقر، من أقصاها إلى أقصاها كلُّها مراعٍ وتُربَّى فيها البقر، وهم الآن يواجهون أزمةً اقتصاديةً لا حدود لها؛ لأن الله -سبحانه وتعالى- سلَّطَ على أبقارهم مسبباً لهذا المرض أقلَّ من الفيروس، هذا من جنود الله -عزَّ وجلَّ- لأنهم خالفوا منهج الله وأطعموا هذا البقر طحين لحم الجِيَف وطحين الدم المجفَّف، والله -سبحانه وتعالى-:
﴿ حَرَّمَ عَلَيْكُمُ ٱلْمَيْتَةَ وَٱلدَّمَ وَلَحْمَ ٱلْخِنزِيرِ وَمَآ أُهِلَّ لِغَيْرِ ٱللَّهِ بِهِۦ ۖ فَمَنِ ٱضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍۢ وَلَا عَادٍۢ فَإِنَّ ٱللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ (115)﴾
الآيات بين أيدينا، الآيات الدالة على صحَّة هذا المنهج وعلى أحقِّيته، وعلى أنَّ هذا الدِّين دِين الله، وعلى أنَّ هذا الدِّين شرع الله، وعلى أنّ هذا الدِّين هو الحقّ،
﴿ لَّا يَأْتِيهِ ٱلْبَٰطِلُ مِنۢ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِۦ ۖ تَنزِيلٌ مِّنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍۢ (42)﴾
الأدلَّة والآيات أكثر من أن تُحصَى، أيّها الإخوة؛ (وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ) إن الإنسان محاط بمليارات الجنود لله -عزَّ وجلَّ-، فإن لم يستقمْ على أمر الله يأتِه الجنود من حيث لا يشعرُ، تارةً من صحَّته وتارةً جرثوم وتارةً فيروس، وتارةً مُسبِّب للمرض، وتارةً في ماله، أحياناً تُسَلَّط ذبابة على محصولٍ قيمته مئات الألوف، هذا المحصول يفنى يُصاب بمرض، حتى الآن الذبابة البيضاء لا أحد يعرف كيف الخلاص منها، ذبابة تُسَلَّط على الخضراوات في الصيف هذا مرض، هناك أمراض تصيب النباتات، هناك أمراض تصيب الحيوانات، هناك أمراض تصيب الإنسان، هناك خوف يُلْقَى في قلب الإنسان؛ هذا كلّه من جنود الله (وَلَٰكِنَّ ٱللَّهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُۥ عَلَىٰ مَن يَشَآءُ) ، فلذلك لا ينجينا من الله إلا أن نطيعه، لا ملجأ منه إلا إليه ولا مَفَرَّ منه إلا إليه، لذلك الله -عزَّ وجلّ- قال:
﴿ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُم بِذِكْرِ ٱللَّهِ ۗ أَلَا بِذِكْرِ ٱللَّهِ تَطْمَئِنُّ ٱلْقُلُوبُ (28)﴾
هو الذي خلق قلوبنا، هذا القلب البشري لا يطمئنُ إلّا بذكر الله، ولا يسعدُ إلّا بذكر الله.
﴿ قَالَ ٱهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعًۢا ۖ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ ۖ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّى هُدًى فَمَنِ ٱتَّبَعَ هُدَاىَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَىٰ (123)﴾
لا يضلُ عقله ولا تشقى نفسه، ويوجد في الآية لفتة لطيفة وهي: أنّ الله -سبحانه وتعالى- قدَّم الذكر على الاطمئنان فقال: (أَلَا بِذِكْرِ ٱللَّهِ تَطْمَئِنُّ ٱلْقُلُوبُ) ولو أنّه قال: تطمئنُ القلوب بذكر الله، لكان المعنى أنّها تطمئنُ بذكره وبغير ذكره، إذا قلت: نعبدُ إياك يا رب، نعبدُك وقد نعبدُ غيرك، أما إذا قال الله -عزَّ وجلّ-:
﴿ إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ (5)﴾
قَدَّم المفعول على الفعل، هذا تقديم الحصر والقصر، أي هذه الآية الواضحة الجليَّة ُتبيّن أنّه لا يمكن لمخلوقٍ أن يسعدَ إلّا بذكر الله، بذكر عظمته، وذكر أمره وذكر رحمته، وذكر فضله والاستقامة على أمره.
(وَلَٰكِنَّ ٱللَّهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُۥ عَلَىٰ مَن يَشَآءُ ۚ وَٱللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَىْءٍۢ قَدِيرٌ) هو قدير أن ينصرَك على عدوِّك، وقدير أن يكفَّ يد عدوّك عنك، لكن ابحث عن الذي يرفعك عند الله، ابحث عن الذي يرقيك عند الله -عزَّ وجلّ-، أحياناً الحدث يقعُ على يد إنسان، وأحياناً يقع من قِبَل الله مباشرةَ، وهذا ما يسمِّيه الناس القضاء والقدر، فمثلاً: طفل وقع من الشرفة فمات هذا من قضاء الله وقدره، وأحياناً إنسان عن حيطةٍ وعن حذرٍ يدهس صبيّاً، مرة مات الصغير بالقضاء والقدر المباشر ومرَّةً بالمقضي عن طريق إنسان، فكلّه فعل الله -عزَّ وجل- ولكن أحياناً يحققُ الله أفعاله مباشرةً، وقد يحققها من خلال بعض الكائنات، (وَٱللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَىْءٍۢ قَدِيرٌ) أي الإنسان في قبضة الله.
هناك مثل ضربْتُه قبل يومين: إن اللعب بالسيارات الكهربائية، لو أن عشر سيّارات اتجهت نحو سيارةٍ كي تجعلها في زاوية، والذي يملك قطع التيار عن هذه الساحة لو فعل هذه الحركة لعطَّل كلّ الحركة، الأمر كلَّه بيد الله -عزَّ وجلَّ- إنّها قضية تقوية، الله يقوي إنسانًا ويضعِّف إنسانًا، فإذا كنت مع الله قوَّاك الله وإذا ابتعدت عنه ضَعُفْتَ، فإذا كان الإنسان مع الله لا يخشى أحداً، وإن لم يكنْ مع الله خاف من كلّ شيء.
