- ندوات تلفزيونية
- /
- ٠31برنامج الإيمان هو الخلق - قناة سوريا الفضائية
مقدمة :
الأستاذ علاء :
أيها السادة المشاهدون سلام الله عليكم ورحمته وبركاته وأهلاً ومرحباً بكم في هذه الحلقة الجديدة من برنامجكم الإيمان هو الخلق ، يسعدنا أن نكون بمعية فضيلة الأستاذ الدكتور محمد راتب النابلسي أستاذ الإعجاز العلمي في القرآن الكريم والسنة في كليات الشريعة وأصول الدين أهلاً وسهلاً سيدي الأستاذ .
الدكتور راتب :
بكم أستاذ علاء جزاك الله خيراً .
الوقت و أهميته :
الأستاذ علاء :
سيدي تبينا في الحلقة الماضية مسألة الوقت في حقيقته ، حقيقة الزمن ، وأيضاً مفهوم الزمن في القرآن الكريم وما جاء من أحاديث النبي عليه الصلاة والسلام وخاصة في الحديث الذي رواه أبو سعيد الخدري ، وتحدثنا في خصائص الزمن ، سرعة الانقضاء وفي عدم العودة إلى غير رجعه ولا يمكن أن يعوض ، متى يعرف الإنسان قيمة الوقت بعد انقضائه والكيس الذي يعرف قيمة الوقت وهو يعيشه وهو بين ظهرانيه ، وتبين خطر الوقت بالتسويف ، هذه علته ، استهلاك رخيص ، ومن عدّ غداً من أجله فقد أساء صحبة الموت .
الآن نقف عند مسألة هامة هنالك يشاع بين الناس أن الإنسان إذا وصل الرحم وإذا قدم العمل الصالح فإن عمره يطول ، ورد في الأثر استناداً إلى ذلك :
(( مَنْ سَرَّهُ أَنْ يُبْسَطَ لَهُ فِي رِزْقِهِ أَوْ يُنْسَأَ لَهُ فِي أَثَرِهِ فَلْيَصِلْ رَحِمَهُ ))
ماذا عن هذا الموضوع هل العمر يطول ؟
عمر الإنسان لا يزيد و لا ينقص :
الدكتور راتب :
بسم الله الرحمن الرحيم ، الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين ، أستاذ علاء جزاك الله خيراً ، الحقيقة العمر لا يطول ، لكل إنسان أجل لا يزيد ولا ينقص :
﴿ فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ (61)﴾
لا بد من توضيح هذا بمثل : دكانان يفتحان الساعة التاسعة صباحاً ويغلقان التاسعة مساءً ، بلا زيادة ولا نقصان بالدقيقة ، أي زمن أغنى من زمن بالنسبة للدكانين ؟ الغلة ، فقيمة الوقت تقاس بالغلة فقط ، إذا قلنا لإنسان أطال الله عمرك نقصد بهذا أن يرزقك الله عملاً صالحاً يغني وقتك .
حجم الإنسان عند الله بحجم عمله الصالح :
لذلك الله عز وجل خالق السماوات والأرض أقسم بعمر النبي عليه الصلاة والسلام :
﴿ لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ ﴾
أستاذ علاء أتفه أعمار الإنسان العمر الزمني، بل إن أعظم أعمار الإنسان عمر الأعمال الصالحة ، حجم الإنسان عند الله بحجم عمله الصالح ، فإذا دعونا الإنسان بطول الدوام في العمل التجاري نقصد بكثرة الغلة لأن الدوام محدد من التاسعة إلى التاسعة لكن نقصد بكثرة الغلال والأرباح ، فالإنسان قد يعمل عملاً صالحاً مثلاً : النبي عليه الصلاة والسلام يقول : يا علي :
(( فَوَ اللَّهِ لَأَنْ يُهْدَى بِكَ رَجُلٌ وَاحِدٌ خَيْرٌ لَكَ مِنْ حُمْرِ النَّعَمِ ))
و :
(( خير له مما طلعت عليه الشمس ))
و :
(( خير لك من الدنيا وما فيها ))
هذا عمل عظيم .
