وضع داكن
23-11-2024
Logo
الدرس : 33 - سورة البقرة - تفسيرالآيات83 - 86 معرفة المنهج الدقيق لله افعل و لا تفعل
   
 
 
 بسـم اللـه الرحمـن الرحيـم  
 
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا، إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا، وزدنا علماً، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين.
 

العهد والميثاق الذي أخذه الله تعالى على عباده في عالِم الذر:


أيها الإخوة الكرام؛ مع الدرس الثالث والثلاثين من دروس سورة البقرة، ومع الآية الثالثة والثمانين وهي قوله تعالى: 

﴿ وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لَا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً وَذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْناً وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ إِلَّا قَلِيلاً مِنْكُمْ وَأَنْتُمْ مُعْرِضُونَ (83)﴾

[ سورة البقرة ]

ذكرت في درسٍ سابقٍ أيها الإخوة أن كلمة ﴿إذ﴾ تعني اذكروا حين، ﴿وَإِذْ أَخَذْنَا﴾ أي اذكروا حين أخذنا منكم الميثاق الغليظ، ﴿وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ﴾ والميثاق هو العهد، والبشريَّة جمعاء حينما خُلِقوا في عالَم الذَّر قال لهم الله سبحانه وتعالى: 

﴿ وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ (172)﴾

[ سورة الأعراف ]

أخذ الله على خلقه العهد أن يأتوا إلى الدنيا ليطيعوه، وليتعرَّفوا إليه، وليتعرَّفوا إلى منهجه، وليعملوا الصالحات لتكون الصالحات ثمناً لجنَّةٍ أبديَّة، هذا هو العهد، نحن في الدنيا من أجل أن نعرفه، ومن أجل أن نطيعه فنسلم، ومن أجل أن نعمل الصالحات فنسعد، ومن أجل أن تكون هذه المعرفة وتلك الطاعة وهذا العمل الصالح ثمن الجنَّة، خُلِقْنا لجنَّةٍ عرضها السماوات والأرض: 

(( عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : قالَ اللَّهُ تَبارَكَ وتَعالَى: أعْدَدْتُ لِعِبادِي الصَّالِحِينَ، ما لا عَيْنٌ رَأَتْ، ولا أُذُنٌ سَمِعَتْ، ولا خَطَرَ علَى قَلْبِ بَشَرٍ. قالَ أبو هُرَيْرَةَ: اقْرَؤُوا إنْ شِئْتُمْ: {فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ} [السجدة: 17]. قال أبو مُعاويةَ، عن الأعمَشِ، عن أبي صالِحٍ: قرَأ أبو هُريرةَ: (قُرَّاتِ أعْيُنٍ).))

[ متفق عليه  ]

 

سبب مجيئنا إلى الدنيا:


العهد أن نأتي إلى الدنيا فنتعرف إلى الله من خلال الكون، والكون كلُّه ينطق بأسماء الله الحسنى وصفاته الفضلى، أن نأتي إلى الدنيا وأن نستخدم العقل الذي أودعه الله فينا، وأن نصغي إلى صوت الفطرة التي فُطرنا عليها، وأن نستخدم حريَّة الاختيار في اختيار الخير، وأن نستخدم الشهوات كقوى محرِّكة لا قوى مدمِّرة، وأن نجعل من الشرع منهجاً لنا، من أجل هذا جئنا إلى الدنيا، وهذا هو العهد الذي عاهدنا ربنا عليه، وهذا مضمون قوله تعالى: 

﴿ إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا (72)﴾

[ سورة الأحزاب  ]

﴿وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لَا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ﴾ كلمةٌ جامعةٌ مانعةٌ هي الـدين كلُّه: لا تـعبدوا إلا الله، يجب أن نؤمن به إلهاً واحداً موجوداً كاملاً، وأن نعبده، وأن نعبده وفق ما أمر لا وفق أمزجتنا، تسألك إحداهن: هل من الممكن أن نعمل عقد زواج صوري ليكون هذا الزوج الصوري محرماً لي في الحج؟ عجيب، تريدين أن تعبدي الله وفق مزاجك؟! ليس هناك محرم لستِ مستطيعةً، المرأة استطاعتها أن يكون هناك لها محرم تحجُّ معه، طبعاً ضربت هذا المثل عَرَضَاً، يريد أُناسٌ كثيرون أن يعبدوا الله وفق أمزجتهم، لا يُعبد الله عزَّ وجل إلا بما شَرَّع: ﴿لَا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ﴾ .
 

