وضع داكن
16-04-2024
Logo
الدرس : 3 - سورة الجن - تفسير الآية 18 ، فضل المكوث بالمساجد والدعوة فيها
   
 
 
 بسـم اللـه الرحمـن الرحيـم  
 

 الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيّدنا محمد الصادق الوعد الأمين، اللهم لا علم لنا إلا ما علَّمْتنا إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علِّمنا ما ينْفعنا وانْفعنا بِما علَّمتنا وزِدْنا عِلما، وأَرِنا الحق حقاً وارْزقنا اتِّباعه وأرِنا الباطل باطِلاً وارزُقنا اجْتنابه، واجْعلنا ممن يسْتمعون القول فَيَتَّبِعون أحْسنه وأدْخِلنا برحْمتك في عبادك الصالحين.
 أيها الإخوة المؤمنون، الآية الثامنة عشْرة من سورة الجِنّ وهي قوله تعالى:

﴿وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا(18)﴾

[ الجن: الآية 18 ]

 بَيْتُ الله مُنَزَّهٌ عن كُلِّ غَرَضٍ دُنْيَوي، بيتُ الله الذي جعله الله عز وجل مَرْجِعاً لِعِباده ونوراً يهْتَدون بِهَدْيِهِ ؛ هذا البَيْت لا ينبغي أنْ يكون لِغَيْر الله فأيَّةُ دَعْوَةٍ لِغَير الله في هذا البيت لا تجوز وأيَّةُ مصْلَحَةٍ تُحقق في بيت الله لا تجوز:

 

﴿وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا(18)﴾

 

[ الجن: الآية 18 ]

 لذلك ورد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنَّهُ قال: خير البلاد مساجدها وشرُّها أسْواقها، الإنسان في المسجد يتعرَّفُ إلى الله وإلى منْهجه وإلى المؤمنين، وفي المسْجد تنشأُ روحٌ جماعِيَّة لذلك قال عليه الصلاة والسلام

((عَنْ سَمُرَةَ ابْنِ جُنْدَبٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ مَنْ صَلَّى الصُّبْحَ فَهُوَ فِي ذِمَّةِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ ))

[ رواه ابن ماجه ]

 النبي عليه الصلاة والسلام حينما هاجر إلى المدينة بدأ بِبِناء المسْجد قبل أنْ يبْنِيَ بيْته، لو دقَّقْتم لَوَجَدْتُم أنَّ أخْطر مكانٍ في حياة الناس هو المسْجد لأنَّكَ فيه تعْرف لماذا خُلِقْتَ ؟ ولماذا جيءَ بك إلى الدنيا ؟ وتعرف ما بعْد الموت ؛ من حِسابٍ وعذابٍ أوْ نعيم، تعرف الحلال والحرام، تعرف منهجك وكتاب الله، لذلك المسْجد أخْطر في حياة المسلمين، لذلك لا بد مِن أنْ يُعْتنى به، ويُعْتنى بِمَن يقومون عليه، وبِبِنائِه، أنْ يكون مُريحاً:

 

﴿وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا(18)﴾

 

[ الجن: الآية 18 ]

 والشيء الذي يُطَمْئِنُ أنَّهُ ما مِن بلْدَةٍ في بِقاع الأرض فيها حركة بناء المساجد على قدمٍ وساق كَهَذه البلْدَة ! والحمد لله رب العالمين، والمساجد عامِرَة بالمُصلِّين، بقيَ فقط أنْ يكون هؤلاء المُصَلُّون في المستوى الذي أراده الله لهم، أنت في المسْجد تتلَقَّى تعْليمات الصانِع، وتقْبِضُ الجائزة في أثناء الصلاة ؛ تأخذ التعليمات في طلب العِلم وتقْبِضُ الجائزة في أثناء الصلاة، أما مجال عملك هو البَيْت والسوق والطريق، وكُلُّ نشاطات الحياة، هذه من أجل التطبيق، هنا تأخذ تعليمات الصانع، لذلك من نَشَدَ ضالةً في المسْجد فقولوا له: لا ردَّها الله إليك ؛ بَيْعٌ شِراءٌ، قضِيَّة دُنْيَوِيَّة، خُصومات في المسْجد، المساجد صُمِّمَت للعِبادة، ونشْر العِلْم ولِمَعْرِف ؛ وأنَّ المساجد لله حصْراً فلا تدْعوا مع الله أحداً، لا يُعْقل أنْ يكون المسْجد لِدِعايَة اِنْتِخابِيَّة مثَلاً ! هذا البيت لله عز وجل ؛ الدَّعْوة إلى الله خالِصَة هناك مجالات كبيرة للتعْبير عن حال المُرَشَّحين لِمَجْلس الشعْب مثلاً، أما بُيوت الله فهِيَ لم تُخْلق لِزَيْدٍ أو عُبَيْد ؛ قوله تعالى:

