- محاضرات خارجية / ٠08رحلات - أستراليا
- /
- ٠3رحلة أستراليا - 3
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد، وعلى آل بيته الطيبين الطاهرين، وعلى صحابته الغر الميامين، أمناء دعوته، وقادة ألويته، وارضَ عنا وعنهم يا رب العالمين، اللهم أخرجنا من ظلمات الجهل والوهم إلى أنوار المعرفة والعلم، ومن وحول الشهوات إلى جنات القربات.
تقديم تعليم القرآن على خلق الإنسان تقديم أهمية لا تقديم زمن :
أيها الأخوة الكرام، كنت أتمنى أن تبدأ كلمتي بعد انتهاء الطعام، لأنه لا يجتمع درس وضرس.
أيها الأخوة الكرام، في القرآن الكريم آية قطعية الدلالة، قال تعالى:
﴿ الرَّحْمَنُ * عَلَّمَ الْقُرْآنَ * خَلَقَ الْإِنْسَانَ * عَلَّمَهُ الْبَيَانَ ﴾
هل يعقل أن يتعلم الإنسان القرآن قبل أن يُخلق؟
﴿ الرَّحْمَنُ * عَلَّمَ الْقُرْآنَ * خَلَقَ الْإِنْسَانَ ﴾
قال علماء التفسير: هذا الترتيب ليس ترتيباً زمنياً، ولكنه ترتيب رتبي، لأنه لا معنى لوجود الإنسان من دون منهج يسير عليه، قدم الله تعليم القرآن على خلق الإنسان، لا تقديم زمن ولكن تقديم أهمية.
و هناك مثل يقرب هذا المعنى: آلة غالية جداً، عظيمة النفع جداً، معقدة التركيب جداً، أُرسلت لك من المعمل، ولم تُرسل لك تعليمات التشغيل والصيانة، إن استعملتها من دون توجيهات الصانع عطبتها، وإن تركتها جمدتها، أليست تعليمات الصانع أهم من هذه الآلة؟.
﴿ الرَّحْمَنُ * عَلَّمَ الْقُرْآنَ * خَلَقَ الْإِنْسَانَ * عَلَّمَهُ الْبَيَانَ ﴾
علمه البيان، أنت تعبر بلسانك عن أفكارك، ومشاعرك، وأنت تستمع إلى أفكار الآخرين ومشاعرهم، هذا التواصل الشفهي،
﴿ عَلَّمَهُ الْبَيَانَ ﴾
وأنت تكتب عن أفكارك، ومشاعرك، وتقرأ أفكار الآخرين ومشاعرهم.
من لم يلبِّ حاجة المعرفة هبط عن مستوى إنسانيته إلى مستوى لا يليق به :
الآن بالحالة الأولى لابد من تواصل شخصي، بالحالة الثانية يمكن أن تنقل المعارف والعلوم من جيل إلى جيل:
﴿ عَلَّمَ بِالْقَلَمِ (4) عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ ﴾
تنطق وتستمع، وتكتب وتقرأ، أما إذا أدخلنا الترجمة انتقلت المعارف من أمة إلى أمة وكأن الله سبحانه وتعالى أودع في الإنسان قوة إدراكية، فمن لم يلبِّ هذه الحاجة حاجة المعرفة هبط عن مستوى إنسانيته إلى مستوى لا يليق به.
إذا أردت الدنيا فعليك بالعلم، وإذا أردت الآخرة فعليك بالعلم، وإذا أردتهما معاً فعليك بالعلم، والعلم لا يعطيك بعضه إلا أذا أعطيته كلك، فإذا أعطيته بعضك لم يعطك شيئاً، ويظل المرء عالماً ما طلب العلم، فإذا ظن أنه قد علم فقد جهل، طالب العلم يؤثر الآخرة على الدنيا فيربحهما معاً، بينما الجاهل يؤثر الدنيا على الآخرة فيخسرهما معاً.
كان في الشام عالم جليل بلغ السابعة والتسعين من العمر، وكان منتصب القامة، حاد البصر، مرهف السمع، أسنانه في فمه، يسأل: يا سيدي! ما هذه الصحة التي حباك الله بها؟ كان يقول: يا بني حفظناها في الصغر فحفظها الله علينا في الكبر، من عاش تقياً عاش قوياً.