تعريف بالعبادة:


الطاعة لله وحده، والعبادة -كما أقول دائماً وأعيد هذا كثيراً-طاعةٌ طوعيَّةٌ ممزوجةٌ بمحبَّةٍ قلبيَّةٍ أساسها معرفةٌ يقينيَّةٌ تفضي إلى سعادة أبديَّة، معرفة، طاعة، سعادة: 

﴿ وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلا أَنَا فَاعْبُدُونِ(25)﴾

[  سورة الأنبياء  ]

فحوى دعوة الأنبياء جميعاً: 

﴿ فَأَرْسَلْنَا فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلَا تَتَّقُونَ (32)﴾

[ سورة المؤمنون ]

وردت هذه الآية عشرات المرَّات، ﴿أَنْ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ﴾ .

﴿ وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلا لِيَعْبُدُونِ(56)﴾

[ سورة الذاريات  ]

 

قَرَنَ الله الإحسان إلى الوالدين بعبادته تعظيماً لقدر الوالدين:


لا يُعْبَد إلا الله، وحينما تعبد الله تعبده وفق ما شرَّع: ﴿لَا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ﴾ ، أما الوالدان فهما سبب وجودك: ﴿وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً﴾ قَرَنَ الله الإحسان إلى الوالدين بعبادته تعظيماً لقدر الوالدين، ولو أن في اللغة كلمةً أقلَّ من (أفّ) لقالها الله عزَّ وجل: ﴿وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً﴾ طبعاً هذه الآية افعل، والآية التي بعدها لا تفعل: ﴿وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لَا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً وَذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْناً وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ﴾ .
 

مضمون منهج الله عزَّ وجل:


عبادات شعائريَّة: ﴿وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ﴾ ، عبادات قوليَّة: ﴿وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْناً﴾ ، عبادات تعامليَّة: ﴿وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً وَذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ﴾ عبادات اعتقاديَّة: ﴿لَا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ﴾ ، هذا مضمون منهج الله عزَّ وجل: عبادة اعتقاديَّة، وعبادة شعائريَّة، وعبادة تعامليَّة، وعبادة قوليَّة.
 

الفرق بين الأمر التكليفي والأمر التكويني:


﴿وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لَا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً وَذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْناً وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ﴾ الذي حصل أن هناك تولِّياً، هناك تقصيراً، هناك إعراضاً، أنت مخيَّر، كل الخَلق مسيَّرون، الشر لا وجود له إلا في عالَم الإنس والجن لأنه مخيَّر، الأمر التكليفي غير التكويني، هناك أمرٌ تكليفيٌّ وهناك أمرٌ تكويني، الأمر التكليفي طريق سالك؛ لكن في أوله لوحةٌ كُتِبَ عليها: ممنوع المرور، فأنت إما أن تسير وتخالف وتدفع الثمن الباهظ، وإما أن تأتمر فتسلم وتسعد، لكن الأمر تكليفي لك أن تطيع، ولك ألا تطيع، أما الأمر التكويني ليس لك خيار، الله عزَّ وجل له أمر تكليفي وله أمر تكويني، خلقك من فلان وفلانة تكويني، خلقك بشكل معيَّن تكويني، خلقك بعصر معيَّن تكويني، بزمنٍ معيَّن، بمكان معيَّن، بقدراتٍ معيَّنة كلَّه تكويني، قال لك: صلِّ، تكليفي، اصدق تكليفي، كن أميناً تكليفي، اعدل تكليفي، غضَّ البصر تكليفي، هناك أمر تكويني هو فعل الله، وهناك أمر تكليفي هو أمر الله، فهذا أمرٌ تكليفي: ﴿لَا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ﴾ يمكن أن تعبد غير الله، ممكن لأن الأمر تكليفي، ﴿وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً﴾ يمكن أن يكون الإنسان ابناً عاقاً، ممكن، ﴿وَذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ﴾ يمكن أن يبني مجده على نهب أموال هؤلاء، ﴿وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْناً﴾ يمكن أن تقول سوءاً للناس، أمر تكليفي تفعل أو لا تفعل، ﴿وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ﴾ يمكن ألا تصلي، أنت مخيَّر، هو التخيير يثمِّن العمل، لولا الاختيار ما كان هناك جنّة أساساً لأنك مخير.
 

مقوِّمات التكليف:


يقدم الإنسان فحصاً فينجح، يقام له احتفال تكريمي، لماذا التكريم؟ لأنه درس وطالب آخر ما درس، لأنه اجتهد وطالب آخر ما اجتهد، لأنه نجح وطالب آخر ما نجح، هو مخيَّر يدرس أو لا يدرس، فالذي درس واجتهد ونجح يُقام له حفل تكريمي، والذي رسب يوبَّخ، فأنت مخيَّر، لا تنس أن مقوِّمات التكليف هي الكون، والعقل، والفطرة، والشهوة، والاختيار، والشرع: ﴿وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْناً وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ إِلَّا قَلِيلاً مِنْكُمْ وَأَنْتُمْ مُعْرِضُونَ﴾ هذه الآية افعل، لا تفعل: ﴿وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ لَا تَسْفِكُونَ دِمَاءَكُمْ وَلَا تُخْرِجُونَ أَنْفُسَكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ﴾ .
 