 

﴿وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا(18)﴾

 

[ الجن: الآية 18 ]

 أحْياناً إذا دَعَوْتَ إلى النبي وإلى معْرِفَتِهِ، ومحَبَّتِهِ وطاعته ؛ هذه من جمْلة الدَّعْوة إلى الله، ذَكَّرْتُكم في دُروسٍ سابقة أنَّني قلتُ لكم أنَّهُ يوجد حُبٌّ في الله وحُبٌّ مع الله، أنت حينما تُحِبُّ المؤمنين حُبُّكَ هذا يَنْبُع من حُبِّكَ لله أنت حينما تُحِبُّ العلماء العامِلين والصحابة الكِرام حُبُّكَ هذا يَنْبُع من حُبِّكَ لله، أنت حينما تُحِبُّ النبي عليه الصلاة والسلام وسائر الأنبياء حُبُّكَ هذا يَنْبُع من حُبِّكَ لله وهذا حُبٌّ في الله وهو عَيْنُ التوْحيد، أما حينما تُحِبُّ إْنساناً بعيداً عن الله، ولِمَصْلَحَةٍ بينك وبيْنه هذا حُبٌّ مع الله، وهو عَيْنُ الشِّرْك، لو أنَّك وَقَفْتَ على المِنْبر وبيَّنْتَ شمائِل النبي عليه الصلاة والسلام وفضائله وصِفاته وأخْلاقه وفَحْوى رِسالته صلى الله عليه وسلم كان هذا عَيْنُ الدَّعْوة إلى الله لأنَّ الأنبياء تقْريباً كَلَوْحٍ شفاف يَشِفُّون عمن وراءَهم فقط ؛ ليس لهم ذاتٌ تظْهر، ذوات الأنبياء مُخْتَفِيَّة كيْ تَشِفَّ عن ذات الله عز وجل، لذلك الدعوة إلى معْرفة رسول الله عَيْنُ الدَّعْوة إلى الله، ومن هنا قال الله عز وجل

 

﴿ وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ إِنْ كَانُوا مُؤْمِنِينَ (62)﴾

 

[ التوبة: الآية 62 ]

 ضمير المُفْرد لأنَّ إرْضاءُ الله هو عَيْن إرْضاء رسول الله وإرْضاء رسول الله هو عَيْنُ إرْضاء الله، وحياةُ النبي كُلُّها للتعْريف بالله، فإذا قلنا فلا تدعوا مع الله وليس في الله ؛ إنْ دَعَوْتَ إلى النبي فهذه دَعْوَةٌ في الله، أما إنْ دَعَوْتَ إلى إنْسانٍ ليس مُستقيم على أمْر الله فهذه دَعوةٌ مع الله، دائِماً المؤمن ضِمْن البَوْتَقَة أما غير المؤمن يرى نفْسهُ نِداًّ لِكُلِّ المعالم التي ينبغي أنْ تُقَدَّس، فالإنسان إذا دخل بيْتَ الله ينبغي أنْ يدْخُلَهُ بِنِيَّةِ التقرُّب إلى الله، وإنَّ بيوتي في الأرض المساجد وإنَّ زُوارُها هم عُمارُها فطوبى لِعَبْدٍ تطَهَّر في بيْتِهِ ثمَّ زارني وحُقَّ على المزور أنْ يُكْرِمَ الزائِر، كيفَ يُكْرِمُكَ الله عز وجل ؟ يُكْرِمُك بأنْ يُلقي الأمْنَ في قلْبك، والأمن أثْمن عطاء نفْسي، يُكْرِمُك بأنْ يُوَفِّقَك في حياتك هُمْ في مساجِدِهم والله في حوائِجِهم، ولا شيءَ أمْتَعَ من التَّوْفيق، ولا شيءَ يُزْعِج كالتَّعْسير، أحَدُ أنواع الضِّيافات التي تنالُها في بيت الله التَّوْفيق ؛ تُوَفَّقُ في بَيْتِك، وفي عملِكَ، وفي صِحَّتِك، وفي دُنْياك، وفي آخِرَتِك، فحالةُ المؤمن التي يَحُسُّ بها المؤمن هي ضِيافة، لأنَّ من دخَلَ بَيْتَ الله كان آمِناً، فالشُّعور بالأمن شيءٌ ثمينٌ جداً وقد جعلهُ الله خاصاً بالمؤمنين، والدليل قوله تعالى:

