وضع داكن
01-07-2024
Logo
الدرس : 3 - سورة الحشر - تفسير الآيات 8- 17 المسلمون في العهد الأول
   
 
 
 بسـم اللـه الرحمـن الرحيـم  
 
الحمد لله ربّ العالمين، والصّلاة والسّلام على سيدنا محمد الصّادق الوعد الأمين.
اللّهمّ لا علم لنا إلا ما علّمتنا إنك أنت العليم الحكيم، اللّهمّ علّمنا ما ينفعنا وانفعنا بما علّمتنا، وزِدنا عِلماً وأرنا الحقَ حقاً وارزقنا أتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأدخلنا برحمتك في عبادكَ الصّالحين.
أيّها الإخوة المؤمنون؛ مع الدرس الثالث من سورة الحشر، ومع الآية الثامنة وهي قوله تعالى:

﴿ لِلْفُقَرَآءِ ٱلْمُهَٰجِرِينَ ٱلَّذِينَ أُخْرِجُواْ مِن دِيَٰرِهِمْ وَأَمْوَٰلِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِّنَ ٱللَّهِ وَرِضْوَٰنًا وَيَنصُرُونَ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُۥٓ ۚ أُوْلَٰٓئِكَ هُمُ ٱلصَّٰدِقُونَ (8)﴾

[ سورة الحشر ]


نوعا المؤمنين في العهد الأول: المهاجرون والأنصار:


الله -جلَّ جلاله- بينَّ أنّه في عهد الإسلام الأول؛ في عهد النبي -صلى الله عليه وسلم- كان المؤمنون فئتين؛ فئةً هاجرت لله ورسوله، وفئةً آوت ونصرت، وكأنّ الله يريدنا إلى نهاية الزمان أن يكونَ مؤمنٌ مؤاثر ومؤمنٌ مُكْرِم، نموذجان أساسيان: إنسان ترك الدنيا لله، ترك ماله، ترك مكانته، ترك بلده، ترك موطنه، ترك أهله، ترك ممتلكاته في سبيل الله، وإنسانٌ آخر آوى ونصر؛ استضاف هذا الإنسان المهاجر، أعطاه وأسكنه وآواه، أطعمه وسقاه.
أحياناً يخطر في البال؛ إنسان مقيمٍ في بلد متمكِّن، له بيت، وعمل، وتجارة، ومكانة، قد يأتيك طالب علم، لو لم يطلب العلم لعاش بين أهله، وكان معززاً مكرماً لكنه ترك بلده، وترك أهله، وترك مصادر قوته، وأتى يطلبُ العلم يريدُ رضوان الله -عزَّ وجلَّ-، أنت كإنسان مقيمٍ ما واجبك تجاه هذا الإنسان المهاجر؟ إن الله -عزَّ وجلَّ- ما أراد أن يحدّثنا عن شيءٍ وقع، أراد أن يعطينا صورةً للمجتمع الإسلامي إلى نهاية الدوران، في المجتمع الإسلامي قويٌّ وضعيف، القويّ يجبُ أن يعينَ الضعيف، مقيم ومسافر، مُتَمَكِّن وطالب عِلْم، فالمهاجر والأنصاري هذان النموذجان ينبغي أن يستمرا إلى يوم القيامة، لا نفهم القرآن فهماً محدوداً على أن هناك في حياة النبي أناسٌ مهاجرون وأناسٌ أنصار، يجب أن تكونَ أنت في آخر الزمان أحد رجلين مهاجرٌ أو أنصاري، إنسان آثرت الله ورسوله على دنياك، وإنسان آخر آوى ونصر.

سبب فقر المهاجرين:


فالله -سبحانه وتعالى- يصف المهاجرين بأنّهم فقراء، هذا الفقر ليس مِن كسلهم، وليس من ضعف حيلتهم، ولكن بسبب انتمائهم إلى الدِّين، بسبب مؤاثرتهم رضوان الله -عزَّ وجلّ-، وكم من إنسانٍ في حياتنا الدنيا يُصْبِحُ فقيراً لأنّه مستقيم، وكم من إنسانٍ يكون غنياً لأنّه غير مستقيم، المؤمن مقيَّد بألف قيد وقيد، أما غير المؤمن فمتفلِّت يأخذُ المال من أيّة جهة، وبأي أسلوب، وبأي طريق، فلذلك هذا الفقر يُعدُّ وسام شرفٍ في حقهم، لهم أهلٌ في مكة، لهم أرض، لهم ديار، لهم ممتلكات، لهم تجارة، لكنهم تركوا أرضهم، وديارهم، وأموالهم، وتجارتهم، وبيوتهم، وجاءوا إلى المدينة المنوَّرة فقراء لا يملكون شيئاً، فهذا ليس فقر الكسل، إّنما هو فقر الإيمان، ويمكن أن تنسحبَ هذه الحقيقة إلى نهاية الدوران، قد يقول أحد الأشخاص: فلان صديقي صار معه الملايين، وأنا لا أملك شيئاً، لو رجعت إلى التفاصيل لعل الذي صار غنياً -لعل بعضهم- لم يكن يهتم بمصدر دخله من طريقٍ مشروع، أو من طريقٍ غير مشروع، ببيعٍ شرعي، أو ببيعٍ غير شرعي، ببضاعةٍ محللةٍ، أو بضاعةٍ محرمةٍ، العبرة أن يربح، فأحد أسباب الغنى أن هذا الغني لا يأبهُ بطريقة كسب المال، وأحد أسباب الفقر أن المؤمن مقيَّد، فلا يمكن أن يكذبَ، ولا يمكن أن يبيع بضاعةً محرّمة، ولا أن يغشَ المسلمين، ولا أن يتعاونَ مع ظالم، فلذلك ربما وجدت المؤمن أقلَّ دخلاً من غير المؤمن، فالفقر إذا أضيف إلى المؤمن لعله وسام شرف، نتمنى أن نكون أقوياء، يقول عليه الصلاة والسلام:

(( الْمُؤْمِنُ القَوِيُّ خَيْرٌ وَأَحَبُّ إلى اللهِ مِنَ المُؤْمِنِ الضَّعِيفِ، وفي كُلٍّ خَيْرٌ، احْرِصْ علَى ما يَنْفَعُكَ، وَاسْتَعِنْ باللَّهِ وَلَا تَعْجِزْ، وإنْ أَصَابَكَ شَيءٌ، فلا تَقُلْ: لو أَنِّي فَعَلْتُ كانَ كَذَا وَكَذَا، وَلَكِنْ قُلْ: قَدَرُ اللهِ وَما شَاءَ فَعَلَ؛ فإنَّ (لو) تَفْتَحُ عَمَلَ الشَّيْطَانِ. ))

[  أخرجه مسلم عن أبي هريرة  ]

اسعَ أن تكونَ ذا مال لأن المال قوة، ولكن إذا خُيِّرْتَ بين مالٍ حرام، أو بين مالٍ تكسبه على حساب عقيدتك، أو على حساب دينك، أو على حساب مبادئك، فلا كان هذا المال، ولا كان هذا الغنى، والفقر أفضل منه، (لِلْفُقَرَآءِ ٱلْمُهَٰجِرِينَ ٱلَّذِينَ أُخْرِجُواْ مِن دِيَٰرِهِمْ) ما ذنبهم؟ ما ذنبهم إلّا أنّهم قالوا: ربّنا الله، الإنسان أحياناً يفقد كثيراً من حظوظه من الدنيا لأنّه انتمى إلى هذا الدِّين، لأنّه انتمى إلى الحقّ، لأنّه آثر مرضاة الله -عزَّ وجلَّ-، ألم يقلِ الله -عزَّ وجلَّ-:

﴿ يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ إِنَّمَا ٱلْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلَا يَقْرَبُواْ ٱلْمَسْجِدَ ٱلْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَٰذَاۚ وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ ٱللَّهُ مِن فَضْلِهِۦٓ إِن شَآءَ ۚ إِنَّ ٱللَّهَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (28)﴾