أسباب إجلاء بني النضير ومعاقبتهم:
﴿ مَّآ أَفَآءَ ٱللَّهُ عَلَىٰ رَسُولِهِۦ مِنْ أَهْلِ ٱلْقُرَىٰ فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِى ٱلْقُرْبَىٰ وَٱلْيَتَٰمَىٰ وَٱلْمَسَٰكِينِ وَٱبْنِ ٱلسَّبِيلِ كَىْ لَا يَكُونَ دُولَةًۢ بَيْنَ ٱلْأَغْنِيَآءِ مِنكُمْ ۚ وَمَآ ءَاتَىٰكُمُ ٱلرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَىٰكُمْ عَنْهُ فَٱنتَهُواْ ۚ وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ ۖ إِنَّ ٱللَّهَ شَدِيدُ ٱلْعِقَابِ (7)﴾
الحقيقة هذه قصَّة جرت للنبي مع بني النضير، كيف أجلاهم؟ وكيف خانوا العهد؟ ثمّ كيف تآمروا على قتله؟ ثمّ كيف أجلاهم وأخذ منهم أموالهم على أنّها فيءٌ أنعم الله به على المؤمنين؟ ولكن من خلال هذه القصَّة وردَتْ قاعدتان، إن هاتين القاعدتين هما أصلان من أصول حياة المسلمين.
قاعدتان مهمتان من قصة بني النضير:
القاعدة التشريعية الأولى: المال قوام الحياة
(كَىْ لَا يَكُونَ دُولَةًۢ بَيْنَ ٱلْأَغْنِيَآءِ مِنكُمْ) نقفُ عند هذه القاعدة قليلاً، هذا المال أيّها الإخوة قِوام الحياة، جعله الله قِوام الحياة، هذا المال وضعه الطبيعي، وضعه السليم، وضعه الصحّي هو في خدمة الإنسان إذا كان متداولاً بين جميع الناس، أي إذا كان بين أيدي مجتمعٍ ما كتلة نقدية هذه الكتلة النقدية ينبغي أن تكونَ متداولةً بين كلّ الناس، كلّ الناس يعيشون ويأكلون ويشربون ويسكنون ويتطبَّبون، ويتنزَّهون ويلبسون..إلخ، أما إذا تجمَّع المال في أيدٍ قليلة وحُرِمَتْ منه الكثرة الكثيرة اختل توازن المجتمع، لذلك تُعَدُّ هذه الآية على أنّها جاءت عرضاً في سورة الحشر وفي قصَّة بني النضير، إلّا أنَّ هذه الآية لا يقلِّل من قيمتها ولا من شموليَّتها أنّها وردَتْ في هذه القصَّة، لأن القواعد القرآنية تتجاوزُ مناسباتها، العبرة لا بخصوص السبب بل بعموم الحكم، فمثلاً: حينما تلدُ الأعمال المال، المال يتولَّد من أين؟ إما أنْ يتولَّدَ المال من المال، أو أنْ يتولَّدَ المال من الأعمال، فالوضع الصحيح والصحّي والسليم والذي يعيدُ المال إلى كلّ الناس أنْ يتولَّدَ المالُ من الأعمال، فأنت حينما تزرعُ أرضاً أنت بحاجة إلى مهندس زراعي، بحاجة إلى دواء لآفَّة معينة، بحاجة إلى عُمَّال لجنيِ المحصول، بحاجة إلى علب أو عبوات لتعبئة المحصول، بحاجة إلى وسائل لنقل المحصول، بحاجة إلى تاجرٍ يبيع لك هذا المحصول، أنت لا تشعر حينما تزرع أرضاً إلّا ومئات الأشخاص قد شاركوك في هذا الربح، فالعمل حينما يكونُ هو الأصل وريعُ هذا العمل يوزَّعُ بين أيدي مئاتٍ بل ألوف، بهذه الطريقة فإن المال يتوزَّعُ بين الجميع ويكون متداولاً بين الجميع، ولو أنّك زرعَتْ حقلاً فأنت بحاجة إلى آلاف الأشخاص من عُمَّال، من صاحبِ ناقلات، من مهندسين..إلخ، أنت إذا أسَّست عملاً تجارياً ريع هذا العمل التجاري يوزَّع بين ألوفٍ مؤلَّفة وأنت لا تشعر، إن كنت بحاجة إلى دفتر فواتير أنت بحاجة إلى مطبعة، والمطبعة تحتاج إلى آلات وإلى حبر وإلى موظَّفين، وإلى عناصر كثيرة جداً من أجل أن تؤمِّنَ لك دفترَ الفواتير.
دققوا أيّها الإخوة؛ الأعمال إذا ولدت المال كان المال متداولاً بين الجميع؛ لذلك الإسلام لا يسمح للمال أن ينموَ إلّا من خلال الأعمال، أما إذا سمحنا للمال أن يلدَ المال تجمَّعَ المال في أيدٍ قليلة، وحُرِمت منه الكثرة الكثيرة فاختلَّ توازن المجتمع، وصار الواحد يملك مليونًا ومليونٌ لا يملكون واحداً، ومن اختلال هذا التوازن نشأت الاضطرابات، نشأت أعمال العنف، اتسعت السرقات، الاغتصاب، الاحتيال، وكلّ أمراض المجتمع تنجم من اختلال توازن توزيع المال بين فئات المجتمع لذلك هذه قاعدة أساسية.
