- ندوات تلفزيونية
- /
- ٠31برنامج الإيمان هو الخلق - قناة سوريا الفضائية
تقديم وترحيب :
الأستاذ علاء :
أيها السادة المشاهدون ، سلام الله عليكم ورحمته وبركاته ، وأهلاً ومرحباً بكم في هذه الحلقة الجديدة من برنامجكم الإيمان هو الخلق .
كنا قد تعرضنا في حلقات سابقة إلى مقوم من مقومات التكليف ، وهو الاختيار ، وبحثنا مع فضيلة الأستاذ الدكتور محمد راتب النابلسي ، أستاذ الإعجاز العلمي في القرآن والسنة في كليات الشريعة وأصول الدين في دمشق جوانب هذا الاختيار .
أهلاً وسهلاً سيدي الكريم .
بكم أستاذ علاء ، جزاكم الله خيراً .
الأستاذ علاء :
في الاختيار كما مر معنا ، وهو مقوم من مقومات التكليف ، ويأتي بعد الكون والعقل والفطرة والشهوة ، تبين أن التكريم جاء لتثمين العمل ، وأن الاختيار هو تكريم ، وفي التكريم في معنى الاختيار ، تثمين للعمل ، وأن الله عز وجل لو شاء لجعلنا نقوم بعبادته وبطاعته قصراً ، ومنع عنا الاختيار في طريق المعصية ، وجاءنا إلى جادة الصواب قصراً ، ولكن كما قلت في حلقات سابقة : لا يثمن العمل بالقصر .
الدكتور راتب :
نعم . وََلَو شََاءَ ربُّك لهَدَى النَّاس جمِيعاً
الأستاذ علاء :
إذاً : الاختيار معنا مفتوح ، ورائع ، ومعنى يعطي للإنسان قيمته ، ولقد كرمنا بني آدم ، ويعطي حقيقة هذا التكريم في أنه حر الاختيار فيما كلفه به ، ولذلك جاء هذا الاختيار ليثمن العمل .
وقفنا سيدي الكريم في مسألة مفهوم المغفرة والعذاب ، ووقفنا عند الآية الكريمة الجامعة :
﴿ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ﴾
وقفنا عند هذه المعاني ، بدأنا بتلمس بعض المعاني من هذه الآية ، هل لنا أن نكمل في هذا المفهوم مفهوم المغفرة ، الثواب ، العقاب .
الدكتور راتب :
مفهوم المغفرة والثواب والعقاب :
بسم الله الرحمن الرحيم ، الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين .
1 ـ الإنسان مخيَّرٌ :
أستاذ علاء ، جزاك الله خيراً ، نحن في حلقة سابقة أكدنا أن الإنسان مخير ، وهو مخير ليثمِّن عمله .
2 ـ لابد من المعالجة الربانية :
وأن الله رب العالمين تقتضي ربوبيته ، وتقتضي رحمته أن يتابع الإنسان ، فلو اختار اختياراً سيئاً يفضي به إلى الشقاء لعالجه قبل أن يموت ، فالمعالجة واضحة في هذه الآية :
﴿ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ ﴾
ملكية الله ملكية مطلقة ، ملكاً حقيقياً ، وتصرفاً ، ومصيراً ، وكل ما في السماوات والأرض ، أي الكون وهو ما سوى الله ملكٌ له ، الآن الأمراض جسمية ونفسية ، الجسمية مهما تكن عضالة تنتهي عند الموت ، ونفسية تبدأ بعد الموت ، وقد تكون سبباً لشقاء الإنسان الأبدي ، فلذلك الله عز وجل يعالجنا في الدنيا ، لذلك كل ما نرى من مصائب هي تنطلق من جوهر واحد ، قال تعالى :
﴿ وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذَابِ الْأَدْنَى دُونَ الْعَذَابِ الْأَكْبَرِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ ﴾
﴿ ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ ﴾
3 ـ الرجوع إلى الله طوعًا :
الهدف الكبير أن يرجع الإنسان إلى ربه ، لأن سعادته وأمنه ومستقبله عند الله ، والشاردون عن الله عز وجل في نهاية المطاف لا بد من أن يرجعوا إليه ، وأنا أقول كلمة قالها هارون الرشيد ، وقد نظر إلى سحابة ، قال : " اذهبي أينما شئت ، فإنه يأتيني خراجك " ، أنا أقيس عليها أيها الشارد عن الله اذهب أينما شئت ، في النهاية لا بد من أن تعود إلى الدين ، لأنه مصيرك ، ولأن الأبد متعلق بالدين ، وما بعد الموت متعلق بالدين ، وأن الموت أكبر مصيبة عند أهل الدنيا ، لأن كل شيء ينتهي بالموت ، تنتهي القوة والضعف ، والغنى والفقر ، والوسامة والدمامة ، والمرض والصحة ، الموت يسوي بين الناس جميعاً ، وليست المشكلة في الموت ، بل في ما بعد الموت ، ما بعد الموت من عذاب أبدي ، أو سعادة أبدية ، فلذلك ربنا عز وجل رحمن رحيم ، رحمن في الدنيا والآخرة ، وتقتضي رحمته ألا يرد بأسه عن القوم المجرمين .