[ سورة التوبة ]

ماذا قال الله بعدها؟ (وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً) حينما مُنِعوا من دخول بيت الله الحرام ربما تعانون من ضائقةٍ مالية، (وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ ٱللَّهُ مِن فَضْلِهِ) حينما يتحَّرك الإنسان إلى الله -عزَّ وجلَّ- لا يعبأ بالمال أتى أو لم يأتِ، الأصل هو المبدأ، لكن الذي ضحَّى من أجل دينه لابد من أن الله -سبحانه وتعالى- سوف يغنيه من فضله استناداً إلى هذه الآية: (وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً) واقعةً، (فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ ٱللَّهُ مِن فَضْلِهِ)

أسباب هجرة المهاجرين: 


(لِلْفُقَرَآءِ ٱلْمُهَٰجِرِينَ ٱلَّذِينَ أُخْرِجُواْ مِن دِيَٰرِهِمْ وَأَمْوَٰلِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِّنَ ٱللَّهِ وَرِضْوَٰنًا) 

 1ـ طلَب رضوان الله:

يبتغي رضوان الله، ولا يوجد إنسان أقدس ممّن يبتغي رضوان الله، والإنسان أحياناً يبتغي رضوان إنسان، يبتغي رضوان جهة، يبيع آخرته من أجلها، يبيع دينه من أجلها، وهو مغبونٌ في هذا الاختيار، لأن الله -سبحانه وتعالى- وحده أهلٌ أن تضحيَ من أجله، الله -عزَّ وجلَّ- وحده أهلٌ أن تبيعه شبابك، وأن تبيعَه عمرك، وأن تبيعَه حياتك، وأن تبيعَه مالك.

﴿ إِنَّ ٱللَّهَ ٱشْتَرَىٰ مِنَ ٱلْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَٰلَهُم بِأَنَّ لَهُمُ ٱلْجَنَّةَ ۚ يُقَٰتِلُونَ فِى سَبِيلِ ٱللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ ۖ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِى ٱلتَّوْرَىٰةِ وَٱلْإِنجِيلِ وَٱلْقُرْءَانِ ۚ وَمَنْ أَوْفَىٰ بِعَهْدِهِۦ مِنَ ٱللَّهِ ۚ فَٱسْتَبْشِرُواْ بِبَيْعِكُمُ ٱلَّذِى بَايَعْتُم بِهِۦ ۚ وَذَٰلِكَ هُوَ ٱلْفَوْزُ ٱلْعَظِيمُ (111)﴾

[ سورة التوبة ]

لا توجد جهة في الكون أهلٌ أن تهبها حياتك، أو تهبها شبابك، أن تهبها عمرك، أن تهبها علمك، أن تهبها قدراتك، أن تهبها مالك إلّا الله، وإذا وهبتَ هذه الأشياء لغير الله فأنت أكبر مغبون، إن وهبت شبابك، وعمرك، وطاقاتك، وذكاءك، ولسانك، وقلمك لغير الله فأنت أكبر مغبون، هؤلاء: (يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِّنَ ٱللَّهِ وَرِضْوَٰنًا) هذه نيَّتهم.

 2ـ نصرةُ الله ورسوله:

أما عملهم: (وَيَنصُرُونَ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُ) في كلّ حركةٍ، وفي كلّ سكنةٍ، وفي كلّ كلمةٍ إنّما هم ينصرون الله ورسوله، أنت إذا قمت لتصلي نصرت الله ورسوله، قد يقوم معك آخرون كانوا مترددين، أنت إذا امتنعت عن دخلٍ حرام نصرت الله ورسوله، أنت إذا أقمت الإسلام في بيتك نصرت الله ورسوله، أنت إذا أقمت الإسلام في عملك نصرت الله ورسوله، أنت إذا امتنعت عن مصافحة المرأة الأجنبية، وقلت: هذا هو الدِّين، نصرت الله ورسوله، أنت إذا امتنعت عن حفلةٍ مختلطة وقلت: هذا يخالفُ الشرع، نصرت الله ورسوله، أنت إذا امتنعت عن علاقةٍ ربويّةٍ، وبيَّنت أنّك لا تفعلها لأنّها محرمةٌ في الدِّين نصرت الله ورسوله، إنّ الله غنيٌ عن أن تنصره، لكنك إذا نصرته بمعنى أنّك نصرت دينه، وإذا نصرت دينه أي أقمت دينه، وإذا فعلت مؤكدا ًأحقية هذا الدِّين تشجّعُ الآخرون، فلذلك هؤلاء المهاجرون افتقروا لا لأنّهم ضعيفو الحيلة بل لأنّهم آثروا الله ورسوله.

 فقر المهاجرين وسام شرف لهم:


كم إنسان إلى يوم القيامة بسبب انتمائه للدِّين، بسبب مبدئه، بسبب مواقفه المشرفة، بسبب أنّه على الحقِّ، يخسر حظوظ من الدنيا كثيرة؟ وكم من إنسان بسب تخاذله، وانهزامه الداخلي، وبسبب ضعف إيمانه، وضعف يقينه بالآخرة يصبح غنياً؟ فهذا الفقر ليس مما يعيب صاحبه، إنّه وسام شرفٍ على صدر هذا المُهاجر، أحياناً تضيعُ منك الدنيا، وتكسبُ رضوان الله، لذلك: يا رب ماذا فقد من وجدك؟ واللهِ لم يفقدْ شيئاً، والذي ضيَّع الآخرة، وضيع رضوان الله، ونال الدنيا، يا رب ماذا وجد من فقدك؟ وماذا فقد من وجدك؟،"ابن آدم اطلبني تجدني فإذا وجدتني وجدت كلّ شيء، وإن فتُّك فاتك كلّ شيء، وأنا أحب إليك من كلّ شيء" ، إن وجدتني وجدت كلّ شيء إن اتصلت بالله وصلت إلى كلّ شيء، أنت الغني، أنت القوي، أنت السعيد، وإن فاتك حظك من الدِّين، وجاءتك الدنيا من أوسع أبوابها فما نلت شيئاً، هؤلاء الفقراء: (لِلْفُقَرَآءِ ٱلْمُهَٰجِرِينَ ٱلَّذِينَ أُخْرِجُواْ مِن دِيَٰرِهِمْ وَأَمْوَٰلِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِّنَ ٱللَّهِ وَرِضْوَٰنًا) من الممكن أن تشارك إنسانًا في عمل مربح كثيرًا، له ربحٌ وفير، ويفرض عليك طريقةً تُغضب الله -عزَّ وجلَّ- في كسب المال، فإذا انسحبت من هذه الشركة لأنّها لا ترضي الله، وهذه الشركة بحكمةٍ بالغة نما مالها نماءً كثيراً، وصار شريكك الذي انسحبت منه من أكبر الأغنياء، وأنت لم تجدْ رزقاً وفيراً كما كنت معه، أليس هذا الفقر الطارئ وسام شرفٍ في صدرك؟ يقول السيد المسيح -عليه وعلى نبينا أفضل الصلاة والسلام- يقول مقولةً رائعة: "ليس بالخبز وحده يحيا الإنسان" ، الإنسان يحيا بالمبادئ، يحيا بكرامته، يحيا برضوان الله عليه، يحيا بأمله بدخوله الجنة، فليست الحياة كلّها مادةً.
هؤلاء المهاجرون الفقراء أُخرِجوا من ديارهم لا ذنب لهم إلّا أنهم قالوا: ربنا الله، وكم من إنسان فاتته الدنيا لأنّه قال: الله ربي، وكم من إنسان فاتته حظوظٌ كثيرة لأنّه لم يجاملْ، لم ينافقْ، لم يُداهنْ، لم يمارِ، لم يضعْ مبدأه تحت قدمه بل وضع مبدأه على رأسه فَحُرِمَ من الدنيا، فهل هذا الفقر يعد نقيصةً في حقه؟! إنّه وسام شرف، فهؤلاء المهاجرون لهم أرض، ولهم ديار، ولهم تجارة، ولكنْهم تركوا أرضهم وديارهم، ومساكنهم، وتجارتهم، ولجؤوا إلى الله ورسوله فكانوا فقراء، لكن فقرهم ليس دائماً، هذا فقر امتحان، لقد أغناهم الله من فضله، سيدنا عمر حينما جاءت كنوز كسرى كان الرجلان يرفع كلّ منهما رمحه، والرجل الآخر في الطرف الثاني فلا يرى أحدهما رأس رمح زميله؛ لأن الغنائم أعلى من رمحيهما، كلُّها ذهب، وتيجان، وأساور، وممتلكات، لقد أغناهم الله من فضله، فهذا الفقر طارئ، فقر امتحان، ثم يأتي فضل الله العميم (يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِّنَ ٱللَّهِ وَرِضْوَٰنًا) ، أما سلوكهم: (وَيَنصُرُونَ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُ) والله    -عزَّ وجلّ- غنيٌ عن أن تنصرَه، لكن حينما تقيم الإسلام، حينما تطبِّق تعاليم الإسلام، حينما تعتزُّ بالإسلام، حينما تدافع عن الإسلام، حينما تؤيِّد المسلمين، حينما تنصرهم، حينما تبغض أعداءهم، حينما يكون ولاؤك لهم وبغضك لأعدائهم أنت بهذا نصرت المسلمين (أُوْلَٰٓئِكَ هُمُ ٱلصَّٰدِقُونَ)
أحيانًا- من أضيق الأمثلة-: شاب سمع من مجلس علم أنّه لا يجوز إطلاق البصر إلّا في المحارم، فإذا دخل إلى بيته وحوله أمه وأبوه وإخوته، وأراد ألّا ينظر إلى من لا تحلُّ له من قريباته، فأقاموا عليه النكير أمه وأبوه وإخوته وأعمامه وعمَّاته، فإذا جاء مَن يؤيِّده فهذا هو الحق، هذا هو الشرع، هذا الذي دافع عن هذا الشاب المؤمن الذي أراد أن يستقيم على أمر الله، ماذا فعل هذا الإنسان؟ لقد نصر الله ورسوله، ودافعَ عن موقف شرعي، هذا الذي يمتنع عن أكل الربا والناس مِن حوله يأكلون الربا أضعافاً مضاعفة، فإذا امتنع واتُّهِم بالغباء، وقام أحدٌ وقال: هذا هو الحقّ، وهذا الدخل حرام ولا يجوز، إن هذه الكلمة التي تلقيها على مسمعٍ من الناس تنصر بها هذا المستقيم على أمر الله، إن هذا نصرٌ لدِّين الله وتقوية للِّدين، أما إذا تساهلنا في نصرة المؤمنين، ووالينا أعداء المؤمنين، ولم نستجبْ لله ورسوله فقد خذلنا هذا الدِّين، وحينما يهون الدين علينا نهون على الله، وحينما يهون أمر الله علينا نهون على الله.

