وضع داكن
08-11-2024
Logo
طريق الهدى - الحلقة : 09 - أمة التبليغ وأمة الاستجابة.
   
 
 
 بسـم اللـه الرحمـن الرحيـم  
 

 المذيع:
 الحمد لله رب العالمين، الحمد لله على نعمة الإيمان والإسلام، وكفى بها نعمة، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
 أيها الإخوة المستمعون، السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، نحييكم، ونجدد اللقاء مع برنامج طريق الهدى، مرحباً بفضيلة الشيخ الدكتور محمد راتب النابلسي، أهلاً ومرحباً بكم والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
 الأستاذ:
 وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته.
 المذيع:
 الشيخ وعدنا بالأمس أن نتابع الحديث عن مصطلح، شرح مضامين هذا المصطلح، هو أمة التبليغ، أمة التبليغ قلنا: من كان من المسلمين بحكم ولادته بالنسب إذا صح التعبير، أما أمة الاستجابة فهو من استجاب إلى أوامر الله ونواهيه، لنفرق بين الأمرين، هل أمة التبليغ أمة لها ميزات معينة ؟ وخصائص معينة ؟ أم أنهم ممن خلق الله من البشر ؟
 الأستاذ:
 الحقيقة أن الإنسان حينما يتعامل مع الحقيقة المُرّة لا مع الوهم المريح يكون قد وضع قدمه في أول طريق نجاته، الإنسان عدو ما يجهل، والإنسان يميل إلى أن يعيش في أوهام، ويدعي ما ليس فيه، وأن يعلق آمالا غير صحيحة، ألم يقل الله عز وجل:

﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ(5)﴾

(سورة فاطر)

 الغرور هو الشيطان، يريك الشيء بحجم أكبر من حجمه، يمنّيك بعفوٍ، ويمنّيك بمغفرة، إن الله عز وجل في آيات تزيد على ثماني آيات يقول:

 

﴿وَالَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئَاتِ ثُمَّ تَابُوا مِنْ بَعْدِهَا وَآمَنُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ(153)﴾

 

(سورة الأعراف)

﴿نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (49) وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الْأَلِيمُ (50)﴾

(سورة الحجر)

﴿قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (53) وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمَّ لَا تُنْصَرُونَ (54)﴾

(سورة الزمر)

 فهذا الفهم الساذج: أن الله عز وجل غفور رحيم، يغفر الذنوب جميعاً، هذا الغفران له ثمن كبير، والنبي عليه الصلاة والسلام من شدة أدبه مع الله ما كان يسأل رحمة الله، يسأله موجبات رحمته، أيعقل أن يسأل ابنٌ مدلَّلٌ أباه الذي يحكم البلاد أن يجعله رئيس الجامعة، يقول له: أين الشهادة يا بني ؟ أين مؤهلات هذا المنصب ؟ هذا منصب علمي يحتاج إلى مؤهلات، فمن شدة أدب النبي مع الله عز وجل أنه ما سأله رحمته، بل سأله موجبات رحمته، وسأله عزائم مغفرته، معنى ذلك أن المغفرة لها عزائم، فعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي أَوْفَى قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:

(( مَنْ كَانَتْ لَهُ إِلَى اللَّهِ حَاجَةٌ، أَوْ إِلَى أَحَدٍ مِنْ بَنِي آدَمَ فَلْيَتَوَضَّأْ، فَلْيُحْسِنْ الْوُضُوءَ، ثُمَّ لِيُصَلِّ رَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ لِيُثْنِ عَلَى اللَّهِ، وَلْيُصَلِّ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثُمَّ لِيَقُلْ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ الْحَلِيمُ الْكَرِيمُ، سُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ، الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، أَسْأَلُكَ مُوجِبَاتِ رَحْمَتِكَ، وَعَزَائِمَ مَغْفِرَتِكَ، وَالْغَنِيمَةَ مِنْ كُلِّ بِرٍّ، وَالسَّلَامَةَ مِنْ كُلِّ إِثْمٍ، لَا تَدَعْ لِي ذَنْبًا إِلَّا غَفَرْتَهُ، وَلَا هَمًّا إِلَّا فَرَّجْتَهُ، وَلَا حَاجَةً هِيَ لَكَ رِضًا إِلَّا قَضَيْتَهَا يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ ))

[الترمذي]