 

﴿ فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (81)﴾

 

[ الأنعام: الآية 81 ]

 إذاً أيها الإخوة، الشُّعور بالأمن والرِّضا والسعادة و التَّفَوُّق وتيْسير الأمور بِبَيْتِكَ ونجاحُك بِبَيْتِكَ وفي عملكَ وفي علاقاتك وفي تزْويجِ بناتك وأولادك هذه كُلُّها ثِمار زِيارة الله في بيْتِهِ ؛ وإنَّ بيوتي في الأرض المساجد وإنَّ زُوارُها هم عُمارُها، أحْياناً تحمِلُ كَيْساً من الدنانير فرْطَ - قِطَع وليس ورق - فَيَظُنُّ الناس أنَّكَ تحْمِلُ الملايين، وما هو إلا ثلاثة آلاف وأحْياناً تحْمِلُ شيكاً قدْرُهُ ثلاثة ملايين، فالعِبْرَةُ ليس بالحجْم المادي، قد تأتي إلى بيتِ الله فَتَقْطِفُ ثِمار الأمل والحياة والتيْسير في كُلِّ علاقاتك، وبِالمُناسبة ؛ كُلُّكُم يعْلم أنَّك إنْ أدَّيْتَ زكاةَ مالِك حفظ الله لك بَقِيَّة مالك، أنت حينما تقْتطِعُ زمناً من وقْتِكَ الثَّمين لِتأتي إلى المسْجد؛ الوَقْتُ أصلٌ في كسْب المال، إنْسانٌ له محَلٌّ في موقِعٍ حساس ؛ هذا دخل وذاك خرج، فلو أذِّن للصلاة وأغْلق محَلَّهُ يكون قد ضَحَّى بِكَسْبٍ مادِّي، هذا قد أدَّى زكاةَ وقْتِهِ وإذا أدَّيْتَ زكاة وقْتِكَ حفِظَ الله لك بَقِيَّة وقْتِك، أحْياناً في وَقْتٍ قصيرٍ تُنْجِزُ عملاً كبيراً، حدَّثني شخْصٌ مُسافر من دِمَشق إلى أبو ضبي بالسيارة فقال لي: وَصَلْتُ إلى مسْجِد - المفْروض أنْ أُصَلي - فَقُلْتُ أكْسِبُ الوقْت وأُكْمل السَّفَر، أثناء الطريق تَعِبَ فَدَخَلَ إلى مطْعم ووجد فيه حمام فاسْتَحَمَّ لِيِتَنَشَّط وترك جواز سفره عند صاحب المطْعم، ثمَّ ارْتاح ساعَتَيْن وبعْدها أكْمَلَ الطريق ولما قطع مائة وثمانون كيلومتر تذَكَّر أنَّه نَسِيَ الجواز فقال لي: كَلَّفَني ترْكُ الصلاة ثلاث مائة وستون كيلومتر ! هم في مساجِدِهم والله في حوائِجِهم، وذكر لي أخٌ أنَّ أهْله أرادوا النُّزْهَة يوم الجمعة فأخَذْتُهُم وما صَلَّيْتُ الجمعة، فأخذ أهْله إلى الزبداني، وهو فيها أراد أنْ يملأ قليلاً من ماء بَقِّين، فإذا بِشابٍّ ركد نحْوي واحْتَرَمَني اِحْتِراماً غير طبيعي، وبعْدما ملأ له الدَّلْوَ ودخل السيارة فإذا به فَقَدَ حقيبَتَهُ الجِلْدِيَّة التي فيها مبْلَغاً من المال وهَوِيَّتُهُ الشَّخْصِيَّة، وشهادة سواقة، كَلَّفني ضياعُ هذه الوثائِق إلى أشْغالٍ كبيرة دامَتْ ستَّةَ أشْهر ‍‍!! وإذا آثرتَ مصلحة مادِيَّة على الصلاة بالمسْجد خَسِرْتَ، أنت حينما تُؤدي الصلاة في المسْجد تدْفعُ بِهذا زكاة الوقت، وهذا معْناه أنَّ بَقِيَّة الوقت فيه بَرَكَة، في وقْتٍ صغير تُنْجِزُ عَمَلاً كبيراً، والله قادِرٌ على أنْ يُتْلِفَ لك خمسون ساعَةَ هباءً، لا تتشاغل عن الله في وَقْتٍ تُصَلي فيه، تَوْظيفُ الوقْت، إذْ حينما تقْتطِعُ وقْتاً لأداء الصلاة في المسْجد أو طلب العلم في المسْجد فأنت قد حَفِظْتَ الوقْتَ من التَّلَف ؛ هذا أوَّلاً، وثانِياً: قد بارك الله لك في وَقْتِكَ فأنْجَزْتَ في وقْتٍ قصيرٍ أعْمالاً كثيرة ؛ بارك الله لك في وقْتِكَ وفي صِحَّتِك وفي أهْلِكَ وفي وَلَدِكَ، أحْياناً تتعَبُ بِتَرْبِيَة ولَدِكَ فإذا به يُسافر ويأخذ جِنْسِيَّة ويتزَوَّج بامْرأة أمريكِيَّة وينْساكَ ؛ ولا رِسالة، لأنَّكَ أنْشَأْتَهُ نشأةً دُنْيَوِيَّة وبذلك خَسِرْتَهُ، أما لو أنَّك أنْشَأْتَهُ نشْأَةً إسْلاميَّة يكون لك، فَفَرْقٌ كبير بين أنْ يكون ابنك لك وزَوْجَتُك لك وتِجارتك لك ومالك لك، فالنقطة الدقيقة يجب أنْ تقْتطِعَ من وَقْتِكَ الثَّمين لأداء الصلاة في المسْجد ولِطَلَبِ العِلْم في المسْجد من أجل أنْ يحْفظ الله لك بَقِيَّة وقْتِك ومن أجل أنْ يُبارك لك فيه، أحد العلماء تُوُفي فَتَرَكَ مجْموعة كُتُب ؛ قَسَّموا أيامَ حياته على عدد صفْحات كُتُبِهِ فكان يَكْتُبُ كُلَّ يوم تسْعين صفْحة !! نحن لا يسعُنا أنْ نقْرأ عشْر صفْحات - لا الكِتابة- وليس التأليف !، وكذا الإمام النووي عاش خمسة وأربعين سنة، ترك الأذكار، ورِياضُ الصالِحين، وشرْح صحيح مسْلم وبُغْيَةُ المُحْتاج وهو أوْسَعُ كِتابٍ بالفِقْه، وهذا الإمام الشافِعي عاشَ سبعٌ وأربعون سنة ؛ ترك الأمُّ أكبر كتاب في أصول الفِقْه وهو أوَّل كتاب في أُصول الفِقْه، تجد علماء مائة مُؤَلَّف وذاك مائتان وثلاث مائة ؛ ما هذا ؟! هؤُلاء ألْقى الله عز وجل البَرَكَة في وَقْتِهِم لأنَّهم اِقْتَطَعوا من وَقْتِهِم الثمين وقْتاً لأداء الصلوات، ولِمَعْرِفَة الله، وطاعَتِهِ، لذلك قال تعالى: وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا

﴿ تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا(18)﴾

[ الجن: الآية 18 ]

تحميل النص

إخفاء الصور