لي صديق في الشام والده تزيد سنه عن السادسة و التسعين عاماً، زرته في العيد، قال لي: البارحة أجرينا فحوصاً كاملة للدم، الوضع كله طبيعي، ثم قال لي: والله ما عرفت الحرام في حياتي، لا حرام مالي، ولا حرام آخر، ما عرفت الحرام في حياتي، من عاش تقياً عاش قوياً.
أيها الأخوة، إذاً الله أودع في الإنسان قوة إدراكية، تلبية حاجتك إلى العلم تؤكد إنسانيتك، فإذا عطلنا هذه الحاجة، هبط الإنسان عن مستواه الإنساني إلى مستوى لا يليق به.
من أراد السلامة والسعادة في الدنيا والآخرة فعليه بالعلم :
أيها الأخوة الكرام، نحن قبل أشهر كان تعداد الأرض ستة مليارات، قبل شهر بلغ التعداد سبعة مليارات، السبعة مليارات إنسان على وجه الأرض ما منهم واحد إلا حريص على سلامة وجوده، وكمال وجوده، واستمرار وجوده، سلامة الوجود، وكمال الوجود، واستمرار الوجود، لماذا نشقى إذاً؟ نشقى بسبب أزمة نقص العلم، والدليل أن أهل النار في النار يقولون:
﴿ وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ ﴾
أزمة علم فقط، إن أردت السلامة والسعادة في الدنيا والآخرة فعليك بالعلم.
أي شيء خلقه الله له وظيفتان وظيفة نفعية ووظيفة إرشادية :
أيها الأخوة، حقيقة الإنسان أنه عقل يدرك، وقلب يحب، وجسم يتحرك، غذاء العقل العلم، وغذاء القلب الحب، وغذاء الجسم الطعام والشراب، فإذا غذيت عقلك بالعلم الصحيح بوحيي السماء، الكتاب والسنة، إذا غذيت عقلك بالعلم الديني، من أنت؟ أنت المخلوق الأول عند الله.
﴿ إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ ﴾
لأن الإنسان قَبِل حمل الأمانة كان عند الله المخلوق الأول، وعندئذٍ سخر الله له:
﴿ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً مِنْهُ ﴾
تسخير تعريف، وتسخير تكريم، نظر النبي عليه الصلاة والسلام إلى الهلال فقال:
((هلالُ خَيْرٍ ورُشْدٍ))
أي شيء خلقه الله له وظيفتان؛ وظيفة نفعية، تفوق الغرب في هذه الوظيفة إلى أعلى درجة، ووظيفة إرشادية تفوق بها المسلمون، أي شيء خلقه الله له وظيفتان، وظيفة نفعية ننتفع به، ووظيفة إرشادية يدلنا على الله، فلذلك الآية الكريمة الدقيقة جداً دقق:
﴿ مَا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ ﴾
أنتم حينما تؤمنون، وحينما تشكرون حققتم الهدف الذي من أجله خلقتم، حينما تؤمنون، وحينما تشكرون،
﴿ مَا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ ﴾
من آمن و شكر حقق الهدف من وجوده :
لذلك الله عز وجل سخر هذه الأشياء التي تقع عليها أعينكم، تسخير تعريف، رد فعل التعريف أن تؤمن، ورد فعل التكريم أن تشكر، فحينما تؤمن وتشكر حققت الهدف من وجودك، إذاً أنت عقل يدرك، غذاء العقل العلم، العلم اليقيني، هناك ترهات، و أباطيل، و أوهام، و ضلالات، بطولة الإنسان أن يتمسك بالعلم اليقيني، وهو وحي السماء، وتفسير المعصوم عليه أتم الصلاة والسلام.
شيء آخر: غذاء القلب الحب، مرة أستاذ في الجامعة، من أكبر مدرسي علم النفس في جامعة دمشق، كان أستاذي في الجامعة، قال: أي إنسان لا يجد حاجة إلى أن يُحِب، وإلى أن يُحَب، فليس من بني البشر.