أيها الإخوة الكرام؛ حياتنا الاقتصادية تشبه مخروطاً، هذا المخروط له ارتفاع وله حلقات متناقصة في المساحة، فكلَّما ارتفع السعر ضاقت الشريحة التي تستفيد من هذه السلعة، لتكن فاكهةً لتكن لحماً، لتكن أيّ شيء، إذا ارتفع السعر ضاقت الشريحة، إذا انخفض السعر اتسعت الشريحة، وأوضح مثل هو الفواكه إذا رخصت اشتراها كلّ الناس، فإن غلتِ اشتراها بعض الناس، أيّها الإخوة؛ كلّ شيءٍ يؤدِّي إلى رفع السعر حرَّمه القرآن الكريم -حرَّم الاحتكار- في الاحتكار يمكن للمحتكر أن يربحَ أضعافاً مضاعفة أن يربحَ بالمئة خمسمئة لأن هذه البضاعة محصورةٌ فيه، وله أن يجعلَ سعرها كما يشاء لذلك المحتكر خاطئ، كما قال -عليه الصلاة والسلام-:
(( لا يحتكِرُ إلَّا خاطِئٌ ))
[ أخرجه مسلم عن معمر بن أبي معمر ]
لأن الاحتكار يرفعُ السعر، وإذا ارتفع السعر ضاقَتِ الشريحة المستفيدة من هذه السلعة، فإذا ضاقت تمتَّعُ بها قلَّةٌ قليلة ممن يملك المال، وحُرِمَتْ منها كثرةٌ كثيرة ممن لا يملكُ المال، إذاً الذي رفع السعر هو الاحتكار، الاحتكار محرَّم، الذي رفع السعر هو الكذب والتدليس أحياناً، توهم الشاري أن هذه البضاعة من نوع مُعَيَّن فيُقبِل على شرائها وهي ليست كذلك، فالاحتكار والكذب والتدليس والغش وكلّ ما من شأنه أن يرفعَ الأسعار هو في الحقيقة يخلُّ بالتوازن بين أفراد المجتمع، فهذه القاعدة الذهبية التي وردَتْ في هذه السورة: (كَىْ لَا يَكُونَ دُولَةًۢ بَيْنَ ٱلْأَغْنِيَآءِ مِنكُمْ) ، والآية التي تقابلها، والتي توضِّحها:
﴿ وَلَا تَأْكُلُوٓاْ أَمْوَٰلَكُم بَيْنَكُم بِٱلْبَٰطِلِ وَتُدْلُواْ بِهَآ إِلَى ٱلْحُكَّامِ لِتَأْكُلُواْ فَرِيقًا مِّنْ أَمْوَٰلِ ٱلنَّاسِ بِٱلْإِثْمِ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ (188)﴾
(وَلَا تَأْكُلُوٓاْ أَمْوَٰلَكُم بَيْنَكُم بِٱلْبَٰطِلِ) هذه الآية فيها روعة ما بعدها روعة؛ ذلك أن مال أخيك سَمَّاه الله مالك، لم يقل: "لا تأكلوا أموال إخوانكم، لا تأكلوا أموال الغير، لا تأكلوا أموال بعضكم"، قال: (وَلَا تَأْكُلُوٓاْ أَمْوَٰلَكُم بَيْنَكُم) أي أن هذا المال مال أخيك هو من زاويةٍ واحدةٍ مالك، هذه الزاوية أي أنّك مطالبٌ أن تحافظَ عليه كما لو أنه مالك (وَلَا تَأْكُلُوٓاْ أَمْوَٰلَكُم) ، مال أخيك مالك من زاوية أنّك مطالبٌ أن تحافظَ عليه، كيف أنّك تحافظُ على مالك؟ كذلك تحافظُ على مال أخيك، أخوك إذا افتقر أنت ملزمٌ به، فإذا حفظْتَ ماله حفظْتَ نفسك، وإن أخذت ماله ظُلماً أفقرته فضعُفْتَ بضعفِه، قال تعالى: (وَلَا تَأْكُلُوٓاْ أَمْوَٰلَكُم بَيْنَكُم) وهذه إشارة لطيفة إلى أن المال يجبُ أن يكونَ بين الناس جميعاً، فلذلك سيدنا عمر -رضي الله عنه- كلَّما التقى بأحد الولاة أول سؤالٍ يطرحه عليه: (كيف الأسعار عندكم يا فلان؟)، لأن الأسعار إذا تدنَّتْ رحِمَ الله الناس بها وإذا ارتفعَتْ شقي الفقير، والإنسان أحياناً-كما ورد: (كاد الفقر أن يكون كفراً) -إذا افتقَر لم يجدْ ما يأكلُ، لم يجدْ ما يلبسُ، لم يجدْ المال الكافي لزواجه أو لسكناه في مأوى اختلفَ وضعُهُ وأعرض عن الدين، وفكَّرَ في الذي لا يرضاه الله -عزَّ وجلَّ-، فكلّ إنسان يُخِلُّ بهذا التوازن أو يحرم الناس حقَّهم الطبيعي هو ظالمٌ، وكما ورد أن سيدنا عمر سأل أحد الولاة فقال: (ماذا تفعل إذا جاءك الناس بسارقٍ أو ناهب؟ قال: أقطع يده، قال: فإن جاءني من رعيَّتك من هو جائعٌ أو عاطل فسأقطع يدك، إنّ الله قد استخلفنا عن خلقه لنسدَّ جوعتهم ونستر عورتهم، ونوفِّر لهم حرفتهم، فإنّ وفَّينا لهم ذلك تقاضيناهم شكرها، إنّ هذه الأيدي خُلِقت لتعمل، فإذا لم تجدْ في الطاعة عملاً التمست في المعصية أعمالاً، فاشغلها بالطاعة قبل أن تشغلك بالمعصية)
الربا موجبة للحرب من الله رسوله:
أيّها الإخوة؛ المال يكونُ متداولاً بين الناس من خلال الأعمال، ويُجَمَّعُ المال في أيدٍ قليلة، وتُحرَمُ منه الكثرة الكثيرة إذا نما ذاتياً عن طريق الربا، لذلك أشدُّ المعاصي عند الله -عزَّ وجلَّ- الربا، لماذا؟ لأنّه يقضي على سلامة مجتمعٍ بأكمله، الإنسانُ إذا نَمَّى مالَه عن طريق الربا حرمَ الكثرة الكثيرة من ماله، وجُمِّعَتْ الأموال بأيدٍ قليلةٍ، والله -سبحانه وتعالى- تَوَعَّدَ المُرابين بحربٍ من الله ورسوله:
﴿ فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ فَأْذَنُواْ بِحَرْبٍۢ مِّنَ ٱللَّهِ وَرَسُولِهِۦ ۖ وَإِن تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَٰلِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ (279)﴾
وإلّا (فَأْذَنُواْ بِحَرْبٍۢ مِّنَ ٱللَّهِ وَرَسُولِهِ) لأنّ المعصية تشتدُّ خطورتها إذا اتسعَتْ رقعتها، والإنسان قد يشربُ الخمر وحده، يضرُ مَن؟ نفسه فقط، أما إذا زنى أفسد فتاةً معه، وإذا أكل الربا أفسد مجتمعاً بأكمله؛ لأن المال قِوام الحياة وقد جعل الله المال قِوام الحياة، لو أن شابًا مثلاً أمَّنْتَ له عملًا بدخلٍ معقولٍ، أمَّنْت له مأوى تزوَّج، إذا تزوج انطلق إلى عمله نشيطاً، وأمَّن فتاةً تبحث عن زوج، فتاة وشاب تزوجا في مأوى وله عملٌ يعيش منه، هذه أسرة هذه خلية من خلايا المجتمع صحيحة، فإذا بُني المجتمع على أساس صحّي نما وتقدَّمَ، فلذلك القاعدة الأولى: (كَىْ لَا يَكُونَ دُولَةً) أي متداولاً بين الأغنياء منكم، طبعا هذا البحث يطول جداً.
