- الفقه الإسلامي / ٠5العبادات الشعائرية
- /
- ٠5الحج
الحمد لله رب العالمين، و الصلاة و السلام على سيدنا محمد الصادق الوعد، الأمين اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا، إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علمنا ما ينفعنا و انفعنا بما علمتنا و زدنا علماً، و أرنا الحق حقاً و ارزقنا اتباعه، و أرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، و أدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين.
من الإنصاف أن تذكر محاسن الإنسان قبل مساوئه:
أيها الأخوة المؤمنون ؛ في كتاب رياض الصالحين باب عنوانه: "الوصية بالنساء":
(( لا يَفْرَكْ مُؤْمِنٌ مُؤْمِنَةً إِنْ كَرِهَ مِنْهَا خُلُقًا رَضِيَ مِنْهَا آخَرَ ))
هذا الحديث الشريف أيها الأخوة سمعتموه مني سابقاً، ولكنَّ الحديث الشريف أحياناً تستنبط منه قواعد كثيرة، فهذا الزوج عليه ألاَّ يكره زوجته، فإن كره منها خلقاً رضي منها خلقاً آخر، فحينما تبني علاقتك مع زوجتك تدارس مع نفسك ما لها من ميزات، وما عليها من مآخذ، ربما غلبت ميزاتها سلبياتها، وربما رضيتَ منها أخلاقاً كثيرة وكرهت منها خلقاً واحداً، فهذا الذي يطمس المحاسن ويبرز المساوئ، هذا بعيد عن أن يكون مؤمناً، و هذا الحديث الشريف يعلِّمنا الحُكم الموضوعي، فإذا أردت أن تحكم على إنسان فلا ينبغي أن تنسى حسناته، ولا فضائله، ولا مميزاته، ينبغي أن تذكرها قبل أن تذكر المساوئ، وينبغي أن تذكر المحاسن قبل المساوئ، وهذا هو الإنصاف.
والنبي عليه الصلاة والسلام لما رأى صهره أبا العاص بين الأسرى جاء ليحارب النبي، وكان مشركاً، وكان يتمنى أن يقتل المسلمين، نظر إليه عليه الصلاة والسلام وقال:" والله ما ذممناه صهراً " هذا حكم موضوعي، حكم منصف.
على الإنسان أن يكون موضوعياً في أحكامه:
أنت أحياناً تسأل عن زيد أو عبيد، أو فلان أو علان، من الظلم والإجحاف أن تطمس محاسنه وأن تبرز مساوئه، فاذكر ما له وما عليه ولو كان صديقاً، أو عدوًّاً، أو قريباً، أو بعيداً، أو زوجة، أتنسى أنها عفيفة، و أنها تحفظ لك مالك، وتحفظ نفسها في غيبتك، وتربِّي أولادك ؟ بكلمةٍ قالتها، أو بخلق لا ترضاه عنها كرهتها، هذا ليس إنصافاً، ولو تعلَّمنا أن نكون منصفين في أحكامنا لكنا في حال غير هذا الحال، ودائماً الإنسان يتكلم وفق مصالحه، فيقتضي المقام أحياناً أن يبرز المحاسن ويطمس السيئات، وأحياناً يبرز السيئات، وهذا ليس إنصافاً، والنبي عليه الصلاة والسلام يقول:
(( لا يَفْرَكْ مُؤْمِنٌ مُؤْمِنَةً إِنْ كَرِهَ مِنْهَا خُلُقًا رَضِيَ مِنْهَا آخَرَ ))
أي لا يكرهها، ويروون قصة أن ابن عباد كان أميراً من أمراء الأندلس، بل كان ملكاً من ملوكها، فأحب جاريةً وتزوجها، وكان ملكاً فأكرمها أيّما إكرام، وما إن تطلب منه حاجة حتى يلبيها، فاشتاقت مرة إلى حياة الخشونة والفقر، فطلبت منه أن يصنع لها طيناً لتمشي فيه، فجاء بالمسك والعنبر وخلطهما بماء الزهر، وقال لها: امشِ في هذا، بعد مراحل من حياته فَقَدَ ملكه وصار في السجن، فكانت تعيره وتنهره دائماً، وتقول له: لم أرَ منك خيراً قط، فقال لها مرةً: ولا يوم الطين ؟
فلا يوجد إنصاف، ونحن مع زوجاتنا، مع أخوانا، مع أصدقائنا، مع من هم دوننا، من هم فوقنا، كن منصِفاً، واذكر ما له وما عليه، اذكر ميزاته ومساوئه، فالنبي عليه الصلاة والسلام علمنا طريقة الأرباح والخسائر، هذه الزوجة ميزاتها كذا وكذا، ولها هذا الطبع السيء وهذا الطبع، فهل أنت كامل ؟ لا والله، فوازن بين ميزاتها وبين مساوئها ترَ أن الصفقة رابحة، إن كره منها خلقاً رضي منها خلقاً آخر.
التقييم الصحيح والنظرة الموضوعية جزءٌ أساسي من العلم:
يبدو أن هذا الحديث توجيه نبوي لو طبقه الأزواج لسعدوا بزواجهم، وكان النبي عليه الصلاة والسلام مرة يصلي فدخل أحد أصحابه ليلحق معه الركعة الأولى، فأحدث ضجيجاً، أو دخل أحد الأعراب فأحدث جلبةً وضجيجاً:
(( انْتَهَى إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ رَاكِعٌ فَرَكَعَ قَبْلَ أَنْ يَصِلَ إِلَى الصَّفِّ فَذَكَرَ ذَلِكَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ زَادَكَ اللَّهُ حِرْصًا وَلا تَعُدْ ))
بماذا بدأ النبي ؟ أبرز الناحية الإيجابية في هذه الضجة، لماذا ركض هذا الأعرابي وأحدث جلبة وضجيجاً وشوش على أصحاب رسول الله ؟ حباً بأن يدرك معه الركعة الأولى، إذاً هذه ميزة ما غفل عنها النبي عليه الصلاة والسلام.