بطولة الإنسان لا في مدة عمره بل في العمل الصالح الذي يحويه هذا العمر :
بعد قليل نتحدث عن الأعمال وقيمتها ، لكن العبرة أن العمر الزمني من دون عمل صالح تافه جداً ، حياة الإنسان لا معنى لها بل حياة رتيبة وهو رقم سهل جداً ، هو رقم من مليارات الأرقام التي لا تعني شيئاً ، وفي إنسان رقم صعب ، إنسان شيء مذكور ، إنسان كبير عند الله وعند الناس ، فالبطولة لا أن نفرح أن نعيش سنوات تزيد ، الإمام الشافعي عاش أقل من خمسين سنة ، النووي أقل من خمسين ، في علماء كبار عاشوا أقل من أربعين سنة وتركوا آثاراً لا تنتهي إلى يوم القيامة ، فالبطولة لا في مدة العمر بل في العمل الصالح الذي يحويه هذا العمر ، هذه النقطة الأولى ، فأي دعاء لبعضنا بعضاً بطول العمر المقصود منه الدعاء بعمل صالح ثمين جداً يغني هذا العمر ، هذا هو المعنى لكن في السنة الشريفة إشارة إلى أن طول العمر يعد عملاً طيباً :
(( يَا رَسُولَ اللَّهِ ، مَنْ خَيْرُ النَّاسِ ؟ قَالَ : مَنْ طَالَ عُمُرُهُ وَحَسُنَ عَمَلُهُ ))
بل حينما سئل في رواية أخرى أي الناس أفضل ؟ قال من طال عمره ، وحسن عمله .
لا خسارة مع الطاعة ولا ربح مع المعصية :
إنسان يعيش عمراً مديداً أنا أذكر أحد علماء دمشق وصل إلى الثامنة والتسعين وكان منتصب القامة ، وكان حاد البصر ، وكانت أسنانه في فمه ، وكان مرهف السمع وذاكرته قوية ، أخوانه وطلابه يعجبون أشد العجب منه كان إذا رأى شاباً يقول له أنت كنت تلميذي يا بني وكان أبوك تلميذي وكان جدك تلميذي ، سئل مرة عن هذه الصحة التي منحه الله إياها ؟ قال يا بني : حفظناها في لصغر فحفظها الله علينا في الكبر .
والله التقيت مع إنسان قال لي : أنا عمري ست وتسعون سنة ، والد صديقي في العيد فجلس معي وحدثني قال لي بالتعبير العامي قال : يا عم أنا عمري ست وتسعون سنة عملنا البارحة تحليل كامل دم وبول فلم يظهر شيئاً ، كله طبيعي ، ست وتسعون سنة ، علق على هذا قال والله بكل عمري ما أكلت قرشاً حراماً ولا أعرف حرام النساء .
(( يَا رَسُولَ اللَّهِ ، مَنْ خَيْرُ النَّاسِ ؟ قَالَ : مَنْ طَالَ عُمُرُهُ وَحَسُنَ عَمَلُهُ ))
بطولة الإنسان لا في شبابه بل في خريف عمره :
العوام لهم كلمة التقوى أقوى ، طاعة الله ، والبطولة أستاذ علاء لا في شباب الإنسان ، الشباب كله في حيوية ونشاط ، في خريف العمر فبين أن يرد الإنسان إلى أرذل العمر و بين أن ينحى جانباً ؟ يهمل ، يصاب بالخرف ، يعيد القصة مئة مرة ، يصبح حشرياً عبئاً على من حوله ، لا يحتمل ، تعليقاته لاذعة جداً ، وبين أن يكون الإنسان في أعلى درجة من الفهم والحيوية والذكاء والمحبة وهو في عمر مديد ، أنا أقول يتفاوت الناس لا في شبابهم بل في خريف عمرهم وبقدر طاعة الله في الشباب يكون خريف العمر .
والله مرة زرت عالماً في حلب والله كأنه ملك في مملكة ، بالستة والتسعين حوله أولاده حوله إخوانه مشرق الوجه طليق اللسان ذاكرته قوية ، شيء رائع جداً فبطولتنا لا في شبابنا بل في خريف عمرنا ، والإنسان خريف عمره يحدده كيف أمضى شبابه فإذا أمضى شبابه في طاعة الله متعه الله بصحته ، لذلك من الدعاء الدقيق جداً : ومتعنا الله بأسماعنا وأبصارنا وقوتنا ما أحييتنا واجعله الوارث منا .