السعي للكسب الحلال واجب شرعي:
المجتمع الإسلامي بأكمله مبنيٌ على هذه القاعدة: المال قِوام الحياة، "حبَّذا المال أصون به عرضي وأتقرَّب به إلى ربي" (عبد الرحمن بن عوف)
(( اليَدُ العُلْيَا خَيْرٌ مِنَ اليَدِ السُّفْلَى، وابْدَأْ بمَن تَعُولُ، وخَيْرُ الصَّدَقَةِ عن ظَهْرِ غِنًى، ومَن يَسْتَعْفِفْ يُعِفَّهُ اللَّهُ، ومَن يَسْتَغْنِ يُغْنِهِ اللَّهُ. ))
[ صحيح البخاري عن حكيم بن حزام ]
وقد ورد أن النبي -عليه الصلاة والسلام- أمسك بيد عبد الله بن مسعود، وكانت خشنة من العمل، أمسكها ورفعها وقال:( إن هذه اليد يحبها الله ورسوله) ، وهناك عشرات الأحاديث الصحيحة تبيّنُ أن الإنسان حينما يعملُ من أجل أن يكفيَ نفسه، ويكفي أهله وأن يتقرَّبَ إلى ربه وكان عمله مشروعاً، وسلك فيه الطُرُقَ المشروعة ولم يشغله عن فريضةٍ أو واجبٍ ديني انقلب العمل إلى عبادة، والأدلَّة على هذا كثيرة، وقد ورد أن النبي -عليه الصلاة والسلام- سأل شاباً يصلي في المسجد فقال له: ( من يطعمك؟ قال: أخي، قال: أخوك أعبد منك) ، ومرَّةً أثنى الصحابة على رجل فقال: (من يطعمه؟ قالوا: كلُّنا نطعمه، قال: كلكم أعبد منه) ، وقد ورد أن عمر بن الخطَّاب -رضي الله عنه- التقى رجلاً يقرأ القرآن، فقال: ( إنما أُنزِل هذا القرآن ليُعمَل به، أفاتخذت قراءته عملاً ؟) .
المسلمون الآن يجبُ أن ينهضوا عن طريق العمل، العمل في الإسلام مقدَّس، وحينما يعملُ الإنسان فإنّه يتألَّقُ، وحينما يعملُ ويكسبُ مالاً حلالاً وينفقه لحلِّ مشكلات الناس يرقى عند الله -عزَّ وجلَّ-، إذاً القاعدة الأولى: (كَىْ لَا يَكُونَ دُولَةًۢ بَيْنَ ٱلْأَغْنِيَآءِ مِنكُمْ) فأيُّ سلوكٍ يُجَمِّع الأموال في أيدٍ قليلة فهو محرَّم، لو عُدتم إلى كتب الفقه لوجدتم أن مئاتٍ من التصرُّفات حرَّمها النبي -عليه الصلاة والسلام- لأنّها تؤدي في النهاية إلى تجميع الأموال في أيدٍ قليلة لذلك: (أَطِبْ مَطْعَمَكَ تَكُنْ مُستَجابَ الدَّعوة) ، ولا يكونُ مطعمك طيباً إلّا إذا كنت صادقاً فيه، متقناً له، مخلصاً في أدائه، مطبقاً منهج الله في التعامل معه، عندئذٍ يكونُ الكسب حلالاً، فإن اشتريْتَ بهذا المال طعاماً كان هذا الطعام طيباً، فإذا طاب مطعمك كنت مستجاب الدعوة، دققوا هذا هو الدين، الدين أن ننطلقَ جميعاً إلى أعمالنا بإخلاص، بإتقان بصدق، بأمانة دون كذب، دون تدليس، دون احتكار، دون استغلال، دون إخفاء عيوب، دون إيهام، كلّ سلوكٍ من شأنه أن يضرَّ المشتري فهو محرَّمٌ، كلّ سلوكٍ فيه إخفاء حقيقةٍ عن المشتري فهو محرَّمٌ، فإذا استقمنا في تجارتنا أكرمنا الله -عزَّ وجلَّ- بالرزق الحلال.
﴿ وَأَلَّوِ ٱسْتَقَٰمُواْ عَلَى ٱلطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْنَٰهُم مَّآءً غَدَقًا (16) لِّنَفْتِنَهُمْ فِيهِ ۚ وَمَن يُعْرِضْ عَن ذِكْرِ رَبِّهِۦ يَسْلُكْهُ عَذَابًا صَعَدًا (17)﴾
﴿ وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ ٱلْقُرَىٰٓ ءَامَنُواْ وَٱتَّقَوْاْ لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَٰتٍۢ مِّنَ ٱلسَّمَآءِ وَٱلْأَرْضِ وَلَٰكِن كَذَّبُواْ فَأَخَذْنَٰهُم بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ (96)﴾
(( إنَّ العَبدَ ليُحرَمُ الرِّزقَ بالذَّنبِ يُصيبُه، ولا يَرُدُّ القَدَرَ إلَّا الدُّعاءُ، ولا يَزيدُ في العُمُرِ إلَّا البِرُّ. ))
[ أخرجه ابن ماجه، وأحمد واللفظ له عن ثوبان ]
أيّها الإخوة الكرام؛ لا يوجدُ أروع من إنسان أدَّى صلواته الخمس، وانطلق إلى عمله ليثبت للناس أن الإسلام منهجٌ كامل، يجبُ أن يكونَ المؤمن في عمله ملفتاً للنظر بصدقه، باستقامته، بأمانته، بعدم غشَّه، والله -عزَّ وجلَّ- وحده هو الرزَّاق ذو القوَّة المتين، هذه آية وردَتْ في سورة الحشر وفي معرض الحديث عن بني النضير، وكيف أنّ النبي -صلى الله عليه وسلَّم- أخذ هذا المال وأعطاه للمهاجرين دون الأنصار، الأنصار تبوءوا الدار والإيمان، مقيمون في بلدهم عندهم بساتينهم، عندهم منازلهم، أما هؤلاء المهاجرون الذين أتوا من مكَّة بلا مالٍ، بلا ضياعٍ، بلا بساتين، بلا بيوت، آثروا الله ورسوله، فالنبي -عليه الصلاة والسلام- استشار الأنصار فكان جواب الأنصار ملفتاً للنظر، فإما أن نعطيهم هذا الفيء وأن ينزلوا لكم عن كلّ ما أعطيتموهم، وإما أن نُقَسِّمه بينكم سويَّةً، فقالوا:" بل يبقون عندنا كما كانوا ونؤثرهم بهذا المال"، الحقيقة إذا كنَّا نريدُ نموذجين من المؤمنين متعاونين إلى أقصى الدرجات فعلينا أن ندرسَ حياة الأنصار والمهاجرين، لذلك جاءت الآية الكريمة: (كَىْ لَا يَكُونَ دُولَةًۢ بَيْنَ ٱلْأَغْنِيَآءِ مِنكُمْ)
القاعدة التشريعية الثانية: وجوب العمل بالسنة الشريفة مع القرآن الكريم