الله عز وجل يحبنا أن نكون منتظمين ومتعاونين كالجسد الواحد:


يلفت النظر في هذه الآية: ﴿لَا تَسْفِكُونَ دِمَاءَكُمْ﴾ مجتمع المؤمنين مجتمع واحد، وحدة، مجتمع المؤمنين في الأصل كما أراد الله عزَّ وجل كالجسد الواحد، إذا اشتكى منه عضوٌ تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمَّى، أنت حينما تأخذ مال أخيك ضَعَّفته، وإذا ضعَّفته ضعَّفت المؤمنين، وإذا صُنْتَ مال أخيك قوَّيته، وإذا قوّيته قوّيت المؤمنين، وأنت من المؤمنين، فأنت حينما تأكل مال أخيك ضعَّفت نفسك.
أوضح؛ الآن أسرة مؤلَّفة من خمسة شباب، إذا شاب إخوته عاونوه وصار طبيباً، صار دخله كبيراً، هذا الدخل عاد على إخوته، لو جعلوا العصي في العجلات، منعوه من الدراسة، بقي فقيراً، صار عبئاً عليهم. 
الأخ له خمسة إخوة، إذا دعموه وساعدوه وصار بمهنة لها دخل كبير، دخلها الكبير عاد إليهم، إن أخذوا ماله، منعوه من الدراسة، بقي فقيراً، صار عبئاً عليهم ، فعلى مستوى خمسة إخوة على هذا المستوى أنت إن أخذت مال أخيك أخذت من مالك وأنت لا تدري، إن ضعّفتَه ضعّفت نفسك، قويَّته قوَّيت نفسك، إذا دللته على القواعد الصحيَّة وعاش صحيح البدن أنت ارتحت، إذا كان أخوك بخير فأنت بخير، إذا أهملت توجيهه الصحي فارتكب أخطاء صحيَّة كبيرة وأصابه مرض عضال أنت المسؤول، أنت مكلَّف بمعالجته، هذا شيء واضح جداً في الأسرة.
إذا أهمل الإنسان صحة أولاده، الأب نفسه مسؤول عنهم  سيتكلَّف أموالاً طائلة في معالجتهم، لو انتبه إلى صحة أولاده لارتاح، كأن الله عزَّ وجل يقول لنا: أنتم بمثابة الجسد الواحد فإن أكلتم أموالكم ضعَّفتم أنفسكم، إن سفكتم دماءكم ضَعَّفتم أنفسكم، إن أخرجتم إخوانكم من بيوتهم ضعَّفتم أنفسكم، أي الله عزَّ وجل أرادنا أن نكون جماعة، وأرادنا أن نكون متعاونين، متباذلين، متناصرين، متضامنين، متناصحين، ولا يحبُّنا الله عزَّ وجل إلا بهذا النظام، بالتعاون، قال تعالى: 

﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللَّهِ وَلَا الشَّهْرَ الْحَرَامَ وَلَا الْهَدْيَ وَلَا الْقَلَائِدَ وَلَا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنْ رَبِّهِمْ وَرِضْوَانًا وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَنْ صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَنْ تَعْتَدُوا وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (2)﴾

[ سورة المائدة ]

 

التناقض بين الطبع والتكليف هو ثمن الجنَّة:


إخواننا الكرام؛ الإنسان له طبعٌ وله تكليف، طبعه فردي، والتكليف تعاوني، أمرك الله أن تتعاون مع أخيك، فأنت بقدر إيمانك بالله، وقدر طاعتك له تتعاون، وبقدر ضعف إيمانك، وبقدر تفلُّتك تتنافس، فالمتعاون مؤمن والمتنافس عاصٍ، لأن التعاون تكليف والفرديَّة طبع، والتناقض بين الطبع وبين التكليف هو ثمن الجنَّة، مثل هذه الآيات في القرآن:

﴿ وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقًا مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْإِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (188)﴾

[ سورة البقرة ]