لابد من الحب، بل إن الله جل جلاله ما أراد العلاقة أن تكون بيننا وبينه علاقة إكراه، قال:
﴿ لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ ﴾
أراد أن تكون علاقة حب، قال:
﴿ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ ﴾
قال:
﴿ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبّاً لِلَّهِ ﴾
لذلك العلاقة التي ينبغي أن تكون مع الله هي علاقة الحب، منحك نعمة الإيجاد، ومنحك نعمة الإمداد، أمدك بالهواء، أمدك بالماء، بالطعام، بالشراب، بالزوجة، بالولد، بالمكانة الاجتماعية، أمدك بنعم كثيرة.
المنهج الإسلامي منهج فردي و جماعي معاً :
لذلك أيها الأخوة، أمدك، وسخر لك:
﴿ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً مِنْهُ ﴾
بقي عليك أن تشكر.
لكن ما دام الإنسان حريصاً على سلامة وجوده، وكمال وجوده، واستمرار وجوده، تكون سلامة وجودك بالاستقامة على أمر الله، هذا المنهج منهج موضوعي، بمعنى لو جاءت جهة ملحدة وطبقته لقطفت ثماره في الدنيا، منهج موضوعي، العلاقة بين الأمر ونتيجته علاقة علمية، علاقة سبب بنتيجة، والعلاقة بين النهي وبين نتيجته علاقة علمية، أي علاقة سبب بنتيجة.
فلذلك هذا المنهج من عند الله عز وجل إذا طبقته الأمة انتصرت، وإذا طبقه الواحد منا وحده قطف كل ثماره، هذا الدين جماعي وفرد بآن واحد، طبقته الأمة قطفت كل ثماره، طبقته أنت وحدك قطفت كل ثماره.
أيها الأخوة، الذي يلبي حاجة عقله، وحاجة قلبه بمحبة الله، وحاجة جسمه، الذي يلبي هذه الحاجات معاً يتفوق، والذي يلبي حاجة واحدة يتطرف، وفرق كبير بين التفوق وبين التطرف.
التعبير نوعان؛ تعبير مباشر وتعبير غير مباشر :
أيها الأخوة، موضوع آخر يخدم هذا الموضوع الأساسي، قال علماء اللغة: التعبير نوعان، تعبير مباشر، وتعبير غير مباشر، كيف؟ أقول: هؤلاء بخلاء، هذا مباشر، لك أن تقول:
بيض المطابخ لا تشكو إماؤهم طبخ القدور ولا غسل المناديل
* * *
أي هم بخلاء، إما أن تعبر بالفكرة، أو بالصورة، ابن الرومي وصف مغنياً سيئ الصوت، لو قال: هذا المغني سيء الصوت هذا تعبير علمي، أما قال:
عواء كلب على أوتار مندفـة في قبح قرد وفي استكبار هامان
وتحسب العين فكيه إذا اختلفا عند التنغم فكي بغل طحـــان
* * *
فإما أن تعبر بالفكرة، وإما أن تعبر بالصورة، الأدب يعتمد الصورة، مثلاً إنسان قال: تكاثرت عليّ المصائب، التعبير بالفكرة تعبير علمي، إذ قال:
رماني الدهر بالأرزاء حت فؤادي في غشاء مـن نبال
فكنت إذا أصابتني سهـام تكسرت النصال على النصال
* * *
هذا تعبير أدبي، أنا مهدت إلى هذا.
الإنسان إما أن يكون إنسانياً أو عنصرياً :
أنا أمامي قصص ثلاثة، كلكم يعلم أن فن القصة أحد أكبر فنون الأدب، لكن القصة القصيرة جداً يسميها علماء اللغة والأدب بالحكاية، هناك حكايات ثلاثة، قصة في الشام، وقصة في بريطانيا، وقصة في أمريكا، أمريكا تمثل العالم الغربي، التي وقعت في بريطانيا وقعت لمسلم، تمثل إنساناً مهاجراً، والتي وقعت في الشام تمثل بلاد الشام، وأما التي وقعت في أمريكا فشاب أحب فتاةً، فاستأذن والده من الزواج منها، قال له: لا يا بني إنها أختك وأمك لا تدري، فلما أحب الثانية، قال له أيضاً: لا يا بني إنها أختك أيضاً وأمك لا تدري، فلما أحب الثالثة قال له: إنها أختك أيضاً وأمك لا تدري، فشكا إلى أمه فقالت له: تزوج خذ أياً شئت فأنت لست ابنه وهو لا يدري، هذا العالم الآخر.