(( زَادَكَ اللَّهُ حِرْصًا وَلا تَعُدْ ))
لذلك يقال لكل من يعمل تحته أناس، ومن يعمل في معيته أناس: إذا أردت أن توجه نقداً لمن حولك ابدأ بمحاسنهم، فإذا بدأت بمحاسنهم فإنّ هذا يجعلهم يستمعون إليك بإصغاء بالغ، وفي تعاملك مع ابنك اذكر له محاسنه، ثم اذكر له بعض مساوئه، فإذا ذكرت له كل مساوئه وتغاضيت عن محاسنه، ولم تعترف له بما له على هذه الأسرة من خدمات، فعندئذٍ يشعر بالظلم، وأن الأب ليس منصفاً، فيجب أن تجعل من حولك يعترفون بعدلك، مع الزوجة، مع الولد، مع الجار أحياناً، مع القريب، مع البعيد، مع الصهر، يخطئ الصهر، فيغضبون عليه غضباً ما بعده غضب، وينسون أنه أكرم ابنتهم في سابق الزمن، وأحسن إليها، وكان زوجاً مثالياً، غلط غلطة، أو بالعكس زوجة الابن تغلط غلطةً مع أهل زوجها، فإذا هم يصبُّون عليها كل غضبهم، لذلك النبي عليه الصلاة والسلام قال:
(( أَحْبِبْ حَبِيبَكَ هَوْنًا مَا عَسَى أَنْ يَكُونَ بَغِيضَكَ يَوْمًا مَا وَأَبْغِضْ بَغِيضَكَ هَوْنًا مَا عَسَى أَنْ يَكُونَ حَبِيبَكَ يَوْمًا مَا))
باعتدال، فهذا الحديث يستنبط منه أن تكون موضوعياً في أحكامك، فلو تعلمت علم الثقلين ولم تكن موضوعياً في أحكامك فلست بعالم، ولو اتبعت المنهج العلمي في تقييم الأشخاص، وفي إعطاء ما لهم وما عليهم فأنت عالم، فالتقييم الصحيح والنظرة الموضوعية جزءٌ أساسي من العلم.
من عامل الناس عليه أن يحاسب نفسه قبل محاسبة غيره:
(( لا يَفْرَكْ مُؤْمِنٌ مُؤْمِنَةً إِنْ كَرِهَ مِنْهَا خُلُقًا رَضِيَ مِنْهَا آخَرَ ))
اذكر محاسنه، وأنا اخترت هذا الحديث لا لموضوع الزواج فقط، بل وجدت من هذا الحديث استنباطات كثيرة، فإذا تعاملتَ مع شريكك اذكر إخلاصه، وأمانته، لكن دوامه قليل وهذه مشكلة، ولا تنسَ ميزاته الأخرى، لا تنس عندما كنت مسافراً قام بالعبء كله، ولم يسألك لماذا سافرت ؟ فالإنسان أحياناً في ساعة غفلة ينظر ما له فقط، وينسى ما عليه، فإذا عامل الناس ينظر إلى ما عليهم لا إلى ما لهم، فيجب أن تنظر ما لهم من حق، وما عليهم من واجب، وأن تحاسب نفسك أيضاً بما لك من حق، وما عليك من واجب.
توجيه نبوي لطيف يسع كل حالات الزوجية:
أحد أسباب الشقاء الزوجي أن الزوج يطالب زوجته بكل شيء، ولا يحاسب نفسه في واجباته تجاهها، والنبي عليه الصلاة والسلام كان يحاسب نفسه:
(( اسْتَوْصُوا بِالنِّسَاءِ، فَإِنَّ الْمَرْأَةَ خُلِقَتْ مِنْ ضِلَعٍ وَإِنَّ أَعْوَجَ شَيْءٍ فِي الضِّلَعِ أَعْلاهُ، فَإِنْ ذَهَبْتَ تُقِيمُهُ كَسَرْتَهُ، وَإِنْ تَرَكْتَهُ لَمْ يَزَلْ أَعْوَجَ، فَاسْتَوْصُوا بِالنِّسَاءِ ))
وكسرهن: طلاقهن، هذا توجيه نبوي لطيف يسع كل حالات الزوجية، الحلم، والأناة، وسعة الصدر، هذا كله يجعل الحياة الزوجية جنةً، أمَّا الضيق، والتبرم، والمحاسبة الدقيقة، وأن تنسى ما عليك من واجب، وأن تطالب بما لك من حق، عندئذ تنهار العلاقة الزوجية، فحينما تكون زوجاً تطبق سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم في علاقتك بزوجتك، فإن هذا الزواج سوف يسعد، وسوف ينمو، وسوف تكون العلاقة متينةٍ بينك وبين زوجتك، فأنصف.
(( لا يَفْرَكْ مُؤْمِنٌ مُؤْمِنَةً إِنْ كَرِهَ مِنْهَا خُلُقًا رَضِيَ مِنْهَا آخَرَ ))
لا يكرهها، أتذكر عندمَا أعطتك كل الحليِّ كي تعمل بها في التجارة، أتنسى لها هذا الموقف ؟ إنَّ طمس المحاسن ليس من صفات الكرماء، أتنسى يوم أطاعتك في كل شيء، ويوم قلقت على صحتك ؟ أتنسى يوم فعلت كذا وكذا ؟ إن كرهت منها خلقاً اليوم فلا تنسَ أخلاقها الأخرى في سابق أيامها.
