- محاضرات خارجية
- /
- ٠22ندوات مختلفة - لبنان
مقدمة :
نجدد ترحيبكم أيها الأخوة الكرام وكذلك مستمعي إذاعة القرآن الكريم في لبنان، ومع أمسية جديدة، مع ضيف كريم وعزيز على مؤسسات الدكتور محمد خالد، وعلى إذاعة القرآن الكريم، وعلى بيروت المحروسة، ضيفنا الكريم هو فضيلة الشيخ الدكتور محمد راتب النابلسي، وهو غني عن التعريف، هو أستاذ ومحاضر في كلية التربية في جامعة دمشق، وأستاذ مادة الإعجاز العلمي في كلية الشريعة أصول الدين، وخطيب ومدرس ديني في مساجد دمشق، وله العديد من المؤلفات والمحاضرات والمقالات، وكذلك له العديد من المشاركات الفكرية والتربوية التي أثرت الفكر الإسلامي، إذاً نبقى مع محاضرنا الكريم مع محاضرة بعنوان: إدارة الوقت.
تعريف الوقت :
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين.
أيها الأخوة الكرام؛ لو أن نقطة حركناها لرسمت خطاً، لو أن خطاً حركناه لرسم سطحاً، لو أن سطحاً حركناه لشكل حجماً، لو أن حجماً حركناه لكان وقتاً، فالوقت بالتعريف الدقيق هو البعد الرابع للأشياء، وحقيقة الوقت أقرب إلى الفلسفة منها إلى العلم، ذلك لأن أحد كبار العلماء اكتشف أن السرعة المطلقة في الكون هي ثلاثمئة ألف كيلو متر في الثانية، وأي شيء سار مع الضوء أصبح ضوءاً فأصبحت كتلته صفراً وحجمه لا نهاية، ولا يزال موضوع الوقت كما قلت قبل قليل أقرب إلى الفلسفة منه إلى العلم.
على كل الإنسان في حقيقته وقت، من أدق تعريفات الإنسان التي ذكرها الإمام الجليل الحسن البصري: الإنسان هو بضعة أيام كلما انقضى يوم انقضى بضع منه.
هو وقت بل رأس ماله الوقت، بل أثمن شيء يملكه هو الوقت، والوقت من أخطر الموضوعات في حياة الإنسان، ذلك لأنه إذا مضى لا يعود، لذلك ربنا جل جلاله في سورة قصيرة جامعة مانعة يقول ويقسم بمطلق الوقت، بمطلق الزمن، يقول:
﴿و العصر* إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ ﴾
﴿ وَالْعَصْرِ ﴾
قسم وجواب القسم:
﴿ إن الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ ﴾
خالق الإنسان العليم الحكيم يؤكد بالقسم بهذه الآية أن الإنسان خاسر لا محالة، ما وجه الخسارة؟ وجه الخسارة لأن الإنسان بضعة أيام، وكلما مضى يوم انقضى بضع منه، مضي الزمن وحده يستهلك الإنسان، والإنسان حينما يعيش عمراً ينبغي أن يعد هذا العمر عداً تنازلياً لا عداً تصاعدياً، ينبغي أن يقول من حين إلى آخر: كم بقي لي؟ فالإنسان وقت، أو رأس ماله هو الوقت، أو أثمن شيء يملكه هو الوقت، ولقد أقسم الله لهذا المخلوق الأول، وأقول الأول لأن الله حينما قال:
﴿إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً﴾
الإنسان هو المخلوق الأول المكرم و المكلف :
إذاً الكون كله أشفق من حمل الأمانة، والإنسان حملها وتصدى لها، وقال: يا رب أنا أهل لها، فلما قبِل هذا الإنسان حمل الأمانة سخر الله له الكون بأكمله بنص القرآن الكريم:
﴿وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً مِنْهُ﴾
ولا شك أن المسخر له أكرم عند الله من المسخر، لذلك الإنسان هو المخلوق الأول، وهو المخلوق المكرم لقوله تعالى:
﴿وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً﴾
فهذا الإنسان بضعة أيام، كلما انقضى يوم انقضى بضع منه، وقد قال الإمام الحسن البصري: ما من يوم ينشق فجره إلا وينادي يا بن آدم أنا خلق جديد وعلى عملك شهيد، فتزود مني فإني لا أعود إلى يوم القيامة، هذا المعنى لمح إليه النبي عليه الصلاة والسلام حينما كان يستيقظ من منامه يقول:
(( الحمد لله الذي ردّ إليّ روحي، وعافني في بدني، وأذن لي بذكره ))
أي أن الإنسان إذا استيقظ ينبغي أن يعلم أن الله سمح له أن يعيش يوماً جديداً، فالإنسان خاسر لأن مضي الزمن يستهلكه.
كيفية إنفاق الوقت :
أيها الأخوة؛ لكن رحمة الله جلّ جلاله لهذا الإنسان أنه أشار في هذه السورة الجامعة المانعة في سورة العصر التي قال عنها الإمام الشافعي:" لو تدبر الناس هذه السورة لكفتهم "والتي كان بعض الصحابة أو جل الصحابة لا يتفرقون إلا على قراءتها، فالإنسان خاسر لا محالة لأن مضي الزمن يستهلكه، لكن جاءت كلمة " إلا " لتثبت ما بعدها وتنفي ما قبلها، بمعنى أن الإنسان يستطيع تلافي هذه الخسارة عن طريق إدارة الوقت، إما أن ينفق الوقت إنفاقاً استهلاكياً، وإما أن ينفق الوقت إنفاقاً استثمارياً، وفرق كبير بين إنفاق المال استهلاكاً، وبين إنفاقه استثماراً، كيف نستهلك الوقت استهلاكاً؟ كما يفعل معظم الناس في أرجاء الأرض، يأكلون ويشربون ويتمتعون كما تتمتع الأنعام، ثم يداهمهم الموت، عندئذٍ يقع الندم وتقع الخسارة، ويقول الإنسان:
﴿يَقُولُ يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي﴾
﴿ رَبِّ ارْجِعُونِ* لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ ﴾
﴿يَا لَيْتَهَا كَانَتِ الْقَاضِيَةَ * مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ * هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ﴾
إلى آخر الآيات.