أما المسلم المقيم بالغرب، رجل يعمل إمام مسجد في بريطانيا، كان يركب مركبة كل يوم للذهاب إلى مسجده، مقيم بلندن، مسجده في ظاهر لندن، مرة صعد مركبة وأعطى السائق مثلاً خمسين جنيهاً، ردّ له السائق التتمة، عدها فإذا هي تزيد عشرين بنساً عما يستحق، جلس في المقعد فوجد أن النقود زادت عشرين بنساً، أؤديها إلى السائق أم أبقيها في جيبي؟ شركة عملاقة، وهذا المبلغ لا يقدم ولا يؤخر، وأنا أولى بها، دخل بصراع مع نفسه، النتيجة لما أراد أن يغادر المركبة مدّ يده إلى جيبه، وأعطى السائق عشرين بنساً، فابتسم السائق! وقال له: ألست إمام هذا المسجد؟ قال: بلى، قال: والله حدثت نفسي قبل يومين أن أزورك في المسجد لأتعبد الله عندك ولكنني أردت أن أمتحنك، وقع هذا الإمام مغشياً عليه، وكأنه أغمي عليه، فلما صحا قال: يا رب! كدت أبيع الإسلام كله بعشرين بنساً.
فالذي يقيم في بلاد أجنبية إذا أخطأ لا يقال: فلان أخطأ، يقولون: الإسلام غلط، إذا كنت في بلدك الأصلي وأخطأت يقال لك: لقد أخطأت أنت، أما إذا كنت في بلاد الغرب وأخطأت فيتهم دينك بالخطأ، فهذا قال: كدت أبيع الإسلام كله بعشرين بنساً.
فهذا الذي يقيم في بلاد الغرب يحمل رسالة، والإنسان بلا رسالة إنسان تافه، البشر إما أنهم يحملون رسالة، فهم عند الله كبراء، أو أنهم مرتزقون، مرتزق أو تحمل رسالة، أو بشكل آخر، البشر نوعان، إنساني وعنصري، مثلاً: الزوج عندما يتهكم على أم زوجته أحياناً، فإذا تكلمت عن أمه كلمة أقام عليها الدنيا، هذا عنصري، أنت حينما ترى أن الذي لك ليس لغيرك أنت عنصري، وحينما ترى أن على غيرك ما ليس عليك، أنت عنصري، والعنصرية تبدأ من البيت الزوجية وتنتهي بحق الفيتو في مجلس الأمن، عندما دولة تقول: لا، التغى القرار؟ هذه عنصرية.
أيها الأخوة، إما أن تكون صاحب رسالة فلك شأن كبير، أو أن تكون بلا رسالة، تكون مرتزقاً، لا وزن لك عند الله، وإما أن تكون إنسانياً ترى أن عليك ما على غيرك، ولغيرك ما لك، أو أن تكون عنصرياً ترى لك ما ليس لغيرك، وعلى غيرك ما ليس عليك.
أخطر حدث بالمستقبل مغادرة الدنيا :
أيها الأخوة، الآن معظم الناس يعيشون حاضرهم، وأحياناً يعيشون ماضيهم، يقول: كنت، سافرت، تزوجت، اشتريت، بعت، والآن أنا وضعي كذا وكذا، لكن لا يوجد واحد بالمئة يعيش المستقبل، ماذا في المستقبل؟ بالمستقبل أخطر حدث بحياتك، مغادرة الدنيا.
إنسان بمصر من كبار أغنياء مصر توفاه الله، ابن هذا الغني سمع من درس علم أن أصعب ليلة أول ليلة في القبر، فرأى إنساناً فقيراً جداً يكاد يموت من الجوع، أعطاه عشرة جنيهات لينام أول ليلة مع أبيه- القصة رمزية- هذا الرجل نام معه، جاء الملكان، قال أحدهما للآخر: يوجد اثنان في القبر، بالعادة واحد، فلما سمع الرجل الصوت خاف فحرك رجله، قال: هذا حي وليس ميتاً، تعال لنجلسه، أجلسوه، من كثرة فقره كان يلبس كيس خيش، فتحه من النصف، وأخرج رأسه، ومن الطرفين ليخرج يديه، وربطه بحبل، قال له الملك: من أين أتيت بالحبل؟ قال له: من البستان، قال له: كيف دخلت إلى البستان؟ لم يعرف الجواب فضربوه ضرباَ شديداً، كيف دخل إلى البستان، غير الحبل، غير الكيس الذي يلبسه، فلما خرج قال: أعان الله والدكم.