يروى أن السيد المسيح مشى مع أصحابه فرأوا جيفةً، وهل في الجيفة شيء يرضي ؟ جيفة متفسخة لها رائحة لا تواجه، فقال أصحابه الحواريون: ما أنتن ريحها، أما السيد المسيح عليه وعلى نبينا أفضل الصلاة والسلام قال: بل ما أشد بياض أسنانها.
من عفا ساد ومن حلم عظم ومن تجاوز استمال إليه القلوب:
هذا درس بليغ علَّمنا البحث عن الإيجابيات، والبحث عن الميزات، مع شريكك، مع زوجتك، مع أخيك، مع قريبك، مع جارك، مع من تتعامل معه، انظر إلى ميزاته، أما إذا نظرت إلى مساوئه فإنّك تبغضه، فانظر إلى ميزات الآخرين وانظر إلى مساوئك تصبح ملكاً، ما الذي يسبب الشقاق والخصومات والبغضاء ؟ أن كل إنسان ينظر إلى فضله على الآخرين وينسى تقصيراته ومسالبه، ينظر إلى أخطاء الناس فيضَّخم محاسنه ويكبَّر مساوئ الآخرين، وبذلك سوف يكرههم، فإذا نظرت إلى التقصيرات ونظرت إلى محاسنك عندئذ لن تستطيع التعامل مع الناس بل عندئذ تبغضهم، وتكرههم، وتستعلي عليهم.
انظر إلى مساوئك وإلى محاسن الآخرين هذا توجيه كريم، وهذا التوجيه مؤداه أنْ تكون ذا نظرةٍ موضوعية، فكن منصفاً ولا تكن مجحفاً، كن معتدلاً ولا تكن متطرفاً، كن مع الواقع ولا تكن مع النوازع، كن معتدلاً ولا تكن متجنياً، والحقيقة هذه الأحاديث النبوية وهذه التوجيهات كمعلومات يسهل فهمها، أما إذا انقلبت إلى ممارسات، وإلى أخلاق، وإلى مبادئ ثابتة في تعاملك مع الناس، عندئذٍ تغدو هذه الأحاديث قواعد ومنارات في طريق الإيمان، فلا يوجد بيت ليس به مشكلة، إذا واجه المؤمن مشكلة في بيته بهذه النفسية، صار ثمّة تسامح، وحلم، وتجاوز.
يقولون: إنّ سيدنا معاوية جاءته رسالة من أحد الموطنين فقال له: " أما بعد ؛ فيا معاوية ـ هكذا مباشرةً باسمه الصريح، ولم يقل له: يا أمير المؤمنين ـ إن رجالك قد دخلوا أرضي فانههم عن ذلك، وإلا كان لي ولك شأن، والسلام "، عنده ابنه يزيد فأحب أن يمتحنه وقال: يا يزيد ما قولك ؟ قال: أرى أن ترسل له جيشاً أوله عنده، وآخره عندك ، يأتونك برأسه، فتبسم سيدنا معاوية وقال: غير ذلك أفضل، فأمر الكاتب، وقال له: اكتب رسالة: " أما بعد ؛ فقد وقفت على كتاب ولد حواري رسول الله، ولقد ساءني ما ساءه، والدنيا كلها هينة جنب رضاه، لقد نزلت له عن الأرض ومن فيها ".
فيأتيه الكتاب الثاني: " أما بعد فيا أمير المؤمنين ـ أطال الله بقاءك ـ ولا أعدمك الرأي الذي أحلك من قومك هذا المحل "، جاء بابنه يزيد وقال له تفضل، وقال له: يا بني من عفا ساد، ومن حلم عظم، ومن تجاوز استمال إليه القلوب.
الحديث التالي يجب أن يكون نبراساً لنا في تعاملنا مع الآخرين لأنّه يعلمنا الموضوعية:
فإذا كرهت منها خلقاً تجاوزْ إلى محاسنها، وعفافها، وإخلاصها، وحفظها لمالك، وحفظها لنفسها، وطاعتها لك، فرضيت بمنهجك في الحياة، هذه كلها ميزات تشفع لها بسيئة، أما هذا الذي يرى المساوئ فقط ويبرزها، ويقيم النكير عليها، فهذا ليس من المؤمنين.
(( لا يَفْرَكْ مُؤْمِنٌ مُؤْمِنَةً إِنْ كَرِهَ مِنْهَا خُلُقًا رَضِيَ مِنْهَا آخَرَ ))
هذا الحديث يجب أن يكون نبراساً لنا، وبالتعبير الحديث شعاراً لنا في تعاملنا مع الآخرين، لأنّه يعلمنا الموضوعية في الأحكام، وهذا الحديث لا يقتصر على الزوجة، بل يتوسع ليشمل الشريك، والأخ، والقريب، والصهر، والجار، ويشمل كل من تتعامل معه، والتوجيه الثاني المتمم لهذا الحديث: " التمس لأخيك عذراً ولو سبعين مرة "، فإذا كنت موضوعياً معه، والتمست له العذر، ربما كانت العلاقة بينكما علاقةً متينة، وهذا الذي يرضي الله عز وجل قال تعالى:
﴿ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ (4) ﴾
فلو أخذنا المعنى الآخر للآية، معنى التكاتف، والتعاضد، والمؤمنون كذلك، وهناك أحاديث سابقة بينت لكم كيف أن الله سبحانه وتعالى يحب من المؤمنين أن يكونوا كالجسد الواحد:
(( تَرَى الْمُؤْمِنِينَ فِي تَرَاحُمِهِمْ، وَتَوَادِّهِمْ، وَتَعَاطُفِهِمْ، كَمَثَلِ الْجَسَدِ إِذَا اشْتَكَى عُضْوًا تَدَاعَى لَهُ سَائِرُ جَسَدِهِ بِالسَّهَرِ وَالْحُمَّى ))
الحج في مراحله العملية:
الموضوع الثاني هو موضوع الحج:
إن شاء الله فيما تبقَّى من أسابيع قُبَيْل الحج نتحدث عن مناسكه، والحقيقة أنَّ الموضوعات الأساسية ؛ تعريف الحج، وفروضه، وأركانه، وسننه، ومستحباته، هذه درسناها كثيراً، ونبدأ في مراحله العملية، أول شيء في الحج الإحرام، فالإحرام بالتعريف الدقيق هو: نية الحج مع التلبية، وفيه تُخلع الثياب المخيطة، ويُلبس إزار ورداء للرجل وجوباً، والإزار هو الذي يستر ما بين السرة والركبة، وما يستر العورة، والرداء هو الذي يستر الجذع والكتفين.