 لو أنها توبة تحتاج إلى علم، والعلم يفضي إلى حال، الحال يتمثل بالندم على ما مضى، والإقلاع عن المعصية فوراً، وعقد العزم على ألا يقع بها في المستقبل، ثم تقتضي إصلاح ما فرط فيما مضى في التوبة، هذه عزائم المغفرة، فلما يفهم الإنسان الدين فهمًا ساذجًا ؛ أن الله يغفر فهو يقول: إن أمة محمد صلى الله عليه وسلم مرحومة، ونحن خير أمة أخرجت للناس، والجنة لنا، والله لنا وحدنا، وهذا المفهوم تجده في كل الأديان.
 المذيع:
 واللهُ لا يغفر أن يشرك به، ويغفر دون ذلك، ولكن لمن يشاء.
 الأستاذ:
 أي لمن دفع الثمن، فالمشيئة تقتضي أن يأتي بموجبات المغفرة، فالإنسان حينما يتوهم أنه من أمة محمد صلى الله عليه وسلم ولم يستجب مثلاً فهو مخطئ، ألم يقل النبي عليه الصلاة والسلام:

(( يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ، اشْتَرُوا أَنْفُسَكُمْ، لَا أُغْنِي عَنْكُمْ مِنْ اللَّهِ شَيْئًا، يَا بَنِي عَبْدِ مَنَافٍ، لَا أُغْنِي عَنْكُمْ مِنْ اللَّهِ شَيْئًا، يَا عَبَّاسُ بْنَ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، لَا أُغْنِي عَنْكَ مِنْ اللَّهِ شَيْئًا، وَيَا صَفِيَّةُ عَمَّةَ رَسُولِ اللَّهِ، لَا أُغْنِي عَنْكِ مِنْ اللَّهِ شَيْئًا، وَيَا فَاطِمَةُ بِنْتَ مُحَمَّدٍ، سَلِينِي مَا شِئْتِ مِنْ مَالِي، لَا أُغْنِي عَنْكِ مِنْ اللَّهِ شَيْئًا ))

(متفق عليه)

 عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا

(( أَنَّ قُرَيْشًا أَهَمَّهُمْ شَأْنُ الْمَرْأَةِ الْمَخْزُومِيَّةِ الَّتِي سَرَقَتْ، فَقَالُوا: وَمَنْ يُكَلِّمُ فِيهَا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ؟ فَقَالُوا: وَمَنْ يَجْتَرِئُ عَلَيْهِ إِلَّا أُسَامَةُ بْنُ زَيْدٍ، حِبُّ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَكَلَّمَهُ أُسَامَةُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَتَشْفَعُ فِي حَدٍّ مِنْ حُدُودِ اللَّهِ ؟ ثُمَّ قَامَ فَاخْتَطَبَ، ثُمَّ قَالَ: إِنَّمَا أَهْلَكَ الَّذِينَ قَبْلَكُمْ أَنَّهُمْ كَانُوا إِذَا سَرَقَ فِيهِمْ الشَّرِيفُ تَرَكُوهُ، وَإِذَا سَرَقَ فِيهِمْ الضَّعِيفُ أَقَامُوا عَلَيْهِ الْحَدَّ، وَايْمُ اللَّهِ لَوْ أَنَّ فَاطِمَةَ بِنْتَ مُحَمَّدٍ سَرَقَتْ لَقَطَعْتُ يَدَهَا ))

(صحيح البخاري)

 هي أمة الاستجابة التي استجابت لله ولرسوله، والله عز وجل يقول:

 

﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ﴾

 

(سورة الأنفال)

 معنى ذلك أن الحياة الحقيقية التي تليق بالإنسان، الحياة التي ينبغي أن يكون الإنسان من زمرتها، الحياة الراقية هي حياة الفكر، حياة القلب، حياة الروح، حياة القيم، حياة المبادئ، الحياة التي تفضي بنا إلى جنة عرضها السماوات والأرض، الحياة التي ترقى بالإنسان، وتسمو به، الحياة التي تؤكد إنسانيته، إنها حياة الاستجابة.

 

﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ﴾

 البديل:

 

 

﴿فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ﴾

 

(سورة القصص)

 هذه الآية خطيرة جداً، معنى ذلك هناك طريقان لا ثالث لهما، فإما أن تكون مستجيباً لله، وأنت من أمة الاستجابة، وأنت من أمة مكرمة، وأنت من خير أمة أخرجت للناس، وإما أن تكون منتمياً لهذه الأمة بحكم النسب، وبحكم أبوين مسلمين، ليس لك أية ميزة على الإطلاق.

 

﴿بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ﴾

 

(سورة المائدة)

 وأقول كلمة دقيقة: إن المسلمين حينما هان أمر الله عليهم، وهذه كلمة صريحة: هانوا على الله، لأن الله عز وجل وعد المؤمنين بالاستخلاف، وعدهم بالتمكين وبالطمأنينة، ولزوال الكون أهون على الله من ألاّ يحقق وعده للمؤمنين.

 

﴿وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي﴾

 

(سورة النور)

 ما الذي حصل ؟

 

﴿فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيّاً(59)﴾

 

(سورة مريم)

 هذه الحقيقة المرة، دين فلكلور، دين عادات، دين تقاليد، دين استعراضي، دين مظاهر، دين ثقافة، يقال: مفكر إسلامي، دين مؤتمرات، دين مظاهر صارخة، أبنية فخمة جداً، مساجد، لكن لا يوجد تقوى، هذه الحقيقة المرة التي وعدتكم أن أعتمدها في هذه اللقاءات.
 المذيع:
 ولكن فضيلة الشيخ دكتور محمد راتب النابلسي، لنعطي العلاج، ومن ثم ننطلق إلى موضوع آخر، ألا وهو هذه النظرة المتشائمة بعض الشيء، أو النظرة السوداء لهذا الواقع المرير، إنه واقع، ولكن الكل يدعي أنه على الطريق القويم، هذه مشكلة حقيقي، كيف نفسر هذا التناقض ؟
 الأستاذ:
 الحقيقة أن القضية ليست بدعاواى، يوجد مقياس مركزي، ما لم تأت مبادئي وقيمي ومنطلقاتي وتصوراتي وفق المقياس المركزي، القرآن والسنة، فأنا لست على حق، ولو أوهمت الناس.
 ثمة مثل كنت أضربه سابقاً: لو معك كيلو من المعدن، وبذكاء وطلاقة لسان، وبحجة قوية أوهمت الناس أنه ذهب، ولم يكن ذهباً، فأنت الخاسر الأوحد، لو أن معك معدناً، وتوهم الناس جميعاً أنه معدن خسيس، وهو ذهب، فأنت الرابح الأول، علاقتك مع نفسك فأنت فالذي يصدق مع الله عز وجل يلقى جزاء عمله، ولو كنت في مجتمع غارقاً في المعاصي والآثام، أنا أتمنى هداية الناس جميعاً، أتحلق على هدايتهم فأنت وأبذل قصارى جهدي في ذلك، ولكن إن لم أستطع ماذا أفعل ؟ كما سألتني ما الحل ؟ الحل: أن يستجيب الإنسان وحده مبدئياً إلى الله عز وجل.
 أن يكون الإسلام في عقلي، وفي نفسي، وفي بيتي، وفي عملي، لو فعل كل مسلم هذا لوجدت قاعدة صلبة راسخة متينة تنهض بنا إلى ما نصبو إليه، أما كل منا بقدرته أن يذم الواقع، وأن يطعن في الآخرين، وأن يكون متشائماً، واللهُ عز وجل لا يأخذ أحداً بأحد.

 

﴿وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى﴾

 

(سورة الأنعام)

 أنا حينما لا أستطيع أن أهدي الناس جميعاً، أنا أستجيب لله عز وجل وحدي، وأؤكد لك أن لي معاملة خاصة، أنا حينما أستجيب لله، وأقيم الإسلام في بيتي، وفي عملي، البيت مملكة لكل إنسان، ألا يستطيع رب هذا البيت أن يأمر أولاده بالصلاة ؟ ألا يستطيع أن يجعل هذا البيت مكان عبادة وطهر وطاعة ؟ أو أن يجعله مكان معصية وفجور ؟ هذا حال المسلمين، أنا حينما أقيم تلاوة القرآن الكريم في بيتي، وأقيم الصلوات، وأضبط بناتي وزوجتي، وأربي أولادي تربية إسلامية، فعلت ما عليَّ، ولي عند الله حق.
 وأؤكد لك أستاذ زياد تأكيداً قاطعاً أنك حينما تعبد الله فلك عند الله حق كبير، لأن الله جل جلاله أنشأ لك حقًّا عليه.
 عَنْ مُعَاذٍ رَضِي اللَّه عَنْه قَالَ: كُنْتُ رِدْفَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى حِمَارٍ يُقَالُ لَهُ عُفَيْرٌ: فَقَالَ:

(( يَا مُعَاذُ، هَلْ تَدْرِي حَقَّ اللَّهِ عَلَى عِبَادِهِ ؟ وَمَا حَقُّ الْعِبَادِ عَلَى اللَّهِ ؟ قُلْتُ: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ قَالَ: فَإِنَّ حَقَّ اللَّهِ عَلَى الْعِبَادِ أَنْ يَعْبُدُوهُ، وَلَا يُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا، وَحَقَّ الْعِبَادِ عَلَى اللَّهِ أَنْ لَا يُعَذِّبَ مَنْ لَا يُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا ))

(صحيح البخاري)

 أنت حينما تستجيب لله عز وجل لك معاملة خاصة، ولو أخذوا إنساناً بإنسان، وكلمة " البلاء يعم " يلزمها تفصيل، أنا حينما لا آمر بالمعروف ولا أنهى عن المنكر، وحينما لا يعنيني أمر الناس أستحق الهلاك معهم، أما حينما أسعى جهدي لهدايتهم، ولا أستطيع، أو أستطيع ما دمت أنا مستجيباً أو مطبقاً فلي عند الله معاملة، وهذا الذي يقوله الله عز وجل:

 

﴿فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ (7) وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ (8)﴾

 

(سورة الزلزلة)

 لذلك هذا الأعرابي الذي قال للنبي:

((عظني، ولا تطل فتلا عليه هذه الآية، فقال: قد كفيت، فقال: فقه الرجل ))

(ورد في الأثر)

 المذيع:
 إذاً: أن يقيم حدود الله في عمله، وهكذا كل مَن كان على هدى يستطيع أن يقيم الإسلام مبدئياً، وأن يعم الخير على الجميع.
 البعض يفهم خطأ قول الرسول صلى الله عليه وسلم بما معناه أنه من صام رمضان، وأدى الصلاة المكتوبة، وحج البيت، وأدى الزكاة أقام أركان الإسلام، ضمِن الجنة، وهذا صحيح، ونؤمن ذلك، ولكن هناك مستلزمات لهذا الأمر، البعض يصلي، ويصوم، وكل شيء، ولكن لا يعمل بصلاته.
 الأستاذ:
 ولكن إن دققنا في قول النبي صلى الله عليه وسلم، عَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِي اللَّه عَنْهمَا قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهم عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:

(( بُنِيَ الْإِسْلَامُ عَلَى خَمْسٍ، شَهَادَةِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ، وَإِقَامِ الصَّلَاةِ، وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ، وَالْحَجِّ، وَصَوْمِ رَمَضَانَ ))

(صحيح البخاري)

 بشكل بسيط، الإسلام بناء، قواعده هذه الأركان الخمسةُ، هذه القواعد ليست هي الإسلام، إنها دعامات الإسلام، لأنه من قال: لا إله إلا الله بحقها دخل الجنة، قال: وما حقها ؟ قال: أن تحجزها عن محارم الله.
 الحقيقة لما سيدنا شرح جعفر الإسلام للنجاشي قال:

(( أَيُّهَا الْمَلِكُ، كُنَّا قَوْمًا أَهْلَ جَاهِلِيَّةٍ، نَعْبُدُ الْأَصْنَامَ، وَنَأْكُلُ الْمَيْتَةَ، وَنَأْتِي الْفَوَاحِشَ، وَنَقْطَعُ الْأَرْحَامَ، وَنُسِيئُ الْجِوَارَ، يَأْكُلُ الْقَوِيُّ مِنَّا الضَّعِيفَ، فَكُنَّا عَلَى ذَلِكَ حَتَّى بَعَثَ اللَّهُ إِلَيْنَا رَسُولًا مِنَّا نَعْرِفُ نَسَبَهُ، وَصِدْقَهُ، وَأَمَانَتَهُ، وَعَفَافَهُ، فَدَعَانَا إِلَى اللَّهِ تَعَالَى لِنُوَحِّدَهُ، وَنَعْبُدَهُ، وَنَخْلَعَ مَا كُنَّا نَعْبُدُ نَحْنُ وَآبَاؤُنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ الْحِجَارَةِ وَالْأَوْثَانِ، وَأَمَرَ بِصِدْقِ الْحَدِيثِ، وَأَدَاءِ الْأَمَانَةِ، وَصِلَةِ الرَّحِمِ، وَحُسْنِ الْجِوَارِ، وَالْكَفِّ عَنْ الْمَحَارِمِ وَالدِّمَاءِ، وَنَهَانَا عَنْ الْفَوَاحِشِ، وَقَوْلِ الزُّورِ، وَأَكْلِ مَالِ الْيَتِيمِ، وَقَذْفِ الْمُحْصَنَةِ، وَأَمَرَنَا أَنْ نَعْبُدَ اللَّهَ وَحْدَهُ لَا نُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا، وَأَمَرَنَا بِالصَّلَاةِ، وَالزَّكَاةِ، وَالصِّيَامِ ))

[أحمد]

 معنى تعريف الصحابي الجليل سيدنا جعفر في الإسلام أنه تعريف أخلاقي، وهذا الإسلام الأخلاقي بني على عبادات، بمعنى لو وجدنا إنساناً يدعي أنه أخلاقي، ولا يعبد الله هذا مرفوض، هذا تاجر بالأخلاق، وجعلها مطية لمقاصده الدنيوية، وهذا ما يتمتع به الغرب أحياناً، أما نحن فنريد قيماً أخلاقية مبنية على إيمان، الذي يعامل الناس بأخلاقية عالية، ولا إيمان عنده، ولا يقيم شعائر الله هذا يعطيه الله أجره في الدنيا فقط، وماله في الآخرة من خلاق، أما الذي يقيم أخلاقيته على أرضية راسخة من الإيمان فهذا يجمع بين الدنيا والآخرة، فهناك أخلاق ذكية، وهناك أخلاق إيمانية، العبرة بالأخلاق الإيمانية.
 المذيع:
 الأخلاق الإيمانية تحتّم عملاً إيمانياً، وعملاً أخلاقياً من خلال هذا الإيمان، وهذا ما يطلق عليه بشكل عام أمة الاستجابة، فأمة الاستجابة هي الأمة التي لها خصائص، ولها مزايا كبيرة جداً، ولها حقوق عند الله سبحانه وتعالى، وحقها عند الله المغفرة.
 الأستاذ:
 من حقوقها مثلاً:

 

﴿وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً (141)﴾

 

(سورة النساء)

 أما إذا كان للكافرين ألف سبيل وسبيل على المؤمنين فالمشكلة كبيرة جداً.
 مثلاً: يقول الله عز وجل:

 

﴿إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا﴾

 

(سورة غافر)

 ويقول الله عز وجل:

 

﴿وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ (173)﴾

 

(سورة الصافات)

﴿وَكَانَ حَقّاً عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ (47)﴾

(سورة الروم)

﴿إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ﴾

(سورة محمد)

 هذه كلها آيات، وكما قلت قبل قليل: زوال الكون أهون على الله من ألا يحقق وعوده للمؤمنين، بل إنه في الحديث الصحيح عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:

((خَيْرُ الصَّحَابَةِ أَرْبَعَةٌ، وَخَيْرُ السَّرَايَا أَرْبَعُمِئَةٍ، وَخَيْرُ الْجُيُوشِ أَرْبَعَةُ آلَافٍ، وَلَنْ يُغْلَبَ اثْنَا عَشَرَ أَلْفًا مِنْ قِلَّةٍ ))

(سنن أبي داود)

 اثنا عشر ألف مؤمن حقيقي لن يغلبوا في الأرض، المسلمون مليار ومئتا مليون، وليست كلمتهم هي العليا، هذه الحقيقة.
 المذيع:
 إنها ليست نظرة متشائمة، ولكن هذا هو الواقع.
 الأستاذ:
 الحقيقة حينما تعيش المشكلة تبدأ بحلها، أما النعامة ماذا تفعل ؟ تغرس رأسها في الرمل، وتتعامى عن المشكلة، وتعيش في أوهام، فنحن كوننا مسلمين لا ينبغي أن نفتخر بالماضي، الماضي مضى.

 

﴿تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ﴾

 

(سورة البقرة)

 أجدادنا الذين فتحوا العالم، وأقاموا دولة الإسلام في الخافقين، ورفرفت رايات الإسلام في مشارق الأرض ومغاربها كانوا رعاة للغنم، لكن بطاعتهم لله صاروا قادة للأمم، أما نحن فلو اكتفينا بأن نفتخر بآبائنا وأجدادنا ما فعلنا شيئاً.

 

﴿تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَلَا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ (134)﴾

 المذيع:
 ونحن نعيش في عصر البعض يقول عنه: عصر صحوة إسلامية، هل هذا صحيح ؟
 الأستاذ:
 والله ما زلت أعاهد نفسي أن أكون واقعياً، هناك صحوة إسلامية، ولكن تحتاج إلى ترشيد، الصحوة الإسلامية إن كانت عاطفية فهذه كفقاعة الصابون، وإذا كانت عاطفية فهناك من يركبها، وهناك من يستغلها، وهناك من يحرفها عن طريقها الصحيح، أما إذا بنيت هذه الصحوة على إيمان راسخ، وعلى إيمان متين، وعلى مواقف صلبة فهذه نرجو لها النجاح والفلاح فأما الصحوة الإسلامية فموجودة، وكل المذاهب الوضعية لم تحقق أهدافها في إسعاد الإنسان، ولا يمكن أن يسعد الإنسان إلا بمعرفة ربه، إن الله يعطي الصحة والذكاء والمال والجمال للكثيرين من خلقه، ولكنه يعطي السكينة بقدر لأصفيائه من المؤمنين، لأن كل النظم الوضعية لن تحقق أهدافها التي وعدت الناس بها من تحقيق السلامة والسعادة، والعالم يئنّ بالمشكلات وبالحروب الطائفية، وحروب التطهير العرقي، ومجتمعات غنية جداً، لدرجة غير معقولة لوحة زيتية تُشترى بخمسين مليون دولار، وشعوب لا تجد لحماً تأكله، وبعض الشعوب الغنية تطعم كلابها من اللحم مالا تأكله شعوب بأكملها من اللحم، هذه مفارقة عجيبة، أين المدنية والحاضرة ؟ الإسلام إنساني، أما النظرة الوضعية فغير إنسانية، نظم عنصرية، لو أن أمة قوية تقيم لمجتمعها أرقى مستوى معاشي على حساب بقية الأمم، تنهب ثروات الأمم الباقية تضغط عليها، وتقيم عليها أوضاعاً قاسية كي يعيش شعبها في رفاه، هؤلاء لا يستحقون الاحترام، لأنهم عنصريون، ليسوا إنسانين، الإسلام إنساني، كل من دخل في الإسلام له ما لنا، وعليه ما علينا، هناك نظرة موضوعية شمولية إنسانية.
 المذيع:
 فضيلة الشيخ، الدكتور محمد راتب النابلسي، هل توافقني الرأي على أن رجال الدعوة في سبيل الله يجب ألا يستكينوا، ويقولوا: إن هناك صحوة إسلامية مزدهرة ـ ولله الحمد ـ وإن الأمور تسير على ما يرام، ولكن عليهم أن يكونوا دائماً ينظرون نظرة تقصير إلى أداء واجبهم تجاه هذه الدعوة.
 الأستاذ:
 مقولة سمعتها، وأعجبتني: قد نخسر معركة، ولا نخسر حرباً، أخطر ما في الدعاة أن يستكينوا، وأن يضعفوا، قال تعالى:

 

 

﴿وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ﴾

 

(سورة آل عمران)

 الهزيمة الخطيرة تكون من الداخل، أن نقعد، أن نيأس، الله عز وجل لن يتخلى عنا، إن المؤمن له عند الله حق، ولكن إذا كان فينا خلل فينبغي أن نصحح الخلل، البطولة ألا نيأس.
 المذيع:
 سنحاول الدخول إلى هذا الخلل بمعالجة ظاهرة، ألا وهي ظاهرة ضعف الإيمان، ليتنا نتحدث عن هذا الموضوع في الحلقات المقبلة بإذن الله تعالى، ترى المسلم يستجيب إلى أوامر الله سبحانه وتعالى، ولكن يشوب إيمانه ضعف في ناحية معينة، أو زاوية من الزوايا، إذاً سنتطرق إلى هذه الأمور قدر استطاعتنا كي نحيط بالحالة من جميع جوانبها.
 الأستاذ:
 أنا أقول دائماً: ليس العار أن تخطئ، بل أن تبقى مخطئاً، وليس العار أن تجهل، بل أن تبقى جاهلاً، والإنسان مادام فيه قلب ينبض فالأمل كبير جداً، وهناك شعوب نهضت، وقويت على أعدائها، عوامل القوة موجودة في القوة، وعوامل الضعف أودعها الله في القوة، فقوة غاشمة فيها بذور ضعفها، وضعف غاشم فيه بذور قوة، وهذا يملأ النفس أملاً وإشراقاً.
 المذيع:
 شكراً لكم، وأشكر الإخوة المستمعين لحسن إصغائهم، فضيلة الشيخ الدكتور محمد راتب النابلسي، نلتقي على خير بإذن الله تعالى، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

الاستماع للدرس

00:00/00:00

إخفاء الصور