أستاذ علاء ، صدق لو دخلت مسجدا ، ورأيت فيه عشرة آلاف ، أنا أؤكد ، ولا أبالغ أن تسعة آلاف منهم جاءوا إلى المسجد ، واصطلحوا مع الله عقب معالجة لطيفة من الله ، شبح مرض ، شبح مصيبة ، عدو قوي ، لذلك أحياناً المصائب تسوقنا إلى باب الله ، فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ :
(( عَجِبَ اللَّهُ مِنْ قَوْمٍ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ فِي السَّلَاسِلِ ))
الأولى أن تأتي طائعاً ، هذا الأكمل والأوجه ، أنا أقول كلمة : إمّا أن تأتي ركضًا أو يحضرك ركضًا .
الأستاذ علاء :
الذي لا يأتي بشراب الرمان يأتي بقضبانه .
الدكتور راتب :
هنا الآية :
﴿ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ ﴾
هناك أمراض نفسية ، الأمراض الجسمية تنتهي عند الموت ، لكن الأمراض النفسية تبدأ بعد الموت .
الأستاذ علاء :
تسمح لي سيدي أن نشرح للإخوة المشاهدين أنه قد يظن بأنك عندما تقول : أمراض نفسية ، أن مثلاً قد يصاب الإنسان بمرض نفسي ، مثل انفصام الشخصية .
الدكتور راتب :
معنى الأمراض النفسية :
وتنتهي عند الموت ، عيوب النفس ، النفس المستكبرة ، النفس الجاحدة ، النفس المتغطرسة ، النفس التي تبني مجدها على أنقاض الآخرين ، التي تبني أمنها على إخافتهم ، كما يفعل الطغاة في العالم الغربي ، النفس التي تبني مجدها على تهديم أمجاد الآخرين ، تبني ثقافتها على إلغاء ثقافة الآخرين ، تبني مصالحها على إلغاء مصالح الآخرين ، هذا هو العدوان ، أنا أقصد أمراض النفس ، وأمام الناس إنسان كبير وعظيم ، ولا يحتاج إلى معالجة نفسية ، لكنه من أشد الناس مرضاً .
صدق أستاذ علاء أنني أعتقد أن أغبى البشر قاطبة الطغاة ، لأنهم ما أدخلوا الله في حساباتهم ، قال تعالى :
﴿ وَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصَارُ ﴾
شيء مخيف :
﴿وَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ ﴾
هناك من يتوهم أن الله غافل ، يقول لك : أين الله ؟ يفعلون ما يريدون ، يهدمون البيوت ، يقتلون الأبرياء ، يقتلون النساء والأطفال ، ويقولون : صدر إطلاق رصاص من هذا البيت ، قتلوا مئة طفل ، الإعلام بيدهم ، والقوة بيدهم ، والناس مقهورون ، هؤلاء أغبى خلق الله قاطبة ، لأنهم ما أدخلوا الله في حساباتهم ، قال تعالى :
﴿ لَا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلَادِ *مَتَاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ ﴾
ألم يقل فرعون :
﴿ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى ﴾
﴿ مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي ﴾
ألم يقل حينما أدركه الغرق :
﴿ آمَنْتُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ *آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ ﴾
خيارك مع الإيمان خيارُ وقتٍ فقط :
أستاذ علاء ، هناك فكرة دقيقة جداً ، أنت خيارك مع مليون قضية خيار قبول أو رفض ، بيت ما أعجبك فرفضت شراءه ، وظيفة دخلها قليل ودوامها كثير ، سفرة الهدف غير نبيل تركتها ، إلا خيارك مع الإيمان خيار وقت ، فإما أن تؤمن في الوقت المناسب فتنتفع بإيمانك ، وإما أن تؤمن بعد فوات الأوان كما آمن فرعون .