فأولاً الإحرام ؛ نية الحج مع التلبية، وخلع الثياب المخيطة، ولبس إزار ورداءٍ للرجل وجوباً، وهنا نقطة مهمة وهي أن بعض أخواننا الحجاج يقرر أن يحرم من بلدته، فيغتسل كما هي السنة، ويصلي ركعتي الإحرام، ويتوجه إلى المطار، فلسبب أو لآخر إذا ألغيت الرحلة وعاد إلى بيته، ومسَّ طيباً، أو قارب أهله، فقد وقع في خطأٍ كبير، فمادام قد أحرم فقد دخل في الحج، لذلك بالمناسبة لا تحرِم إلا وأنت في الطائرة، فلو أن الرحلة أُلغِيت، أو طرأَ عارض ورجعت إلى البيت، فأنت لم تبدأ بعد بالحج، أمّا إذا أحرمت من البيت، ولم تتمكن من ركوب الطائرة، لسبب أو لآخر، فإن هذا فيه مشقةٌ كبيرةٌ عليك، لذلك خلعُ الثياب المخيطة، ولبسُ الإزار والرداء وجوباً، والإزار كما قلنا ما يستر العورة من السرة إلى ما تحت الركبة، وإذا لبِس الإنسانُ ثياب الإحرام يجب أنْ ينتبه حتى لا تظهر سرَّتُه، لأنها مِن العورة، فأحياناً هذه المنشفة تنزل قليلاً فتبدو سرته، وتنكشف عورته، فيجب أن يسعى ليكون الإزار الذي يستر العورة فوق السرة، ويسن أن يكونا أبيضين، جديدين، من غير أزرار، فلا يصح ذلك، ولا يعقد طرفيهما ببعضهما، ولا يثبتهما بإبرة، هذا كله مكروه تنزيهاً، ولو فعل من هذا شيئاً فلا حرج عليه.
ما يستحب و يكره في الحج:
ويستحب من يريد الإحرام أن يقص شاربه وأظافره، وكذا الأماكن الأخرى التي من السنة حلقُها، كما تقدم في السنن، ثم يتوضأ أو يغتسل، والغسل أفضل، وهو للنظافة فيستحب للمرأة الحائض والنفساء التي تزمع الحج أن تغتسل، ويندب للرجل أن يتطيب قبل الإحرام إن وجد ذلك ممكناً، أما المرأة فتبقى بثيابها المخيطة، وجلبابها، وجوربيها، وحذائها، وتغطي رأسها وشعرها، كحالتها قبل الإحرام، كما جاء في المذهب الحنفي، وتكشف الخمار عن وجهها إن لم تكن أمام الرجال، لأن السيدة عائشة رضي الله عنها تروي حديثاً في مسند الإمام أحمد فتقول:
(( كَانَ الرُّكْبَانُ يَمُرُّونَ بِنَا وَنَحْنُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهم عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُحْرِمَاتٌ، فَإِذَا حَاذَوْا بِنَا أَسْدَلَتْ إِحْدَانَا جِلْبَابَهَا مِنْ رَأْسِهَا عَلَى وَجْهِهَا، فَإِذَا جَاوَزَنَا كَشَفْنَاهُ ))
فيمكن أن تكشف المرأة عن وجهها في الحجِّ إن لم تكن أمام الرجال، فإذا كانت أمام الرجال فتنفيذاً للسنة المطهرة الثابتة ينبغي لها أن تستر وجهها، وأن تسدل أمامهم من فوق رأسها سدلاً متجافياً عن وجهها، والسنة أن يكون هذا الستار بعيداً عن وجهها، لذلك الأخوات يصنعن قبل الذهاب إلى الحج واقيةً، ليكون الخمار متجافياً عن الوجه، وهذه هي السنة، دون أن يمس المنديل وجهها، فلو مس المنديل وجهها وجب الدم، إن استمر المس يوماً كاملاً ؛ من طلوع الفجر إلى غروب الشمس، أو ليلة كاملة ؛ من غروب الشمس إلى طلوع الفجر، وإن لم يكن يوماً كاملاً فعليها صدقة.
ويلبس الرجل النعلين حيث يكون وجه القدم مكشوفاً، أمَّا ما يستران ظاهر القدم فمكروهان، فيجب أن يكون ظاهر القدم مكشوفاً، ويصلي المحرم رجلاً كان أو امرأة ركعتين سنة الإحرام في غير وقت الكراهة، يقرأ في الأولى الفاتحة وسورة " قل يا أيها الكافرون"، وفي الثانية الفاتحة وسورة " قل هو الله أحد"، ثم يقول بعد سلامه بلسانه مطابقاً لقلبه:" اللهم إني أريد الحج فيسره لي، وتقبَّله مني"، هذا إذا نوى حجاً منفرداً، لأنّ الحج أنواع ثلاثة، إفراد، وقران، وتمتع، والحديث الآن عن حج المفرد، فيقول: "اللهم إني أريد الحج فيسره لي، وتقبله مني، نويت الحج وأحرمت به لله تعالى "، ثم يلبي ويقول: "لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك، لا شريك لك" ويسن أن يكررها ثلاثاً، قال العلماء: يكره تنزيهاً أن ينقص الرجل من ألفاظ هذه الصيغة شيئاً، بل يجب أن تذكرها بالتمام والكمال.