(وَمَآ ءَاتَىٰكُمُ ٱلرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَىٰكُمْ عَنْهُ فَٱنتَهُواْ) هذا القرآن الكريم وحيُ الله إلى بني البشر، وحيُ السماء إلى الأرض، إلّا أن النبي -عليه الصلاة والسلام- كلّ ما قاله موضحاً لهذا الكتاب يُعَدُّ مصدراً ثانياً من مصادر التشريع، فهناك وحيٌ متلو هو القرآن الكريم، ووحيٌ غير متلو هو تشريع النبي -عليه الصلاة والسلام- وإن ما قاله النبي -عليه الصلاة والسلام- هو تبيّينٌ وتفصيلٌ وتوضيحٌ لما جاء في كتاب الله، فلذلك كلّ من أراد أن يلغيَ سُنَّة رسول الله يقع في مطبٍ كبيرٍ، إنّما هو يكذِّب القرآن الكريم لأن القرآن الكريم يقول: (وَمَآ ءَاتَىٰكُمُ ٱلرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَىٰكُمْ عَنْهُ فَٱنتَهُواْ) ، وذكرت هذا قبل قليل أن خصوصية السبب لا تُلغي عموم الحكم، لعلَّ سياق هذه الآية: أن أيّها الأنصار أو أيّها المهاجرون (وَمَآ ءَاتَىٰكُمُ ٱلرَّسُولُ) من غنائم فخذوه، وما لم يؤتكم لا تعترضوا على ذلك، إنّه لا ينطق عن الهوى، الأنبياء وحدهم يتحرَّكون وفق أمر الله لهم، حتّى في تفاصيل سيرة النبي -عليه الصلاة والسلام- ما تحرَّك حركةً إلّا بأمر الله، فلذلك هو في أقواله مشرِّع وفي أفعاله مشرِّع، وفي إقراره مشرِّع وفي أحواله مشرِّع (وَمَآ ءَاتَىٰكُمُ ٱلرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَىٰكُمْ عَنْهُ فَٱنتَهُواْ) ، ولكن إذا تجاوزنا موضوع الغنائم والفيء إلى ما هو أوسع؛ كلّ أقوال النبي تشريع، وكلّ نهي النبي تشريع، وكلّ إقرار النبي تشريع، وكلّ عدم إقرار النبي تشريع، وكلّ أحوال النبي تشريع، لذلك عَرَّفوا سنَّته بأنها: أقواله وأفعاله وإقراره وأحواله (وَمَآ ءَاتَىٰكُمُ ٱلرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَىٰكُمْ عَنْهُ فَٱنتَهُواْ)
أعداء الدين متأكِّدون أنهم لن يستطيعوا أن يواجهوا هذا الدين إلا من بابٍ خفي، تارةً بإلغاء السنَّة، وتارةً بتأويل القرآن تأويلاً لا يرضي الله -عزَّ وجلّ-، فالمسلم يجب أن يكونَ يقظاً، وأية دعوةٍ إلى ترك السنَّة هي دعوةٌ إلى مخالفة القرآن الكريم، لأن القرآن الكريم يقول: (وَمَآ ءَاتَىٰكُمُ ٱلرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَىٰكُمْ عَنْهُ فَٱنتَهُواْ) ، فهاتان الآيتان اللتان وردتا في سورة الحشر في سياق إجلاء بني النضير هما قاعدتان أساسيتان في المجتمع الإسلامي:
القاعدة الأولى: المصدر التشريعي الكتاب والسنَّة، الكتاب وحي السماء إلى الأرض، والسنَّة تبيينُ النبي -عليه الصلاة والسلام-.
والقاعدة الثانية: أن الإنسان بعد أن يُخلَقَ، وبعد أن يهتدي إلى الله قِوام حياته بالمال، هذا المال في مبادئه العريضة يجبُ أن يكون موزَّعاً بين كلّ الفئات، فلذلك الإنسان ترتاحُ نفسه إذا رأى الناس جميعاً في حالة سَمَّاها النبي الكفاية، وقد ورد أنه -عليه الصلاة والسلام- قال: (اللهمّ من أحبني فاجعل رزقه كفافاً) و الكفاف لا يعني الفقر كما أنّه لا يعني الغنى بل أن تجدَ ما تغطي به حاجاتك، أن يكونَ دخلك مقابلاً لنفقاتك المعقولة، لكن الناس يلهثون وراء الغنى ووراء الترف ووراء التبذير، قد يقول لك: أنا فقير لأنه لا يملك ما ينفقه على ملاذِّه غير المشروعة، وكلّكم يعلمُ أن الإنسان إذا أنفق مالاً على معصيةٍ سمِّي مبذِّراً، وأنّه إذا أنفق مالاً في مباحٍ أكبر مما يجبُ سمِّي مسرفاً، وربنا -عزَّ وجلَّ- نهى عن الإسراف، ونهى عن التبذير، وقال بعضهم: من دَخَّن وهو غني عُدَّ مبذِّراً، ومن دخَّن وهو فقير عُدّ سفيهاً، السفيه: هو الذي ينفقُ ماله بغير حكمة، هذا مال أولاده وقوت أولاده وقِوام حياته أنفق نصفه على ما يؤذيه، فمن دخَّن وهو غني عُدَّ مبذِّراً، ومن دخَّن وهو فقير عُدَّ سفيهاً، فلذلك هنا: (كَىْ لَا يَكُونَ دُولَةًۢ بَيْنَ ٱلْأَغْنِيَآءِ مِنكُمْ ۚ وَمَآ ءَاتَىٰكُمُ ٱلرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَىٰكُمْ عَنْهُ فَٱنتَهُواْ ۚ وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ ) أطيعوه.
الإنسان بين تكريم الله له والتضييق عليه:
(إِنَّ ٱللَّهَ شَدِيدُ ٱلْعِقَابِ) القضية أعمق من ذلك، هذا هو الحقُّ وهذا هو الباطل، يجبُ أن يكونَ المال متداولاً بين الناس، يجبُ أن يكونَ المصدر التشريعي القرآن والسنَّة، إن أبيتم ذلك فهناك علاجٌ إلهي:
﴿ وَٱتَّقُواْ فِتْنَةً لَّا تُصِيبَنَّ ٱلَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنكُمْ خَآصَّةً ۖ وَٱعْلَمُوٓاْ أَنَّ ٱللَّهَ شَدِيدُ ٱلْعِقَابِ (25)﴾
هذا ينقلنا إلى موضوع دقيق؛ هو أن الله ربّ العالمين أمرَ ونهى، ولكنه يتابعُ ما تفعله أنت أيّها الإنسان إن اتخذت قراراً سليماً شجَّعك على ذلك، وشرح صدرك وأكرمك وأعطاك ورفع قدرك، وإن اتخذت قراراً سيئاً اتبعت شهوتك وآثرت الدنيا على الآخرة، ضيَّق صدرك
﴿ فَمَن يُرِدِ ٱللَّهُ أَن يَهْدِيَهُۥ يَشْرَحْ صَدْرَهُۥ لِلْإِسْلَٰمِ ۖ وَمَن يُرِدْ أَن يُضِلَّهُۥ يَجْعَلْ صَدْرَهُۥ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِى ٱلسَّمَآءِ ۚ كَذَٰلِكَ يَجْعَلُ ٱللَّهُ ٱلرِّجْسَ عَلَى ٱلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ (125)﴾
ثم عالجك، فالنقطة الدقيقة هنا أن القضية أكبر من أنَّه أمر ونهى، أنت افعل ما تريدُ، لا.