الصدقُ دليلُ الإيمانِ:


(أُوْلَٰٓئِكَ هُمُ ٱلصَّٰدِقُونَ) الله -عزَّ وجلَّ- سمَّاهم صادقين، لأن أفعالهم أيَّدَت أقوالهم، إنسان وعدك أن يعطيك مبلغاً من المال في الوقت الفلاني، فلما جئته وطالبته بالمبلغ نقده لك، هل هو صادقٌ في وعده؟ بالطبع لأنّه دفع لك المبلغ في الوقت المحدد الموعود فهو صادق، وكل مؤمن يطبِّق أمر الله -عزَّ وجلَّ- يُعدُ هذا التطبيق مصداقيةً في إيمانه، وقد سمّى النبي -عليه الصلاة والسلام-:

(( الطُّهُورُ شَطْرُ الإيمانِ، والْحَمْدُ لِلَّهِ تَمْلأُ المِيزانَ، وسُبْحانَ اللهِ والْحَمْدُ لِلَّهِ تَمْلَآنِ -أَوْ تَمْلأُ- ما بيْنَ السَّمَواتِ والأرْضِ، والصَّلاةُ نُورٌ، والصَّدَقَةُ بُرْهانٌ، والصَّبْرُ ضِياءٌ، والْقُرْآنُ حُجَّةٌ لَكَ، أوْ عَلَيْكَ، كُلُّ النَّاسِ يَغْدُو فَبايِعٌ نَفْسَهُ فَمُعْتِقُها، أوْ مُوبِقُها. ))

[ أخرجه مسلم عن أَبِي مالك الأشعري  ]

لأنّها تؤكد صدق صاحبها، فهذا النموذج -أنّ إنسانًا يخسر شيئًا من الدنيا-، اليوم أب يكتب لأحد أولاده ظُلماً وعدواناً كل ماله؛ لأن هذا الابن من زوجته الأخيرة، وأولاده الآخرون من زوجةٍ قد طلَّقها ولا يحبها، فإذا كتب هذا المال كلَّهُ لابنه من زوجته الجديدة، وحرم أولاده من زوجته المطلقة، فلو أن هذا الابن كان مؤمناً، وأراد أن يرحم أباه، وأن ينقذه من عذاب النار فوزَّع هذه التركة بين إخوته جميعاً وفق ما أمر الله -عزَّ وجلَّ، ألا يخسر؟ يخسر طبعاً، هل يُعدُّ فقره الطارئ ضعفَ حيلةٍ فيه؟ لا، هذا فقر وسام شرف له، يوجد أبناء أعرف عدداً كبيراً والله، الأب أعطاهم كلّ شيء، بعد موت الأب وزَّعوا هذا المال على إخوتهم وفق قواعد الشرع، فأنقذوا أباهم من عذاب النار، ورمَّموا العلاقة بينهم وبين إخوتهم، كانوا أعداء فأصبحوا أحباباً، فهذا الذي كان له خمسة وعشرون دونمًا بقي له دونمان من الأراضي، هل يُعد هذا الفقر ضعفًا فيه؟ لا، هذا الفقر وسام شرف في حقّه.
  أما يوجد فقر الكسل، إنسان مهمل، غير متقن، كسول، متوانٍ، ذهَب عمره فُرُطًا، مهمل أعماله، هذا فقر اسمه فقر الكسل؛ هذا وصمة عار، وهناك فقر يأتيك من مبادئك، فقر يأتيك من استقامتك، أحياناً الإنسان يرفض أن يدفع مبلغًا غير مشروع فيخسر صفقة كبيرة جداً فيها شرط مسبق، يوجد شروط ليست في كتاب الله، هناك إنفاق من المال غير شرعي، فإذا امتنعت عن إنفاق هذا المال غير الشرعي خسرت صفقةً كبيرة، وَلْيَكُن ومرحباً بقضاء الله، أنا أريد أن أركزَ على أنّه ليس كلّ فقر يُعد وصمة عار، هناك فقر يُعدّ وسام شرف، هذا انتصار لمبادئك، الدنيا تحت قدمك، هذا نموذج، وهذا النموذج نموذج المهاجر الفقير هذا نموذج مستمر إلى يوم القيامة، كلّ إنسان خسر شيئاً من الدنيا، أو خسر الدنيا من أجل مبدئه ومن أجل دينه، ومن أجل آخرته تنطبق عليه هذه الآية.