الأستاذ علاء :
سيدي العمر لا يطول ولا يقصر وإنما يملأ بعمل غني يجعله عظيماً ، هل نستطيع التعبير أنه لا يزيد طول العمر وإنما يتسع مجاله عرضانياً بالعمل الصالح ؟
الدكتور راتب :
نعم ، في غناه بالعمل الصالح .
الأستاذ علاء :
يحضرني في هذا الموضوع من يدعو على أطفاله أو يدعو على نفسه بالموت .
من أدب الإنسان مع الله تعالى ألا يدعو على نفسه أو على غيره :
الدكتور راتب :
كلام فارغ ، لكن منهي عنه ، لا يجوز أن يدعو الإنسان على نفسه وأولاده وأهله ، يسأل الإنسان ربه العافية :
(( إن لم يكن بك غضب علي فلا أبالي ، ولك العتبى حتى ترضى ، لكن عافيتك أوسع لي ))
هذا أدب مع الله عز وجل .
الأستاذ علاء :
سيدي العمر لا يزيد ولا ينقص إنما هناك هدف ثابت ليسعى المتحرك إليه وهو الإنسان .
على كل إنسان أن يعيش عمراً مفعماً بالطاعات ليلقى الله و هو عنه راض :
الدكتور راتب :
كل مخلوق يموت ولا يبقَ إلا ذو العزة والجبروت .
والليل مهما طال فلا بد من طلوع الفجر
والعمر مهما طال فلا بد من نزول القبر
***
وكل ابن أنثى وإن طلت سلامته يوماً على آلة حدباء محمول
فإذا حمــلت إلى القبور جنازة فاعلم أنك بعدها مــحمول
***
هذا المعنى أشار النبي عليه الصلاة والسلام إليه حينما قال :
(( عش ما شئت فإنك ميت ، وأحبب من شئت فإنك مفارقه ، واعمل ما شئت فإنك مجزي به ))
فلذلك البطولة أن أعيش عمراً مفعماً بالطاعات حتى يكون اللقاء مع الله رائعاً .
الأستاذ علاء :
سيدي من هنا العطاء العمل الخير حتى يكون خيراً هل يحكم إيقاعه الزمن ؟ يجب أن يقترن بالزمن ؟
الزمن وعاء العمل :
الدكتور راتب :
طبعاً يعني الزمن وعاء العمل ، ما في عمل بلا زمن ، عفواً أي حدث له مكان وله زمان ، له مكان هو مسرح الحدث وله زمان مظلة الحدث ، وأي حدث يقع في الأرض له زمان وله مكان ، فالزمن وعاء العمل من دون زمن ما في عمل ، لذلك الزمن أصبح هو حقيقة الإنسان ، الإنسان بضعة أيام كلما انقضى يوم انقضى بضع منه .
ما من يوم ينشق فجره إلا وينادي : يا بن آدم أنا خلق جديد ، وعلى عملك شهيد ، فتزود مني ، فإني لا أعود إلى يوم القيامة .
أستاذ علاء في دعاء للنبي الكريم حينما يستيقظ :
(( الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي عَافَانِي فِي جَسَدِي ، وَرَدَّ عَلَيَّ رُوحِي ، وَأَذِنَ لِي بِذِكْرِهِ ))
سمح لي أن أعيش يوماً جديداً وكأنه كان في موت وأنا أعرف أناس كثيرين ناموا فلم يستيقظوا ، فالإنسان إذا فتح عينيه وصحا من نومه ووقف معنى سمح الله له أن يعيش يوماً جديداً :
(( الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي عَافَانِي فِي جَسَدِي ، وَرَدَّ عَلَيَّ رُوحِي ، وَأَذِنَ لِي بِذِكْرِهِ ))
(( وَلَوْ يَعْلَمُونَ مَا فِي الْعَتَمَةِ وَالصُّبْحِ لَأَتَوْهُمَا وَلَوْ حَبْوًا ))
آية بيننا وبين المنافقين شهود العشاء معاً والصبح لا يستطيعونه .
الأستاذ علاء :
سيدي هنالك عمل يقبل في زمن ولا يقبل خارج هذا الزمن .
إن لله عملاً بالليل لا يقبله في النهار وإن لله عملاً بالنهار لا يقبله في الليل :
الدكتور راتب :
العبادات شيء رائع جداً ، الصلاة لها وقت فإذا دخل وقتها نصلي ولا تقبل إلا في وقتها :
﴿ إِنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا (103)﴾
الصلاة مؤقتة بمواقيت محددة ، الصيام بشهر محدد ، الحج بأيام محددة ، في صدقة الفجر ، في أعمال ، إن لله عملاً بالليل لا يقبله في النهار ، وإن لله عملاً في النهار لا يقبله في الليل .