طبعاً ليس معنى الآية أن تأخذ من جيبك الأيمن مبلغاً من المال تضعه في جيبك الأيسر، لا، ليس هذا هو المعنى، هذا المال مال أخيك هو مالك من زاويةٍ واحدة، من زاوية ضرورة الحفاظ عليه، فلأن تمتنع من أكله من باب أولى، إذا أعارك أخوك سيَّارته، هي سيارتك بمعنى أنه يجب أن تقودها بعنايةٍ فائقة وكأنها سيارتك، هي ليست لك هي له، ولكن سنقول مؤقتاً هي سيارتك، أي عامِلْها كأنها سيارتك، اعتنِ بها، قُدها بلطف، بعناية فائقة، فإذا قلنا: هذه السيارة سيارتك ليس المعنى أنها سيارتك، المعنى أنه ينبغي أن تقودها وكأنَّها سيارتك، من زاوية العناية بها، فإذا قال الله عزَّ وجل: ﴿وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ﴾ أي لا تأكلوا مال إخوانكم، ولكن سُمِّيَ مال أخيك مالك من زاوية وجوب العناية به والحفاظ عليه وكأنَّه مالك، هذه نقطة دقيقة جداً، إذا كان الشيء ليس لك تُكسِّره، تُهمله، تُتلفه، تُحطِّمه، هذا سلوك الكفَّار؛ أما المؤمن فمال أخيه هو ماله من زاوية الحفاظ عليه، يعتني بحاجات إخوانه، يعتني بآلاتهم، ببيوتهم، لو أسكنوك في بيت وكأنه بيتك، أعاروك مركبة وكأنَّها مركبتك، أعطاك مالاً كي تستثمره وكأنَّه مالك، لا تجعل مالك دون ماله، الفكرة دقيقة، تاجر، صنف غير معروف، يربح؟  لا يربح؟ يأتيه مال للاستثمار يضعه في هذا الصنف المجهول، يقول لك: إذا ربح أُدْخِل رأس مالي الشخصي، إذا لم يربح يكون لا يوجد نصيب، ترتيب سيدك لا يوجد نصيب، أشار النبي إلى هذه الناحية قال: "ولا تجعل مالك دون ماله" ، لا تجعل مال هذا الإنسان اليتيم دريئة تجسُّ بها نبض السوق، لا.
 

يجب أن تتعامل مع مال إخوانك وكأنه مالك وذلك من زاوية وجوب الحِفاظ عليه وصونه:


يجب أن تتعامل مع مال إخوانك وكأنه مالك، من زاوية وجوب الحِفاظ عليه وصونه، طبعاً فلأن تمتنع من أكله من باب أولى، من باب أولى ألف مرَّة، ﴿وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ ُ﴾ ، وقال: 

﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَومٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِنْهُمْ وَلَا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ عَسَى أَنْ يَكُنَّ خَيْرًا مِنْهُنَّ وَلَا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمَانِ وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (11)﴾

[ سورة الحجرات ]

لن تجد إنساناً يحتقر نفسه لكنه يحتقر أخاه، يطعن بأخيه، فإن طعنت بأخيك طعنت بنفسك، أنا أضرب أمثلة للتوضيح؛ لو أن إنساناً يجلس في لقاء يحوي خمسين أو ستين شخصاً، قال: أبي فعل كذا، وأبي خالٍ من الأخلاق، وأبي قليل الدين مثلاً، طعن بنفسه من دون أن يشعر، إذا كان هذا أباك فأنت على هذه الشاكلة، فإذا ذمَّ الإنسان أقرب الناس له كأنه ذمَّ نفسه وهو لا يشعر.
 

بعض مما يحبه الله عز وجل:


﴿وَلا تَلْمِزُوا أَنفُسَكُمْ﴾ لم يقل: ولا تلمزوا إخوانكم، قال: هذا أخوك سمعته من سمعتك، الله عزَّ وجل يحب السَتر، يحب التعاون، يحب التضامن، التكاتف، التناصر، التسامح، يحب التزاور، هذا الذي يحبُّه الله عزَّ وجل، أنا آتيكم بأمثلة: ﴿وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ﴾ ، وقال: ﴿وَلا تَلْمِزُوا أَنفُسَكُمْ﴾ ، وقال: ﴿لَا تَسْفِكُونَ دِمَاءَكُمْ وَلَا تُخْرِجُونَ أَنْفُسَكُمْ﴾ ، أربع آيات أو خمس آيات في القرآن الكريم بالظاهر فيها استفهام كبير، لا يوجد إنسان يقتل نفسه، أما إذا قتلت أخاك تُساق إلى المحاكمة يُحْكَم عليك بالإعدام، معنى هذا أنت قتلت نفسك وأنت لا تدري، وقد قيل: "القتل أنفى للقتل"
 

ينطلق المؤمن من حقيقة كبرى أنّ كلّ الخلق عيال الله:


