- السيرة / ٠1السيرة النبوية
- /
- ٠1هدي النبي صلى الله عليه وسلم
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، و الصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين.
هدي النبي صلى الله عليه وسلم في كلامه و سكوته :
هديه صلى الله عليه وسلم في كلامه وسكوته وضحكه وبكائه:
كان صلى الله عليه وسلم أفصح خلق الله، أفصح كلام بعد القرآن الكريم كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ أوتي جوامع الكلم وقال:
((أنا أفصح العرب بيد أني من قريش))
كان أفصح خلق الله، وأعذبهم كلاماً، وأسرعهم أداء، وأحلاهم منطقاً، إن كلامه ليأخذ بمجامع القلوب، ويسبي الأرواح، ويشهد له أعداؤه، وكان إذا تكلم تكلم بكلام مفصل، مبين يعده العاد، ليس بهذر مسرع لا يحفظ، ولا منقطع تتخلله السكتات بين أفراد الكلام، كلام متصل، كلام واضح، كلام فصيح، كلام مقبول، ليس بهذر متقطع، تتقطعه السكتات، بل هديه في الكلام أكمل هدي، قالت عائشة رضي الله عنها:
(( ما كان رسولُ الله صلى الله عليه وسلم يسرد كسَرْدِكم هذا . ولكنه كان يتكلم بكلام يُبَينه ، فَصْل ، يحفَظُهُ مَنْ جَلَسَ إِليه ))
وكان كثيراً ما يعيد الكلام ثلاثاً ليعقل عنه؛ فكرة دقيقة جداً، عميقة جداً، خطيرة جداً، يعيدها مرتين أو ثلاثة، وكان إذا سلّم سلّمَ ثلاثاً، وكان طويل السكوت، لا يتكلم في غير حاجة، يفتتح الكلام ويختمه بأشداقه - أي الكلمة تملأ فمه، أحياناً الإنسان يعلك الكلام علكاً، أحياناً الكلمة غير واضحة - يفتتح الكلام ويختتمه بأشداقه، يتكلم بجوامع الكلم؛ فصل لا فضول ولا تقصير؛ البلاغة هكذا بين الإيجاز المخل والإطناب الممل – لا يوجد كلام زائد ممل ولا كلام ناقص ليس واضحاً - وكان لا يتكلم فيما لا يعنيه، ولا يتكلم إلا فيما يرجى ثوابه، وإذا كره شيئاً عرف في وجهه، ولم يكن فاحشاً ولا متفحشاً ولا صخاباً ولا عياباً - ما كان يعيب شيئاً، وما كان عنده صوت عال صخاب - وليس لديه أي مزاح فاحش؛ الآن كثير من الناس، أربعة أخماس كلامهم مزاح فاحش - كلام ملغوم -.
هديه صلى الله عليه و سلم في ضحكه :
كان جلّ ضحكه التبسم، بل كله تبسم، فكانت نهاية ضحكه أن تبدو نواجذه، وكان يضحك مما يضحك منه أصحابه، أحياناً الإنسان حتى يركز مكانته يعزل نفسه عما حوله، فيترفع عن كل شيء مضحك؛ أي إن حدث طرفة ومن حوله ضحك، وهو ضحك؛ شارك؛ الضحك كمال أما إذا بقي آخذاً وضع الهيمنة، وهناك شيء مضحك - والكل ضحكوا - وهو لم يضحك؛ فيحرج الباقين، فكان عليه الصلاة والسلام من كماله يضحك مما يضحك منه أصحابه، وكان يتعجب مما يتعجبون، وللضحك أسباب عديدة؛ هذا أحدها؛ هناك شيء يدعو للضحك.
أنواع الضحك :
هناك نقطة دقيقة أن الله عز وجل قال:
﴿وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكَى﴾
إذا كان الإنسان جالساً مع أهله، وصار هناك طرفة و ضحك، فهذا من فضل الله عز وجل لأن الله عز وجل قادر على أن يبكيه، فقد يكون هناك مشكلة، قد تأتي مشكلة لا يمكن أن تضحك معها إطلاقاً، مادامت الأمور ميسرة، و الله عز وجل مسلم لك صحتك وأولادك وأهلك؛ لا يوجد عندك مشكلة كبيرة، وضحكت فهذه نعمة من نعم الله عز وجل:
﴿وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكَى﴾
وللضحك أسباب عديدة؛ هذا أحدها.
والثاني: ضحك الفرح؛ الإنسان أحياناً يضحك من شدة الفرح، وهو أن يرى ما يسره أو يباشره.
والثالث ضحك الغضب:
مرة شده أعرابي من ثوبه حتى أثّر على رقبته الشريفة وقال:
((أعطني من مال الله فهذا ليس مالك ولا مال أبيك))
فالنبي تبسم وقال:
((صدق إنه مال الله))
هذا التبسم دليل القوة؛ بإمكانه أن يقتله، بإمكانه أن يسحقه، لكن رثى لحاله، ورحمه، فكان التعبير تبسماً، هذا تبسم الغضب.
ضحك الغضب وهو كثيراً ما يعتري الغضبان إذا اشتد غضبه، وسببه تعجب الغضبان مما أورد عليه، وشعور نفسه بالقدرة على خصمه، وأنه في قبضته؛ وقد يكون ضحكه لملكه نفسه عند الغضب - هذه بطولة - المؤمن يملك نفسه عند الغضب؛ مسيطر، نفسه طوع يديه، هناك إنسان إذا غضب تفلت الزمام منه، يتكلم كلاماً بذيئاً، يسب الدين أحياناً، فكان عليه الصلاة والسلام إذا غضب تبسم، هذا تبسم التملك:
﴿وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ ﴾
لم يقل إنك لذو خلق عظيم، إنك لعلى - أي مسيطر -.
الغضب و التغاضب :
وقد يكون تبسمه عند الغضب إعراضه عمن أغضبه، و عدم اكتراثه به، فالإنسان القوي الذي أكرمه الله عز وجل بالحكمة لا يسمح لإنسان أن يسيطر عليه، فإذا استفزك إنسان وغضبت وتفلت الزمام منك وتكلمت كلاماً سيئاً جداً؛ فالمعنى أنه هو مالك لك، ولست أنت مالك له، فكل إنسان له مفتاح، فإن كان مفتاحك مع الآخرين فيعني أنه ليس لك شخصية، أما البطولة أن تستفز فلا تغضب؛ أن تستفز فلا تغضب، أما ممكن أن تتغاضب - التغاضب غير الغضب - التغاضب أسلوب حسن؛ أحياناً بأعماقك هادئ هدوءً شديداً، لكن تقتضي قوة التربية أن تتغاضب، قال سيدنا أبو ذر لسيدنا عمر:" (إن الناس هابوا شدتك، قال له: والله يا أبا ذر لو علم الناس ما في قلبي من الرحمة لأخذوا عباءتي هذه، ولكن هذا الأمر لا يناسبه إلا كما ترى".
سمعت عن أحد الزعماء بأوربا، له كلمة مشهورة - بسمارك - قال:" أنا أتغاضب ولا أغضب وأرضي أعدائي ولا أسترضيهم".
الإرضاء بالفعل والاسترضاء بالكلام، لا يسترضيهم لكنه يرضيهم، هناك خصومة شريفة أحياناً تقف موقفاً أخلاقياً، أي تستجيب لطلب من خصم، أما هذا الكلام الذي فيه ميوعة، وفيه تذلل؛ لا يفعله أبداً، أنا أتغاضب ولا أغضب، أرضي ولا أسترضي.
هديه صلى الله عليه و سلم في بكائه :
أما بكاؤه صلى الله عليه وسلم فكان من جنس ضحكه؛ لم يكن بشهيق ورفع صوت، كما لم يكن ضحكه بقهقهة، ما ضحك قهقهة، ولا بكى بشهيق؛ والله هناك ضحك تشعر أن فيه سوء أدب، بصوت مرتفع و بميلان يمنة ويسرة، وهناك ضحك فيه أدب:
((قيل له ما هذا الأدب؟ قال: أدبني ربي فأحسن تأديبي))
ولكن كانت تدمع عيناه حتى تهملا، هذا بكاؤه، ويسمع لصدره أزيز، وكان بكاؤه تارة رحمة للميت، وتارة خوفاً على أمته، وشفقة عليها، وتارة من خشية الله، وتارة عند سماع القرآن، وهو بكاء اشتياق ومحبة وإجلال، مصاحب للخوف والخشية؛ فلما مات ابنه إبراهيم دمعت عيناه وبكى رحمة له وقال:
(( تدمع العين ، ويَحْزَن القلب ، ولا نقول إِلا ما يرضي ربنا ، و إنا بك يا إبراهيم لمحزونون ))
وبكى لما شاهد إحدى بناته ونفسها تفيض، إحدى بناته ماتت بين يديه؛ فبكى، وبكى لما قرأ عليه عبد الله بن مسعود سورة النساء، وانتهى فيها إلى قوله تعالى:
﴿فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلَاءِ شَهِيداً﴾
وبكى عندما مات عثمان بن مظعون، وسمع من تقول خلف الستار: "هنيئاً أبا السائب لقد أكرمك الله" فقال عليه الصلاة والسلام:
((وما أدراك أن الله أكرمه؟ قولي؛ أرجو الله أن يكرمه، وأنا نبي مرسل لا أدري ما يفعل بي))
هذا منتهى الأدب؛ أما عندما تحكم على الله عز وجل أن فلاناً يدخل الجنة؛ أأنت إله أنت؟! الأمر بيدك؟! معك علم قطعي؟! هذا فيه تأل على الله.
عندما كسفت الشمس وصلى صلاة الكسوف جعل يبكي في صلاته؛ وجعل يقول:
((ربِّ ، ألم تَعِدْني أن لا تُعَذِّبَهم ، وأنا فيهم ؟ ألم تَعِدْني أن لا تعذِّبَهم وهم يستغفرون ؟ ونحن نستغفرك))
وبكى لما جلس على قبر إحدى بناته، وكان يبكي أحياناً في صلاة الليل.
أنواع البكاء :
والبكاء أنواع؛ أحدها بكاء الرحمة والرقة، والثاني بكاء الخوف والخشية، والثالث بكاء المحبة والشوق، والرابع بكاء الفرح والسرور، والخامس بكاء الجزع من ورود المؤلم وعدم احتماله، والسادس بكاء الحزن - الحزن والجزع و الفرح والمحبة و الخوف والرحمة - والفرق بينه وبين بكاء الخوف أن بكاء الحزن يكون على ما مضى من حصول مكروه، أو فوات محبوب، وبكاء الخوف يكون لما يتوقع في المستقبل من ذلك؛ خشية المستقبل بكاء خوف، ندم على الماضي بكاء حزن.
بالمناسبة هناك بكاء يفسد الصلاة، البكاء أعلى درجة من الشوق إلى الله، والبكاء دليل الخشوع في الصلاة؛ إلا إذا كان هناك بكاء من نوع معين؛ إذا الإنسان بكى في الصلاة فصلاته باطلة، عليه أن يعيدها؛ إذا بكى ألماً على شيء فاته من الدنيا في الصلاة؛ المعنى أنه لا يفهم شيئاً إطلاقا؛ً إذا بكى على شيء فاته من الدنيا في الصلاة فصلاته باطلة؛ تفسد.
والفرق بين بكاء السرور والفرح، وبكاء الحزن؛ أن دمعة السرور باردة والقلب فرحان، ودمعة الحزن حارة والقلب حزين، ولهذا يقال لما يفرح به: هو قرة عين، وأقر الله عينه، ولما يحزن: هو سخينة عين، وأسخن الله عينه؛ بكاء الألم حار، وبكاء الفرح بارد، والسابع بكاء الخور والضعف، والثامن بكاء النفاق؛ قد تُعجب بإنسان يبكي! عنده قدرة على البكاء عجيبة، إذا بكى تصدقه، قال: هذا بكاء النفاق، وهو أن تدمع العين والقلب قاس، فيظهر صاحبه الخشوع وهو من أقسى الناس قلباً، هذه قدرة بالإنسان، يبكي وهو قلبه قاس، والتاسع البكاء المستعار، أو المستأجر عليه؛ كبكاء النائحة بالأجرة، فإنها كما قال عمر رضي الله عنه:" تبيع عبرتها شجو وتبكي غيرها".
قديماً كانوا يستأجرون نائحات يولولون، يبكون بكاء شديداً، حتى يظهروا الحزن، هي مستأجرة؛ أي بكاء بالأجرة فقال سيدنا عمر هذه النائحة: "تبيع عبرتها وتبكي شجو غيرها".
والعاشر بكاء الموافقة، وهو أن يرى الرجل الناس يبكون لأمر ورد عليهم، فيبكي معهم، ولا يدري لأي شيء يبكون، ولكنه رآهم يبكون فبكى، وما كان من ذلك دمعاً بلا صوت فهو بكى – مقصور-، وما كان معه صوت فهو بكاء - ممدود - فالبكاء بالألف والهمزة؛ بكاء معه صوت، وما كان من دون صوت فقط دموع فهو بكى، وما كان منه مستدعى متكلفاً فهو التباكي؛ التباكي: التصنع، التفعل هو التصنع، وهو نوعان؛ محمود ومذموم، فالمحمود أن يستجلب لرقة القلب، ولخشية الله لا للرياء والسمعة، والمذموم أن يجتلب لكثرة الخير، لذلك قال عمر للنبي عليه الصلاة والسلام وقد رآه يبكي هو وأبو بكر في شأن أسارى بدر فقال:" أخبروني، ما يبكيكما يا رسول الله فإن وجدت بكاء بكيت معكم وإن لم أجد تباكيت؟"، هذا بكاء الموافقة - محمود - أن تجاري من حولك في البكاء: فإن وجدت بكاء بكيت، وإن لم أجد تباكيت".
ولم ينكر عليه النبي عليه الصلاة والسلام ذلك.
وقال بعض السلف:" ابكوا من خشية الله فإن لم تبكوا فتباكوا"
هذه أنواع البكاء وأنواع الضحك.
وهدي النبي عليه الصلاة والسلام في الضحك والبكاء وفي التكلم وفي الصد.
هدي النبي عليه الصلاة و السلام في حركاته :
وكان عليه الصلاة والسلام يعجبه التيمن في تنعله، وفي ترجله، وطهوره، وأخذه وعطائه، يستعمل اليد اليمنى ويبدأ باليمين، وكانت يمينه لطعامه وشرابه وطهوره، ويساره لخلائه و نحوه من إزالة الأذى؛ الأشياء الطيبة الجميلة الإيجابية باليمنى، والأشياء غير الطيبة - تنظيف نفسه، الطهور باليسرى - وكان يحب السواك، وكان يستاك مفطراً و صائماً، و يستاك عند الانتباه من النوم، وعند الوضوء، وعند الصلاة، وعند دخول المنزل، وكان يستاك بعود الأراك، وكان يكثر التطيب، ويحب الطيب، وذكر عنه أنه يستعمل الطيب حتى أنه يعرف بريح الطيب عليه الصلاة والسلام.
وكان يجلس على الأرض؛ أحياناً يكون هناك كنبات في الغرفة؛ تمتلئ الكراسي؛ فيأتي إنسان محترم، و يجلس على الأرض؛ هذا تواضع فيه، هناك شخص إذا لم يقعد على كرسي يرى نفسه مهاناً؛ هناك كثير من الجلسات يكون المكان قد ضاق بالضيوف يأتي شخص محترم جداً و يقعد على الأرض؛ أراح صاحب البيت، وخفف عنه؛ لا يوجد كراسي و الكراسي ممتلئة؛ أي إذا عودنا أنفسنا إن لم يكن هناك كرسي أن تقعد على الأرض؛ فهذا تواضع، هذا أدب عال؛ فكان عليه الصلاة والسلام يجلس على الأرض، وعلى الحصير، و البساط، وقالت امرأة رأته:
((أتيت النبي عليه الصلاة والسلام وهو قاعد القرفصاء، فلما رأيت رسول الله كالمتخشع في الجلسة؛ أرعدت من الفرق))
((ولما قدم عليه عدي بي حاتم؛ دعاه إلى منزله، فألقى إليه وسادة من أدم محشوة ليفاً وقال اجلس عليها، فقال: بل أنت، قال بل أنت، فجلست عليها وجلس على الأرض - وهو سيد الخلق - قال، يقول عدي بن حاتم: فعرفت أنه ليس بملك))
وكان يستلقي أحياناً، وكان يتكئ على الوسادة أحياناً، وكان يتكئ على يمينه، وكان إذا احتاج في خروجه توكأ على بعض أصحابه من الضعف، لتقدمه بالسن كان يتوكأ على بعض أصحابه.