- السيرة / ٠1السيرة النبوية
- /
- ٠1هدي النبي صلى الله عليه وسلم
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين.
هدي النبي صلى الله عليه وسلم في بيعه وشرائه :
باع رسول الله صلى الله عليه وسلم واشترى، وكان شراؤه - بعد أن أكرمه الله تعالى برسالته - أكثر من بيعه، وكذلك بعد الهجرة لا يكاد يحفظ عنه البيع إلا في قضايا يسيرة أكثرها لغيره، كان شراؤه أكثر من بيعه، كبيعه القدح والحلس في من يزيد
وفي هذه الزيادة تشريع لنا؛ يجوز أن تبيع بالمزايدة وأن تشتري بالمناقصة؛ لأن النبي عليه الصلاة والسلام جاءه أنصاري يسأله مالاً؛ فقال:
((أعندك شيء؟ قال: عندي قدح وحلس، قال: ائتني بهما؛ فلما أتاه بهما، قال لأصحابه الكرام: من يشتري هذين؟ فقام أحدهما وقال: أنا أشتريه بدرهم، فقال: من يزيد؟ فقال آخر: أنا أشتريهما بدرهمين، فقال: ائتني بهما؛ أعطى درهماً لهذا الأنصاري وقال: اشترِ طعاماً وانبذه لأهلك، واشترِ بالثاني قدّوماً وائتني به؛ فاشترى له قدّوماً وأتاه به، فشد النبي عليه الصلاة والسلام بيده الشريفة على القدّوم خشبة، وقال: اذهب واحتطب، ولا أرينّك بعد خمسة عشر يوماً، جاءه بعد خمسة عشر يوماً، وقد وفّر ثمانية دنانير، فقال: لأن يحتطب أحدكم خير له أن يسأل الناس أعطوه أو منعوه))
استنبط العلماء من هذه القصة أشياء كثيرة؛ استنبطوا أن الإنسان لا يستطيع أن يعمل إلا إذا اطمأن على أهله؛ قال له: اشترِ طعاماً وانبذه لأهلك، واشترِ بالثاني قدّوماً، واستنبطوا أيضاً أن ولي أمر المسلمين ينبغي أن يوفر الأعمال؛ شدّ عليه خشبة بيده الشريفة، واستنبطوا أيضاً أن العمل جزء من العبادة، فعليه الصلاة والسلام سنّ لنا بهذه القصة موضوع البيع.
المضاربة في الإسلام :
وأما شراؤه فكثير، وآجر واستأجر، واستئجاره أكثر من إيجاره، وإن ما يحفظ عنه أنه أجر نفسه قبل النبوة في رعاية الغنم، وأجر نفسه من خديجة في سفره بمالها إلى الشام، كان عليه الصلاة والسلام أول مضارب في الإسلام، شركة المضاربة هي شركة مندوب لها، إنسان بماله وإنسان بجهده
فهناك في الحياة أناس كالصغار والكبار والموظفين لا يستطيعون استثمار المال، طفل ورث عن أبيه مالاً، أو رجل مال إلى التقاعد لا يستطيع استثمار المال، وشاب بالمقابل لديه خبرة وحيوية ونشاط وليس معه مال، فإذا تعاون صاحب هذا المال مع صاحب هذا الجهد كونوا شركة مفيدة جداً؛ هذه المضاربة، كان عليه الصلاة والسلام أول مضارب في الإسلام، أي أجر جهده للسيدة خديجة؛ أرسلته في تجارة هو بجهده وهي بمالها؛ وهذا الموضوع هو الشيء المشروع في الإسلام باستثمار المال، لكن هناك من أساء إليه إساءة بالغة فقوى جانب البنوك الذين أخذوا أموال الناس ليستثمروها، وأكلوها؛ خيبوا ظن المسلمين بهذا الطريق الوحيد المشروع، بذلك مال الناس إلى البنوك، وهذا الإثم في صحيفة من خيب ظن الناس بهذه التجارة.