الأستاذ علاء :
لذلك قال له :
﴿ أَالْآنَ ﴾
وهذه الكلمة تتعلق بالوقت .
الدكتور راتب :
وهو خيار وقت ، لذلك أنا أقول : الحقائق التي جاء بها الأنبياء الستة آلاف مليون على سطح الأرض يكشفونها عند الموت ، قال تعالى :
﴿ فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ ﴾
﴿ يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي ﴾
﴿ وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ فَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيَهْ * وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيَهْ * يَا لَيْتَهَا كَانَتِ الْقَاضِيَةَ * مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ * هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ * خُذُوهُ فَغُلُّوهُ * ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ * ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعاً فَاسْلُكُوهُ * إِنّهُ كَانَ لَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ الْعَظِيمِ ﴾
لذلك القضية خيار الإيمان خيار وقت فقط .
كل إنسان يكشف الحقيقة عند الموت :
مرة ثانية ، الستة آلاف مليون إنسان على سطح الأرض عند الموت سوف يكتشفون الحقيقة العظمى التي جاء بها الأنبياء .
هناك حالات نادرة جداً لإنسان غاب عن الوعي ، أو مات سبع دقائق ، ثم نبض قلبه ، فكتب ماذا رأى ، وكتب شيء لا يصدق .
وهناك إنسان في العالم الغربي ، وهو عالَم شرد عن الله أيقن أن هناك جنة ونارًا ، وحسابًا ، والعمل الصالح هو كل شيء ، هذا الطبيب عنده رغبة جامحة أن يتابع هذه الحوادث ، طاف القارات الخمس ، وجمع سبعين حالة ، وألّف كتاب " الحياة بعد الموت " ، الشيء الذي لا يصدق أن كل هذه الحالات متشابهة ، بوذي ، وثني ، مؤمن ، كافر ، مسلم ، غير مسلم ، فاسق ، غني ، فقير ، الأقوال متشابهة ، كتاب باللغة الإنكليزية ، وله ترجمة إلى اللغة العربية ، والآن لا أدري أين مصيره ؟
لكن رجلا قبل أن يموت جمع أولاده ، وأوصاهم ، عنده مكتبة ضخمة جداً من الأرض إلى السقف ، أربعة جدران ، قبل أن يموت قال : إياكم أن تعيروا كتابا من هذه الكتب ، لأنها كلها كتب معارة ، أنا أعرته إلى إنسان ، ولا أدري مَن هو الإنسان ، وكل كتابٍ نادرٌ جداً ، الستة آلاف مليون إنسان على وجه الأرض عند الموت كما قال فرعون سوف تكشف لهم الحقيقة التي جاء بها الأنبياء ، والأنبياء جميعاً جاءوا بحقيقة واحدة ، والدليل :
﴿ وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ ﴾
فلذلك الإنسان عند الموت يكتشف الحقيقة الآن ، قال تعالى :
﴿ وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ ﴾
هذا هو واقع الأقوياء الطغاة :
تفضلت ، ونوهت تنويها رائعا جداً ، أنا لا أقصد الأمراض العصبية ، هذه تنتهي عند الموت ، أقصد أمراض الكِبر ، الاستعلاء ، العنصرية ، هذا أكبر مرض ، أنا يحق لي أن أمتلك سلاحا نوويا ، ولا يحق هذا للآخرين ، مَن أنت ؟ مَن قال هذه الكلمة ؟ مَن أعطاك هذا الحق ؟ أنا ممكن أن أقتل ستمئة ألف في العراق ، طبعاً يحاسب مَن قتل .