هو يتابعك لأنه ربك، أنت يمكنك أن تقوم بتعيين موظف وأن تقولَ له: هناك شهران للتدريب، فإما أن أقبلك بعد شهرين موظَّفاً دائماً وإما أن أصرفك، أنت بإمكانك أن تراقبه مراقبةً دقيقة، وأن تسجِّل عليه كل أخطائه فإن كثرت هذه الأخطاء صرفته واستغنيت عن خدماته، أنت بهذا لست مربياً، إنك صاحب عمل، لكنك لست مربياً، أما لو أن هذا الإنسان المتمرّن كنت حريصاً عليه فإنّك عند أول خطأٍ تنبِّهه: هذا الخطأ لا تعدْه، عند أول انحرافٍ تلفت نظره، قوَّم نفسه، موقف المرّبي أكمل بكثير، فرب العالمين حينما تتخذُ قراراً سليماً يشجعك ويشرح صدرك، وهذه معاونةٌ منه لك ويكافئك ويرفع قدرك، أما حينما تتخذ قراراً خاطئاً فإنه يضيّقُ صدرك (يَجْعَلْ صَدْرَهُۥ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِى ٱلسَّمَآءِ) ، وهذا التضييق في الصدر معاونةٌ لك من أجل أن تتركَ هذا السلوك، أحياناً يسوق لك الشدائد، أحياناً يضيِّق عليك، لذلك ربنا -عزَّ وجلّ- شديد العقاب يتابعُ الأمور، من هنا قيل: "إذا أحبَّ الله عبده ابتلاه، فإن صبر اجتباه، وإن شكر اقتناه" ، "إذا أحبَّ الله عبده عاتبه في منامه"
(( إِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِعَبْدِهِ الْخَيْرَ عَجَّلَ لَهُ الْعُقُوبَةَ فِي الدُّنْيَا، وإذَا أرادَ اللَّهُ بعبدِه الشَّرَّ أمسَك عنهُ بذنبِه حتَّى يوافيَ بِه يومَ القيامة ))
[ أخرجه الترمذي عن أنس بن مالك ]
(( إذا أراد الله بعبده خيرًا جعل له واعظاً من نفسه يأمره وينهاه ))
[ أخرجه الديلمي عن أم سلمة أم المؤمنين بسند ضعيف ]
إذا وجدَ الواحد منَّا نفسه في متابعة من الله، وفي عنايةٍ مشدَّدة فليحمد الله على هذا كثيراً، أما إذا وجد نفسه ينحرف ولا يُحاسبُ ليعلمَ أن الله يمقته، وأنّه أخرجه من دائرة العناية المشدَّدة، فالذي نرقى به عند الله أن نكونَ في دائرة العناية المشدَّدة (وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ ۖ إِنَّ ٱللَّهَ شَدِيدُ ٱلْعِقَابِ) ، فالإنسان إما أن يأتي الله طائعاً، وإما أن يأتيه كرهاً، قال عليه الصلاة والسلام:
(( عَجِبَ اللَّهُ مِنْ قَوْمٍ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ فِي السَّلَاسِلِ ))
[ صحيح البخاري عن أبي هريرة ]
سلاسل الامتحان والتأديب والتضييق، على كلٍ الإنسان إن وصل إلى الله بأية طريقة فهو من الفائزين، إما أنّه يأتي الله طوعاً، أو يأتيه عقِب تضيقٍ أو تشديد، لكن هذا الفيء لمن؟ قال الله -عزَّ وجلَّ-:
﴿ لِلْفُقَرَآءِ ٱلْمُهَٰجِرِينَ ٱلَّذِينَ أُخْرِجُواْ مِن دِيَٰرِهِمْ وَأَمْوَٰلِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِّنَ ٱللَّهِ وَرِضْوَٰنًا وَيَنصُرُونَ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُۥٓ ۚ أُوْلَٰٓئِكَ هُمُ ٱلصَّٰدِقُونَ (8)﴾
1- تخلوا عن ديارهم وأموالهم نصرة لله ورسوله:
إنسان مستقر في بلده له دكَّان، له منزل، له بستان، له مركز، له أقرباء، ما ذنب هؤلاء المهاجرين؟ لهم ذنبٌ واحد أنهم آمنوا بالله ورسوله، عندما آمنوا بالله ورسوله ضَيَّق عليهم كفَّار قريش، ونكَّلوا بهم حتّى حملوهم على الهجرة، قال تعالى: (لِلْفُقَرَآءِ ٱلْمُهَٰجِرِينَ) ، بالمناسبة، لا يمكن أن يكونَ الفقرُ وصمة عارٍ في حق الإنسان، وصمة العار هي المعصية.
(( كَمْ مِنْ أَشْعَثَ أَغْبَرَ ذِي طِمْرَيْنِ لَا يُؤْبَهُ لَهُ لَوْ أَقْسَمَ عَلَى اللَّهِ لَأَبَرَّهُ منهم البراءُ بنُ مالكٍ ))
[ أخرجه الترمذي عن أنس بن مالك ]
إن الإنسان لا ينبغي أن يستحيَ من الفقر بل ينبغي أن يستحيَ من المعصية، هؤلاء قِمَمٌ عند الله -عزَّ وجلَّ- وهم فقراء، المهاجرون قمم لأنّهم آمنوا بالله ورسوله تركوا أموالهم، تركوا بيوتهم، تركوا تجارتهم، تركوا بساتينهم، تركوا أهلهم ونصروا النبي -عليه الصلاة والسلام- وجاءوا معه، ولو أن رجلاً منَّا له بيت ومتجر وبيت في المصيف، ومركبة، فجأةً أُخِذ ووُضِع على رصيف في مدينة بعيدة وليس في جيبه درهمٌ واحد هذه هي الهجرة؛ اقتلاع من الجذور، إنسان متمكِّن له دخلٌ، له بيت، له مأوى، له متجر، له مكانة يأتي إلى بلد آخر بعيدٍ لا شيء معه إطلاقاً، فالفقر ليس وصمة عارٍ بحقِّ الإنسان بل بالعكس، كن مستقيماً واللهُ -سبحانه وتعالى- يغنيك، أما لو أنَّ الإنسان عصى ربَّه ولو أنّه غني فالله -عزَّ وجلّ- يؤدِّبَهُ على غناه.