عندما نقتل القاتل ردعنا ألف إنسان مجرم كان ينوي أن يقتل، فالمعاني دقيقة جداً، أول آية افعلوا، الآية الثانية لا تفعلوا: ﴿وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ﴾ اذكروا أيضاً: ﴿وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ لَا تَسْفِكُونَ دِمَاءَكُمْ﴾ أي إذا عاش الإنسان حياة مديدة ولم يصدر عنه أذى لإنسان هذا وسام شرف كبير، طبعاً القتل فما دون، يوجد تجريح، يوجد غيبة، يوجد نميمة، يوجد ابتزاز أموال، يوجد طعن بالأعراض، يوجد طعن بالأنساب، فحينما تكون بعيداً عن إيذاء الخلق، وقد ورد: "اثنان لا تقربهما؛ الشرك بالله والإضرار بالناس" .
أنت تصوَّر أباً له أولاد، فالذي يعتدي على أحد أولاده عدوان على الأب تقريباً، أن تعتدي على ابن هو عدوان على الأب، لذلك ينطلق المؤمن من حقيقة كُبرى؛ كل هؤلاء الخلق عيال الله، فبقدر محبَّتك لله تنفع عياله، بقدر محبَّتك لله تُحسِن إليهم، بقدر محبَّتك لله تلقي في قلوبهم الأمن والسكينة، بقدر محبَّتك لله تُسعدهم، بقدر محبَّتك لله تُعطيهم.
والإنسان الآخر، الطرف الآخر، بقدر بُعده عن الله يبتزُّ أموالهم، بقدر بعده عن الله يُرْعِبُهم، بقدر بُعده عن الله يخوِّفهم، بقدر بُعده عن الله يطعن بهم.
 

الإنسان يحجب عن رب العباد عندما يؤذي العباد وذلك أكبر عقاب من الله للإنسان:


خدمة الخلق قربى إلى الرب، وإيذاء الخلق بعدٌ عن الله عزَّ وجل، لا أعتقد أن إنساناً يرى طفلاً في الطريق فيصفعه صفعاً شديداً ثمَّ يلتقي بأبيه بعد يوم إلا وهو في خجل شديد، إذا كان الطفل لم يفعل شيئاً، إنك لا تستطيع أن تتصل بالله إذا آذيت خلق الله عزَّ وجل، والحقيقة الإنسان يُحجب عن رب العباد عندما يؤذي العباد، وأكبر عقاب من الله يعاقب به الإنسان، أكبر عقاب على الإطلاق: 

﴿ كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ (15)﴾

[ سورة المطففين ]

أنت حينما تؤذي عباد الله، حينما تبتزُّ أموالهم، حينما تحتال عليهم، حينما تنتهك أعراضهم، حينما تلقي في قلوبهم الخوف، حينما تُحمِّر وجوههم، حينما تسحقهم، حينما تبني ثروتك على إفقارهم، حينما تبني مجدك على أنقاضهم، حينما تبني عزَّك على إذلالهم، أنت أخذت أكبر عقاب من الله أن الله عزَّ وجل حجبك عنه وطردك من رحمته، أي كن عبد الله المظلوم إذا كان الطريق إلى الله سالكاً ولا تكن عبد الله الظالم إذا كان الطريق إلى الله مقطوعاً، أيهما أفضل أن يكون الطريق إلى الله سالكاً ولك حق عند أخيك أم أن تأخذ ما ليس لك والطريق إلى الله مسدود؟ هذا الإيمان يحلّ هذه المشكلة، المؤمن يعد للمليون قبل أن يأخذ ما ليس له، قبل أن يحتال على إنسان، قبل أن يُخيف إنساناً، قبل أن يسبِّب الأذى لإنسان، قبل أن يُحرج إنساناً، قبل أن يفضح إنساناً، قبل أن يكون سبباً في هلاك إنسان.
 

هنيئاً لمن كان مفتاحاً للخير والبر والويل لمن كان مفتاحاً للشر:


﴿وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ لَا تَسْفِكُونَ دِمَاءَكُمْ وَلَا تُخْرِجُونَ أَنْفُسَكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ﴾ الواقع أخذ ربنا عزَّ وجل العهد على بني إسرائيل أن يعبدوه، وأن يحسنوا إلى الوالدين وذي القربى واليتامى والمساكين، وأن يقولوا للناس حسناً، وأن يقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة، وأخذ عليهم العهد أيضاً ألا يسفك بعضهم دماء بعض، ورد في بعض الأحاديث أنه من علامات قيام الساعة موتٌ كعقاص الغنم لا يدري القاتل لمَ يقتل؟ ولا يدري المقتول فيمَ قُتِل؟
ما معنى أن يخرج ربع مليون إنسان من بلد خوفاً على دمائهم؟ هذا الذي يجري في العالم: 

(( عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ، تُمْلَأُ الْأَرْضُ جَوْراً وَظُلْماً، فَيَخْرُجُ رَجُلٌ مِنْ عِتْرَتِي يَمْلِكُ سَبْعاً أَوْ تِسْعاً فَيَمْلَأُ الْأَرْضَ قِسْطاً وَعَدْلاً. ))

[ صحيح : أحمد ]

تقوم القيامة ولا تقعد من أجل جندي أو جنديين، ومن أجل مئات بل ألوف بل بضعة ملايين يُقْتلون، يموتون جوعاً، يُطردون من ديارهم لا يحرِّك أحد ساكناً أبداً: 

قتل امرئٍ في غابةٍ جريمةٌ لا تغتفر              وقتل شعبٍ آمنٍ مسألةٌ فيها نظر

[ أديب إسحاق ]

* * *

هكذا تمتلئ الأرض ظلماً وجوراً، هنيئاً أيها الإخوة، هنيئاً لمن كان مفتاحاً للخير، هنيئاً لمن كان مفتاحاً للبر، والويل لمن كان مفتاحاً للشر، هذا الذي ينام وفي رقبته جرائم كما يفعل أعداؤنا، ينامون والشعوب تئنُّ من الجوع، والشعوب تئنُّ من الظلم، والشعوب تئنُّ من ضيق ذات اليد وهم ينفقون على كلابهم ألوف الملايين، يطعمون كلابهم من اللحم ما لا تأكله شعوب بأكملها، لذلك: 

﴿ وَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصَارُ (42)﴾

[ سورة إبراهيم ]


سلاح من الله تعالى لمواجهة كيد الكافرين:


لكن يجب أن أقول هذه الآية شفاءً للصدور:

﴿ وَقَدْ مَكَرُوا مَكْرَهُمْ وَعِنْدَ اللَّهِ مَكْرُهُمْ وَإِنْ كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ (46)﴾

[ سورة إبراهيم ]

إله يُبَيِّنُ عِظَم مكرهم، أعطاك سلاحاً قال: 

﴿ إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِهَا وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لَا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ (120)﴾

[ سورة آل عمران ]

قرآن، كلام الواحد الديَّان، كلام خالق الأكوان: ﴿وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لَا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً﴾ متى وصل إلينا مكرهم؟ وصل عندما لم نتقِ ولم نصبر، لم نتقِ الله لا نطيعه، ولا نصبر على ترك منتجاتهم أبداً، نحن متعلِّقون بمنتجاتهم، لو امتنعنا عن شراء حاجاتهم، صبرنا واتقينا الله عزَّ وجل كفَّ الله عنا كيدهم، ﴿وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لَا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً﴾ آية قرآنيَّة.  

كفاك على عدوِّك نصراً أنه في معصية الله:


﴿وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ لَا تَسْفِكُونَ دِمَاءَكُمْ وَلَا تُخْرِجُونَ أَنْفُسَكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ﴾ .
إخواننا الكرام؛ هناك مقولة أتمنَّى أن تكون واضحة عندكم: كفاك على عدوِّك نصراً أنه في معصية الله، الحياة تنتهي بالموت، هنيئاً لمن مات طائعاً لله، والويل ثمَّ الويل ثمَّ الويل لمن مات عاصياً لله.
ذكرت لكم من قبل أن رجلاً من الناس يطوف حول الكعبة يقول: ربي اغفر لي ذنبي ولا أظنُّك تفعل، فوراءه رجل فقال له: يا هذا ما أشدَّ يأسك من رحمة الله؟ قال له: ذنبي كبير، لو أنك تعرف ذنبي، قال له: ما ذنبك؟ قال له: كنت في حملة قمع فتنة -هذه القصَّة قديمة وقعت في العصور العبَّاسيَّة-فلمَّا قُمِعَت أُبيحت لنا المدينة، قال: فدخلت أحد البيوت، فرأيت فيه رجلاً وامرأةً وولدين، فقتلت الرجل، وقلت لامرأته: أعطني كل ما عندكِ، أعطته كل ما عندها، فقتل غلامها الأول، قال: فلما رأتني جاداً في قتل الثاني أعطتني درعاً مذهبة؛ من الذهب، أعجبتني، ودُهشت بها، فإذا عليها بيتان من الشعر قرأتهما فوقعت مغشياً عليّ، مكتوب على هذه الدرع المذهبة: 

إذا جار الأمير وحاجباه                 وقاضي الأرضِ أسرف في القضاءِ 

فــويلٌ ثـمَّ ويلٌ ثـم ويـلٌ                  لقـاضي الأرض من قاضي السماءِ

[ يعقوب بن يوسف الكوفي ]

* * *

يقول لك: تطهير عرقي.
 