أن تكيل بمكيالين ، هذه العنصرية ، لبنان بأكمله هدم من أجل أسيرين ، ولا يحاسبه أحد ، ولا أحد يستنكر هذه المشكلة ، فلذلك مشكلة الإنسان في الدنيا إذا طغى وبغى ، ونسي المبتدى والمنتهى ، وقع في شر عمله ، وهو أغبى الأغبياء .
أستاذ علاء ، الله عز وجل حينما يرينا من آياته نعرف معرفة يقينية أن هناك حسابًا ، أنا أقول ثلاث كلمات إذا آمنا بها لا يمكن أن نعصي الله .
مرة دعي الني الكريم إلى أن يمثل ببعض أعداءه ، وقد مثلوا بعمه حمزة ، ماذا قال ؟
(( لا أمثل بهم فيمثل الله بي ، ولو كنت نبياً ))
فإيمان القوي بالفطرة ، أستاذ علاء ، حينما فتحت القدس من قبل الفرنجة ذبحوا في يومين سبعين ألفا ، ولكن لمّا فتحت من قبل القائد المؤمن صلاح الدين لم يرق قطرة دم واحدة ، هذا هو الإيمان ، لذلك ما عرف التاريخ فاتحاً أرحم من العرب المسلمين ، هنا أستاذ علاء :
﴿ وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ ﴾
أنت سواء أعلنت عن الكبر والحسد ، والغطرسة والعنجهية ، والكيل بمكيالين والعنصرية ، والطغيان ، وأن هؤلاء ضعاف ، وأن معي الإعلام ، ومعي القوة والدولارات ، ومعي القوى والأسلحة الفتاكة ، وأقول ما أشاء ، وأنا أعطي أوامر للدول الأخرى .
مرة قال وزير الخارجية : نحن سياستنا الخارجية كالداخلية تماماً ، دول السياسة الداخلية أوامر للوزراء ، أما الخارجية فمحاورة واتفاقيات ، أما الطغاة فيعطون أوامر للدول الأخرى وإملاءات فقط .
الأستاذ علاء :
ويتحول مجلس الكونجرس والنواب إلى أمم متحدة فهو إلى مجلس أمن يحكم الكرة الأرضية .
الدكتور راتب :
هناك قول قديم ، أنه : أسلمْ تسلَمْ ، فالآن أمرك تسلم :
﴿ وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ ﴾
الآن أنت أمام خيارين ، خيار سلمي وخيار علاجي ، العلاج مؤلم ، والعملية الجراحية مؤلمة ، وعدم التخدير مؤلم ، وبعد انتهائه ألم ، فإذا اختار الإنسان الطريق الأول يتوب إلى الله ، يصطلح معه ، يقبل عليه ، يطبق أمره ، يقيم الإسلام في بيته ، في عمله ، في بيته ، وأولاده ، يتقي ربه ، يؤدي الصلوات الخمس ، يذكر الله ، يتلو القرآن ، يقدم من ماله للفقراء والمساكين ، يبني مجده على العطاء لا على الأخذ ، اصطلح مع الله ، الآن يعالجه معالجة نفسية ، وتزال من نفسه كل هذه الأمراض والأدران ، فيغدو كبره تواضعاً ، وبخله كرماً ، وغضبه حلماً ، هذا معنى قوله تعالى :
﴿ فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ ﴾
أنا أقول للإخوة المشاهدين ، إياكم أن تفهموا هذه الآية كما يفهمها بعضهم ، أَكْثِر من السيئات ، لأنها سوف تبدل حسنات ، هذا معنى مرفوض كلياً ، لكن المعنى أن الغضب صار حلما ، والقسوة أصبحت رحمة ، والبخل أصبح كرما ، والجحود أصبح إنصافا .
طريق المعالجة الإلهية :
حينما يصطلح الإنسان مع الله تتبدل أخلاقه ، والحقيقة الفرق الكبير بين مؤمن وغير مؤمن ، ليس أن المؤمن يصلي ، الفرق جوهري ، الفرق بأخلاقه ، بمعاملته ، بحلمه ، بطهارته ، بعفته ، بورعه ، بدقته ، فلذلك يغفر لمن يشاء ، إذا ركب إنسان رأسه ، وبقي على شهواته ، وبقي على أمراضه ، وتقتضي رحمة الله أن يسوق له بعض الشدائد ليحمله على التوبة ، ويعذب من يشاء ، فالخيار بيده ، والله عز وجل له في سياسته مع خلقه ـ إن صح التعبير ـ أربع حالات ، والحالات متصاعدة .
1 ـ الهدى البياني :
أنت جالس تسمع ندوة ، تسمع خطبة في الجامع ، تسمع شريطا ، تقرأ كتابا ، هناك حق ، وسبب وجودك ، وغاية وجودك ، ونهي عن المعاصي ، ودفع إلى الطاعات ، هذا الهدى البياني ، وأنت صحيح معافى في جسمك وأولادك ، وفي بيتك ما عندك مشكلة ، جاءك الحق برسالة لطيفة من الله عز وجل ، أسمعك الله ندوة كهذه الندوة إن شاء الله ، نرجو أن تكون خالصة لوجه الله ، أو سمعت خطبة من خطيب آتاه الله قلبا ولسانا ، فصيحا وعلما غزيرا ، وإيمانا عميقا ، أو قرأت كتابًا ترك أثرا كبيرا في المجتمع ، أو سمعت شريطًا ، هذا الهدى البياني ، وأكمل موقف في الهدى البياني أن تستجيب لله ، قال تعالى :
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ ﴾
دعوة الله إلى الحياة الحقيقية ، إلى الحياة التي تليق بالإنسان ، إلى الحياة التي تليق بهذا المخلوق الأول ، إلى حياة القلب ، إلى حياة العمل الصالح ، إلى حياة الاتصال بالله ، إلى حياة الطهر ، إلى حياة العفاف ، إلى حياة العفة ، إلى حياة الإنصاف ، إلى حياة مكارم الأخلاق ، الإيمان هو الخلق ، فمن زاد عليك في الخلق زاد عليك في الإيمان ، قال تعالى :
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ ﴾
الأستاذ علاء :
( إذا ) هنا بمعنى عند .
الدكتور راتب :
مرة سمع شاب من شيخه أن لكل سيئة عقاباً ، فزلّت قدمه ، وبدأ ينتظر من الله العقاب ، مضى أسبوع وأسبوعان وثلاثة ، لا شيء في بيته ، وزوجته ، وأولاده ، هو ينتظر كما قال الشيخ ، وهي قصة من أصحاب أهل القلوب ، قال : في أثناء مناجاته لله قال : يا رب ، لقد عصيتك فلم تعاقبني ، قال : فوقع في قلبه : أن يا عبدي ، عاقبتك ، ولم تدرِ ، ألم أحرمك لذة مناجاتي ؟
إذا كان للإنسان اتصال بالله يشعر أنه أسعد الناس ، وقد تكون حياته خشنة جداً ، وقد يكون في الدرجة الدنيا من السلم الاجتماعي ، وقد يكون فقيرا ، وقد يكون حاجب أحياناً .
والله مرة كنت في مؤتمر إسلامي في المغرب في أفخر فندق ، ونحن عشية المؤتمر جاءت وفود الدول الإسلامية كلها ، وأنا كنت مندوب سورية ، والله في صلاة الفجر استمعت إلى قراءة قرآن أبكتني ، أطللت من النافذة فإذا عامل الحدائق يصلي الفجر في وقته ، وبصوت شجي ، وبقلب حي ، والله خطر في بالي ـ سامحني بهذا الخاطر ـ لعله عند الله أقرب من كل هؤلاء المؤتمرين ، هناك مقاييس عند الله نحن لا نعرفها ، فعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :
(( كَمْ مِنْ أَشْعَثَ أَغْبَرَ ذِي طِمْرَيْنِ لَا يُؤْبَهُ لَهُ ، لَوْ أَقْسَمَ عَلَى اللَّهِ لَأَبَرَّهُ ))
يدعوك إلى الحياة ، حياة القلب .
إبراهيم بن الأدهم كان ملكًا ، أنا لا أصدق غيره ، لو ما ذاق أحدُهم الموتَ لا يعرفه ، كان ملكا ترك المُلك ، واتجه إلى الله ، وقال : " لو يعلم الملوك ما نحن عليه لقاتلونا عليها بالسيوف " .
والله في قلب المؤمن من السعادة ، من الطمأنينة ، من الأمن ما لو وزع على أهل بلد لكفاهم .
2 ـ التأديب التربوي :
هذه مرحلة أولى ، ما استجاب بالهدى البياني ، الآن يخضع إلى معالجة أصعب ، وهي التأديب التربوي ، يسوق له بعض الشدائد ، إما في صحته ، أو أهله ، أو أولاده ، أو في عمله ، أو شبح مرض عضال ، خطط كان في التخطيط آفة قلبية ، أجرى فحصًا فرأى كتلة متورمة ، وكان الورم خبيثا فانهارت معنوياته ، هذه كلها حِكم ، ساق الله له من الشدائد ما يدفعه إلى التوبة ، هذا التأديب التربوي ، وأكمل موقف في التأديب التربوي أن تتوب إلى الله .
أول مرحلة الهدى البياني ، المرحلة الثانية التأديب التربوي .
3 ـ الإكرام الاستدراجي :
المرحلة الثالثة النجاح فيها صعب ، في المرحلة الثانية نسب الناجحين فيها في المئة تسعون ، أما المرحلة الثالثة فالناجون في المئة عشرة ، الإكرام الاستدراجي أنْ تأتيه الدنيا ، أموال لا تعد ولا تحصى ، مكانة ، جمال ، وسامة ، سيطرة ، عنجهية ، غطرسة ، يفتخر بنفسه ، الحديث كله عن ذاته ، الأضواء كلها مسلطة عليه ، يضحك ملءَ فمه ، يذهب إلى أهله يتمطى ، قال تعالى :
﴿ أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى ﴾
هذا الإنسان ترقص الدنيا له ، يعجبه من النساء ما يعجبه ، بالحلال أو بالحرام ، كيفما كان ، لا يدقق ، يجمع الأموال من حرام ، لا يدقق ، هو الآن راجت أسهمه ، ولمع نجمه ، وعلا سيطه ، هذا إكرام استدراجي ، والعياذ بالله ، إذا رأيت الله يتابع نعمه عليك ، وأنت تعصيه فاحذره ، هناك ضربة ساطور ، ضربة قاتلة ، إن بطش ربك لشديد .
أستاذ علاء ، دقق في هذه الآية :
﴿ فَلَمَّا نَسُوا ﴾
هذه الآية تفسر تناقضا عجيبا يعاينه المؤمنون .
﴿ فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ ﴾
أبواب ، وكل شيء ، البلاد الخضراء ، والإعلام والمليارات ، والأموال بين أيديهم ، لوحة زيتية كهذا الكومبيوتر ثمنها ثمانية وخمسون مليون دولار ، الذي يشتري لوحة زيتية بثمانية وخمسين مليون دولار ، مركبة الفضاء ( أبولو )ثمنها أربعة وعشرون مليارًا ، كلفتها لأهداف لا تقدم ولا تؤخر في أهل الأرض ، والله لو أنفق معشار ما ينفق على الترف في العالم الغربي لكان العالم كله كتلة واحدة محبة للأغنياء ، أما هذه الأموال أربعمئة مليار على حرب العراق مثلاً ، لذلك قضية الطغيان ، تمتلئ الأرض ظلماً وجوراً ، فيأتي أخي عيسى فيملأها قسطاً وعدلاً ، قال تعالى :
﴿ فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ ﴾
الشذوذ ، الزنا ، اللواط ، السحاق ، المخدرات ، نوادي العراة ، شعوب شردت عن الله فشقيت ، الجريمة ، المخدرات ، تفكك الأسرة .