كما يكره تنزيهاً عدمُ رفع الصوت بها للرجال، فيجب أن ترفع صوتك بها، لأن الحج هو العجّ والثجّ، ويندب الزيادة بعدها مما ورد، وبعضهم يزيد على هذه الصيغة فيقول: "لبيك اللهم وسعديك، والخير كله بين يديك، والرغبة ـ أي المحبة ـ إليك، لبَّى لك عبدك وابن عبدك، هاربٌ من الذنوب والخطايا، ملتجئ إليك "، ويقوم مقام التلبية كل ذكر يقصد به تعظيم الله تعالى، ولو مشوباً بالدعاء، كالتهليل" لا إله إلا الله "، والتسبيح " سبحان الله"، والتحميد "الحمد لله "، والتكبير "الله أكبر "، أي سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر، أو التلبية التي سنّها النبي عليه الصلاة والسلام.
ما يشترط في التلبية:
ويشترط في التلبية أن تكون باللسان، فلو ذكرها في قلبه لم يكن ملبِّياً، ويكثِر من التلبية، ويجددها في دوام الإحرام، وخصوصاً بعد الصلاة ؛ ولو نفلاً، وعند تجدُّد الأحوال، وتغايرها زماناً ومكاناً، وعند لقاء الأصحاب، وعند كل صعود وهبوط، وعند كل ركوب ونزول، رافعاً بها صوته، ولكن المرأة تخفض من صوتها لأن صوتها عورة، فتفقهوا قبل أن تحجوا، وبين الميلين الأخضرين هرولة، وهذه ليست على النساء، لأن المرأة يُكرَه لها أن تهرول، فإذا رأيت امرأةً تهرول بين الميلين الأخضرين، فهذه امرأة لا تعرف مناسك الحج.
متى تقطع هذه التلبية ؟
إذا بدأ برمي جمرة العقبة يوم النحر، مع أول رمية حصاةٍ يوم النحر لجمرة العقبة تنتهي التلبية، وندخل في التكبير.
محظورات الإحرام:
إذا نوى الحاج الحج وأحرم فعليه أن يجتنب محظورات الإحرام، فيحرم على الرجل المحرم لبسُ الثياب المخيطة، والعمامة، والقلنسوة، والجوربين، والخفين حذاء أنيق ساتر، وستر الوجه والرأس، فهذه كلها ممنوعة على الحاج.
ويحرم على الحُجَّج التطيب، كما يحرم عليهم لبس ثوبٍ مطيبٍ إلا بعد إزالة الطيب عنه، لأنّ الطيب من محظورات الإحرام.
وبعض الأخطاء تقع للحجَّاج فيركبون الطائرة ويقدم لهم الطعام، ومع الطعام منديل مبلل بمادة معطرة، فهذه ممنوعة، فانتبهوا لذلك، ويحرم دهن الشعر أو إزالته بحلقٍ، أو نتف، أو دواء يزيل الشعر، وتقصيره، وإزالة شعر البدن، أو قص الأظافر، ويحرم الرفث، أي معاشرة النساء، وذكره ودواعيه، والكلام الفاحش، والجدال، والفسوق وهو الخروج عن طاعة الله عز وجل، ويحرم على المحرِم التطيبُ في البدن والثوب، ولو بماء الورد، أيضاً الصابون المطَيَّب مشكلة، فاستعمل صابون غار، أو خذ معك صابوناً غير مطيب تلافياً للإشكال، وهناك الصابون كله مطيب، وقد أجاز بعضهم هذا الصابون، ولكنْ خذ الأحوط.
ويحرم على المحرم قتل صيد البر، والإشارة إليه في الحاضر، والدلالة عليه في الغائب، وكسر بيضه، وقطع شجر الحرم، وهذه كلها من محظورات الإحرام، ويُباح في الإحرام قتل الحية، والعقرب، والفأر، والذئب، والغراب، والحدأة، وكل صائل من السباع ـ إذا داهمَ الخيمة سبع مثلاً ـ وقتل البراغيث، والبعوض:
(( خَمْسٌ فَوَاسِقُ يُقْتَلْنَ فِي الْحِلِّ وَالْحَرَمِ ؛ الْحَيَّةُ، وَالْغُرَابُ الأبْقَعُ، وَالْفَأْرَةُ، وَالْكَلْبُ الْعَقُورُ، وَالْحُدَيَّا ))
فهذه كلها تقتل، ولو كان الحاج محرماً، ويجوز للحاج صيد البحر، وذبح الإبل، والبقر، والغنم، والدجاج، والبط، والأوز الأهلي، كما يجوز للمحرم أن يدخل الحمام، ويزيل الوسخ بالماء الحار والصابون غير المعطر، ويغتسل بقصد الطهارة من الجنابة، أو بقصد إزالة الغبار أو للتبرد.
ما يجوز في الحج:
ويجوز أن يختتن، أو أن يفتصد، أو أن يحتجم، إذا أصابه شيء، وكان علاجه الحجامة في أثناء الإحرام من دون إزالة الشعر، ويجوز أن يقلع ضرسه إذا آلمه ـ لكن الأسعار غالية جداً ـ أو أن يحك رأسه وبدنه برفق، إن خاف سقوط شعره، وإن سقطت شعرة مثلاً يتصدق بما يشاء، ويجوز له أن يستظل بالبيت والمحمل، وأن يستظل بمظلة مما لا يصيب رأسه ولا وجهه، ويجوز له لبس ساعة اليد، والتزوج والتزويج، والعقد فقط، والمراد به عقد النكاح، ويجوز له أن يشد وسطه بحزام الدراهم وغيرها، ولو كانت لغيره.