﴿ فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ ﴾
(( ما من عثرة، ولا اختلاج عرق، ولا خدش عود، إلا بما قدمت أيديكم وما يعفو الله أكثر))
الإنسان بضعة أيام كلما انقضى يوم انقضى بضع منه :
أيها الأخوة، من أنت أيها الإنسان؟ أنت المخلوق الأول، هناك تعريف آخر: أنت بضعة أيام كلما انقضى يوم انقضى بضع منك، أنت أيام.
لذلك قالوا: السرعة المطلقة في الكون سرعة الضوء، ثلاثمئة ألف كيلومتر بالثانية، لو أن الإنسان- افتراض علمي- مشى مع الضوء أصبح ضوءاً، وأصبحت كتلته صفراً وأصبح حجمه لا نهائياً، هذا قانون فيزيائي ثابت، جاء به أينشتاين، السرعة المطلقة سرعة الضوء.
الآن: أقرب نجم ملتهب للأرض، بعده عن الأرض أربع سنوات ضوئية، يقطع الضوء في الثانية الواحدة ثلاثمئة ألف كيلو متر، في الدقيقة ضرب ستين، في الساعة ضرب ستين، في اليوم ضرب أربع و عشرين، في السنة ضرب ثلاثمئة و خمسة و ستين، بأربع سنوات ضرب أربع، ابنك الصغير في الصف السابع مع آلة حاسبة يحسب لك كم هي المسافة بين الأرض، وبين أقرب نجم ملتهب، سهلة جداً لو هذه الكيلومترات أردنا أن نقطعها بسيارة أرضية، السرعة مئة، نحتاج إلى خمسين مليون عام، بين الأرض وبين أقرب نجم ملتهب خمسون مليون عام، متى نصل لنجم القطب؟ أربعة آلاف سنة، أربع سنوات نحتاج إلى خمسين مليون عام، الأربعة آلاف سنة؟.
المرأة المسلسلة مليونا سنة ضوئية، مجرة اكتشفت حديثاً بعدها عنا أربعة وعشرون ألف مليون سنة ضوئية اقرأ القرآن:
﴿ فَلَا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ * وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ ﴾
﴿ إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ ﴾
إذا أردت الدنيا فعليك بالعلم، وإذا أردت الآخرة فعليك بالعلم، وإذا أردتهما معاً فعليك بالعلم.
مضي الزمن وحده يستهلك الإنسان :
أيها الأخوة، لذلك الله عز وجل قال:
﴿ وَالْعَصْرِ ﴾
أقسم بالعصر، بهذا المخلوق الأول الذي هو زمن، قال:
﴿ إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ (2) ﴾
أي مضي الزمن يستهلكه، مضي الزمن وحده يستهلك الإنسان، جمعة، اثنتان، ثلاث، أربع، شهر، شهر، اثنان، ثلاثة، فصل، فصل، اثنان، ثلاثة، أربعة، سنة، عشر سنوات عقد، كم عقد؟ يأتي ملك الموت، القضية سهلة جداً.
كل مخلوق يموت ولا يبقـــى إلا ذو العزة والـــــــجبروت
* * *
والليل مهما طــــــــال فلابد من طلوع الــــــــفجر
والعمر مهما طــــــــال فلابد من نزول الـــــــــقبر
* * *
وكل ابن أنثى وإن طـالت سلامته يوماً علـى آلــة حدبـاء مـحمــولُ
فإذا حملــت إلــى القبـور جنـازة فاعلـم بأنـك بعــدها مـحمـولُ
* * *
الإنسان كائن متحرك تحركه حاجات ثلاثة :
الإنسان ذهب إلى باريس، وسأل هذا السؤال: إلى أين أذهب؟ نقول له: عجباً من هذا السؤال، لا تعلم؟ لا أعلم، نقول له: لماذا جئت إلى هنا؟ إن جئت طالب علم فاذهب إلى المعاهد والجامعات، وإن جئت تاجراً فاذهب إلى المعامل والمؤسسات، وإن جئت سائحاً فاذهب إلى المتنزهات، ما معنى هذا الكلام؟ معنى هذا الكلام أنك كائن متحرك أيها الإنسان، ما الذي يحركك؟ الحاجة إلى الطعام والشراب، والحاجة إلى الزواج، والحاجة إلى تأكيد الذات، كائن متحرك إن صحت حركتك سلمت وسعدت، وإن لم تصح شقيت وهلكت.