أدلة من القرآن الكريم عن انتقام الله تعالى:


لذلك: 

﴿ وَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصَارُ (42)﴾

[ سورة إبراهيم ]

وقال: 

﴿ فَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ (47)﴾

[ سورة إبراهيم ]

وقال: 

﴿ لا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلادِ(196)مَتَاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ(197)﴾

[ سورة آل عمران ]

وقال: 

﴿ إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْداً(15)وَأَكِيدُ كَيْداً(16)فَمَهِّلْ الْكَافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْداً(17)﴾

[ سورة الطارق  ]

هنيئاً لمن كان مفتاحاً للخير.
أيها الإخوة طيبوا نفساً، إذا أنت نمت مساءً، لا يوجد إنسان متعلِّق بك، لست متسبِّباً بإيذاء إنسان، ولا بقتل إنسان، ولا بإفقار إنسان، ولا بإذلال إنسان، ولا بفقد حريته للإنسان، لست متسبِّباً بأذى إنسان، لو أكلت أخشن الطعام فأنت أسعد الناس، لو سكنت في أضيق بيت فأنت أسعد الناس، لو عانيت لا سمح الله كل الأمراض فأنت أسعد الناس بشرط ألا تكون متسبِّباً بإيذاء مخلوق، ولا بإفقار مخلوق، ولا بإخافة مخلوق. 
 

واقع اليهود:


﴿ ثُمَّ أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ فَرِيقاً مِنْكُمْ مِنْ دِيَارِهِمْ تَظَاهَرُونَ عَلَيْهِمْ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَإِنْ يَأْتُوكُمْ أُسَارَى تُفَادُوهُمْ وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْرَاجُهُمْ أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (85)﴾

[ سورة البقرة ]

﴿ثُمَّ أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ فَرِيقاً مِنْكُمْ مِنْ دِيَارِهِمْ تَظَاهَرُونَ عَلَيْهِمْ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ﴾ اليهود في عهد النبي عليه الصلاة والسلام كانوا بني قينقاع، وبني النضير، وبني قريظة، فريقٌ منهم عاهدوا الأوس، وفريق كانوا مع الخزرج، لخطَّةٍ رسموها من أجل أن تكون العداوة دائمة بين الفريقين، ومن أجل أن يعيشوا على عداوة الفريقين، انحاز بعضهم إلى الأوس وبعضهم إلى الخزرج، وكانوا في الوقت نفسه يثيرون الأوس على الخزرج، والخزرج على الأوس، يعيشون على أنقاض الأوس والخزرج، مكر شديد جداً، فريق من اليهود مع الأوس، وفريق مع الخزرج، وكل فريق يُحَمِّس الطرف الآخر لقتال صاحبه، فإن نشبت حربٌ بين الأوس والخزرج مع حلفائهم من اليهود يقع اليهود أسرى عند اليهود، يعمدون إلى فدائهم، حيلة ماكرة جداً ﴿ثُمَّ أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ فَرِيقاً مِنْكُمْ مِنْ دِيَارِهِمْ﴾ أنت متفق اتفاقاً، نصف مع هنا ونصف مع هنا، وتحمس هؤلاء لقتال هؤلاء وهؤلاء لقتال هؤلاء، فإن نشب القتال، طبعاً الأوس قاتلوا مع أنصارهم اليهود والخزرج قاتلوا مع حلفائهم اليهود، فإذا نشب قتال بين اليهود قتلوا أنفسهم، قتلوا أبناء جلدتهم، فمن لم يُقْتَل أخذوه أسيراً ثمَّ افتدوه.
 

من أخطر أمراض اليهود أنه يعجبهم من الدين ما هو يسير:


﴿ثُمَّ أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ﴾ بالمعركة القذرة التي أججتموها أنتم بين الأوس والخزرج: ﴿وَتُخْرِجُونَ فَرِيقاً مِنْكُمْ مِنْ دِيَارِهِمْ تَظَاهَرُونَ عَلَيْهِمْ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَإِنْ يَأْتُوكُمْ أُسَارَى تُفَادُوهُمْ وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْرَاجُهُمْ﴾ يقول لك: تكتيك، خطَّة ذكيَّة، الخطَّة الذكيَّة تسمَّى ذكيَّة إذا كانت وفق منهج الله، فإن لم تكن وفق منهج الله فهي خطَّة قذرة: ﴿أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ﴾ هذا من أخطر أمراض اليهود، وأنا أؤكِّد لكم أن المسلمين وقعوا في هذا المرض، يعجبهم من الدين ما هو يسير، الشيء الجميل، مثلاً السفر، الحفلات، الاحتفال بذكرى المولد، الشيء السهل، أما الانضباط؛ ضبط الشهوات لا يعجبهم مثلاً، كسب المال الحلال لا يعجبهم، يريد كسب مال كبير من طريق مشبوه، فالذي يعجبه يأخذ به، أحياناً يصوم الإنسان يوم عاشوراء، أو يصوم في الخامس عشر من شعبان، يعرف الجميع بهذا، وهو تارك أشياء مهمَّة جداً في الدين، ومرتكب مخالفات كبيرة جداً في الدين، فقضية صيام يوم في الشتاء سهل جداً، قضية سفر إلى العمرة مع أن العمرة واجبة، لكن إذا لم يكن منضبطاً إطلاقاً لا قبل ولا بعد!! أما ركوب طائرة، وطواف سبعة أشواط قضية سهلة جداً، فإذا أخذ الإنسان من الدين ما يعجبه، أخذ الشيء اللطيف المريح، مولد يا أخي، يقول لك: كم كان هناك من التجلي في المولد يا أخي، لكن البيت عنده ليس منضبطاً إسلامياً، لا الدخل منضبط، ولا العلاقات منضبطة، ولا يوجد التزام إطلاقاً يقول لك: صار هناك تجلِّ كثير، أي تجلٍّ هذا؟ 
 