 الأنصار، وما أدراك ما الأنصار؟:


 1 ـ أصحاب الأرض والإيمان:

﴿ وَٱلَّذِينَ تَبَوَّءُو ٱلدَّارَ وَٱلْإِيمَٰنَ مِن قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِى صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِّمَّآ أُوتُواْ وَيُؤْثِرُونَ عَلَىٰٓ أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ ۚ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِۦ فَأُوْلَٰٓئِكَ هُمُ ٱلْمُفْلِحُونَ (9)﴾

[ سورة الحشر ]

هؤلاء الأنصار الذي أقاموا بالمدينة قبل أن يأتيَها المهاجرون، وتبوءوا الإيمان وهذه عبارةٌ رائعة، فكأن الإيمان مأوًى لهم، آووا إليه، سكنوه، كأن الإيمان حصنٌ حصين، قلعةٌ شامخة تبوءوها، سكنوها، أووا إليها (وَٱلَّذِينَ تَبَوَّءُو ٱلدَّارَ وَٱلْإِيمَٰنَ مِن قَبْلِهِمْ) هؤلاء الأنصار يحبون من هاجر إليهم، أي أنت بشكل مبسط تسكن في دمشق، لك بيت، لك عمل، لك تجارة، لك وظيفة، عندك إمكانيَّات معقولة، رأيت طالب علمٍ أتى هذا البلد لوجه الله ليتعلَّم العلم الشرعي، ليعود إلى بلده خطيباً أو داعيةً، إذا ساعدته، أسكنته غرفة، قدَّمت له معونة، قدَّمت له مأوى، قدَّمت له بعض الأثاث، قدمت له بعض المساعدات، بعض الكتب، أنت كنت أنصاريًا الآن بالمعنى الموسَّع، هناك أنصاري عاش مع النبي، وأنصاري مستمر إلى يوم القيامة، فكل إنسان عاون أخاه، كان أقوى منه مالاً وسعةً، وعاون أخًا مهاجرًا طالب علم، هذا أنصاري أيضاً، إذا فهمنا الدِّين فهماً موسَّعاً فهذا الدِّين يتسعُ لكلّ العصور.

 2 ـ المحبة:

(وَٱلَّذِينَ تَبَوَّءُو ٱلدَّارَ وَٱلْإِيمَٰنَ مِن قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ) أحياناً هناك بعض البلاد الغنية في أوروبا يأتيها مهاجرون من دول فقيرة، هؤلاء المتعصبون يفتعلون الجرائم لقتلهم كما جرى في ألمانيا، لا يحبُّون من هاجر إليهم مع أنّهم يخدمونهم، فهؤلاء الذين يأتون إلى دول غنية يعملون في أعمال يترفَّع عنها أهل البلاد ومع ذلك يكرهونهم، هم في خدمتهم، وفي معونتهم، ويكرهونهم؛ هذا مجتمع الكفر، أما مجتمع الإيمان (يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ) 

 3 ـ عدم الحسد والغيرة:

وحينما أعطى النبي المهاجرين الفقراء فيء بني النضير، كان الأنصار في أعلى درجات الطيب والمؤاثرة، قال تعالى: (وَلَا يَجِدُونَ فِى صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِّمَّآ أُوتُواْ) مما أوتي هؤلاء، فما حسدوهم، ولا وجدوا عليهم في أنفسهم، ولا تألموا، ولا اغتاظوا أبداً (وَلَا يَجِدُونَ فِى صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِّمَّآ أُوتُواْ) ، أنا أريد أن أنقلَ هذه الحقائق لعصرنا، إذا أخذ أخوك دكتوراه هل تنزعج؟ إذا أخذ أخوك منصبًا، إذا نال أخوك شهادة، اشترى بيتًا، تزوَّج، استقر، أسس شركة، إذا أنت تأَلَّمت، واغتظت، وطعنت فيه أنت لست مؤمناً، أما علامة إيمانك أن تفرح له، وألّا تتأثر، بل هناك موقف أرقى وكأن هذا الخير أصابك أنت، أخوك ارتقى، الله أعطاه، فعلامة إيمانك أن تفرحَ لأخيك إذا نال من الله فضلاً، لا أن تحسدَه، لا أن تطعنَ به، لا أن تغارَ منه، لا أن تُسَفِّهَه، لا أن تنالَ من عِرْضِهِ (وَٱلَّذِينَ تَبَوَّءُو ٱلدَّارَ وَٱلْإِيمَٰنَ مِن قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِى صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِّمَّآ أُوتُواْ) ، أحياناً يكون أخوان مؤمنان طيِّبان رفيقان بينهما علاقات حميمة، فإذا أحدُهما نال شيئًا، نال شهادة، نال منصبًا، تزوج، تَجِدُ الآخر بدأ بالطعن، والغمز، واللمز، والغيرة، والحسد؛ هذا نفاق، هذه أحوال المنافقين، أما إذا كنت مؤمنًا صادقًا تفرحُ لأخيك وكأن الذي ناله نالك، وكأن الذي أصابه من خير أصابك (وَلَا يَجِدُونَ فِى صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِّمَّآ أُوتُواْ)

 4 ـ الإيثار:

والأبلغ من ذلك: (وَيُؤْثِرُونَ عَلَىٰٓ أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ) ، حضرنا قبل يومين حفل تخريج معهد شرعي، فحدَّث مدير المعهد أن ثمة جائزة بعشرة آلاف ليرة للأول، عنده طالبان نالا العلامات بالتمام والكمال، متشابهان، فالعشرة لمن؟ الثاني له خمسة آلاف، قال أنه بقي نصف ساعة في مكتب الإدارة وهو يقنع أحدهما أن يأخذَ العشرة آلاف، كلّ منهما يؤثر أخاه بالمبلغ وهما فقيران ليسا من الأغنياء، يقولُ كلّ منهما: أعطها لزميلي؛ هذا الإيمان، والحقيقة لا يرضى عنا ربّنا -عزَّ وجلَّ- إلّا إذا كنا كذلك، قال تعالى: (وَيُؤْثِرُونَ عَلَىٰٓ أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ) ، وقد يكون في أشدِّ الحاجة إلى هذا المبلغ لكنه يعطيه لأخيه (وَيُؤْثِرُونَ عَلَىٰٓ أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ) 
إخواننا الكرام؛ الإيمان ليس كلاماً تردده، ولا حركاتٍ تؤدِّيها، ولا انتماءً تاريخياً تعتزُّ به، الإيمان سلوك، الإيمان مؤاثرة، الإيمان مواقف، والله -عزَّ وجلَّ- لا يرضى عنا، ولا يحبنا، ولا ينصرنا على أعدائنا، وما أكثرهم! إلّا إذا كنا كذلك، فإذا كان المسلمون متحاسدين، متباغضين، كلٌ يطعن بأخيه، كل يسفِّه حلقة أخرى، يعتز بحلقته أو بجماعته، ويسفِّه الحلقات الأخرى، هذا إنسان لا ينتمي إلى مجموع المؤمنين، ينتمي إلى فقاعةٍ لا قيمة لها، لا تعظُم عند الله إلّا إذا كان انتماؤك لمجموع المؤمنين، إذاً: هؤلاء الأنصار كان أحدهم يقول: (يا أخي، خذ هذا البستان فهو لك، خذ هذه الدار فهي لك، يرد عليه أخوه: أن بارك الله لك في مالك، ولكن دلني على السوق) ، كما أن الأنصار كانوا أسخياء كان المهاجرون أَعِفَّةً أتقياء، السخاء من الأنصار، والعفة والتقى من المهاجرين، إذاً: (وَيُؤْثِرُونَ عَلَىٰٓ أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ)

صورٌ ونماذج لإيثار الصحابة:


(( جاء رجُلٌ إلى رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم فقال: إنِّي مجهودٌ فأرسَل إلى بعضِ نسائِه فقالت: والَّذي بعَثك بالحقِّ نبيًّا ما عندي إلَّا ماءٌ ثمَّ أرسَل إلى أخرى فقالت مِثْلَ ذلك حتَّى قُلْنَ كلُّهنَّ مِثلَ ذلك فقال: (مَن يُضيِّفُ هذا اللَّيلةَ رحِمه اللهُ) فقام رجُلٌ مِن الأنصارِ فقال: أنا يا رسولَ اللهِ فانطلَق به إلى رَحْلِه فقال لامرأتِه: هل عندكِ شيءٌ؟ قالت: لا إلَّا قوتَ صبياني قال: فعَلِّليهم بشيءٍ فإذا دخَل ضيفُنا فأضيئي السِّراجَ وأريه أنَّا نأكُل فإذا أهوى ليأكُلَ قومي إلى السِّراجِ حتَّى تُطفئيه قال: فقعَدوا وأكَل الضَّيفُ فلمَّا أصبَح غدا على النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم فقال: (لقد عجِب اللهُ مِن صنيعِكما اللَّيلةَ) ))