أيها الأخوة الكرام؛ ينفق الوقت استهلاكاً حينما نسترسل على سجيتنا، ونفعل ما نرغب، ونلتقي مع من نرغب، ونستمع بالحياة من دون تفكر بالعواقب، ذلك لأن النبي عليه الصلاة والسلام يقول:
(( ألا وإن عمل الجنة حزن بربوة. ألا وإن عمل النار سهل بسهوة ))
لمجرد أن يسهو الإنسان ويلهو إذاً هو ينفق الوقت إنفاقاً استهلاكياً، والخسارة كبيرة جداً عند انتهاء عمره، ذلك لأن الله سبحانه وتعالى يبين في آيات كثيرة أن الإنسان سوف يندم، وهذا الندم دليل عدم استعمال عقله، لأن من شأن العاقل أنه لا يندم، وما دام الإنسان يندم إذاً لم يحسن إدارة الوقت.
الذكاء هو التكيف :
من أدق تعريفات الذكاء هو التكيف، والذي يعيش المستقبل هو في أعلى درجات الذكاء، والذي يعيش الحاضر أقل ذكاء، والذي يعيش الماضي يعد غبياً
لذلك ورد في بعض القصص الرمزية لابن المقفع أن صيادين مرا بغدير وفيه سمكات ثلاث، كيسة و أكيس منها وعاجزة، فتواعدا أن يرجعا و معهما شباكهما ليصيدا ما فيه من السمك، فسمعت السمكات قولهما، أما أكيسهن فإنها ارتابت وتخوفت وقالت: العاقل يحتاط للأمور قبل وقوعها - هذا من إدارة الوقت - ثم إنها لم تعرج على شيء حتى خرجت من المكان الذي يدخل منه الماء من النهر إلى الغدير فنجت- هذه الأعقل، هذه الأكيس - وأما الكيسة - الأقل عقلاً والأقل ذكاء-فبقيت في مكانها حتى عاد الصيادان، فذهبت لتخرج من حيث خرجت رفيقتها فإذا بالمكان قد سدّ فقالت: فرطت وهذه عاقبت التفريط - الذي لا يستخدم عقله يندم، وعلامة إدارة الوقت أنك لا تندم، وعلامة استهلاك الوقت أنك تندم - لكنها على شيء من العقل، ثم تماوتت فطفت على وجه الماء منقلبة تارة على ظهرها وتارة على بطنها، فأخذها الصيادان و وضعاها على الأرض بين النهر والغدير فوثبت في النهر فنجت - لكن أعصابها تحطمت- وأما العاجزة الغبية فبقيت في مكانها وصالت وجالت حتى اصطيدت وأكلت. لذلك قال عليه الصلاة والسلام:
(( الكيس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت، والعاجز من أتبع نفسه هواها وتمنى على الله الأماني ))
(( ألا وإن عمل الجنة حزن بربوة، ألا وإن عمل النار سهل بسهوة ))
الآن على مستوى الدول، الدول العملاقة والمتطورة تخطط لعشرين عاماً قادمة، والدول الأقل تقدماً سياستها ردود فعل باستمرار، تكون في أزمة ففعلها ردّ لهذه الأحداث الطارئة، وأما الدول المتخلفة فتتغنى بالماضي فقط.
تعريف إدارة الوقت :
أيها الأخوة الكرام؛ يمكن أن يكون بالتعريف الدقيق الجامع المانع أن إدارة الوقت رسم هدف ثم تحقيقه، لو سألت المراجع العلمية في إدارة الوقت، أو لو سألت الجهات الأكاديمية في العالم عن إدارة الوقت ما زاد التعريف الجامع المانع عن أن تكون إدارة الوقت رسم هدف، ثم العمل على تحقيقه، يؤكد هذا المعنى قوله تعالى:
﴿أَفَمَنْ يَمْشِي مُكِبّاً عَلَى وَجْهِهِ أَهْدَى أَمَّنْ يَمْشِي سَوِيّاً عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ﴾
شتان بين من يمشي سوياً على صراط مستقيم، أهدافه واضحة، الوسائل التي تتحقق بها هذه الأهداف واضحة جداً، وبين من يمشي خبط عشواء، الذي يسيء أكثر ممن يحسن، لكن رحمة الله عز وجل في كلمة " إلا " أي أيها الإنسان أنت خاسر لا محالة، إلا إذا فعلت كذا وكذا وكذا، هذه الأشياء الأربعة التي ذكرت في الآية هي في الحقيقة كما سماها الإمام الشافعي أركان النجاة، أربعة أشياء إن فعلتها كل يوم فقد نجوت من خسارة الوقت، نجوت من قول الله عز وجل:
﴿ إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ ﴾
ما هي الأشياء الأربعة؟ قال:
﴿ إِلَّا الَّذِينَ ءَامَنُوا ﴾
أي إذا عرفت الله، عرفت أنه موجود وواحد وكامل، عرفت أسماءه الحسنى وصفاته الفضلى، عرفت أن الله سبحانه وتعالى بيده كل شيء.
﴿فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلَهٌ﴾
﴿وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ﴾
﴿مَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَداً﴾
إذا عرفت أن الأمر بيد الله وحده، وأن الله موجود وواحد وكامل، وأن المصير إليه، وأنه خلق الإنسان ليسعده في جنة عرضها السموات والأرض، وأن هذه الدنيا في حقيقتها ممر وليست مقراً، مرحلة من أجل أن تدفع ثمن الآخرة فيها، حينما تعرف هذه الحقائق، حينما تعرف من أين وإلى أين ولماذا؟ حينما تعرف سرّ وجودك وغاية وجودك، حينما تعرف الأمانة التي حملتها، حينما تعرف التكليف الذي كلفت به، حينما تعرف أنك المخلوق الأول، والمخلوق المكرم، والمخلوق المكلف، حينما تعرف أن السموات والأرض مسخرة لك.
﴿إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا ﴾
من أنت؟ أيها الأخوة الكرام؛ الإنسان حينما تأخذه الحياة، وحينما تستهلكه الحياة، وحينما يصبح رقماً، وحينما يصبح شيئاً تافهاً لا قيمة له، يعيش هموماً طاحنة، ولا يتطلع إلى شيء، هذا الإنسان انتهى، انتهت سعادته، لذلك هذا الإنسان جور إلى جهة أرضية، والإنسان لأنه المخلوق الأول هو لله لا ينبغي أن يكون لغير الله.