(( بَاب الطِّيبِ عِنْدَ الْإِحْرَامِ وَمَا يَلْبَسُ إِذَا أَرَادَ أَنْ يُحْرِمَ وَيَتَرَجَّلَ وَيَدَّهِنَ وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِي اللَّهم عَنْهمَا يَشَمُّ الْمُحْرِمُ الرَّيْحَانَ وَيَنْظُرُ فِي الْمِرْآةِ وَيَتَدَاوَى بِمَا يَأْكُلُ الزَّيْتِ وَالسَّمْنِ وَقَالَ عَطَاءٌ يَتَخَتَّمُ وَيَلْبَسُ الْهِمْيَانَ وَطَافَ ابْنُ عُمَرَ رَضِي اللَّهم عَنْهممَا وَهُوَ مُحْرِمٌ وَقَدْ حَزَمَ عَلَى بَطْنِهِ بِثَوْبٍ وَلَمْ تَرَ عَائِشَةُ رَضِي اللَّهم عَنْهَا بِالتُّبَّانِ بَأْسًا لِلَّذِينَ يَرْحَلُونَ هَوْدَجَهَا ))
ويجوز لبسُ الخاتم، والاكتحالُ بغير طيب، والنظرُ في المرآة، والتغطي وقت النوم، فلو حج في الشتاء مثلاً بلحاف أو عباءة أو غير ذلك، بشرط ألا يغطي رأسه ولا وجهه، ولا يغطي معقب الشراك من وجه قدميه وعقبه، فهذه الأبحاث كلها متعلقة بالإحرام، وإن شاء الله تعالى في درس قادم نتابع موضوع هذه المناسك واحداً واحداً، أولاً: لمن يحج هذا العام، ولمن يزمع الحج في الأعوام القادمة.
إرسال العرب في القديم أبناءهم إلى البادية:
والآن إلى السيرة النبوية:
كلكم يعلم أن النبي عليه الصلاة والسلام أرضعته حليمة السعدية، وكان من عادة العرب أن يرسلوا أبناءهم إلى البادية حيث الهواءُ الطلق، والمناظر الممتدة التي تجعل الرؤية حادةً، و أبناء المدن دائماً يحتاجون إلى نظارات، والسبب أن العين تجري عمليةً بالغة التعقيد، اسمها المطابقة، ومادام الشيء المرئي قبل ستين متراً، فلابد من المطابقة، والمطابقة عمليةٌ في غاية التعقيد، وهذا الجسم البلوري يزداد احتدابه أو ينقص ليجعل خيال الشيء المرئي يقع على الشبكية، فهي عملية بالغة التعقيد، أما إذا نظرت إلى مسافةٍ تزيد عن ستين متراً فإن المطابقة تلغى، لذلك فإنّ العين تستريح في المناظر الفسيحة، وأكثر سكان البادية لا يعرفون النظارات، ولا أعتقد أحدكم لمح بدويًّاً يضع نظارات، بسبب أن هذه المناظر الفسيحة تريح العين، وتجعل البصر حاداً.
الدلائل المبكرة على نبوة النبي صلى الله عليه وسلم:
النبي عليه الصلاة والسلام على عادة البيئة التي نشأ فيها أرضعته حليمة السعدية في البادية، فحليمة السعدية كانت من دون نساء البادية جميعاً شديدة الرعاية لوليدها محمد صلى الله عليه وسلم، شديدة الخوف عليه في الليل والنهار، وتخشى عليه الحر والبرد والأحداث، بل تخشى عليه كل شيء، وكانت تحبه حباً جماً، وترى في حاله أنه غلامٌ ليس كالغلمان، وترى من بركته ما يزيدها تعلقاً به، وحرصاً عليه، قال علماء السيرة: " إنَّ الأرض اخضرت حينما كان في البادية، وإن ضروع الإبل قد امتلأت باللبن "
وهذه يسميها علماء السيرة الإرهاصات ، والإرهاص هو دليل مبكر على نبوة النبي عليه الصلاة والسلام.
إنَّ سيدنا المسيح عليه وعلى نبينا أفضل الصلاة والسلام حينما تكلم وهو رضيع محمول على يدي أمه، قال تعالى:
﴿ قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا (30) ﴾
هل هذه معجزة ؟ الجواب لا، هذا إعجاز، هذا دليل مبكر على نبوة هذا النبي العظيم، والنبي عليه الصلاة والسلام وهو في البادية الخير الذي أصاب حليمة السعدية، حيث اخضرت الأرض من حوله، وامتلأت الضروع باللبن، فهذه من إرهاصات النبوة.
الحكمة من يتم النبي الكريم:
وقد يسأل سائل: لماذا شاءت حكمة الله عز وجل أن يكون النبي عليه الصلاة والسلام يتيماً ؟ لماذا لم يكن له أب كغيره من الغلمان ؟ وكان أبوه عبد الله، وكان أبوه من أنبل أخوته، وكذا جده وأمه، فَقَدَ الأب ثم الأم ثم الجد لماذا ؟ هذا سؤال ؛ لماذا شاءت حكمة الأب أن يجعله يتيماً، وأن يجعله سيد الأيتام ؟ قال بعضهم: لو أن لأبيه مجداً عريقاً، وجاء النبي عليه الصلاة والسلام بهذه الرسالة لظن الناس أن هذه النبوة هي بدفع من أبيه، للمحافظة على مكانته ومكانة أبيه بين قومه، فهذه الرعاية التي فقدها من أبيه ومن أمه ومن جده من أجل أن تكون النبوة صافيةً لا شائبة فيها.