[ متفق عليه عن أبي هريرة   ]

آثر هذا الضيف على طعام أولاده، هناك مواقف متعددة: كان الصحابة في سفر، وأصابهم جوعٌ شديد، الطعام قليل، فوضعوا هذا الطعام في طبق، وكان الوقت ليلاً، وكلّ واحدٍ أوهم الآخر أنّه يأكل، فلما انتهوا من الطعام، وجدوا أن الطعام لم يؤكل إطلاقاً، كلّ واحد يؤثر أخاه فيما يأكل، وأبلغ من ذلك الإنسان الجريح حاجته إلى الماء خيالية، فلو قلت له: هل تشتري هذا الكأس بمليون ليرة؟ يقول لك: نعم، كأس ماء، ففي معركة اليرموك حينما طاف أحدهم بقربة ماءٍ على سيدنا عكرمة آثر بها أخاه، سمعه يئن قال: أعطِ أخي، فلما جاء إلى أخيه سمع أخاً ثالثاً يئن قال: أعطِ أخي، أول إنسان سمع أخاه يئن قال: أعط أخي لعله أحوج مني، فانتقل هذا الساقي إلى الثاني فسمع أخاً يئن فقال: أعطِ أخي، فإنه أحوج مني، ذهب إلى الثالث فرآه قد مات، فاضت روحه، عاد إلى الثاني فرآه قد مات، عاد إلى الأول فرآه قد مات، ثلاثةٌ وهم في طور النزاع، وهم في أشد الحاجة إلى الماء، آثروا على أنفسهم، انظرْ إلينا، هل نحن في هذا المستوى؟ تجد الإنسان يقتنص المغانم، وكأنّه ليس في الدنيا إلا هو (وَيُؤْثِرُونَ عَلَىٰٓ أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ)
  إخواننا الكرام؛ المؤمن الصادق يبني حياته على العطاء والمؤاثرة، والمنافق يبني حياته على الأخذ والأَثَرَة، يوجد عندنا أثرة ومؤاثرة، الأثرة: أن تأخذَ كلّ شيء دون أن تعطيَ شيئاً، والمؤاثرة: أن تعطيَ أخاك كلّ شيء ولا تأخذ شيئاً، المؤمن الصادق يبني حياته على المؤاثرة والعطاء، والمنافق يبني حياته على الأثرة والأخذ.

الفرق بين البخل والشحّ:


(وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِۦ فَأُوْلَٰٓئِكَ هُمُ ٱلْمُفْلِحُونَ) الحقيقة أنّ البُخل أنْ تبخلَ بمالك، أما الشُح فأن تطمع بمال غيرك، أن تأخذَ ما ليس لك، لذلك الإنسان الذي يأخذ ما ليس له هو عند الله شحيح، وهذا من أخطر الأمراض، لأن أكل المال الحرام مُدَمِّر، وقد قيل: (بَرِئَ من الشُّحِّ من أَدَّى الزكاةَ، وقَرَى الضيفَ، وأَعْطى في النائِبةِ) أدى زكاة ماله، وأقرى الضيف، وأعان على النائبة، هذا بريء من الشح، أما الذي يستأثر بكل شيء ولا يعطي شيئاً هو بخيل، أما إذا أخذ ما ليس له فهو شحيح (وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِۦ فَأُوْلَٰٓئِكَ هُمُ ٱلْمُفْلِحُونَ) ، من أكبر الأمراض المدمرة المهلكة في الإنسان أن يكونَ شحيحاً، أن يأخذَ ما ليس له وأن يبخلَ بما في يديه، والإنسان كما قال الله -عزَّ وجلَّ-:

﴿ إِنَّ ٱلْإِنسَٰنَ خُلِقَ هَلُوعًا (19) إِذَا مَسَّهُ ٱلشَّرُّ جَزُوعًا (20) وَإِذَا مَسَّهُ ٱلْخَيْرُ مَنُوعًا (21) إِلَّا ٱلْمُصَلِّينَ (22)﴾

[ سورة المعارج ]

المصلي ليس جزوعاً ولا منوعاً. 

(( أنَّ رَجُلًا سَأَلَ النَّبيَّ صلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ غَنَمًا بيْنَ جَبَلَيْنِ، فأعْطَاهُ إيَّاهُ، فأتَى قَوْمَهُ فَقالَ: أَيْ قَوْمِ، أَسْلِمُوا؛ فَوَاللَّهِ إنَّ مُحَمَّدًا لَيُعْطِي عَطَاءً ما يَخَافُ الفَقْرَ. ))

[ صحيح مسلم عن  أنس بن مالك   ]

المال عند المؤمن في يديه وليس في قلبه، سخيٌ من هذا الباب، فهو يرى أن هذا المال مال الله، وأن الله يؤتيه من يشاء، وأن الله يخلف كلّ ما تنفقه، لذلك كلما ازددت إنفاقاً ازداد الله لك عطاءً:

((  أن النبيَّ -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم- دخل على بلالٍ وعنده صُبْرَةٌ من تَمْرٍ، فقال: ما هذا يا بلالُ ؟!، قال: شيءٌ ادَّخَرْتُهُ لِغَدٍ، فقال: أَمَا تَخْشَى أن تَرَى له غَدًا بُخَارًا في نارِ جهنمَ يومَ القيامةِ؟! أَنْفِقْ بلالُ! ولا تَخْشَ من ذِي العرشِ إِقْلالًا. ))

[ أخرجه الطبراني، وأحمد، والبيهقي، والبزار عن أبي هريرة (صحيح بمجموع طرقه) ]

((  قالَ اللَّهُ -عزَّ وجلَّ-: أنْفِقْ أُنْفِقْ عَلَيْكَ، وقالَ: يَدُ اللَّهِ مَلْأَى، لا تَغِيضُها نَفَقَةٌ، سَحَّاءُ اللَّيْلَ والنَّهارَ، وقالَ: أرَأَيْتُمْ ما أنْفَقَ مُنْذُ خَلَقَ السَّماءَ والأرْضَ؟! فإنَّه لَمْ يَغِضْ ما في يَدِهِ، وكانَ عَرْشُهُ علَى الماءِ، وبِيَدِهِ المِيزانُ يَخْفِضُ ويَرْفَعُ ))

[ أخرجه البخاري ومسلم عن أبي هريرة  ]

 والله حدثني أخ قبل يومين كان له قريب توفَّاه الله -عزَّ وجلَّ-، وقد وقف على تغسيله، فقال المُغسّل: أعليه دين -كما هي العادة-؟ قال أهله: نعم، فقال هذا القريب: عليّ دينه، قال لي: أنا لا أعرف كم مقدار المبلغ، في اليوم التالي فوجئ أن المبلغَ كبيرٌ جداً، فما تراجع ودفع الدَّين كلّه، أقسم بالله العظيم أنّه في اليوم التالي باع بيعاً على خلاف المألوف من سنتين، بحيث أن نصيبه من الربح يغطي هذا الذي دفعه لهذا القريب الفقير، أقسم بالله أن نصيبه في يومٍ واحد يغطي المبلغ الكبير الذي أنفقه وفاءً لدَين قريبه المتوفَّى (أَنْفِقْ بلالُ! ولا تَخْشَ من ذِي العرشِ إِقْلالًا) (عبدي أنْفِقْ أُنْفِقْ عَلَيْكَ) وهناك قصص شهيرة جداً.