﴿وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ ﴾
أنت يمكن أن ترفض أشياء كثيرة لأنك تحتقرها، إلا أنك إذا رفضت الدين فإنك تحتقر نفسك
﴿ وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ ﴾
الإيمان اعتقاد و حركة و طاعة :
أنا حينما أقول :
﴿إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا ﴾
لا أقصد هذا الإيمان الساذج، هذا الإيمان الشائع بين الناس، هذا الإيمان الذي لا يقدم ولا يؤخر، هذا الإيمان الذي لا يحمل صاحبه على طاعة الله، هذا الإيمان الذي يعد إيماناً شكلياً، لأن إبليس قال:
﴿قَالَ فَبِعِزَّتِكَ ﴾
إذاً آمن بربه، وآمن أنه عزيز، وقال:
﴿خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ﴾
آمن أنه خالق، وقال:
﴿قَالَ أَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ﴾
هذا إيمان، لكنه إبليس ومصيره إلى النار، الإيمان الذي عنته الآية هو الإيمان الذي يحملك على طاعة الله
﴿إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا ﴾
وما قيمة الإيمان إن لم يدعم بالعمل الصالح؟
﴿وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ﴾
أي الإيمان اعتقاد وحركة، الإيمان اعتقاد وطاعة، الإيمان تصور والتزام، وما جاءت الآيات في كتاب الله إلا وقد جمعت بين الإيمان والعمل الصالح:
﴿ إِلَّا الَّذِينَ ءَامَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ﴾
لأن تعريف العبادة بالأصل طاعة طوعية، ممزوجة بمحبة قلبية، أساسها معرفة يقينية، تفضي إلى سعادة أبدية.
كأن في هذا التعريف كلية معرفية، وكلية سلوكية، وكلية جمالية، فالكلية السلوكية هي الأصل، والمعرفية هي السبب، والجمالية هي الثمرة، لأن الله سبحانه وتعالى خلقنا ليسعدنا، هذه حقيقة صارخة بدليل أن الله عز وجل يقول:
﴿وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ * إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ﴾
خلقهم ليرحمهم.
اقتران الإيمان بالله بالعلم و العمل :
لكن الشقاء الذي نراه في بني البشر بسبب الجهل، فالجاهل عدو نفسه، والجاهل يفعل في نفسه ما لا يستطيع عدوه أن يفعله به، إن أعدى أعداء الإنسان هو الجهل، والجهل أيها الأخوة سبب الشقاء، بل إن أهل النار وهم في النار قضيتهم العلم، بدليل:
﴿لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ﴾
لذلك إذا أردت الدنيا فعليك بالعلم، وإذا أردت الآخرة فعليك بالعلم، وإذا أردتهما معاً فعليك بالعلم، والعلم لا يعطيك بعضه إلا إذا أعطيته كلك، فإذا أعطيته بعضك لم يعطك شيئاً، وطالب العلم يؤثر الآخرة على الدنيا فيربحهما معاً، والجاهل يؤثر الدنيا على الآخرة فيخسرهما معاً.
﴿إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا ﴾
الإيمان الذي يحملك على طاعة الله، ولا شيء أيها الأخوة يعلو في حياة الإنسان على الإيمان، القصد الأول أن تكون مؤمناً، ثم أن تعمل بما تعلم:
وعالم بعلمه لم يعملن معذب من قبل عباد الوثن
***
مرة أيها الأخوة اطلعت على كتاب في أول صفحة فيه أربعة أدعية، لفت نظري الدعاء الأول، يقول مؤلف الكتاب:" اللهم إني أعوذ بك أن يكون أحد أسعد بما علمتني مني" أي أكبر مصيبة أن تتفنن في عرض قضية، وأن ينتفع الناس بها، وأن يسعدوا بها، وأن يستحقوا الجنة بها، والذي قالها من أهل النار:" اللهم إني أعوذ بك أن يكون أحد أسعد بما علمتني مني".
" اللهم إني أعوذ بك أن أقول قولاً فيه رضاك ألتمس به أحداً سواك".
" اللهم إني أعوذ بك أن أكون عبرة لأحد من خلقك" ألا أكون عبرة يا رب " . اللهم إني أعوذ بك ألا أكون عاملاً بما أعلم" أي قضية العلم من دون عمل خطيرة جداً، بل إن هذا العلم الذي لا يدعمه عمل حجة على صاحبه، لذلك قالوا: العلم ما عمل به فإن لم يعمل به كان الجهل أولى.
﴿ إِلَّا الَّذِينَ ءَامَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ﴾
يجب أن تؤمن ويجب أن تعمل، لذلك العلم من دون عمل عملٌ تافه، ذلك لأن العلم في الإسلام ليس هدفاً لذاته إنما هو وسيلة
﴿ إِلَّا الَّذِينَ ءَامَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ﴾
.
الدعوة إلى الله فرض عين على كل مسلم :
أيها الأخوة؛ هذه الآية تعد دليلاً قطعياً على أن الدعوة إلى الله فرض عين على كل مسلم، هناك دعوة تعد فرض كفاية، التبحر، والتفرغ، والتعمق، وأن تمتلك الأدلة التفصيلية، وأن تستطيع أن ترد على كل الشبهات، هذه دعوة هي فرض كفاية، إذا قام بها البعض سقطت عن الكل، ولكن الدعوة التي هي فرض عين في حدود ما تعلم ومن تعرف تغطيها هذه الآية، ألم يقل الإمام الشافعي: إن هذه الأشياء الأربعة أركان النجاة، فلذلك إن تخلفت واحدة النجاة ليست محققة.
﴿ إلا الَّذِينَ ءَامَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ ﴾
أي يجب أن تعلم، ويجب أن تعمل بما تعلم، ويجب أن تدعو إلى ما تعلم، تعلم وتعمل وتدعو، فالدعوة في هذه الآية فرض عين على كل مسلم.
من ملامح الحديث الشريف:
(( بلغوا عني ولو آية ))
لو أن كل مسلم استمع في خطبة جمعة إلى حقيقة ناصعة تأثر بها، ونقلها إلى من حوله، نقلها إلى أسرته، إلى زملائه، إلى جيرانه، إلى أصدقائه لكنا بحال غير هذا الحال.
﴿ إِلَّا الَّذِينَ ءَامَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ ﴾
لكن الدعوة التي هي فرض عين تغطى بآية ثانية لعلها أكثر وضوحاً، قال تعالى:
﴿قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ﴾
فالذي لا يدعو على بصيرة ليس متبعاً لرسول الله، من لوازم اتباع رسول الله أن يدعو إلى الله على بصيرة، وقد فسر بعض العلماء البصيرة بأنها الدعوة بالدليل والتعليل، والدعوة التي لا ترقى إلى مستوى الأدلة والتعليلات المنطقية لا تكون دعوة ناجحة
﴿ إِلَّا الَّذِينَ ءَامَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ ﴾
.
المعركة بين الحق و الباطل معركة أزلية أبدية :
لكن لأن معركة الحق والباطل معركة أزلية أبدية، ولكي يدفع المؤمن ثمن قراره الإيماني، ولينال في الآخرة مرتبة عالية عند الله بسبب هذا القرار، كانت هذه المعركة بين الحق والباطل.