2-يبتغون الفضل والرضوان من الله:
(لِلْفُقَرَآءِ ٱلْمُهَٰجِرِينَ ٱلَّذِينَ أُخْرِجُواْ مِن دِيَٰرِهِمْ وَأَمْوَٰلِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِّنَ ٱللَّهِ وَرِضْوَٰنًا) ماذا نبتغي نحن؟ هل نبتغي طاعة الله؟ هل نبتغي فضل الله العظيم؟ هل نبتغي جنَّته؟ هل نبتغي محبَّته؟ هل نبتغي خدمة خلقه؟ هل نبتغي نشر دينه؟ هل نبتغي معونة الضعفاء والمساكين؟ هل نبتغي عملاً صالحاً يقرِّبنا إليه؟ قال تعالى: (لِلْفُقَرَآءِ ٱلْمُهَٰجِرِينَ ٱلَّذِينَ أُخْرِجُواْ مِن دِيَٰرِهِمْ وَأَمْوَٰلِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِّنَ ٱللَّهِ وَرِضْوَٰنًا وَيَنصُرُونَ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُ)
أنت أحياناً تنصرُ هذا الدِّين بالصدق، تنصره بالأمانة تنصره بأداء العبادات، تنصره بحضور مجالس العلم تنصره بتكثير سواد المسلمين، هناك مليون طريق يمكن من خلالها أن تنصرَ هذا الدِّين، إذا كنت صادقاً فهذا نصرٌ للدين، إذا كنت أميناً فهذا نصرٌ للدين، إذا كنت مخلصاً فهذا نصرٌ للدين، إذا كنت متقناً فهذا نصرٌ للدين، إذا كنت عفيفاً فهذا نصرٌ للدين، إذا كنت معطاءً فهذا نصرٌ للدين، هؤلاء المهاجرون الفقراء(لِلْفُقَرَآءِ ٱلْمُهَٰجِرِينَ ٱلَّذِينَ أُخْرِجُواْ مِن دِيَٰرِهِمْ وَأَمْوَٰلِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِّنَ ٱللَّهِ وَرِضْوَٰنًا وَيَنصُرُونَ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُٓ ۚ أُوْلَٰٓئِكَ هُمُ ٱلصَّٰدِقُونَ)
لماذا هم صادقون؟ لأن أفعالهم أكَّدت أقوالهم، قال لك شخصٌ: لو أتيتني لأعطيتك ما تريدُ، طرقْتَ بابه وقلت له: أعطني فأعطاك، كلمته السابقة هل هو صادقٌ بها أم كاذب؟ ما دام قد أعطاك فهو صادق، هؤلاء المهاجرون آمنوا بالله وكلٌّ منَّا بإمكانه أن يَدَّعي الإيمان بالله، لكنهم آمنوا وهاجروا، آمنوا وآثروا، آمنوا وأنفقوا، آمنوا وجاهدوا، آمنوا وضحوا بالغالي والرخيص والنفس والنفيس، آمنوا فجاءت أفعالهم مؤيدةٌ لأقوالهم؛ هذا برهان، النبي قال:
(( الطُّهُورُ شَطْرُ الإيمانِ، والْحَمْدُ لِلَّهِ تَمْلأُ المِيزانَ، وسُبْحانَ اللهِ والْحَمْدُ لِلَّهِ تَمْلَآنِ -أَوْ تَمْلأُ- ما بيْنَ السَّمَواتِ والأرْضِ، والصَّلاةُ نُورٌ، والصَّدَقَةُ بُرْهانٌ، والصَّبْرُ ضِياءٌ، والْقُرْآنُ حُجَّةٌ لَكَ، أوْ عَلَيْكَ، كُلُّ النَّاسِ يَغْدُو فَبايِعٌ نَفْسَهُ فَمُعْتِقُها، أوْ مُوبِقُها. ))
[ أخرجه مسلم عن أَبِي مالك الأشعري ]
المالُ محبَّبٌ، أما إذا أنفقته فإنّك تؤكِّد لنفسك ولمن حولك ولربك أنك صادق، غض البصر يؤكِّد إخلاصك لله، ضبط اللسان يؤكِّد إخلاصك لله، فهؤلاء المهاجرون (أُخْرِجُواْ مِن دِيَٰرِهِمْ وَأَمْوَٰلِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِّنَ ٱللَّهِ وَرِضْوَٰنًا وَيَنصُرُونَ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُٓ ۚ أُوْلَٰٓئِكَ هُمُ ٱلصَّٰدِقُونَ) ، أما الأنصار...
﴿ وَٱلَّذِينَ تَبَوَّءُو ٱلدَّارَ وَٱلْإِيمَٰنَ مِن قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِى صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِّمَّآ أُوتُواْ وَيُؤْثِرُونَ عَلَىٰٓ أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ ۚ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِۦ فَأُوْلَٰٓئِكَ هُمُ ٱلْمُفْلِحُونَ (9)﴾
1-أصحاب الديار المخلصون بإيمانهم:
هم في بلادهم وبيوتهم وبساتينهم، لكن الإيمان دخل إلى أعماقِ أعماقهم، (تَبَوَّءُو ٱلدَّارَ) وكانوا بإيمانهم مخلصين. (يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ)
(يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ) هذه علامة الإيمان، أن تحبَّ المؤمنين، ألّا ترى المؤمن عبئاً عليك، مؤمن أتاك تستقبله بالترحاب، تؤثره بما عندك (وَٱلَّذِينَ تَبَوَّءُو ٱلدَّارَ وَٱلْإِيمَٰنَ مِن قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ) يحبونهم.
(( آيَةُ الإيمَانِ حُبُّ الأنْصَارِ، وآيَةُ النِّفَاقِ بُغْضُ الأنْصَارِ ))
[ صحيح البخاري عن أنس بن مالك ]
وفيما بيننا أن يحب بعضكم بعضاً هذا من علامة إيمانكم، أما فلان أحقد عليه، فلان أغار منه، فلان أحسده، فلان أتمنَّى دماره، فلان أتمنى ألا ينجح لئلا يفوز عليّ؛ هذه علامة النفاق، حبُّ المؤمنين إيمان، وبغضهم نفاق (وَٱلَّذِينَ تَبَوَّءُو ٱلدَّارَ وَٱلْإِيمَٰنَ مِن قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ) هذا وصف الله لهم.
(وَلَا يَجِدُونَ فِى صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِّمَّآ أُوتُواْ) لما آتاهم النبي فيء بني النضير آتى المهاجرين أمام أعين الأنصار-تحت سمعهم وبصرهم- ما شعروا بشيء، ما شعروا بالحرج، ما تألَّموا، ما اغتاظوا.
(يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِى صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِّمَّآ أُوتُواْ وَيُؤْثِرُونَ عَلَىٰٓ أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ) المؤمن ينطلق من الإيثار، يؤثرون على أنفسهم إخوتهم المؤمنين، مع أنهم في أشدِّ الحاجة إلى هذا المال، قد تقول لإنسان: خذ هذه الحاجة، أنت لا حاجة لك بها، فائضة عن حاجتك فتعطيها، هذا عطاء ولا شك لكن قيمته تقلّ، أما حينما تكون في أَمَسِّ الحاجة إلى شيء وتعطيه أخاك المؤمن، حينها انطبقت عليك هذه الآية: (وَيُؤْثِرُونَ عَلَىٰٓ أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ)
والله أعرف إخوة مؤمنين استطاع أن يؤمِّن بيتاً، إنّ أخاه خطب، وليس له بيت فآثره به، وقال له: أنا بعد حين أبحث عن بيت، خذه، والحقيقة أننا لا نرقى عند الله إلا بالمؤاثرة، والإنسان إذا عاش في مجتمع فيه مؤاثرة يصير المجتمع جنَّة الله في الأرض.
(( إِذَا كَانَ أُمَرَاؤُكُمْ خِيَارَكُمْ، وَأَغْنِيَاؤُكُمْ سُمَحَاءَكُمْ، وَأُمُورُكُمْ شُورَى بَيْنَكُمْ، فَظَهْرُ الْأَرْضِ خَيْرٌ لَكُمْ مِنْ بَطْنِهَا، وَإِذَا كَانَ أُمَرَاؤُكُمْ شِرَارَكُمْ، وَأَغْنِيَاؤُكُمْ بُخَلَاءَكُمْ، وَأُمُورُكُمْ إِلَى نِسَائِكُمْ، فَبَطْنُ الْأَرْضِ خَيْرٌ لَكُمْ مِنْ ظَهْرِهَا ))
[ أخرجه الترمذي، والبزار، وأبو نعيم عن أبي هريرة ]
هذا وصف دقيق جداً، وهؤلاء نماذج يجب أن تكون متكررة، أنا لا أسمي مجتمع الإيمان مجتمعاً حقيقياً إلّا إذا كان فيه أنصار ومهاجرون، انظر إلى هذا الوصف (وَٱلَّذِينَ تَبَوَّءُو ٱلدَّارَ وَٱلْإِيمَٰنَ مِن قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِى صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِّمَّآ أُوتُواْ وَيُؤْثِرُونَ عَلَىٰٓ أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ) ، على فَقْرِهِ وعلى ضيق ذات يده، وعلى حاجته الماسَّة يُعطي أخاه المهاجر، خذ مالي خذ نصف مالي، خذ هذه الدكان، خذ هذا البستان، والمهاجرون في أعلى درجات العِفَّة، "بارك الله لك في مالك، ولكن دلَّني على السوق" .
إخواننا الكرام؛ إن لم نعش حياة هؤلاء فلسنا مسلمين، يجبُ أن نعيشَ حياتهم، أن نعيشَ محبَّتهم، أن نعيشَ مؤاثرتهم أن نعيشَ تعاونهم، أن نعيشَ علاقتهم المتينة فيما بينهم، فلذلك:
(( إنَّ اللَّهَ لا يجمعُ أمَّتي علَى ضلالةٍ ويدُ اللَّهِ معَ الجماعةِ، ومَن شذَّ شذَّ إلى النَّارِ ))
[ أخرجه الترمذي، والحاكم عن عبد الله بن عمر ]
(( أوصيكُم بأصحابي، ثمَّ الَّذينَ يلونَهم، ثمَّ الَّذينَ يلونَهم ثمَّ يفشو الكذبُ حتَّى يحلِفَ الرَّجلُ ولا يُستَحلَفُ ويشهدَ الشَّاهدُ ولا يُستَشهَدُ ألا لا يخلوَنَّ رجلٌ بامرأةٍ إلَّا كانَ ثالثَهما الشَّيطانُ علَيكُم بالجماعةِ وإيَّاكم والفُرقةَ فإنَّ الشَّيطانَ معَ الواحدِ وَهوَ منَ الاثنَينِ أبعدُ مَن أرادَ بَحبوحةَ الجنَّةِ فلْيلزَمُ الجماعةَ. ))
[ أخرجه الترمذي واللفظ له، وأحمد باختلاف يسير عن عمر بن الخطاب ]
(( ما مِن ثلاثةٍ في قريةٍ ولا بدوٍ لا تقامُ فيهمُ الصَّلاةُ إلَّا قدِ استحوذَ عليْهمُ الشَّيطانُ فعليْكم بالجماعةِ فإنَّما يأكلُ الذئبُ منَ الغنمِ القاصيةَ ))
[ أخرجه أبو داود، والنسائي واللفظ لهما، وأحمد عن أبي الدرداء ]
(وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِۦ فَأُوْلَٰٓئِكَ هُمُ ٱلْمُفْلِحُونَ) هذه الآية -إن شاء الله- لنا عودة إليها في الدرس القادم لأنّها مهمَّة جداً، فيها تفصيلات دقيقة جداً، ولكن أخطر مرضٍ يصيب النفس هو الشُح، الشح أهلك من كان قبلنا، وإذا وقي الإنسان من شُحِّ نفسه فقد أفلح ونجح، والشُحُّ أن تأخذَ ما ليس لك، الشُحُّ أن تبيعَ دينك بعرضٍ من الدنيا قليل، الشح مرض الأمراض، كل الأعراض الخطيرة هي أعراض لمرض واحد وهو الشُحّ (وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِۦ فَأُوْلَٰٓئِكَ هُمُ ٱلْمُفْلِحُونَ) والله -عزَّ وجلّ- هو الرزَّاق ذو القوة المتين، أيّها الإخوة؛ قد ورد أن: (بَرِئَ من الشُّحِّ من أَدَّى الزكاةَ، وقَرَى الضيفَ، وأَعْطى في النائِبةِ)
الذي يعين على النائبة برئ من الشح، والذي يقري الضيف برئ من الشح، والذي يؤدي زكاة ماله برئ من الشح، أما إذا قتَّر على نفسه لحكمةٍ يراها، ليس لك أن تسميه شحيحاً إطلاقاً، والله يؤاخذك ويعاقبك، أدى زكاة ماله وأقرى الضيف، وأعان على النائبة فإنّه ليس شحيحاً، وهذه قواعد قَعَّدها النبي -عليه الصلاة والسلام-:
(( من حمل سلعتَه فقد برِئ من الكبْرِ ))
[ أخرجه أبو نعيم، والقضاعي عن جابر بن عبد الله (فيه ضعف) ]
و برئ من النفاق من أكثر من ذكر الله، هذه الآية الأخيرة -إن شاء الله تعالى- وإن أحيانا الله الأسبوع القادم فلنا عودة إليها تفصيلية إن شاء الله تعالى، والحمد لله رب العالمين.
الملف مدقق