 الفئة الثالثة بعد المهاجرين والأنصار وصفاتهم:


هؤلاء الذين عاشوا مع النبي مهاجر وأنصاري، إنسان ضحَّى بالدنيا في سبيل الله، وإنسان بذل الدنيا في سبيل الله، أحدهم ضحَّى، وأحدهم بذل، ومعنى هذا نحن إلى يوم القيامة يجبُ أن يكونَ فينا أنصاري ومهاجر، المهاجر إنسان آثر رضوان الله على الدنيا، ضحَّى بالدنيا في سبيل الله، والأنصاري بذل الدنيا في سبيل الله، أي الإنسان أحد رجلين: إنسان آثر، وإنسان بذل، الذي ضحَّى هو المهاجر، والذي بذل هو الأنصاري، وهناك فئة الثالثة هؤلاء الذي جاءوا بعد رسول الله، وبعد أصحاب رسول الله، هم التابعون، وتابعو التابعين، وتابعو تابعي التابعين، ومن جاء بعدهم إلى يوم الدين، الله -عزَّ وجلَّ- وصفهم، فإن انطبق الوصف علينا فالحمد لله وإلّا فنحن لسنا على شيء، قال تعالى:

﴿ وَٱلَّذِينَ جَآءُو مِنۢ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا ٱغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَٰنِنَا ٱلَّذِينَ سَبَقُونَا بِٱلْإِيمَٰنِ وَلَا تَجْعَلْ فِى قُلُوبِنَا غِلًّا لِّلَّذِينَ ءَامَنُواْ رَبَّنَآ إِنَّكَ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ (10)﴾

[  سورة الحشر ]

قال بعض المفسرين: "تنطبق هذه الآية على كلّ المسلمين الذين جاءوا بعد رسول الله إلى يوم القيامة" ، وبعضهم قال: "على التابعين فقط"، أما الأصح والأولى والأرجح أنّها تنطبق على جميع الذين جاءوا بعد رسول الله إلى يوم القيامة: (وَٱلَّذِينَ جَآءُو مِنۢ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا ٱغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَٰنِنَا ٱلَّذِينَ سَبَقُونَا بِٱلْإِيمَٰنِ)
 أمم الكفر كلما جاءت أمة لعنت أختها، كلما جاء إنسان مكان إنسان لعن الذي قبله، هذه أمة الكفر والنفاق، أما أمة الإسلام كلما جاءت أمةٌ أثنت على التي قبلها (رَبَّنَا ٱغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَٰنِنَا) الأنصار والمهاجرين (ٱلَّذِينَ سَبَقُونَا بِٱلْإِيمَٰنِ) ، فإذا طعن الإنسان في أمته، طعن في تاريخه، طعن في أصحاب النبي الكرام، طعن في هؤلاء الذين نقلوا لك هذا الدين فهذه علامة النفاق، من هنا قال -عليه الصلاة والسلام-:

(( آيَةُ الإيمَانِ حُبُّ الأنْصَارِ، وآيَةُ النِّفَاقِ بُغْضُ الأنْصَارِ ))

[ صحيح البخاري عن أنس بن مالك  ]

أما الذي يطعن في أمته العربية فماذا يعني ذلك؟ قال -عليه الصلاة والسلام-:

(( يَا سَلْمَانُ، لَا تُبْغِضْنِي فَتُفَارِقَ دِينَكَ، قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَكَيْفَ أُبْغِضُكَ وَبِكَ هَدَانَا اللَّهُ؟ قَالَ: تُبْغِضُ الْعَرَبَ فَتُبْغِضُنِي  ))

[ رواه الترمذي، والبزار، والطبراني، والحاكم بسند ضعيف  ]

أحياناً يذهب الإنسان إلى بلاد الغرب فيرجع، ويقول لك: نحن متخلفون لا نفهم، كلّ صفات النقص يلصقها بأمته العربية، وكلّ صفات الكمال يلصقها بهؤلاء الذين يستبيحون دماء الشعوب. 

قتلُ امرئٍ في غابــةٍ     جريمةٌ لا تغتفــــرْ

وقـتـلُ شعـــبٍ آمـنٍ      مسألـةٌ فيهـا نظـرْ

[ أديب إسحاق ]

فالذي يُصْبِغُ على أهل الكفر والفساد والطغيان، والذي يعيشون على أنقاض الأمم كلّ الخير والفضيلة والفهم والحكمة، هذا إنسان ليس فيه من الإيمان شيء، والذي يطعن في أمته التي أوصلت له هذا الدين أيضاً منافق، هؤلاء الذين جاءوا من بعدهم يقولون: (رَبَّنَا ٱغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَٰنِنَا ٱلَّذِينَ سَبَقُونَا بِٱلْإِيمَٰنِ) أما أهل الكفر كلما جاءت أمةٌ لعنت أختها، أما أهل الإيمان وعلى مستوى الدعاة إلى الله، وأنت واحد منهم يجب أن تنتبه إلى فضائلهم، إلى مكانتهم، إلى علمهم، إلى ورعهم دون أن تطعن بهم، أما إذا طعنت بفلان وفلان ..، على مستوى المِهَن قد يزور الإنسان طبيبًا، فيقول الطبيب للمريض: من وصف لك هذه الوصفة؟ مباشرةً يطعن في زميله، المحامي يطعن في زميله، المهندس يطعن في زميله، هذا الطعن والتسفيه والتحقير، وأن تبني مجدك على أنقاض الآخرين، على مستوى الحِرَف، على مستوى الدعوة إلى الله، على مستوى الأمم؛ هذا من صفات المنافقين، كلما جاءت أمةٌ لعنت أختها، أما هؤلاء الذين جاءوا من بعدهم (وَٱلَّذِينَ جَآءُو مِنۢ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا ٱغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَٰنِنَا ٱلَّذِينَ سَبَقُونَا بِٱلْإِيمَٰنِ) هذه دعوتهم للسابقين، وفيما بيننا: (وَلَا تَجْعَلْ فِى قُلُوبِنَا غِلًّا لِّلَّذِينَ ءَامَنُواْ) امتحن نفسك من هذين البندين، هل تدعو للصحابة الكرام الذين أوصلوا لك هذا الدِّين؟ هل تدعو للتابعين، ولتابعي التابعين، وللعلماء العاملين، وللفقهاء والمحدثين والقُرَّاء والمفسرين؟ هل تدعو لهؤلاء جميعاً الذين حفظوا لك هذا الدين، وأوصلوه إليك، أم تطعن فيهم؟ وتقول: هذا الشيخ الأكفر، وهذا الجاهل، هل هذا هو السلوك الصحيح؟

﴿ تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ ۖ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُم مَّا كَسَبْتُمْ ۖ وَلَا تُسْـَٔلُونَ عَمَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ(144)﴾

[ سورة البقرة ]