تصوروا أيها الأخوة لو أن الله خلق الكفار في قارة والمؤمنين في قارة، لما كان هناك معارك، ولا مناوشات، ولا فتوح، ولا عدوان، ولا كيد، ألغيت الجنة.
﴿وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَانْتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَكِنْ لِيَبْلُوَ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ﴾
إذاً لأن هناك معركة أزلية أبدية في الحياة، هذه معركة مستمرة من آدم إلى يوم القيامة، وأي شيء يدهشكم في الكيد للمسلمين إنه يندرج تحت عنوان هذه المعركة الأزلية الأبدية المستمرة بين الحق والباطل، لذلك قال تعالى:
﴿وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوّاً شَيَاطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ * وَلِتَصْغَى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَلِيَرْضَوْهُ وَلِيَقْتَرِفُوا مَا هُمْ مُقْتَرِفُونَ ﴾
فقضية العداوة لا بد منها، بل إنه قد ورد في بعض الآثار أن سيدنا موسى عليه السلام في المناجاة قال: يا ربي لا تبقي لي عدواً، فقال الله له: يا موسى هذه ليست لي، أليس هناك أعداء لله عز وجل؟ إذاً معركة الحق والباطل معركة أزلية أبدية.
سورة العصر أبلغ دليل على إدارة الوقت :
لذلك:
﴿ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ ﴾
يجب أن تصبر على طلب العلم، ويجب أن تصبر على العمل بالعلم، ويجب أن تصبر على الدعوة إلى العلم
﴿ إِلَّا الَّذِينَ ءَامَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ ﴾
يجب أن تعلم، ويجب أن تعمل بما تعلم، ويجب أن تدعو إلى ما تعلم، ويجب أن تصبر على طلب العلم، وعلى تطبيق العلم، وعلى الدعوة إلى العلم.
أيها الأخوة الكرام؛ حينما نفعل هذا نتلافى الخسارة، ألغيت الخسارة:
﴿ وَالْعَصْرِ * إِنَّ الْإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ * إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ ﴾
هذه السورة القصيرة هي في حقيقتها تعد أبلغ دليل على إدارة الوقت، أنت بضعة أيام، كلما انقضى يوم انقضى بضع منك، ما من يوم ينشق فجره إلا وينادي يا بن آدم أنا خلق جديد، وعلى عملك شهيد، فتزود مني فإني لا أعود إلى يوم القيامة، إدارة الوقت مغطاة بهذه الآية الكريمة:
﴿أَفَمَنْ يَمْشِي مُكِبّاً عَلَى وَجْهِهِ أَهْدَى أَمَّنْ يَمْشِي سَوِيّاً عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ﴾
العلاقة بين الوقت والمال :
أيها الأخوة؛ الآن هناك حقيقة دقيقة، العلاقة بين الوقت والمال، لابد من مثل، لو أن إنساناً أصابه مرض، ولهذا المرض علاج عن طريق عملية جراحية تكلفه ثمن بيته، هناك عمليات غالية الثمن، تكلف ثمن بيت الإنسان، هل تجد واحداً يتردد ثانية واحدة في بيع بيته الوحيد الذي يملكه ويسكنه من أجل أن يجري عملية جراحية يتوهم من خلالها أنه يمد في عمره بضع سنوات؟! ماذا يعني أن يبيع الإنسان بيته الوحيد الذي يسكنه ليجري بثمنه عملية جراحية؟ يقع في وهمه أنها تمد في عمره بضع سنوات، ذلك أنه مركوز في أعماق الإنسان أن الوقت أثمن من المال، في فطرته، في المسلمات التي ينطوي عليها، الوقت أثمن من المال، يبيع البيت الوحيد الذي يسكنه من أجل أن يدفع ثمنه مقابل عملية جراحية يتوهم أنها تمد له في عمره بضع سنوات.
الآن لو إنسان جاء بمليون ليرة وأحرقها أمامنا، ماذا نحكم على عقله؟ نحكم عليه بالسفه، إنسان يمسك مليون دولار ويحرقهم بالنار أمام أعين الناس يحكم عليه بالسفه قولاً واحداً، إذا كان قد ركب في أعماق الإنسان أن الوقت أثمن من المال، هذا الذي يمضي أوقاتاً بتوافه الأعمال، بكلام فارغ، بمسلسلات فارغة، ألا يعد أشدّ سفاهاً بربكم؟! بالمقابل إذا كان إتلاف المال سفاهة أيما سفاهة، فإتلاف الوقت هو سفاهة أشدّ، لذلك الوقت أثمن شيء تملكه، الوقت رأس مالك، الوقت هو أنت، الوقت وعاء عملك، الوقت وعاء عبادتك، هذا هو الوقت.
عوامل الإنجاز :
أيها الأخوة الكرام؛ رجال الاقتصاد يحددون عوامل الإنجاز، قالوا: المواد، والمعلومات، والأفراد، والوقت، ما من مشروع يمكن أن يحقق إلا بهذه العوامل، يحتاج إلى مواد، ويحتاج إلى معلومات في تصنيع هذه المواد، ويحتاج إلى مال لينفق على هذه المؤسسات، ويحتاج إلى وقت، ولو ألغي الوقت ألغي كل شيء، لأن الوقت وعاء تحصيل المواد، ووعاء تصنيعها، ووعاء الخبرات، ووعاء كل شيء، فإذا كان الوقت أحد العناصر مبدئياً هو أصل كل هذه العناصر، لكن الحقيقة المؤلمة والمؤسفة إلى أبعد الحدود أنه ما من شيء في العالم الثالث أو في البلاد المتخلفة أكثر هدراً وأقل استثماراً من الوقت، هدر الوقت في العالم الثالث شيء يؤلم ألماً لا حدود له، وقت الإنسان رخيص، وهذا الوقت أيضاً يهدر بلا ثمن، لذلك إذا سألت عن صفات الأذكياء الموفقين، أو عن صفات الناجحين في الحياة هو إدارتهم للوقت، و من لم يحسن إدارة الوقت عليه أن يدير نفسه، هناك خلل كبير في شخصيته، فإن لم تكن صالحاً لإدارة وقتك ابحث عن إدارة لنفسك، ابحث عن منطلقاتك النظرية، عن سرّ وجودك وغاية وجودك.
الوقت لا يعوض، والوقت لا يرجع، ما مضى فات، والمؤمل غيب، ولك الساعة التي أنت فيها، أنت بين يوم مفقود، هو الماضي، ويوم مشهود، ويوم مورود، ويوم موعود، ويوم ممدود، وأخطر هذه الأيام الخمسة هو اليوم المشهود، هذا اليوم المشهود له علاقة بالأيام الثلاثة القادمة، المفقود؛ هو الماضي ولا جدوى من الحديث فيه إطلاقاً، ما مضى فات، والمؤمل غيب، والذي سيأتي غيب، ولك الساعة التي أنت فيها، لا تملك إلا هذه الساعة، فإما أن تنتفع بها فأنت من الموفقين، أو أن تهدرها هدراً فأنت من المحبطين.
أيها الأخوة الكرام؛ الوقت لا يجمع، ولا يعوض، ولا يرجع، ولكن يتوهم الناس أن هذا الوقت يطول ويقصر، يطول ويقصر نفسياً، أي دقيقة الألم ساعة، وساعة اللذة دقيقة، هذا منعكسه النفسي فقط، أما الوقت فثابت لا يتبدل ولا يتغير، فالذين نجحوا في الحياة وتفوقوا فيها معهم وقت كما تملك أنت، الوقت قاسم مشترك بين الجميع، العباقرة يملكون هذه الساعة، ويملكون هذا اليوم، وهذا العام، وهذا العمر، فالوقت لا يتبدل، ولا يتغير، ولا يطول، ولا يقصر، الوقت يمشي سيراً منتظماً لكل الناس، فإما أن نستغله، وإما أن نستهلكه.
لذلك يقول سيدنا عمر بن عبد العزيز كلمة رائعة جداً: الليل والنهار يعملان فيك فاعمل فيهما، أي أقوى دليل على ذلك أنك إذا نظرت إلى صورة قبل عشرين عاماً ملامح الوجه غير هذه الملامح الحالية، هذا من فعل الليل والنهار، الليل والنهار يعملان فيك فأنت كيف ترد على عملهما فيك؟ اعمل فيهما الأعمال الصالحة، لذلك قال عليه الصلاة والسلام:
(( بادروا بالأعمال الصالحة فماذا ينتظر أحدكم من الدنيا؟ ))
قضية الموت من أخطر موضوعات الإنسان :
الآن المستقبل ماذا يخبئ؟ بكلام صريح وقد يكون مزعجاً، لأن الحقيقة المرة أفضل ألف مرة من الوهم المريح، هل يمكن أن أستيقظ كل يوم في المستقبل كاليوم الذي مضى من دون تطورات إطلاقاً؟ إذاً كيف نغادر الدنيا؟ لا بد من يوم نستيقظ على طارئ في صحتنا، فإذا كان هذا المرض بوابة الخروج يتفاقم إلى أن ينتهي بالوفاة، فلذلك قضية الموت من أخطر موضوعات الإنسان، لأن الموت نهاية الوقت، نحن في عدّ تنازلي، أي أنت انظر إذا أردت أن تسافر إلى بلد فرضاً إلى طرابلس اللوحات دائماً: 90- 80 - 70 - 60 - 50 - 40 - 30 - 20 – 10- 5، طرابلس ترحب بكم، هذا هو العد التنازلي، وينبغي أن نعد أعمارنا عداً تنازلياً، ينبغي أن نسأل من حين لآخر كم بقي لنا؟
أنا أروي قصة الحقيقة نموذجية لأنني عانيها، كنت مرة مدرساً في ثانوية وقد نشأ وقت فراغ معين، ولا أستطيع أن أغادر وأن أعود لساعة واحدة، قلت: أمضي هذا الوقت عند مدير الثانوية، فرحب بي، وجاء بضيافة، وحدثني عن مشاريعه للمستقبل، والله حدثني عن عشرين عاماً قادمة، سيسافر إلى المكان الفلاني، ويبقى خمس سنوات، ولا يعود إلى الشام، يمضي الصيف الأول في فرنسا، والصيف الثاني في إيطاليا، والثالث في بريطانيا، والرابع في إسبانيا، يرى هذه البلاد ومتاحفها، وثقافتها، وأسواقها، وجامعاتها، ويعود بعد هذه السنوات إلى بلده إلى الشام، ويقدم طلباً للتقاعد من وظيفته، وينشئ عملاً تجارياً لطيفاً، يبيع فيه التحف ولا علاقة لها بالتموين والتسعير وما إلى ذلك، وتابع الأمر ثم يزوج أبناءه، ثم يجعل هذا المحل منتدى فكرياً، هكذا يقول، ومضت الساعة وخرجت من عنده، ودعني بكل ترحاب، وذهبت إلى الصف، وألقيت الساعة الأخيرة، وعدت إلى البيت، ومساءً نزلت إلى مركز المدينة، عندي ساعات تدريس أردت أن أعود إلى البيت ماشياً فإذا نعوته على الجدران في اليوم نفسه، لذلك قالوا: من عدّ غداً من أجله فقد أساء صحبة الموت، لمجرد أن تقول: غداً أفعل كذا، أنت لا تعرف ما هو الموت، الموت يأتي بغتةً، والقبر صندوق العمل، فلذلك الاستعداد للموت من الدين، يقول عليه الصلاة والسلام:
(( بادروا بالأعمال الصالحة فماذا ينتظر أحدكم من الدنيا؟ ))
الآن المستقبل ماذا يخبئ له ؟ أي إنسان.
((ما ينتظر أحدكم من الدنيا إلا غِنَىً مُطْغِياً، أو فَقْراً مُنْسِياً، أو مَرَضاً مُفْسِداً، أو هَرَماً مُقَيِّداً، أو مَوْتاً مُجْهِزاً ؛ أو الدجال، فالدجال شرُّ غائِبٍ يُنْتَظَر؛ أو السَّاعَةُ والساعة أدهى وأَمَرّ ))
الإنسان إذا توقع المتوقع ينجو من المتوقع.
إدارة الوقت أن تعيش المستقبل :
لذلك قال تعالى:
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ﴾
﴿الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ ﴾
لماذا بدأ بالموت؟ أنت حينما تولد أمامك خيارات لا تعد ولا تحصى، لكن إذا جاءت ساعة المنية أمامك خياران لا ثالث لهما، فو الذي نفس محمد بيده ما بعد الدنيا من دار إلا الجنة أو النار، أمام الموت خياران فقط، فإما أن تكون من سعداء الآخرة أو من أشقياء الآخرة.
﴿قُلْ إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ﴾
إذاً أيها الأخوة؛ إدارة الوقت أن تعيش المستقبل، إدارة الوقت أن تعد لساعة مغادرة الدنيا، ما من إنسان أعقل من الذي يعد لهذه الساعة التي لا بد منها، الإنسان أيها الأخوة حينما يولد كل من حوله يضحك، لكنه يبكي وحده، بعد الولادة الوليد يبكي، فإذا وافته المنية كل من حوله يبكي، فإذا كان بطلاً يضحك وحده.
﴿قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ قَالَ يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ﴾
إذا كان بطلاً يضحك وحده، معنى ذلك أنه إذا أدار الوقت إدارة ذكية موفقة يضحك وحده، والنجاح الحقيقي، والفلاح الحقيقي أن تزحزح عن النار.
العلم و العمل قيمتان معتمدتان في القرآن لتقييم الإنسان :
أخوتنا الكرام؛ نحن نعيش قيماً مستنبطة من حركة الحياة، نقدر القوي، نقدر الغني، نقدر الذكي، يلفت نظرنا الجميل، لكن القرآن ذكر قيماً اعتدها ولم يعتمد غيرها، قال:
﴿وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا﴾
أي حجمك عند الله بحجم عملك الصالح فقط، وذكر قيماً أخرى:
﴿يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ﴾
فقيمتان في القرآن معتمدتان بتقييم الإنسان؛ العلم والعمل، ولا يوجد قيمة ثالثة، لذلك يروى أن أحد التابعين كان قصير القامة، أسمر اللون، أحنف الرجل، غائر العينين، ناتئ الوجنتين، مائل الذقن، ليس شيء من قبح المنظر إلا وهو آخذ منه بنصيب، وكان مع ذلك سيد قومه، إذا غضب غضبَ لغضبته مئة سيف لا يسألونه فيما غضب، وكان إذا علم أن الماء يفسد مروءته ما شربه، كان في حضرة معاوية سأله تكلم يا أحنف عن يزيد؟ فقال كلمة رائعة قال: أخاف الله إن كذبت، وأخافكم إن صدقت، فكان تلميحاً أبلغ من تصريح، وكان سيد قومه، فنحن حينما نعتمد قيم القرآن نقدر العلم والعمل، ونلغي هذه القيم الأخرى التي هي شائعة بين الناس، بل إن الإنسان حينما يعتمد مقاييس الفوز في القرآن يكون قد أحسن إدارة الوقت، قال تعالى:
﴿فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ﴾
لكن لو شققت على صدور الناس الآن ما هو الفوز؟ أن تملك دخلاً كبيراً جداً، أن تملك بيتاً فخماً جداً، أن تملك مكانة قوية جداً، أن يكون الناس في خدمتك، هذا فوز في مقياس الأرض، ولكن في مقياس السماء الفوز أن تزحزح عن النار، وأن تدخل الجنة.
﴿وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً﴾
فطاعة الله هي الفوز، وأقول دائماً: مستحيل وألف ألف مستحيل أن تطيعه وتخسر، ومستحيل وألف ألف مستحيل أن تعصيه وتربح، سبحانك إنه لا يذل من واليت، ولا يعز من عاديت.
الوقت نعمة كبيرة و مسؤولية عظيمة :
أيها الأخوة؛ الوقت نعمة، نعمة كبيرة، بل إن العلماء الذين فسروا قوله تعالى:
﴿أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ * حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ * كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ * ثُمَّ كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ * كَلَّا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ * لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ * ثُمَّ لَتَرَوُنَّهَا عَيْنَ الْيَقِينِ * ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ﴾
من النعيم الوقت، وقت الفراغ، ماذا فعلت به؟ كيف أنفقته؟ هل أنفقته في طاعة أم في معصية؟ هل أنفقته في عمل صالح أم في متعة؟ كيف أنفقته؟ وهذه السورة أيضاً
﴿ أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ ﴾
ألهاكم الجمع، الجمع ثم تفاجؤون بالموت، كالذي حدثتكم عنه
﴿أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ * حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ * كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ ﴾
تهديد، أي أنت الآن لا تعلم، لكن سوف تعلم.
﴿ ثُمَّ كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ ﴾
مرة عند الموت، ومرةً يوم القيامة
﴿ كَلَّا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ * لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ﴾
أي إنسان يركب مركبة في طريق منحدر انحداراً شديداً، والنسيم عليل، والمنظر جميل، لكن ينتهي هذا الطريق بمنعطف بزاوية قائمة، ثم اكتشف أن المكبح قد تعطل يقول: هلكنا.
﴿ لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ * لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ ﴾
لو يعلم هذا الإنسان الشارد، هذا الإنسان التائه، هذا الإنسان العاصي ماذا ينتظره لأيقن بالجحيم،
﴿ كَلَّا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ * لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ * ثُمَّ لَتَرَوُنَّهَا عَيْنَ الْيَقِينِ * ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ﴾
بنود النعيم الكفاية والصحة ووقت الفراغ، لذلك قال عليه الصلاة والسلام:
(( نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس: الصحة، والفراغ ))
بل إن سقراط يقول: لا يعد الإنسان إنساناً إلا إذا كان عنده وقت فراغ، وقت العمل من أجل أن تكسب المال، لكن الوقت الذي يؤكد إنسانيتك، يؤكد اتجاهك، وقت الفراغ، لذلك الناس يتمايزون بوقت الفراغ، هذا الوقت كيف تمضيه؟ وما من مصيبة ألمت بالعالم الثالث كمصيبة الغزو الفكري، الناس جالسون وراء الشاشة، يتلقون بطريقة سلبية لا يحققون شيئاً، يتابعون مشكلات موهومة أو ممثلة تمثيلاً، فيضيف الإنسان إلى مشكلاته الحقيقية مشكلات المسلسلات:
﴿ لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ * لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ * ثُمَّ لَتَرَوُنَّهَا عَيْنَ الْيَقِينِ * ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ﴾
الوقت أيها الأخوة مسؤولية:
((لا تَزُولُ قَدَمَ ابنِ آدَمَ يَوْمَ القِيَامَةِ مِنْ عِنْدِ رَبّه حَتّى يُسْأَلَ عن خَمْسٍ: عن عُمْرِهِ فِيمَا أَفْنَاهُ، وعن شَبَابِهِ فِيمَا أَبْلاَهُ، وَعن مَالِهِ مِنْ أَيْنَ اكْتَسَبَهُ وَفِيمَا أَنْفَقَهُ، وَمَاذَا عَمِلَ فِيمَا عَلِمَ))
أنت مسؤول، والله الذي لا إله إلا هو هذه الثانية التي تمر تسأل عنها، بل حتى المؤمن حينما توافيه المنية لا يندم إلا على ساعة مرت لم يذكر الله فيها، فبما أن الوقت نعمة مسؤول عنه، ماذا فعلت في هذا الوقت؟ لذلك النبي عليه الصلاة والسلام أقسم الله بعمره الثمين، قال:
﴿لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ﴾
الأعمار لا تقاس بأزمانها بل بالإنجازات التي فيها :
الحقيقة أيها الأخوة الأعمار لا تقاس بأزمانها، تقاس بالإنجازات التي فيها، الآن تجد الإمام الشافعي عاش دون الخمسين، ترك كتباً لا يعلم خيرها إلا الله، الإمام النووي عاش تسعاً و أربعين سنة أيضاً ترك كتباً لا يعلم خيرها إلا الله، فالإنسان حينما يدير وقته يجري الله الخير على يديه، إدارة الوقت أخطر شيء في حياة الإنسان، لو حسبت الأوقات الضائعة والمهدورة والتي كانت في شيء تافه لأدركت قيمة الوقت.