كيف تصح الحركة؟ إذا علمت سر وجودك، أكبر سؤال، أخطر سؤال، أول سؤال، أهم سؤال، لماذا أنا في الدنيا؟ المؤمن يعلم لماذا هو في الدنيا، الله عز وجل قال:
﴿ وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ ﴾
قرآن، الكون قرآن صامت، و القرآن كون ناطق، والنبي عليه الصلاة والسلام قرآن يمشي.
العبادة علة وجود الإنسان في الدنيا :
لذلك لماذا نحن في الدنيا؟ قال تعالى:
﴿ وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ ﴾
علة وجودك في الدنيا العبادة.
لو أن أباً أرسل ابنه إلى باريس للدراسة، مدينة عملاقة، كبيرة، فيها معامل، فيها جامعات، فيها حدائق، فيها دور سينما، فيها دور لهو، كبيرة جداً، نقول: هذا الطالب في هذه المدينة علة وجوده فقط نيل الدكتوراه، فإذا قرأت القرآن فاقرأ قوله تعالى:
﴿ وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ ﴾
علة وجودنا العبادة، أما العبادة فليس أن تصلي فقط، وأن تصوم، هذه عبادات شعائرية، أما العبادة الحقيقية فخضوع لمنهج الله، منهج الله يبدأ من فراش الزوجية، وهو من أخص خصوصيات الإنسان، وينتهي بالعلاقات الدولية، منهج كامل، فأنت حينما تتمنى سلامتك وسعادتك، ينبغي أن تطبق تعليمات الصانع، وما من جهة بالأرض أجدر من أن تتبع تعليماتها كالجهة الصانعة.
إذا أردت الدنيا فعليك بالعلم، وإذا أردت الآخرة فعليك بالعلم، وإذا أردتهما معاً فعليك بالعلم.
العبادة طاعة طوعية :
إذاً العبادة طاعة طوعية، ليست قسرية.
﴿ لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ ﴾
طاعة طوعية، ممزوجة بمحبة قلبية، ما عبد الله من أطاعه ولم يحبه، كما أنه ما عبده من أحبه ولم يطعه.
تعصي الإله وأنت تظهـر حبه ذاك لعمري في المقال شنـــــيع
لـو كان حبك صادقاً لأطـعته إن الـمحب لمن يحب يطيـــــع
أطع أمرنا نرفع لأجلك حجبنـا فـــــإنا منحنا بالرضا من أحبنا
* * *
ولـــذ بحمانا واحتمِ بجنابنـا لــــنحميك مما فيه أشرار خلقنا
وعن ذكرنا لا يشغلنك شاغــل وأخـــلص لنا تلقى المسرة والهنا
وسلم إلينــا الأمر فيما يــكن فــــما القرب والإبعاد إلا بأمرنا
* * *
فيا خجلي منه إذا هو قال لــي يا عبدنا ما قرأت كتابنـــــــا
أما تستحي منا و يكفيك ما جرى أما تختشي من عتبنا يوم جمعنـــا
أما آن أن تقلع عن الذنب راجعاً وتنظر ما جاء به وعدنـــــــا
* * *
فلو شاهدت عيناك من حسننا الذي رأوه لما وليت عنا لغيرنــــــا
ولـو سمعت أذناك حسن خطبنـا خلعت عنك ثياب العجب وجئتنـــا
ولــو ذقت من طعم المحبة ذرة عذرت الذي أضحى قتيلاً بحبنـــا
* * *
ولــو نسمت من قربنا لك نسمة لمت غريباً واشتياقاً لقربنــــــا
فــما حبنا سهل وكل من ادعى سهولــــــته قلنا له قد جهلتنا
* * *
العبادات الشعائرية لا تقطف ثمارها إلا إذا صحت العبادات التعاملية :