ليس من المهم أن ننبُشَ الماضي، ليس من المهم أن نستقدم مشكلاتٍ قديمةً، وأن نجعل هذه المشكلات سبب عداوتنا (وَلَا تَجْعَلْ فِى قُلُوبِنَا غِلًّا لِّلَّذِينَ ءَامَنُواْ رَبَّنَآ إِنَّكَ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ) ، فإذا كنت ممن تنطبق عليهم هذه الآية؛ تترحَّم على السلف الصالح، وتقيم مودةً بينك وبين إخوانك، أو بينك وبين كلّ مسلم، أنا أرفض أن يكونَ انتماؤك إلى جماعةٍ محدودة، أنت تنتمي إلى مجموع المؤمنين، كلّ مسلمٍ أخوك في الله، يجبُ أن تنصرَه، وأن تحترمَه، وأن تؤيِّدَه، وأن تدافعَ عنه، وأحياناً بعض الجماعات الدينية إذا ترك الإنسان جماعة إلى أخرى يكفرونه ويخرجونه من دينه، هل هذا هو الدِّين؟ هل هكذا كان أصحاب رسول الله؟ أحدهم تخلَّف عن الغزو مع رسول الله، وهناك إنسان طعن فيه، فقام أحد أصحاب رسول الله، قال: "والله يا رسول الله لقد تخلَّف عنك أناسٌ ما نحن بأشد حباً لك منهم، ولو علموا أنك تلقى عدواً ما تخلفوا عنك" ، النبي ابتسم وسُرَّ، هكذا كان أصحاب رسول الله.
سيدنا الصديق قال لسيدنا عمر: "يا عمر -أمام أصحاب رسول الله بعد وفاة النبي- : ابسط يدك نبايع لك، قال: " أيّ أرضٍ تقلُّني، أيّ سماءٍ تظلُّني إذا كنت أميراً على قومٍ أبو بكرٍ فيهم"، أنا أكون أميراً عليك!! -معاذ الله-، قال له: أنت أقوى مني، فقال عمر: "أنت أفضل مني، إنّ قوتي لك مع فضلك" ، أنا أعينك، ومرة قال: " كنت مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فكنت عبده وخادمه، فكنت بين يديه كالسيف المسلول إلا أن يغمدني، وتوفي عني وهو عني راضٍ، وأنا بهذا أسعد، ثم جاء أبو بكر فكنت خادمه وجلواذه، وسيفه المسلول، فكان يغمدني إذا شاء، وتوفي عني وهو عني راضٍ، وأحمد الله على هذا كثيراً، وأنا به أسعد" ، هكذا كان الصحابة بين بعضهم البعض في مودة، وفي حب، وفي إيثار بشكل غير معقول، فالله -سبحانه وتعالى- لا يرضى عنا إلا بهذا الود، وهذه المحبة، وهذه المؤاثرة. 
(وَٱلَّذِينَ جَآءُو مِنۢ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا ٱغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَٰنِنَا ٱلَّذِينَ سَبَقُونَا بِٱلْإِيمَٰنِ وَلَا تَجْعَلْ فِى قُلُوبِنَا غِلًّا لِّلَّذِينَ ءَامَنُواْ) يجب أن تترحَّم على السَلَف الصالح، الذين قدَّموا لك هذا الدين، حفظوه من تأويل المتأولين، وتحريف المفسرين، أوصلوه إليك، لكن هناك شخص ليس له همٌّ إلّا أن يطعن بالمحدثين، بالمفسرين، بالعلماء، فهذا ليس من شأنك (تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ ۖ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُم مَّا كَسَبْتُمْ ۖ وَلَا تُسْـَٔلُونَ عَمَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ) ؟
(وَلَا تَجْعَلْ فِى قُلُوبِنَا غِلًّا لِّلَّذِينَ ءَامَنُواْ) أنت إذا أويت إلى فراشك، وليس في قلبك حقدٌ على أحد، ولا غلٌ على أحد، تحب الخير لكل المسلمين، ترجو رحمة الله لكلّ المسلمين، تفرحُ إن أصاب الخير المسلمين فأنت مؤمن، إما إذا كان لك خمسون عداوة، وخمسون حقدٌ، وتطعن وتنتقص، وتغمز وتهمز، فليس هذا من أخلاق المؤمنين (رَبَّنَآ إِنَّكَ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ) ، الفئة الأولى: المهاجرون الذين تركوا الدنيا في سبيل الله، والأنصار الذين أعطوا الدنيا في سبيل الله، أحدهم تركها ليرضى الله عنه، وأحدهم أعطاها ليرضى الله عنه، قيل: مرة أحد الرجال كان عند سيدنا عثمان، وجاء رجل وأعطاه عطاءً جزيلاً، فبكى هذا الرجل، قال له: ما يبكيك؟- طبعاً بكاء كيدي- قال له: كنت عند عمر بن الخطاب، وجاءه هذا الرجل فلم يعطه، تغير الزمان، فقال عثمان -رضي الله عنه-: "لقد منع عمر لله، وأنا أعطي لله" ، ومرة سيدنا عمر لما وقف على المنبر مباشرة نزل درجة، قال: "ما كان الله ليراني أرى نفسي أهلاً لمجلس أبي بكر" ، عثمان لم ينزلْ درجة، لماذا لم يفعلْها عثمان؟ بعض الخلفاء من بني أمية سأل وزيراً له، قال له: "لِمَ لمْ يفعلْها عثمان؟ قال له: والله لو فعلها لكنت في قعر بئر" ، فإذا نزل كلّ واحد درجة نحتاج إلى حفر بئر، فعلها عمر مرةً واحدة، عثمان لم يفعلْها، عمر فعلها لله، وعثمان لم يفعلْها لله، لو كان فعلها لصارت سنة، كلّ واحد ينزل درجة، ولوصل الإنسان إلى الأرض فيحفر، قال له: " لكنت في قعر بئر" .
الفئة الأولى: المهاجر الذي ترك الدنيا في سبيل الله، والفئة الثانية: الذين أعطوا الدنيا في سبيل الله، والذين جاءوا من بعدهم ترحَّموا على من سبقهم، وأحبوا مَن حولهم، ترحموا على مَن سبقهم، وأثنوا عليهم، وعزوا الفضل لأهله، وأثنوا، وأحبوا مَن حولهم، أما إذا كان طعنَ بالسلف الصالح، وعادينا من حولنا، معنى ذلك أننا منافقون (وَٱلَّذِينَ جَآءُو مِنۢ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا ٱغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَٰنِنَا ٱلَّذِينَ سَبَقُونَا بِٱلْإِيمَٰنِ وَلَا تَجْعَلْ فِى قُلُوبِنَا غِلًّا لِّلَّذِينَ ءَامَنُواْ رَبَّنَآ إِنَّكَ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ)  
 

الفئة المريضة: المنافقون:


أما الفئة الثالثة فنعوذ بالله أن نكونَ منهم:

﴿ أَلَمْ تَرَ إِلَى ٱلَّذِينَ نَافَقُواْ يَقُولُونَ لِإِخْوَٰنِهِمُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْ أَهْلِ ٱلْكِتَٰبِ لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلَا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَدًا أَبَدًا وَإِن قُوتِلْتُمْ لَنَنصُرَنَّكُمْ وَٱللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَٰذِبُونَ(11)﴾

[ سورة الحشر ]

اليهود، الله سماهم بإِخْوَانهمْ لأنّهم على شاكلتِهم (يَقُولُونَ لِإِخْوَٰنِهِمُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْ أَهْلِ ٱلْكِتَٰبِ لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ)، بني النضير إيَّاكم أن تستسلموا لمحمد، إيّاكم أن تخضعوا له، إيّاكم أن تنزلوا على حكمه، نحن معكم، إن قاتلكم نقاتل معكم، إن أخرجكم نخرج معكم، حمَّسوهم كثيرًا، انتظروا ثلاثة وعشرين يوماً فلم يجدوا حركة منهم إطلاق، عندئذٍ نزلوا على حكم النبي (أَلَمْ تَرَ إِلَى ٱلَّذِينَ نَافَقُواْ يَقُولُونَ لِإِخْوَٰنِهِمُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْ أَهْلِ ٱلْكِتَٰبِ لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلَا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَدًا أَبَدًا وَإِن قُوتِلْتُمْ لَنَنصُرَنَّكُمْ وَٱللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَٰذِبُونَ) ، أي إذا أحدهم لا يصلي ولا فيه دين، وغارق في المعاصي ووعدك، وقال لك: لا تخَفْ أنا معك، فلا تصدقه، ننصحك ألّا تصدقه، لا تتورط معه إطلاقاً؛ لأنّه كذَّاب، سوف يخلف وعده، وسوف تحتاجه في أصعب الظروف فيختفي من وجهك، ويتنصلُ منك؛ هذا كلام، هذا النموذج مستمر إلى يوم القيامة.

﴿ أَلَمْ تَرَ إِلَى ٱلَّذِينَ نَافَقُواْ يَقُولُونَ لِإِخْوَٰنِهِمُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْ أَهْلِ ٱلْكِتَٰبِ لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلَا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَدًا أَبَدًا وَإِن قُوتِلْتُمْ لَنَنصُرَنَّكُمْ وَٱللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَٰذِبُونَ (11)  لَئِنْ أُخْرِجُواْ لَا يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ وَلَئِن قُوتِلُواْ لَا يَنصُرُونَهُمْ وَلَئِن نَّصَرُوهُمْ لَيُوَلُّنَّ ٱلْأَدْبَٰرَ ثُمَّ لَا يُنصَرُونَ(12)﴾

[ سورة الحشر ]

يقول لك: هؤلاء تورَّطوا، ونحن نصحناهم فلم ينتصحوا.

﴿ لَئِنْ أُخْرِجُواْ لَا يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ وَلَئِن قُوتِلُواْ لَا يَنصُرُونَهُمْ وَلَئِن نَّصَرُوهُمْ لَيُوَلُّنَّ ٱلْأَدْبَٰرَ ثُمَّ لَا يُنصَرُونَ (12) لَأَنتُمْ أَشَدُّ رَهْبَةً فِى صُدُورِهِم مِّنَ ٱللَّهِ ۚ ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَّا يَفْقَهُونَ (13) ﴾

[ سورة الحشر  ]

المنافق شديد الخَوْف، يبيعك كلامًا فارغًا أما عند الموقف الحرج يختفي من وجهك (لَأَنتُمْ أَشَدُّ رَهْبَةً فِى صُدُورِهِم مِّنَ ٱللَّهِ ۚ ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَّا يَفْقَهُونَ) ، ثم إن الله -جلَّ جلاله- يبيِّن لعلمه بطبيعة هؤلاء المستمرة إلى يوم القيامة، يبيِّن أن المنافق جبان ومن علامات جبنه:

﴿ لَا يُقَٰتِلُونَكُمْ جَمِيعًا إِلَّا فِى قُرًى مُّحَصَّنَةٍ أَوْ مِن وَرَآءِ جُدُرٍ ۚ بَأْسُهُم بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ ۚ تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا وَقُلُوبُهُمْ شَتَّىٰ ۚ ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَّا يَعْقِلُونَ (14)﴾

[ سورة الحشر ]

المنافق أجبن وأضعف من أن يلتحمَ مع مؤمن، لكنه يحتمي بحصن، يحتمي بجدار، والآن قد يحتمي بمدرَّعة، والحقيقة هذا وصفٌ مستمرٌ لهم، لا يقاتلون قتالاً مباشراً، لا يلتحمون أبداً مع عدوِّهم، والحروب المبنية على الجبن تبدأ بالقصف الجوي، قد لا تجد التحاماً مباشراً إطلاقاً (لَا يُقَٰتِلُونَكُمْ جَمِيعًا إِلَّا فِى قُرًى مُّحَصَّنَةٍ أَوْ مِن وَرَآءِ جُدُرٍ ۚ بَأْسُهُم بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ ۚ تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا وَقُلُوبُهُمْ شَتَّىٰ) المؤمنون هم يدٌ على من سواهم، هم جميعاً حقاً، أما المنافقون: (تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا وَقُلُوبُهُمْ شَتَّىٰ) أي هناك عداوات بين المنافقين، وشرخ، وبغضاء، وحقد لا يعلمه إلّا الله؛ لأنّهم ليسوا على حقّ، فالحقّ يجمع لكن الدنيا تفرق، الدنيا مصالح والمصالح تتضارب، فإذا تضاربت فَرَّقت القلوب، أما المؤمن فهو صاحب مبدأ، والمبدأ يجمع لذلك المؤمنون لأنّهم أصحاب مبادئ يجتمعون، والمنافقون لأنّهم أصحاب مصالح يتفرَّقون (تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا) في الظاهر (وَقُلُوبُهُمْ شَتَّىٰ) ، (بَأْسُهُم بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ) والله -عزَّ وجلَّ- إذا غضب على أمةٍ جعل بأسها بينها، وإذا أحب أمةً جعل بأسها على أعدائها، وإذا كانت الأمة بأَسُها فيما بينها، ولينها لعدوها فهذه أمةٌ تودِّعَ منها، ومن علامة غضب الله على أمةٍ أن بأسها بينها، وأنّها أمام عدوها ضعيفة، أما من علامة نصرة المؤمنين أنّهم يتراحمون فيما بينهم، وهم يدٌ على من سواهم، (بَأْسُهُم بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ ۚ تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا وَقُلُوبُهُمْ شَتَّىٰ ۚ ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَّا يَعْقِلُونَ) ما عرفوا الحقّ، ما عرفوا أنّ الله هو الناصر، ما عرفوا أنّ الدار الآخرة هي الأصل.

﴿ كَمَثَلِ ٱلَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ قَرِيبًا ۖ ذَاقُواْ وَبَالَ أَمْرِهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (15)﴾

[ سورة الحشر ]

النبي الكريم أجلى أولاً بني قينقاع، لما انتصر النبي -عليه الصلاة والسلام- في معركة بدر حسدوه على هذا النصر، فأسمعوه كلاماً في منتهى الجُرْأَة ومنتهى الوقاحة، فقالوا: "أنت انتصرت على قومٍ لا يعرفون القتال، ولو قاتلتنا لرأيتنا نحن الناس" ، وتحرشوا بامرأةٍ مسلمةٍ فكشفوا عن ثيابها، فنشأت فتنةٌ انتهت بهم إلى أن أجلى النبيُّ بني قينقاع قبل بني النضير، وبعدهم بنو قريظة.

﴿ كَمَثَلِ ٱلَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ قَرِيبًا ۖ ذَاقُواْ وَبَالَ أَمْرِهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (15) كَمَثَلِ ٱلشَّيْطَٰنِ إِذْ قَالَ لِلْإِنسَٰنِ ٱكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قَالَ إِنِّى بَرِىٓءٌ مِّنكَ إِنِّىٓ أَخَافُ ٱللَّهَ رَبَّ ٱلْعَٰلَمِينَ(16)﴾

[ سورة الحشر ]

﴿ وَقَالَ ٱلشَّيْطَٰنُ لَمَّا قُضِىَ ٱلْأَمْرُ إِنَّ ٱللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ ٱلْحَقِّ وَوَعَدتُّكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ ۖ وَمَا كَانَ لِىَ عَلَيْكُم مِّن سُلْطَٰنٍ إِلَّآ أَن دَعَوْتُكُمْ فَٱسْتَجَبْتُمْ لِى ۖ فَلَا تَلُومُونِى وَلُومُوٓاْ أَنفُسَكُم ۖ مَّآ أَنَا۠ بِمُصْرِخِكُمْ وَمَآ أَنتُم بِمُصْرِخِىَّ ۖ إِنِّى كَفَرْتُ بِمَآ أَشْرَكْتُمُونِ مِن قَبْلُ ۗ إِنَّ ٱلظَّٰلِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (22)﴾

[ سورة إبراهيم ]

قال:

﴿ فَكَانَ عَٰقِبَتَهُمَآ أَنَّهُمَا فِى ٱلنَّارِ خَٰلِدَيْنِ فِيهَا ۚ وَذَٰلِكَ جَزَٰٓؤُاْ ٱلظَّٰلِمِينَ (17)﴾

[ سورة الحشر ]

تبيّن في هذا الدرس أن هناك فئة عاصرت النبي ضحت بالدنيا في سبيل الله، وفئة أخرى أعطت الدنيا في سبيل الله، وفئة جاءت بعد الفئتين ترحَّمت على مَن سبقها، وأخلصت فيما بينها؛ هؤلاء التابعون إلى يوم الدين ونحن منهم -إن شاء الله-، نثني على السلف الصالح، ونقيم المودة فيما بيننا، أما المنافقون فولاؤهم لأعداء الله، وأعداء الله يمنونَهم كالشيطان، فإذا حقّ الحقّ تخلَّوا عنهم، فهذا النموذج هو نموذج المهاجرين، والأنصار، والتابعين، والمنافقين، ونرجو الله -سبحانه وتعالى- أن نكون عند حسن ظن ربنا بنا، وأن نكون ممن استمعوا القول فاتبعوا أحسنه، وأن نقيمَ المودة والرحمة فيما بيننا، وأن نثني على من سبقنا، والحمد لله رب العالمين.

الملف مدقق

الاستماع للدرس

00:00/00:00

تحميل النص

إخفاء الصور