الذي يأخذ من الدين ما يعجبه ويدع ما لا يعجبه هذا وقع في مرض من أمراض اليهود:


﴿أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ﴾ تأخذ من الدين ما يعجبك وتدع ما لا يعجبك، يقول لك: الزواج سُنَّة يا أخي، أعجبه الزواج من الدين كله، يقول لك: أنا أقبلت على الزواج لأنه سُنَّة يا أخي، الشيء المريح الذي يعجبه أخذه، وبالغ به، وأثنى عليه؛ أما إذا قلت له: غض بصرك، يقول لك: أين أذهب بعيوني؟ قال له: هذا الدخل فيه شبهة اتركه، يقول لك: هذا الدخل كبير، أحد الأشخاص عنده مطعم يبيع فيه الخمر قال لي: إن شاء الله برقبة شريكي ما ذنبي أنا؟ أنا لا أقعد في المحل ولكن شريكي هو الذي يبقى فيه، يعجبه دخل كبير من مطعم يبيع خمراً مع أنه يصلي في المسجد، أنا أضرب أمثلة قد يكون هناك آلاف من الأمثلة الأخرى، لكن هذا الذي يأخذ من الدين ما يعجبه ويدع ما لا يعجبه، هذا وقع في مرض من أمراض اليهود.
 

سبب خسارة المسلمين وخذلانهم:


﴿أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ﴾ إذا وقع المسلمون في هذا المرض، يمكن مليار ومئتا مليون مسلم ليست كلمتهم هي العُليا، وليس أمرهم بيدهم، وأعداؤهم لهم عليهم ألف سبيلٍ وسبيل، هذا هو السبب: ﴿أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ﴾ إذا لم يُقِم المسلم الإسلام في بيته، لم يضبط بناته، لم يضبط أولاده، لم يحرَّر دخله، إذا لم يكن عمله صحيحاً مشروعاً، مهنته شريفة منطبقة على الشرع والمنهج، فكيف يسمّي نفسه مسلماً؟! أعجبه من الدين الصلاة، الصلاة سهلة جداً، أعجبه من الدين الصيام، طبق الأمور الشعائريَّة بحذافيرها، صلَّى وصام وحجَّ وزكَّى لكن حياته غير إسلاميَّة، بيته غير إسلامي، عمله غير إسلامي، دخله غير إسلامي، إنفاقه غير إسلامي، بيته غير منضبط، بناته غير منضبطات، ما قيمة هذا الذي أخذه مما هو هينٌ عليه والذي تركه مما هو شاقٌ عليه؟!!
 

الخاسر في النهاية هو من كسب الدنيا الفانية وضيَّع الآخرة الباقية:


﴿ أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (85) أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالْآخِرَةِ فَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ (86)﴾

[ سورة البقرة ]

هؤلاء الذين كُلِّفوا ولم يفعلوا، ونُهوا عما فعلوا: ﴿أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالْآخِرَةِ﴾ الآخرة تعني الأبد، والحياة الدنيا تعني سنوات معدودة، اشترى الحياة الدنيا بملاذِّها وشهواتها بالآخرة الأبديَّة: ﴿أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالْآخِرَةِ فَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ﴾ أفضل كلمة تُقال لمن كسب الدنيا: كسب الدنيا وضيَّع الآخرة، الآن أعداء المسلمين في العالَم كله كسبوا الدنيا، أقوياء جداً، أغنياء جداً، الأمور كلها بيدهم، كسبوا الدنيا تماماً ؛ لكنَّهم ضيَّعوا الآخرة، فما دامت الآخرة حقاً المؤمن على ما يعاني أفضل عند الله ألف مرَّة من هؤلاء الذين كسبوا الدنيا وخسروا الآخرة: 

﴿ فَاعْبُدُوا مَا شِئْتُمْ مِنْ دُونِهِ قُلْ إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلَا ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ (15)﴾

[ سورة الزمر ]


الملف مدقق

والحمد لله رب العالمين 

الاستماع للدرس

00:00/00:00

نص الزوار

اللغات المتوافرة

إخفاء الصور