وإن كان العقد مضاربة فالمضارب أمين وأجير ووكيل وشريك؛ فأمين إذا قبض المال، ووكيل إذا تصرف فيه، وأجير فيما يباشره بنفسه من العمل، وشريك إذا ظهر فيه الربح؛ المضارب أمين وأجير ووكيل وشريك، وقد أخرج الحاكم في مستدركه قال:
((آجر رسول الله صلى الله عليه وسلم نفسه من خديجة بنت خويلد سفرتين إلى جرش كل سفرة بقلوص))
أي تاجر مع السيدة عائشة بعقد مضاربة.
النبي وحده هو المشّرع وكل فعله تشريع وكل تركه تشريع :
وشارك النبي إنساناً في عمل تجاري في مكة، فلما جاءته الرسالة:
(( قدم عليه شريكه؛ فقال: أما تعرفني؟ قال: أما كنت شريكي؟ فنعم الشريك كنت لا تداري ولا تماري))
تدارئ بالهمزة من المداراة: مدافعة الحق.
ووكل وتوكل وكان توكيله أكثر من توكله - وكل وتوكل - وأهدى وقَبِل الهدية وأثاب عليها، ووهب واتّهب، فقال لسلمة بن الأكوع - وقد وقع في سهمه جارية- هبها لي، فوهبها له، واستدان برهن وبغير رهن، واستعار واشترى بالثمن الحال والمؤجل - طبعاً هذا كله تشريع - إنسان سأل مرة: كيف يدفن النبي درعه عند إنسان من أهل الكتاب، فالجواب: لو أن النبي عليه الصلاة والسلام لم يتعامل مع أهل الكتاب لما جاز لنا أصلاً التعامل معهم؛ لكن لأن النبي مشرّع فلا بد من أن يتعامل مع أهل الكتاب، فتعامله معهم تشريع لنا.
يوجد بالعالم الإسلامي ملايين؛ النبي وحده هو المشّرع؛ فكل فعله تشريع، وكل تركه تشريع، وكل أقواله سنّة، وكل أفعاله سنّة، وكل إقراره سنّة؛ فالنبي أهدى وقبل الهدية، فالهدية مشروعة، وأثاب عليها؛ من التشريع أنك إذا قبلت الهدية عليك أن تردّ عليها بهدية مثلها. ووهب وقبل الهبة، واستدان برهن وبغير رهن, واستعار، واشترى بالثمن الحال، فدفع ثمن البضاعة نقداً حالاً، واشترى بالثمن المؤجل، وضمن ضماناً خاصاً على أعمال من عملها كان مضموناً له بالجنة، و ضمن ضماناً عاماً لديون من توفي من المسلمين، أي أنه ضمن لبعض المسلمين ضماناً خاصاً، وضمن لبعضهم ضماناً عاماً، صار الضمان والاستدانة برهن وبغير رهن، واستعار، واشترى نقداً، واشترى بثمن مؤجل، وأهدى وقبل الهدية وأثاب عليها، ووهب وقبل الهبة، ووكّل وتوكل، وتاجر، وشارك، وضارب، هذه كلها نشاطات الحياة.
هدي النبي الكريم في حياته اليومية :
طبعاً كان من توفي ولم يدع شيئاً أو ترك ديناً يقول النبي عليه الصلاة و السلام: عليّ دينه، وقالوا هذا تشريع لكل أولياء أمور المسلمين؛ المسلم إذا ترك ديناً فعلى إمام المسلمين أن يفي هذا الدين:
((من ترك شيئاً فلأهله، ومن ترك ديناً فعلي دينه))
وكان عليه الصلاة والسلام يمازح ويقول في مزاحه الحق، ويوَرّي، ولا يقول في توريته إلا الحق؛ مثل أن يريدَ جهةً يقصدها فيسأل عن غيرها كيف طريقها؟ وكيف مياهها ومسلكها؟ أو نحو ذلك، وكان يشير ويستشير - دخّل الاستشارة في الحركة الحياتية - وكان يعود المريض، ويشهد الجنازة، ويجيب الدعوة، ويمشي مع الأرملة والمسكين والضعيف في حوائجهم، وسمع مديح الشعر، وأثاب عليه، ولكن ما قيل فيه من المديح هو جزء يسير جداً من محامده
- هذه نقطة دقيقة؛ أن الذي مدح فيه النبي عليه الصلاة والسلام حق - وما قيل فيه من المديح إلا جزء من محامده صلى الله عليه وسلم، أي هنا مؤلف الكتاب رحمه الله تعالى أشار: ليس ممن يمدح بفوق ما هو فيه ويرضى، أحياناً إنسان يمدح مديحاً غير معقول، ينبغي ألا ترضى أن تمدح بهذا المديح، أما مدح غيره من الناس فأكثر ما يكون بالكذب، لذلك؛ أمر أن يحثى في وجوه المداحين التراب، قال عليه الصلاة والسلام:
(( إذا رأيتم المداحين فاحثوا في وجوههم التراب ))
المديح طريق إلى النفاق، بل المديح الكاذب هو النفاق بعينه، فالنبي مدح، ولكن الذي مدحه ما مدحه إلا في بعض محامده، أما مدح غيره فأغلبه كذب ونفاق، لذلك قال عليه الصلاة والسلام:
(( إذا رأيتم المداحين فاحثوا في وجوههم التراب ))
تشريع الوقف :
ووقف النبي عليه الصلاة والسلام أرضاً كانت له؛ شرع لنا الوقف
والوقف شيء من أروع ما في التشريع الإسلامي، لكن أسيء استخدامه، أما هو في الأصل فشيء رائع؛ أي يحبس الرقبة، ويوزع منفعتها، فالمسلمون درجوا في هذا على وقف بعض أملاكهم للمساجد، لطلبة العلم، الأوقاف الخيرية أوقاف منوعة جداً، و في التاريخ الإسلامي أنواع من الأوقاف تحار لها العقول؛ كان هناك نفوس طيبة جداً، أعمال صالحة كثيرة، حتى إن هناك وقفاً للحيوانات، هناك أراض تزرع كلأً من أجل أن تحبس لصالح الحيوانات - البهائم، والدواب المريضة - هناك أوقاف للأطفال الصغار الذين يكسرون الأواني، فكل طفل عنده سيد أو معلم قاس؛ كسر معه إناء، كان يأتي بقطعة من هذا الإناء؛ ليأخذ إناءً جديداً؛ ليتقي الطفل مشكلة كبيرة، طبعاً طلبة العلم أكثر شيء - توقف الأراضي والدور والأموال لطلبة العلم الشرعي - هذه تسمى أوقافاً خيرية، وهناك أوقاف ذرية أيضاً، هناك من يقف بيتاً أو أرضاً لذريته من بعده، طبعاً الأوقاف الذرية صفيت، أما الأوقاف الخيرية فلا تزال باقية إلى الآن، والوزارات الدينية في العالم الإسلامي اسمها وزارة الأوقاف، جمع وقف، فالنبي وقف بعض الأموال ووزع منافعها.
النبي الكريم لم يضع مكانته الدينية في أمر شخصي بل شفع و تشفع :
وتشفع، وشفع إليه، و ردت بريرة شفاعته في مراجعتها مغيثاً، فلم يغضب عليها، امرأة لم تحب زوجها فطلبت الفراق منه، فكان يحرص على أن يبقى زوجاً لها، فلم ترضَ، فشفع له النبي:
((فقالت: أتأمرني به يا رسول الله ؟ فقال : إنما أنا شافع ))
فلم يغضب عليها.
هنا نقطة دقيقة، النبي لم يضع مكانته الدينية في أمر شخصي، كل إنسان له خصوصياته و له مواقفه الشخصية، فالنبي شفع، وبريرة ردت شفاعته، فلم يغضب عليها، لأن القضية شخصية.
وهناك موقف آخر استنبطه الصحابة: أن النبي عليه الصلاة والسلام حينما عصوه الرماة في بدر، ومات بعضهم صلى عليهم، فكيف صلى عليهم وقد عصوه؟. فقالوا: إنهم عصوا أمراً تنظيمياً ولم يعصوا أمراً تشريعياً؛ فالنبي فرّق بين الأمر التنظيمي وبين الأمر التشريعي؛ الأمر التشريعي شيء كبير جداً، إله شرّع؛ فالذي عصاه في أمر تنظيمي صلى عليه، والنبي ميز بين أن تعصي الله، وأن تعصي أمراً تنظيمياً فرعياً، فقال العلماء: "إنه صلى عليهم لأنهم عصوه في أمر تنظيمي، ولم يعصوه في أمر تشريعي".
الله سبحانه وتعالى أمر النبي بالحلف في ثلاثة مواضع :
وحلف في أكثر من ثمانين موضعاً، هناك إنسان لا يحلف، والله قال:
﴿وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ﴾
لكن هناك مواقف فيها حسم؛ إذا ما حلفت الدعوة تسقط، الحق يضيع؛ سألني من يومين شخص: أأحلف؟ قلت له: إن كان الأمر واقعاً فاحلف؛ قضية خطيرة، فدعاه القاضي إلى حلف اليمين، فإذا تطابق الحلف مع الواقع لا يوجد شيء عليك، فالنبي حلف في أكثر من ثمانين موضعاً، وأمره الله سبحانه وتعالى بالحلف في ثلاثة مواضع:
﴿وَيَسْتَنْبِئُونَكَ أَحَقٌّ هُوَ قُلْ إِي وَرَبِّي إِنَّهُ لَحَقٌّ﴾
احلف أي إي وربي :
﴿وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَأْتِينَا السَّاعَةُ قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ ﴾
وقال تعالى:
﴿زعم الذين كفروا أن لن يبعثوا قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ ﴾
فالله عز وجل أمر النبي أن يحلف.
مرة إسماعيل بن إسحاق القاضي يذاكر أبا بكر بن محمد بن داود ولا يسميه بالفقيه، فتحاكم إليه يوماً هو وخصم له؛ فتوجهت اليمين على أبي بكر بن داود؛ فقال له القاضي إسماعيل: أَوَتَحْلِفُ وَمِثْلُك يَحْلِفُ يَا أَبَا بَكْرٍ؟ قال: وما يمنعني من الحلف وقد أمر الله تعالى نبيه بالحلف في ثلاثة مواضع من كتابه، قال أين ذلك؟ فسردها له أبو بكر؛ فاستحسن ذلك منه جداً؛ ودعاه بالفقيه من ذلك اليوم.
هناك إنسان يحلف بلا سبب؛ كثير الحلف، وهناك إنسان يرفض الحلف بدعوى أنه ورع، أما لو رفضت الحلف وضاع حق المسلم؛ فهناك مشكلة؛ فصار عدم الحلف هو الإثم بعينه؛ ينبغي أن تحلف.
الاستثناء في اليمين :
وكان عليه الصلاة والسلام يستثني في يمينه تارة، و يكفرها تارة، ويمضي فيها تارة؛ الاستثناء إذا قال: إن شاء الله؛ إنسان أقسم بالله؛ وقال: إن شاء الله سأفعل هذا،؛ مادام استثنى لا حنث مع الاستثناء، فكان عليه الصلاة والسلام يستثني في يمينه تارة، ويكفرها تارة، أحياناً يرى عليه الصلاة والسلام أن الحنث باليمين أفضل من إجرائها؛ أين الخير؟ إنسان حلف ألا يزور أخته؛ إذاً قطعها وهي بحاجة له، بحاجة لتوجيهه، ومرة تألم منها فحلف ألا يزورها فينبغي أن يحنث بيمينه ويزورها.
العلماء قالوا: الاستثناء يمنع عقد اليمين، والكفارة تحلها بعد عقدها، ولهذا سماها الله تحلة:
﴿قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ﴾
هذا هدي النبي عليه الصلاة والسلام في أكثر نشاط يفعله الإنسان وهو البيع والشراء؛ لاحظتم أيها الأخوة كيف أنه باع واشترى، وآجر واستأجر، وشارك مشاركة اندماجية، وعقد عقد مضاربة، ووكل وتوكل، وأهدى وقبل الهدية وأثاب عليها، ووهب وقبل الهبة، واستدان برهن وبغير رهن، واستعار واشترى بالثمن الحالي والمؤجل، وضمن ضماناً خاصاً وعاماً، وشفع بين اثنين وحلف اليمين، واستثنى وكفر عن يمينه وأمضاها تارة، ومازح وضمن ديون المسلمين عليه الصلاة والسلام، وكان عليه الصلاة والسلام يعود المريض ويشهد الجنازة، ويجيب الدعوة، ويمشي مع الأرملة والمسكين والضعيف في حوائجهم، وسمع مديح الشعر، وأثاب عليه.
وفي درس آخر إن شاء الله ننتقل إلى هديه في معاملته صلى الله عليه وسلم .