حينما جاء سفير عامل عمر بن الخطاب على أذربيجان وصل المدينة في الليل ، فكره أن يطرق باب أمير المؤمنين فتوجه إلى المسجد ، فسمع رجلاً يبكي ويصلي ويقول ربي هل قبلت توبتي فأهنئ نفسي أم رددتها فأعزيها ؟ ولعل القصة أن سيدنا عمر كان في ظاهر المدينة يتجول فرأى قافلة أراد أن يحرسها في الليل ؛ سمع بكاء طفل فنبه أمه فبكى ثانية نبه أمه فبكى ، فغضب كان عصبي المزاج قال أرضعيه ، قالت ما شأنك بنا ، من أنت ؟ إني أفطمه ، قال ولما ؟ قالت لأن عمر لا يعطي العطاء إلا بعد الفطام (التعويض العائلي)
تروي الروايات أنه ضرب جبهته وقال ويحك يا بن الخطاب كم قتلت من أطفال المسلمين ، وصلى الفجر في أصحابه لم يفهم أصحابه قراءته من شدة بكائه ، يبدو في هذه الليلة كان يناجي ربه ويقول : ربي هل قبلت توبتي فأهنئ نفسي أم رددتها فأعزيها ؟ سأله من أنت يرحمك الله بعد أن انتهى من صلاته ؟ قال أنا عمر ، قال يا أمير المؤمنين ألا تنام الليل ؟ قال : أنا إن نمت ليلي كله أضعت نفسي أمام ربي، وإن نمت نهاري أضعت رعيتي .
الأستاذ علاء :
فهم لا يوجد له وعاء ليستوعبه ، فهم كبير ، فهم سبق الزمان وسبق كل أصحاب النظريات في منتهى الدقة ، في منتهى التعبير ، كيف يكون التعامل مع الزمن في فعل الخير ؟ الآن سيدي الزمن وعاء العمل كما العقل وعاء الفكر ، عند أهل الفلاسفة عندما يقولون بأن العقل هو وعاء الفكر ، هنا الزمن وعاء العمل ، هو الذي يحتوي العمل لصالحه واستغلاله ، نبسط في هذه المسألة كيف يكون الزمن وعاءً للعمل ؟
العلاقة الوثيقة بين العمل و الزمن :
الدكتور راتب :
كيف أستطيع أن أعمل ؟ إما في النهار أو في الليل ، الآية الكريمة :
﴿ حَتَّى إِذَا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلًا أَوْ نَهَارًا فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (24)﴾
على قوم ليلاً وعلى قوم نهاراً :
﴿ وَاللّهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلاَمِ ﴾
العمل علاقته بالوقت علاقة مهمة جداً ، لا يوجد عمل بلا وقت ، والوقت وعاء إطار ، فالإنسان ما دام معه وقت في معه أمل كبير ، العمل مرتبط بالوقت والوقت يعطي الأمل ، فما دام في بقية في حياة الإنسان فالأمر سهل جداً أن نتلافى أخطاءه لذلك ، ما أنزل الله من دواء إلا أنزل له شفاءً ، ما علاقته بالموضوع قال إلا السام أي مرض الموت ، هذا المرض ليس له شفاء أنا أسميه بوابة الخروج .
العاقل من استغل كل ثانية في عمره :
لذلك :
﴿ وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ (133)﴾
صار العمل له علاقة بالوقت ، أنا إما أن أعمل ضمن إطار الوقت أو فاتني العمل وفاتني كل خير .
الأستاذ علاء :
كمن فاته أن يقدم امتحاناً في وقته فلا يستطيع أن يعود ، فات وقته .
الدكتور راتب :
لو أن طالباً ما درس ما قدم امتحاناً ، طلب من وزير التربية أن يعمل له استثناء شيء مضحك ، لذلك قال صاحب الحكم العطائية : رب عمر اتسعت آماده وقلّت أمداده ، عمر مديد بعمل تافه ، وربّ عمر قليلة آماده كثيرة أمداده ، ومن بورك له في عمره أدرك في يسير من الزمن من المِنن ما لا يدخل تحت دائرة العبارة ولا تلحقه ومضة الإشارة .
أحد العلماء جمعوا كتبه وقسموها على أيام حياته ، مؤلف في اليوم تسعين صفحة نحن لا نقدر أن نقرأها ، أحياناً الله عز وجل يضع البركة في العمر ، والبركة أنا مؤمن بها أشد الإيمان . البركة في العمر في اتساع عرضاني أما الأمد محدود .
الأستاذ علاء :
سيدي متى تستمر الحياة بعد الموت ، العمل الذي يمتد إلى ما بعد الموت كيف يكون هذا وقد انقطع عمر الإنسان عند الهدف الثابت ؟ الله جعل أجله في هذا اليوم وانتهى ، هل هناك استمرار للعمل ؟
العمل العظيم هو العمل الذي اتسعت رقعته فشملت أعداداً كبيرة من البشر :
الدكتور راتب :
نعم هناك أعمال تستمر بعد الموت ، بشكل مبسط جداً في إنسان ترك آثاراً طيبة جداً ، ولعلهم تركوا محاضرات وهذه تلقى في كل الإذاعات بعد موتهم ، وهناك من تركوا أشياء أخرى تلقى بعد موتهم ، فكلاهما يدفع ثمن ما بعد الموت ، لكن قبل أن نصل إلى هذا الموضوع الدقيق ، العمل يوزن ، يوزن أحياناً باتساع رقعته ، إنسان عمله معلق بأسرته فقط جيد لكن في إنسان بعائلته الكبيرة ، في إنسان بمدينته ، في إنسان ببلدته ، في إنسان بمجتمعه ، فكلما اتسعت رقعة العمل كان العمل عظيماً ، أنت تذهب إلى الصين ترى في إسلام ، تذهب إلى شمال إفريقيا ، إلى أوربا ، أمريكا ، هذا الإنسان الذي عاش ثلاث وعشرين سنة في الدعوة وانتقل إلى رحمة الله ما الآثار التي تركها النبي عليه الصلاة والسلام ؟ فكلما اتسعت رقعة العمل فشملت أعداداً كبيرة من البشر حتى دخلت فيه الأمم والشعوب كان العمل أعظم ، وكلما امتد أمد العمل حتى توارثته الأجيال عن الأجيال كان العمل عظيم .
الأستاذ علاء :
الرقعة الجغرافية ، ثم البعد الزمني .
من مقاييس قيمة العمل أن يكون واسع الرقعة ممتد الأمد عميق الأثر :
الدكتور راتب :
الآن كلما تغلغل في أعماق النفس ، مثلاً شخص أودع عند إنسان عشرين مليون قصة جاءتني على ورق ، هذا الإنسان يبدو أنه بخيل أعطى المبلغ لصديقه كي يشغله بالتجارة ومات بحادث ، ما في إيصال وما في أي إثبات من تلقاء نفسه توجه إلى الورثة وقدم لهم المبلغ ، لو ما كان إيمانه عميقاً جداً لا أحد يسأله إطلاقاً ، ليس مداناً في الأرض لكنه يخاف الواحد الديان .
سيدنا ابن عمر : بعني هذه الشاة وخذ ثمنها ؟ قال له الراعي : ليست لي ، قال : قل لصاحبها : ماتت ، أو أكلها الذئب ، يقول الراعي : ليست لي ، يقول له : خذ ثمنها ، يقول له الراعي : والله إنني لفي أشد الحاجة إلى ثمنها ، ولو قلت لصاحبها : ماتت ، أو أكلها الذئب لصدقني ، فإني عنده صادق أمين ، ولكن أين الله ؟
لا يكفي أن يكون الإسلام ظاهرياً ، يوجد إسلام عميق جداً ، حينما يكون العمل واسع الرقعة ممتد الأمد عميق الأثر يكون عملاً عظيماً من هنا ، هذه بعض مقاييس قيمة العمل ، لذلك النبي عليه الصلاة والسلام كل أمته من بعده في صحيفته :
﴿إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً (120)﴾
في قلوب الأمة بأكملها هذه اتساع الرقعة وامتداد الأثر وعمق التأثير .
الأستاذ علاء :
سيدي أن يستمر العمل لما بعد الموت .