حرص حليمة السعدية الشديد على النبي عليه الصلاة و السلام:
على كلٍ: كانت حليمة السعدية تعلم أن النبي عليه الصلاة والسلام غلام ليس كالغلمان، فحينما يدعوه الغلمان إلى اللعب كانت له هذه الكلمة المشهورة: " لم أخلق لهذا "، علامات حب الله عز وجل، علامات القلق على هداية الناس كانت باديةً عليه منذ الطفولة، وكانت تحس أن الناس جميعاً يحسدونها عليه، ويريدون أن يتخطفوه منها، لذلك كانت تلاحقه بعينيها حيثما كان، وتحيطه برعايتها وعنايتها بأكثر مما تحيط بها أولادها، فكانت حليمة السعدية أمه في الرضاع، وليس هذا القصد من هذا الدرس، إنما القصد أن النبي عليه الصلاة والسلام كان وفياً أشد الوفاء لأمه من الرضاعة، وأريد أن أصل إلى أن النبي عليه الصلاة والسلام كان هذا خلُقُه، فأين نحن من هذا الخلق ؟ والإنسان أحياناً يتزوج، وطبعاً الزوجة محببة، وقد تكون أمه في سن متقدمة، وقد أصبحت عبئاً، يا ترى هل هو وفيٌّ لأمه؟ هل ينسى حقها عليه بعد أن تزوج ؟ هل يراها عبئاً عليه ؟ هل يظن أنها عقبةٌ في طريق سعادته ؟ هل نسي لما رعته طفلاً ؟ سأطلعكم بعد قليل كيف كان وفاء النبي عليه الصلاة والسلام لهذه المرضع.
خوف حليمة السعدية على رسول الله صلى الله عليه و سلم:
قال علماء السيرة: ذات يوم أفزعها أنها افتقدته فلم تجده، فخرجت تطلبه وقت الظهيرة، والناس حولها قائلون ـ قد خلدوا إلى الراحة بعد الظهر ـ والبُهم ـ الحيوانات ـ والأغنام قد أَوَتْ إلى الظل تستجير به من وهج الشمس، فوجدته مع أخته من الرضاع الشيماء مقبلاً على الحي فجعلت تلوم أخته ـ ابنتها ـ وتقول في ألم وغيظ: في هذا الحر يا شيماء ؟ فقالت أخته: لا تجزعي يا أمي، فوالله ما وجد أخي حراً، لقد وجدتُ غمامةً تظِلُّه حيثما ذهب، فإذا وقف وقفتْ، وإذا سار سارتْ، حتى انتهى إلى هذا الموضع، وهذا أيضاً من إرهاصات النبوة، فالنبي عليه الصلاة والسلام من أبرز صفاته الشريفة وفاؤه لمن كانت لهم يدٌ عليه، فنشأ النبي وشبَّ وكبر وتزوج، وجاءته الرسالة فأصبح نبياً ورسولاً، ولم يتنكر، ولم ينسَ الجميل لهذه الأم التي أرضعته يوم كان صغيراً.
فقد ظل الرسول عليه الصلاة والسلام يحفظ لها الجميل.
وفاء النبي الكريم لمرضعته حليمة السعدية:
أنا أقول لكم: هل تحفظ جميل أمك ؟ هل تحفظ جميل أبيك ؟ هل تحفظ جميل من أسدى إليك معروفاً ؟ هذه هي أخلاقه فأين أنت منها ؟ ألم تؤمر أن تقتفي أثره ؟ ألم تؤمر أن تكون متخلقاً بأخلاقه ؟ قال تعالى:
﴿ قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (31) ﴾
لم ينسَ النبي عليه الصلاة والسلام أنها ظئره ـ أي مرضعته ـ التي أرضعته من ثدييها، وغذته بلبنها، وأن لها عليه حقَّ الأم على ولدها، بل لم ينسَ أن يحفظ الجميل لقبيلتها سعد بن بكر بن هوازن، فظل دائماً يذكر أنه نشأ في باديتهم، وتربى بين ظهرانيهم، وكان له منهم أخوة وأخوات، وآباء وأمهات، وعشيرة وأقارب.
لقد بدأ الآن ردُّ الجميل، حضرت حليمة ذات يوم، وكان يتاجر بمال خديجة، فجاءت حليمة السعدية إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وشكت إليه حالها، وما تلاقيه من شدة العيش في البادية، وكان النبي عليه الصلاة والسلام فقيراً، ولكن الدالَّ على الخير كفاعله، فكلَّم لها خديجة، فمنحتها بعيراً وأربعين شاةً، وردَّها مكرمةً إلى أهلها، فهذا أول موقف، ثم جاءته حليمة، وكان عليه الصلاة والسلام زوجاً للسيدة خديجة يتاجر لها بمالها، فلما شكت إليه سوء حالها كلم لها خديجة، فمنحتها بعيراً، والبعير شيء ثمين، وأربعين شاةً، وردها مكرمةً معززةً إلى أهلها.
ومرةً جاءته السعدية وهو رسول الله، فاستأذنت فأذن لها، فلما دخلت عليه قام لها، أنا مرة أخ كريم له قضية عند شخص، وهذا الشخص يحتل منصباً رفيعاً، قلت له: والده من أخواننا، فحدثت والده فأبدى رغبة أن يذهب معي إلى ابنه، دخلنا على هذا الإنسان وغرفته غاصة بالمراجعين، وله مكانة عليَّة، فلم يشأ أن يشعِر أحداً أن هذا أبوه، فقال له: يا أبا فلان اجلس هناك، فما أشعر أحد أنه أبوه، فاستغربتُ لأنّه حط من قدره، وكأنه استحيا به، وهو له مظهر لائق جداً، وأنا والله استغربت، فلما أُنهِيتْ القضية، وخرجنا سألته: أين درس ؟ فقال: في البلد الفلاني، فقلت له: من أنفق عليه ؟ قال: أنا أنفقت عليه، أبوه أنفق عليه حتى نال هذه الشهادة العليا، واحتل هذا المنصب الرفيع، فلما دخل عليه استحيا به، وأشعرَ الحاضرين أنه ليس أباه.
انظروا ماذا فعل النبي، لقد وقف، فلما دخلت عليه قام إليها متهللاً، وقال: أمي أمي ثم بسط رداءه وأجلسها عليه، هل بعد هذا الوفاء من وفاء ؟ ثم جعل يلاطفها، ويبتسم إليها ابتسامة الابن البار بأمه الحنون، كما أشعرها أنه لم ينسَ فضلها أبداً، ثم سألها عن حاجتها وقضاها لها، ورجعت معززةً مكرمة، هذا الموقف الثاني.
موقف النبي من قبيلة حليمة بعد غزوة حنين و عدم نسيان فضلهم عليه:
النبي عليه الصلاة والسلام انتصر على المشركين في غزة حنين، وهذه غزوة دقيقة حسَّاسة، وهذه الغزوة قال عنها الله عز وجل:
﴿ لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ (25) ﴾
فهذه آية قرآنية وهي درس لنا، في اللحظة التي تعجبك نفسك يتخلى الله عنك، وفي اللحظة التي تقول: أنا، يَدَعُك ونفسك، من اتكل على نفسه أوكله الله إياها، فهل من أناس أعظم شأناً عند الله من أصحاب رسول الله، وبينهم رسول الله ؟ ومع ذلك لما قالوا: نحن لن نغلب من قلة تخلى الله عنهم.
فقبض النبي عليه الصلاة والسلام حفنةً من تراب وضرب بها القوم، وقال: شاهت الوجوه، أنا النبي لا كذب، أنا ابن عبد المطلب ـ وهناك قصة طويلة ليست مقصودة في هذا الدرس ـ.
على كلٍ عندما انتصر النبي عليه الصلاة والسلام في غزوة حنين، وغنم من أموالهم، أتى إليه وفد من قبيلة هوازن، قبيلة حليمة السعدية يرجون أن يعفو عنهم، ويرد لهم أموالهم، وكان في الوفد عمُّه من الرضاعة، فاستشفعوا به إليه، فتقدم هذا العم بين يدي رسول الله يعلن خضوع قومه وإسلامهم، وقال فيما قال: " يا رسول الله، إنما في هذه الحظائر من كان يكفلك من عماتك، وخالاتك، وحواضنك، هؤلاء عماتك وخالاتك وحواضنك، وقد حضناك في حجورنا، وأرضعناك بأثدائنا، لقد رأيتك مرضَعاً ـ أي رضيعاً اسم مفعول من أرضع ـ فما رأيت مرضَعاً أفضل منك، ورأيتك فطيماً، فما رأيت فطيماً أفضل منك، ورأيتك شاباً، فما رأيت شاباً خيراً منك، وقد تكاملت فيك خلالُ الخير، ونحن مع ذلك أصلُك وعشيرتك، فامنن علينا منَّ الله عليك ".
والله هذا كلام بليغ، نحن أهلك وعشيرتك، وهؤلاء عماتك، وخالاتك، وحواضنك، أرضعناك بأثدائنا، وحضناك في حجورنا، فامنُنْ علينا مَنَّ الله عليك.
أخلاق النبي صلى الله عليه وسلم:
المشكلة أنّ هذا المال وزع بين أصحاب النبي عليه الصلاة والسلام، وهم تأخروا كثيراً في مجيئهم، فماذا يفعل النبي وقد وزع المال ؟ قام في أصحابه خطيباً وقال: مالي ومال عبد المطلب لكم، وكان موقفه فيه حكمةٍ بالغة، ولم يشأ أن يأخذ الأموال من أصحابه قهراً، بل دعاهم إلى أن يسلكوا سلوكه، ويحذوا حذوه، فقال عليه الصلاة والسلام وخاطب هذا الوفد: " لقد استأنيت بكم حتى ظننت أنكم لا تقدمون ، وقد قسم المال، فما كان لي وما لعبد المطلب فهو لكم، وأسأل لكم الناس، فإذا صليت بالناس الظهر فقولوا: نستشفع برسول الله إلى المسلمين، ونستشفع بالمسلمين إلى رسول الله، فإني سأقول لكم: ما كان لي ولعبد المطلب فهو لكم، وسأطلب لكم إلى الناس "
فلما صلى النبي الظهر قام وفد هوازن فقالوا كما علمهم النبي عليه الصلاة والسلام، فرد عليهم: ما كان له ولبني طالب، وجعل يرغب الناس، ويترضاهم حتى ردوا عليهم نساءهم وأبناءهم، وضرب النبي بذلك أروع الأمثال في حفظ الجميل، والوفاء بالعهد.
فدرسنا اليوم وفاء النبي عليه الصلاة والسلام، ومن خلال وفائه لأمه حليمة السعدية، كيف وقف لها، وكيف هش لها وبش، وكيف أكرمها أول مرة، والثانية والثالثة، وكيف جاءه الوفد فذكّره برضاعته وبحضانته، وكيف نزل له عن كل ماله، وكيف فعل ما فعل، فهذه أخلاق النبي عليه الصلاة والسلام، ومن لم يقتفِ أثر النبي فليس من أمته:
(( مَا خَطَبَنَا نَبِيُّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهم عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلا قَالَ: لا إِيمَانَ لِمَنْ لا أَمَانَةَ لَهُ وَلا دِينَ لِمَنْ لا عَهْدَ لَهُ ))