أيها الأخوة، كلام دقيق جداً: نحن بحياتنا عبادة شعائرية، وعبادة تعاملية، العبادة الشعائرية: صوم، وصلاة، وحج، وزكاة، ونطق شهادة، العبادة التعاملية: الصدق والأمانة، والاستقامة، والتواضع، والرحمة، وما إلى ذلك، هل تصدقون أن العبادات الشعائرية لا تقطف ثمارها إطلاقاً إلا إذا صحت العبادات التعاملية، الدليل، لولا الدليل لقال من شاء ما شاء، قال عليه الصلاة والسلام:
((يؤتى برجال يوم القيامة لهم أعمال كجبال تهامة، يجعلها الله هباء منثوراً، قيل: يا رسول الله جلهم لنا؟ قال: إنهم يصلون كما تصلون، ويأخذون من الليل كما تأخذون، ولكنهم إذا خلوا بمحارم الله انتهكوها))
((من المفلس، قالوا: من لا درهم له ولا متاع، قال: لا، المفلس من أتى بصلاة وصيام، وصدقة، وقد ضرب هذا، وشتم هذا، فيأخذ هذا من حسناته، وهذا من حسناته، فإن فَنيَتْ حَسَناتُهُ طرحوا عليه سيئاتهم حتى يُطْرَحُ في النار))
إذاً العبادة الشعائرية لا تقطف ثمارها إلا إذا صحت العبادة التعاملية، لذلك قالوا: ترك دانق من حرام خير من ثمانين حجة بعد الإسلام.
((من لم يكن له ورع يصده عن معصية الله إذا خلا لم يعبأ الله بشيء من عمله))
فالعبادة الشعائرية ، كالصلاة، والصوم، والحج، والزكاة، لا تقطف ثمارها إلا إذا صحت العبادة التعاملية.
مبادئ الدعوة إلى الله :
لذلك أيها الأخوة، الآن في الدعوة إلى الله هناك مبادئ، القدوة قبل الدعوة، أفعل وسيلة في نشر الحق أن تكون أنت مطبقاً، الأب، الأم، القدوة قبل الدعوة، والإحسان قبل البيان، افتح قلبه بإحسانك ليفتح عقله لبيانك، القدوة قبل الدعوة، والإحسان قبل البيان، والأصول قبل الفرع، والمبادئ لا الأشخاص، والمضامين لا العناوين، والتدرج لا الطفرة، والتربية لا التعرية.
أخواننا الكرام، أنا مضطر أن أقول لكم من فضل الله عز وجل تحدثاً بنعم الله، لي موقع في الانترنيت يزوره في اليوم مليون زائر، وتسحب منه في اليوم من ثمانيمئة إلى تسعمئة ألف ملف، يومياً، هذا بين أيديكم، افتحوا كوكل، واكتبوا اسمي، الموقع يأتي بمليوني مكان، فيه تفسير قرآن بأكمله، وحديث، وسيرة، وفتاوى، وأسئلة، ممكن أن نتواصل طوال العام عن طريق هذا الموقع، الآن موضوع التواصل بالعالم شيء دقيق جداً.
كما قيل: الأرض كانت خمس قارات، ثم أصبحت قارة، ثم بلداً، فمدينة، فقرية، فبيت، فغرفة، فمكتب، الآن العالم كله سطح مكتب، إذاً الأمور ميسرة، لا أعتقد أنه وجد عصر الأمور ميسرة فيه كهذا العصر للمعرفة، فالحجة قائمة.
فلذلك أرجو الله سبحانه وتعالى أن نطبق هذه المبادئ؛ القدوة قبل الدعوة في تربية الأولاد، والإحسان قبل البيان، والأصول قبل الفروع، والمبادئ لا الأشخاص، والمضامين لا العناوين، والتدرج لا الطفرة، والتربية لا التعرية.
الدين المعاملة :
أخواننا الكرام، أنتم في هذه البلاد أرجو الله سبحانه وتعالى أن تنقلوا رسالة لأهلها، رسالة الدين بالمعاملة فقط، بالاستقامة، بالصدق، أقسم لكم بالله لو أن الجاليات الإسلامية في الأرض طبقوا دينهم تماماً لكان موقف الغرب من الإسلام غير هذا الموقف، لو طبقوا دينهم فقط.