على كل إنسان أما أن يؤلف الكتب أو يؤلف القلوب :
الدكتور راتب :
في أعمال تنتهي بانتهائها ، أطعمت إنساناً فشبع بعد أربع ساعات جاع مرة ثانية الإطعام انتهى ، كسوته ثوباً بعد حين بلي الثوب ، في أعمال تنتهي بوقت محدد ، لكن لو شخص ترك مؤلفاً عظيماً وطبع مئات الطبعات بعد وفاته ، مرة ألقيت خطبة استعنت بتفسير للإمام القرطبي ترك أثراً بليغاً جداً ، فأنا سبحان الله تأثرت تأثراً بالغاً ، هذا الإنسان مات قبل ألف سنة ، وأنا استعنت بكتابه لإلقاء خطبة تركت أثراً بالناس كبيراًَ ، معنى هذا أن أثره استمر ألف سنة .
لذلك إما أن تؤلف الكتب وإما أن تؤلف القلوب ، تأليف القلوب أعمق أثراً وأقصر أمداً ، بينما تأليف الكتب أقل أثراً وأطول أمدا ً، في علماء كبار من هم لولا كتبهم ؟ هم في حياتهم كان لهم أتباع لكن هؤلاء انقضوا ، الأتباع تنتهي هذه التبعية بموتهم ، أما كتبهم جعلت لهم أثراً خالداً ، إذاً الإنسان :
(( إِذَا مَاتَ الْإِنْسَانُ انْقَطَعَ عَنْهُ عَمَلُهُ))
القرب من الله لا يكون إلا بالصدقة الجارية أو علم ينتفع به أو ولد صالح :
في تعليق لطيف جداً : الويل ثم الويل ثم الويل لمن ليس له عمل ينقطع ، هذا الذي له عمل ينقطع عند الموت ، أما الويل لمن ليس له عمل ، عاش على أنقاض الناس ، بنى مجده على أنقاض الناس ، بنى غناه على إفقار الناس ، كما نرى فيما يجري في العالم ، بنى أمنه على إخافة الناس ، بنى عزه على إذلال الناس
هؤلاء الذين يفعلون هذا ليس لهم عمل ينقطع لهم جرائم تنقطع لذلك النبي عليه الصلاة والسلام : مُرَّ عَلَيْهِ بِجِنَازَةٍ فَقَالَ :
(( مُسْتَرِيحٌ وَمُسْتَرَاحٌ مِنْهُ ، قَالُوا : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، مَا الْمُسْتَرِيحُ وَالْمُسْتَرَاحُ مِنْهُ ؟ قَالَ : الْعَبْدُ الْمُؤْمِنُ يَسْتَرِيحُ مِنْ نَصَبِ الدُّنْيَا وَأَذَاهَا إِلَى رَحْمَةِ اللَّهِ ، وَالْعَبْدُ الْفَاجِرُ يَسْتَرِيحُ مِنْهُ الْعِبَادُ وَالْبِلَادُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ ))
الطغاة الذين يكيلون للشعوب يدمرون الشعوب ينهبون الثروات ، وَالْعَبْدُ الْفَاجِرُ يَسْتَرِيحُ مِنْهُ الْعِبَادُ وَالْبِلَادُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ .
هذا الذي هدم سبعين ألف بيت في غزة ولم يمت حتى الآن ، يَسْتَرِيحُ مِنْهُ الْعِبَادُ وَالْبِلَادُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ .
الويل لمن ليس له عمل ينقطع ،
(( إِذَا مَاتَ الْإِنْسَانُ انْقَطَعَ عَنْهُ عَمَلُهُ إِلَّا مِنْ ثَلَاثَةٍ : إِلَّا مِنْ صَدَقَةٍ جَارِيَةٍ ، أَوْ عِلْمٍ يُنْتَفَعُ بِهِ ، أَوْ وَلَدٍ صَالِحٍ يَدْعُو لَهُ ))
صَدَقَةٍ جَارِيَةٍ ، أسس ميتماً ، أسس مستشفى ، أسس مدرسة ، ترك شيئاً ثميناً جداً ، ألّف كتباً ، عمل مدرسة حضارية تخرج الأجيال ، أسس جامعة مثلاً ، هذه الأعمال كلها حضارية يموت صاحبها والعمل مستمر هذا الذي يستمر بعد موته ، أَوْ عِلْمٍ يُنْتَفَعُ بِهِ ، ترك علوماً ومجلدات وأبحاثاً وانتفع الناس بها من بعده ، أَوْ وَلَدٍ صَالِحٍ يَدْعُو لَهُ .