أحد العلماء الكبار في الشام مرّ أمام مقهى رأى أناساً يلعبون النرد قال: يا سبحان الله! لو أن الوقت يشترى من هؤلاء لاشتريناه منهم، لأن الإنسان حينما يعرف الله ويسعى إلى الجنة أثمن شيء هو الوقت، لذلك يتمنى أن يكون النهار خمسين ساعة، أن يكون العام عشرين شهراً مثلاً، الوقت شيء ثمين جداً، لكن التافهين وقتهم تافه.
﴿فَلَا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْناً﴾
فالوقت مسؤولية، والوقت أيها الأخوة له أهمية كبيرة، لذلك قال عليه الصلاة والسلام في الحديث الجامع المانع:
((اغتنم خمساً قبل خمس: حياتك قبل موتك، وصحتك قبل سقمك، وفراغك قبل شغلك، وشبابك قبل هرمك، وغناك قبل فقرك))
وهذا من إدارة الوقت.
كلمة إدارة الوقت كلمة حديثة، لكن كل هذه الآيات؛ ألهاكم التكاثر، والعصر، وهذه الأحاديث كلها عن الوقت، الإنسان بضعة أيام.
((اغتنم خمساً قبل خمس: حياتك قبل موتك، وصحتك قبل سقمك، وفراغك قبل شغلك، وشبابك قبل هرمك، وغناك قبل فقرك))
قيمة الوقت لا تعرف إلا عند الموت :
بل إن النبي عليه الصلاة والسلام في حديث رائع جداً يقول:
((إذا قامت الساعة وبيد أحدكم فسيلة فإن استطاع ألا يقوم حتى يغرسها فليفعل))
لأن الوقت ثمين جداً، لا يعرف قيمة الوقت إلا عند الموت.
﴿ رَبِّ ارْجِعُونِ * لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ ﴾
يقول عليه الصلاة والسلام:
(( ركعتان خفيفتان مما تحقرون وتنفلون يزيدهما هذا في عمله أحب إليه من بقية دنياكم))
شخص يملك أضخم شركة بالعالم، صاحب هذا القبر إلى ركعتين مما تحقرون من تنفلكم خير له من كل دنياكم، نحن الآن نعيش، والقلب ينبض، وفي العمر بقية، لكن لو أن إنساناً وافته المنية يتمنى دقيقة يعبد الله فيها، يتمنى دقيقة يصلي فيها، يتمنى دقيقة يقدم خدمة لإنسان لوجه الله عز وجل، لكن الوقت يمضي هكذا، فهذا الوقت نشعر بقيمته عند الموت:
﴿يَقُولُ يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي * فَيَوْمَئِذٍ لَا يُعَذِّبُ عَذَابَهُ أَحَدٌ﴾
﴿يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلاً﴾
﴿لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلَاناً خَلِيلاً﴾
الآيات إذا جمعت حول حالة الندم التي تسحق الإنسان عند الموت تؤكد قيمة الوقت، الله عز وجل يقول:
﴿وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا ﴾
أنت مخير، أولاً في عمرك بقية، والقلب ينبض، وتعيش استيقظت، سمح له أن تعيش يماً جديداً:
﴿وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ﴾
أي هذه الحرية في الاختيار نعمة كبرى لا تعدلها.
﴿وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ﴾
من النعم الكبرى نعمتا الحياة و الاختيار :
الآن:
﴿أَيْنَ مَا تَكُونُوا ﴾
في أي مكان كنتم، وفي أي مكانة كنتم:
﴿يَأْتِ بِكُمُ اللَّهُ جَمِيعاً إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾
أي هذه النعمة الكبرى نعمة الحياة ونعمة الاختيار فرصة لا تعوض، سوف تنتهي هذه النعمة، متى؟ عند الموت.
﴿وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ أَيْنَ مَا تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمُ اللَّهُ جَمِيعًا ﴾
أخوتنا الكرام؛ النبي عليه الصلاة والسلام أرسل أحد الصحابة الكرام قائداً لجيش هو زيد بن ثابت، فإن قتل فجعفر بن أبي طالب، فإن قتل فعبد الله بن رواحة، هذه المعركة معركة مؤتة، سيدنا زيد مسك الراية وقاتل بها حتى قتل، فجاء دور سيدنا جعفر أمسك الراية فقاتل بها حتى قتل، جاء دور من؟ عبد الله بن رواحة فتردد عشر ثوان قال:
يا نفس إلا تقتلي تموتـــــي هذا حمام الموت قد صليت
إن تفعلي فعلهمــــــــا رضيت وإن توليــــت فقد شـــقيــــــــت
***
وأمسك الراية فقاتل بها حتى قتل، ماذا قال النبي لأصحابه؟ قال:
((أخذ الراية أخوكم زيد فقاتل بها حتى قتل، وإني لأرى مقامه في الجنة، ثم أخذ الراية أخوكم جعفر فقاتل بها حتى قتل وإني أراه يطير بجناحين في الجنة- لأنه قطعت يمينه فأمسكها بيساره فقطعت يساره فأمسكها بعضديه ثم قتل- ثم سكت النبي عليه الصلاة والسلام، لما سكت قلق الصحابة على أخيهم الثالث عبد الله بن رواحة قالوا: ما فعل عبد الله؟ فسكت النبي بقدر تردده قال: ثم أخذ الراية أخوكم عبد الله فقاتل بها حتى قتل وإني لأرى في مقامه ازوراراً عن صاحبيه، هبط مقامه لأنه تردد في بذل نفسه))
الآن نقول لك: تعال واحضر هذا الدرس فقط فتتوانى، وتتكاسل، أي لتعلموا الفرق بين الصحابة الكرام و بيننا، لأنه تردد عشر ثوان فقط في بذل روحه هبط مقامه عند الله عز وجل.
أيها الأخوة الكرام؛ الوقت الذي نملكه نحن يملكه الناجحون، يملكه المتفوقون، فالوقت قاسم مشترك بيننا جميعاً، لكنهم أحسنوا إدارته، وأخفقنا في إدارته، ولا أبالغ أنك إن التقيت بمئة إنسان قد لا تجد واحداً يحسن إدارة الوقت، الوقت محدود يمكن أن تستغل كل دقيقة فيه، يمكن أن تخطط له، يمكن أن تقوم بأعمال كثيرة بوقت واحد، لكن هذا الذي يعيش هكذا بلا تخطيط وبلا وعي يضيع وقته سدى.
أسأل الله لي ولكم التوفيق والنجاح وإلى الأسئلة إذا شئتم.
أسئلة و أجوبة :
1 ـ توضيح مفهوم إنفاق الوقت :
س: هل بالإمكان أن توضح لنا مفهوم إنفاق الوقت إنفاقاً استهلاكياً وإنفاقه إنفاقاً استثمارياً؟
ج: الإنفاق الاستهلاكي كما يفعل الناس اليوم، يأكل، ويشرب، وينام، ويسمر، ويسافر، وينغمس في المتع والشهوات بلا ضابط، ولا قيمة، ولا رادع، ولا منهج، ولا هدف، ولا وسيلة، يعيش هكذا، إن عمل النار سهل بسهوة، لكن إنفاق الوقت إنفاق استثماري يعلم ويعمل بما يعلم، ويدعو إلى ما يعلم، ويصبر على طلب العلم، وعلى تطبيقه، وعلى الدعوة إليه، يعمل للآخرة، الآن أي شيء ينتهي عند الموت من الدنيا، عندك بناء فخم جداً، عندك مزرعة فخمة جداً، أي شيء ينتهي عند الموت من الدنيا، وأي شيء يدخل معك في القبر من الآخرة، فأنت في أية لحظة يمكن أن تقيم عملك، هذا العمل يدخل معي في القبر أم يبقى في الدنيا؟ الإنسان إذا شيعه أقرباؤه وصلوا إلى القبر، قد يأتي الناس إلى القبر وضع في القبر، ما الذي ينزل معه إلى القبر؟ مركبته الفخمة؟! لا، بيته الكبير الذي له إطلالة رائعة؟! لا، زوجته الجميلة؟! لا، يدخل وحده، لكن شيئاً يدخل معه هو العمل الصالح.
يا قييس إن لك قريناً تدفن معه وهو حي، ويدفن معك وأنت ميت، فإن كان كريماً أكرمك، وإن كان لئيماً أسلمك، ألا وهو عملك.
لذلك العمل الصالح وحده هو إنفاق الوقت إنفاقاً استثمارياً.
﴿ رَبِّ ارْجِعُونِ * لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ ﴾
الآن الإنسان حينما تأتيه المنية يا ربي حتى أبيع البضاعة، لا يقولها، حتى أصب السقف، لا يقول هذا أبداً، يقول:
﴿ رَبِّ ارْجِعُونِ * لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ ﴾
فلذلك إنفاق الوقت إنفاقاً استثمارياً هو العمل الصالح، العلم والعمل والدعوة إلى الله.
2 ـ استخدام الوسائل الحديثة في نشر الدعوة :
س: إن التطورات التي أثرت في التكنولوجيا هي اختصار الوقت في كثير من المجالات العلمية، هل بإمكاننا الاستفادة منها؟ وكيف ذلك في المجال الديني؟ وهل يوازي مثلاً أخذ الدين وتعاليمه عبر الأنترنيت لأخذ الدين وتعليمه من العلماء؟
ج: أنا من المؤمنين، وقد عرضت في هذه القاعة في العام الماضي علاقة الأنترنيت بالدعوة إلى الله، تذكرون؟ أنا مؤمن أنه لا بد من أن نستخدم الوسائل الحديثة في نشر الدعوة، لأنه في الحقيقة الوسائل الحديثة- سأقول كلاماً دقيقاً- رفعت الدقة إلى مئة درجة وخفضت الجهد إلى الصفر، أي ممكن أن تأخذ موضوعات كبيرة الآن عن طريق الأنترنيت، فالأنترنيت من لا يستخدمه هو أمي هذا العصر، الكمبيوتر والأنترنيت طبعاً فيهما أخطار أيضاً، لكن الإنسان مخير، وأي شيء أمامك سلاح ذو حدين، أي شيء أمامك حيادي، يمكن أن يوظف في الخير وفي الشر، يمكن أن يكون سلماً ترقى به أو دركات تهوي بها، لكن المؤمن يختار الجانب الخير، إذاً الوسائل الحديثة يجب أن نستخدمها، والذي لا يستخدمها يكون خارج العصر، أنا بالمناسبة والفضل لله لي موقع في الأنترنيت الآن رواده أربعة عشر ألفاً بالأسبوع، صار فيه أحدث خمس خطب، أحدث خمس دروس تفسير، أحدث خمس دروس أحد، وفيه صوت، ولغة إنكليزية، وفتاوى، وستون ألف صفحة، والله حينما أسافر لبلد بعيد، مرة كنت بسيدني أمين المكتبة رحبّ بي ترحيباً غير معقول، إذا به يأخذ كل معلوماته من موقعي بالأنترنيت، قلت: سبحان الله! أنا في دمشق والأخ في سيدني، في أقصى مكان في الدنيا، هذا هو الأنترنيت.
كنت في الكويت قبل أسبوع قدموا لي هدية ثمينة جداً ،الموسوعة الفقهية، أما حجمها فكبير جداً، تسعة و ثلاثون جزءاً، أتيت بها إلى الشام وتجشمت مؤونة نقلها، جئت إلى الأنترنيت فتحت موقع وزارة الأوقاف، مكتوب مربع: الموسوعة الفقهية، ضغطت على هذا المربع الأجزاء كلها موجودة، ضغطت على أحد الأجزاء نقل إلى الهارد عندي الجزء بكامله وهو مضبوط بالشكل وملون، بحث وطبع فندمت على حمل هذه الموسوعة.
خاتمة و توديع :
نشكر فضيلة الدكتور محمد راتب النابلسي لتكرمه بهذه المحاضرة الطيبة، والشكر قليل طبعاً وهي كلمات مضيئة تنير لنا أوقاتنا، نسأل الله عز وجل أن يوفقنا للعمل في هذا المضمون، وألا نكون إلا كالسمكة الأولى حتى لا نصطاد، نشكره جزيل الشكر.