لذلك الذي أتمناه أن يعتقد الواحد منا أنه يحمل رسالة، بل يحمل رسالتين، إذا جاء إلى بلاد الشرق، إلى بلده، انقل التنظيم هنا، والموضوعية، والدقة في العمل، وأداء الواجبات، وإذا جئت من الشرق إلى هنا، انقل لهم مبادئ هذا الدين، فأنت تحمل رسالتين، رسالة من بلدك الطيب إلى هذه البلاد، ورسالة من هذه البلاد إلى بلدك الطيب.
متى تغضب ؟؟؟؟
على كلٍّ: المحن التي جاءت الشرق في هذه العصور كثيرة جداً، أحد الشعراء قال هذه الأبيات، أسمعكم إياها، قال:
أخي في الله أخبرني متى تغضب؟ الآن هناك محاولة لتهويد القدس تعلمون ذلك، هذه محاولة خطيرة جداً، قال:
أخي في الله أخبرني متى تغضبْ؟
إذا انتهكت محارمنا
إذا نُسفت معالمنا، ولم تغضبْ
إذا قُتلت شهامتنا، إذا ديست كرامتنا
إذا قامت قيامتنا، ولم تغضبْ
فــأخبرني متى تغضــبْ؟
إذا نُهبت مواردنا، إذا نكبت معاهدنا
إذا هُدمت منازلنا، إذا قطعت طرائقنا
وظلت قدسنا تُغصبْ
ولم تغضبْ
فأخبرني متى تغضبْ ؟
عدوي أو عدوك يهتك الأعراض
يعبث في دمي لعباً
إذا لله.. للحـــرمات.. للإسلام لم تغضبْ
فأخبـــرني متى تغضبْ ؟!
رأيتَ هناك أهوالا
رأيتَ الدم شلالاً
رجالاً شيعوا للموت أطفالاً
رأيتَ القهر ألواناً وأشكالاً
ولم تغضبْ
فأخبـــرني متى تغــضبْ ؟
فصارحني بلا خجلٍ.. لأية أمة تُنسبْ ؟!
فصارحني بلا خجلٍ.. لأية أمة تُنسبْ ؟!
فلست لنا، ولا منا، ولست لعالم الإنسان منسوبا
ألم يحزنك ما تلقاه أمتنا من الهول ؟
ألم يخجلك ما تجنيه من مستنقع الوحل؟
وما تلقاه في دوامة الإرهاب والقتل ِ
ألم يغضبك هذا الواقع المعجون بالذلِ
وتغضب عند نقص الملح في الأكلِ!!
ألم يهززك منظر طفلة ملأت
مواضعَ جسمها الحفرُ
ولا أبكاك ذاك الطفل في هلعٍ
بظهر أبيه يستترُ
فما رحموا استغاثته
ولا اكترثوا ولا شعروا
فخـــرّ لوجهه ميْتـــاً
متى التوحيد في جنبَيْك ينتصرُ؟
أتبقى دائماً من أجل لقمة عيشكَ
المغموسِ بالإذلال تعتذرُ؟
متى من هذه الأحداث تعتبرُ؟ متى تغضب ؟
***
شاعر آخر قال:
لأقصانا إذا غصبت؟ تسألني متى تغضب؟ فقلت: هل يغضب الأرنب؟ وبدء كتابنا اقرأ وقال الكل لا تقرأ، لأننا لم نعد نقرأ غدونا معشراً جهلاً، لأننا لم نعد نقرأ غدونا في الورى هملاً، لأنا لم نعد نقرأ غدونا بعدها فقرا، وفصلنا بأيدينا لكل مجدد كفنا، وأنشأنا بأيدينا هنا قبرا، وتطمع بعدها نغضب، معاذ الله أن نغضب، ومن يدري غداً في ساعة الصفر إذا ما عاد في الفجر صلاح الدين بالنصر، وعاد المسجد الأقصى يعانق قبة النسر، وهبت نسمة التوحيد والإيمان في التوحيد، وعاد الطهر للفكر، وللفن، وللشعر، وعادت أمة الإسلام حقاً أمة الخير وعادت أمة الإيمان تهدي أمة الكفر، ومن يدري غداً في ساعة الصفر إذا ما لاح في المنهج لواء الأوس والخزرج، وهز حسامه المقداد، هز لواءه مصعب، فقد تغضب لما يجري فلا تعجب ولا تعجل، ولا تسأل متى تغضب، منى عمري بأن أغضب، منى عمري بأن أغضب.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته