- أحاديث رمضان
- /
- ٠11رمضان 1425هـ - ومضات ايمانية
الحمد لله رب العالمين، و الصلاة و السلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين. أيها الإخوة الكرام: في سورة المرسلات آية هي قوله تعالى:
﴿إِنَّ هَذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلاً (29) ﴾
ثم يقول الله عز وجل:
﴿وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيماً حَكِيماً (30) يُدْخِلُ مَنْ يَشَاءُ فِي رَحْمَتِهِوَالظَّالِمِينَ أَعَدَّ لَهُمْ عَذَاباً أَلِيماً (31) ﴾
أيها الإخوة الكرام، أحياناً يتوهم قارئ القرآن أن ربط مشيئة العبد بمشيئة الرب جبر له، وعقيدة الجبر عقيدة زائغة، و عقيدة الجبر عقيدة فاسدة، وعقيدة الجبر تشل حركة الإنسان، وعقيدة الجبر تجعل المسلمين في مؤخرة الأمم، لأنهم يتوهمون أن كل أحوالهم السيئة قدرها الله عليهم، ولا حول لهم ولا قوة، لذلك يقول الله عز وجل:
﴿ بَلْ كَذَّبُوا بِمَا لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ﴾
أي: بالقرآن، معنى ذلك هناك آيات تحتاج إلى تأويل، وقد قال الله عز وجل:
﴿فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (7) ﴾
وأهل الذكر أهل القرآن.
آية ثانية ربطت فيها مشيئة العبد بمشيئة الرب:
﴿فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ﴾
﴿وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ﴾
فماذا يعني هذا الربط ؟ في هذه الآية:
﴿إِنَّ هَذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلاً (29) ﴾
الإنسان مخير، فإن شاء الهداية فطريق الهداية واضح، الإنسان مخير، إن شاء الهداية طريق الهداية فهو ميسر، وواضح، بل إن هناك طرقًا إلى الله لا تعد ولا تحصى، فالطرائق إلى الخالق بعدد أنفاس الخلائق.
إن تفكرت في خلق السماوات والأرض فهو طريق إلى الله، إن تلوت القرآن، وتدبرته فهو طريق إلى الله، إن ذكرت الله فهو طريق إلى الله، إن أصغيت إلى صوت الفطرة فهو طريق إلى الله.
إذاً:
﴿إِنَّ هَذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلاً (29) ﴾
لكن مشيئة الرب لا تعني الجبر، بل تعني أنها مشيئة فحص واختبار، نحن في بلادنا إذا قدم الطالب امتحان الشهادة الثانوية جاء بالحد الأدنى من العلامات مئة وخمسة، قدم طلباً إلى كلية الطب، مستحيل، كلية الطب تفحص هذا الاختيار، هل قدم العلامات المناسبة لهذا الاختصاص ؟ أنت لك أن تشاء ما شئت، لكن كل مشيئة لها ثمن، فمشيئة الله عز وجل أن تفحص مشيئتك، وأن تفحص الثمن الذي أعد لها هل قدمته ؟ ألا يقل الله عز وجل:
﴿وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ﴾
فمن السذاجة والغباء أن تطلب مكانة علية دون أن تدفع الثمن، فإذا ربطت مشيئة العبد بمشيئة الرب، فالمعنى أن مشيئتك مشيئة إرادة واختيار، لكن مشيئة الله مشيئة فحص واختبار، إذاً الله عز وجل رسم طريقاً إلى الإيمان، رسم طريقاً إلى الجنان، رسم طريقاً إلى الآخرة، ما لم تسلك هذا الطريق لن تستطيع أن تصل، كذلك الدولة، ولله المثل الأعلى رسمت طريقاً إلى أن تكون طبيباً، أما أن تقرأ مجلات طبية فقط، و تضع إعلاناً، وتقول: الدكتور فلان تحاسب حساباً عسيراً، أنت بهذه الطريقة لن تسلك الطريق التي رسمت للمواطن كي يكون طبيباً.
وكذلك رسم الله عز وجل طريق للإيمان، طريق للجنان، طريق للآخرة، طريق للنصر، هذه مشكلة المشكلات الآن، طريق النصر هو الإيمان الذي يحملك على طاعة الله رسم، وهذا جانب اعتقادي سلوكي، ثم أن تعد للعدو كل ما تستطيع، وهذا جانب عملي، هذا طريق النصر، أما أن تقف على المنبر، و تقول: يا رب، انصرنا على أعدائنا، اللهم دمرهم، اللهم اجعل كيدهم في تدميرهم، اللهم شتت شملهم، اللهم أرنا قدرتك بهم، ونحن لسنا مؤمنين إيماناً يحملنا على طاعته، ولم نعد لهم الإعداد الكافي، فالقضية في الدين قضية مقننة، كل شيء له طريق، إن سلكته حققت النتائج، وإن لم تسلكه فمهما رفعت الصوت، ومهما أحدثت ضجيجاً، ومهما توسلت إنك تخالف منهج الله عز وجل.
﴿فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ﴾
﴿إِنَّ هَذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلاً (29) ﴾
الآن ماذا يريد الناس ؟ يريد أن يصل إلى الله، وهو مقيم على كل شهواته التي لا ترضي الله، لكن الشيء الخفيف يأتي به هذا لا يقدم ولا يؤخر، لذلك مهما حاول، ومهما رفع صوته بالدعاء، ومهما توسل، ما لم تسلك الطريق التي رسمت لك كي تكون مؤمناً لن تصل إلى ما تريد، هذا هو الربط، ليس ربط جبر، لكن مشيئتك مشيئة إرادة واختيار، ومشيئة الله مشيئة فحص واختبار.
﴿فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلاً (29) وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيماً حَكِيماً (30) ﴾
في ظاهر الآية:
﴿يُدْخِلُ مَنْ يَشَاءُ فِي رَحْمَتِهِ﴾
لكن لو تابعتها:
﴿وَالظَّالِمِينَ أَعَدَّ لَهُمْ عَذَاباً أَلِيماً (31) ﴾
إذاً من هم الذين شاء لهم أن يرحمهم ؟ غير الظالمين، لذلك قال تعالى:
﴿فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (81) الَّذِينَ آمَنُوا﴾
لكن:
﴿وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ (82)﴾
من هنا نكتشف حقيقة أن الأمة الكافرة العادلة تنتصر على الأمة المؤمنة الظالمة.
مادام قد لابس الإيمانَ ظلمٌ فالله عز وجل في حل من كل وعوده للمؤمنين هذه آية.
الآية الثانية:
﴿فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ﴾
﴿وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ﴾
هناك ربط بمعنى آخر، هذا الربط ربط فضل، كيف ؟ الإنسان أعطي حرية الاختيار، وبهذه الحرية لو أحسن استخدامها لفاق الملائكة المقربين، والمؤمن أعلى مستوى في المخلوقات، والدليل:
﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ (7) ﴾
على الإطلاق، المؤمن مرتبته أعلى من الملائكة، والكافر مرتبته أدنى من الحيوان:
﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا﴾
في آخر الآية:
﴿أُولَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ﴾
فلو أن إنساناً استخدم حرية الاختيار استخداماً صحيحاً فأصبح في مكان عالٍ عند الله فوق الملائكة، قال:
﴿وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ﴾
أي: لولا أن الله شاء لكم أن تشاؤوا، لولا أن الله منحكم حرية الاختيار لما نلتم هذه المراتب العلية، فمشيئة العبد هنا قد ربطت بمشيئة الرب ربط فضل.
فرضاً أب عنده عشرة أولاده، عنده معملاً خيرهم بين أن يبقى أحدهم في البلد، ويعمل في المعمل، وله بيت، و مكتبة، و راتب قدره خمسون ألفاً، أما الذي يقبل أن يسافر ليأتي باختصاص عال جداً، يكتب له المعمل كله، فقال أحد أولاده: أنا، إن سافر، ودرس، وجاء بالشهادة له المعمل كله، ودخل المعمل فلكي، أما لو لم يأت بالشهادة فليس له مكان في المعمل لصار متسولاً، لأن الأب أعطى هذا الأب، وتلك الحرية لأبنائه جميعاً، وأحدهم قبلها، وسافر، وعاد، وقد تملك المعمل كله ماذا نقول له ؟ لولا أن أباك قد عرض عليك هذا العرض، وأنت قبلته، وكنت أهلاً له لما كنت في هذه المكانة، وذاك الدخل الكبير.
إذاً الآية الثانية:
﴿فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ﴾
فيها ربط فضل لا ربط جبر، أنا أريد في تلك الحالتين أن أنفي أن يتوهم الإنسان أن مشيئة العبد قد ربطت بمشيئة الرب ربط جبر، لو جبر انتهى الدين.
إذا أجبر الله عباده على العبادة بطل الثواب، إذا جبرهم على المعصية بطل العقاب، لو أن الله أجبرنا على أفعالنا بطل الثواب والعقاب، وبطلت الجنة والنار، وبطل حمل الأمانة، وبطلت التكاليف، ولأصبحت الحياة الدنيا تمثيلية سمجة.
لذلك أيها الإخوة الكرام، لأنني أعلم علم اليقين أن عقيدة الجبر متغلغلة في نفوس المسلمين، شخص يشرب الخمر، ماذا يقول العامة عنه ؟ لا تعترض، طاسات معدودة، بأماكن محدودة، لو زنا شخص فالله يبتليه.
كلام العامة أحياناً هو الكفر بعينه:
﴿قُلْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (28) ﴾
﴿فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ رَبُّكُمْ ذُو رَحْمَةٍ وَاسِعَةٍ وَلَا يُرَدُّ بَأْسُهُ عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ (147) سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلَا آبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ حَتَّى ذَاقُوا بَأْسَنَا قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَخْرُصُونَ (148) ﴾
فكان سيدنا عمر الخليفة الراشد حاسماً في هذه القضية، لما جاءه شارب خمر، وقال: أقيموا عليه الحد، فقال هذا الشارب: والله يا أمير المؤمنين، إن الله قدر عليّ ذلك ؟ فقال: أقيموا عليه الحد مرتين، مرة لأنه شرب الخمر، ومرة لأنه افترى على الله، قال: ويحك يا هذا، إن قضاء الله لم يخرجك من الاختيار إلى الاضطرار.
إذاً كلما قرأتم في القرآن ربط مشيئة العبد بمشيئة الرب، فاعلموا علم اليقين أن هذا الربط إما ربط فضل، أو ربط آخر، كما ذكرته قبل قليل، مشيئتك مشيئة إرادة اختيار ومشيئة الله مشيئة فحص واختيار.