الإنسان يسلم بالاستقامة لكن لا يسعد إلا بالبذل و العطاء :
مفطور على حب وجوده ، وعلى حب سلامة وجوده ، وعلى حب كمال وجوده ، وعلى حب استمرار وجوده ، حب سلامة الوجود يكون بطاعة الله وطاعة الله عز وجل سلبية يقول لك أنا ما أكذب ، ما ، ما أغتاب ، ما غش ، أنت بالاستقامة تحقق السلامة ، سلامة وجودك أساسها الاستقامة ، أما كمال الوجود بالبذل بالعطاء ، ماذا قدمت من مالك ؟ ماذا قدمت من علمك ؟ ماذا قدمت من خبرتك ؟ ماذا قدمت من جهدك ؟ أنت بالاستقامة تسلم ولكن لا تسعد إلا بالبذل والعطاء لذلك قال تعالى :
﴿ فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا (110)﴾
ثلاثة وأما استمرار الوجود بتربية الأولاد ، أنت إذا ربيت ابنك على قيم فاضلة وعلم غزير وأخلاق عالية وتوفي الإنسان ابنه من بعده ، لذلك من يريد أن يستمر وجوده فليربِ أولاده :
(( إِذَا مَاتَ الْإِنْسَانُ انْقَطَعَ عَنْهُ عَمَلُهُ إِلَّا مِنْ ثَلَاثَةٍ : إِلَّا مِنْ صَدَقَةٍ جَارِيَةٍ ، أَوْ عِلْمٍ يُنْتَفَعُ بِهِ ، أَوْ وَلَدٍ صَالِحٍ يَدْعُو لَهُ ))
بطولة الإنسان أن تستمر أعماله بعد موته :
في حديث فيه تفصيلات لطيفة ، إن مما يلحق المؤمن من عمله وحسناته بعد موته ، علم علمه أو ولد صالح تركه أو مصحف ورثه أو مسجد بناه أو بيت لابن السبيل أو نهر أجراه أو صدقة أخرجها من ماله في صحته وحياته
الأستاذ علاء :
نعيد الحديث سيدي .
الدكتور راتب :
(( إن مما يلحق المؤمن من عمله وحسناته بعد موته علماً علمه ونشره ، أو ولداً صالحاً تركه ، أو مسجداً بناه ، أو بيتاً لابن السبيل بناه ، أو نهراً كراه ، أو صدقة أخرجها من ماله في صحته وحياته ، تلحقه من بعد موته ))
والبطولة بهذه الأعمال التي تبقى بعد موت الإنسان .
الأستاذ علاء :
ومن هنا تستمر الحياة بعد الموت .
كمال الإنسان لا يكون إلا بالعمل الصالح :
الدكتور راتب :
الإنسان يحب وجوده ، وسلامة وجوده بالاستقامة ، وكمال وجوده بالعمل الصالح ، واستمرار وجوده بصدقة جارية تستمر بعده .
الأستاذ علاء :
لذلك بهذا الفهم الدقيق للوقت والزمن ، وكيف نتعامل مع الوقت والزمن ؟ وكيف نفهم خصائص الوقت والزمن بالسرعة وعدم العودة وبآفات الزمن بالتسويف ، وأننا سوف نعمل هذا العمل غداً ، وكيف نخطط للزمن ونستثمر الزمن استثماراً إيمانياً عقلياً لكي نفوز ونسعد بهذا الفهم ؟ وبما تقدمه لنا إن شاء الله في الحلقات القادمة .
الدكتور راتب :
سوف نتحدث عن إدارة الوقت .
خاتمة وتوديع :
الأستاذ علاء :
وهو من أهم القضايا ، تتمايز الأمم والشعوب بإدارة الوقت وبفهم إدارة الوقت ، وإذا أدرنا الوقت إدارة حقيقية أدرنا مواردنا إدارة حقيقية ، وكان عيشنا على الأرض يحمل المعنى السامي ويحمل ما فيه كل القرب من الله عز وجل .
لا يسعني في نهاية هذه الحلقة إلا أن أشكر فضيلة الأستاذ الدكتور محمد راتب النابلسي أستاذ الإعجاز العلمي في القرآن الكريم والسنة على كل ما قدم وشرح ، وإن شاء الله نتمم موضوعنا في حلقات قادمة .