والله مرة كنت في أستراليا ، وفي أثناء الوداع قال لي رئيس الجالية الإسلامية هناك : قل لإخوتنا في الشام : إن مزابل الشام خير من جنات أستراليا ، أستراليا جنة على وجه الأرض ، أستاذ علاء ، فلما سألته : ما السبب ؟ قال : لأن ابنك قد تراه بحلقة في أذنه بالمئة خمسون ، ومعناها سيئ جداً ، وباليسار أسوء ، وبالاثنتين أسوء وأسوء ، نحن نعاني ما نعاني ، لكن الأسرة منضبطة عندنا إلى حد كبير ، والحمد لله ، وزوجتك وأولادك ، لذلك أنا أقول هذه الآية :
﴿ فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ ﴾
الأستاذ علاء :
شبهت هذه المسألة سيدي بمن عاينه الطبيب فوجد عنده السرطان من الدرجة الأخيرة فقال له : كل ما شئت .
الدكتور راتب :
الذي معه التهاب معدة يقيم عليه الدنيا ، لو أكل قطعة حامضية ، لأن هذه مادة تحدِث له قرحة ، والآن :
﴿ فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً ﴾
4 ـ مرحلةُ القصمِ :
المرحلة الرابعة القصم ، فجأة بعدما هدم سبعين ألف بيت رئيس الوزارة السابق ، بعد أنْ بالغ في الطغيان ، بعدما قتل النساء والأطفال ، مذبحة صبرا وشاتيلا ، بثانية ، والله يمد في عمره ، قصمه الله ، لا أحد يتعظ :
﴿ إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ ﴾
إن أخذه أليم شديد .
عود على بدئ ، الطغاة أغبى أهل الأرض ، لأنهم ما أدخلوا الله في حساباتهم .
الأستاذ علاء :
نكمل إن شاء الله هذا الأمر في حلقة قادمة ، والآن بقي وقت قليل للفقرة العلمية .
الدكتور راتب :
الموضوع العلمي : التكافلُ عند الدلافين :
يُرى في الدلافين أجمل أمثلة التكافل بين الأم وصغارها ، تربي الأم صغارها لمواجهة كل الأخطار ، تضطر في أثناء هذه التربية إلى سلوك قاس غير مقصود ، هذه الدلافين اليافعة تتسابق مع سفينة ، يقترب أحد هذه الدلافين من القارب كثيراً دون أن يشعر ، والقارب له مروحة قاسية جداً شفراتها حادة ، ربما أصابت الدلافين بجرح كبير ، من الممكن أن تجرحه مروحة القارب جرحاً عميقاً ، تدرك الدلفين الأم خطر هذه اللعبة ، وتأتي إلى صغيرها فوراً تدفع الصغير إلى قاع البحر ، ترسل الأم الغاضبة موجات صوت ذات ذبذبات عالية بأنفها إلى جسم الصغير ، هذه الموجات تدل على غضب الأم ، إضافة إلى تعلم الصغير قليلاً ، الصغير حزين جداً ، تبدأ الأم بالسباحة مع صغيرها بعد هذا التوبيخ الشديد ، وتمسح برحمة زعانفها بزعانف صغيرها ، وهذا يعني المصافحة في لغة الدلافين ، بهذا التصرف تري صغيرها أنها ما زالت تحبه ، وسع علم الله كل كائن ، وفي كل مكان ، يقول الله عز وجل :
﴿ إِلَيْهِ يُرَدُّ عِلْمُ السَّاعَةِ وَمَا تَخْرُجُ مِنْ ثَمَرَاتٍ مِنْ أَكْمَامِهَا وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنْثَى ﴾
الأب إذا عاقب ابنه ينبغي من هذا الدرس بعد حين أن يضمه إلى صدره ، يقول له : إني أحبك يا بني ، وأنا ما عاقبتك إلا من أجل صلاح دنياك ، ليفهم الدرس ، فما مِن تأديب من دون شرح ، من دون شرح صار انتقاما ، صار تشفيًا ، هذا درس نتعلمه من الدلافين .
الأستاذ علاء :
خاتمة وتوديع :
لا يسعنا أعزائي المشاهدين في نهاية هذه الحلقة إلا أن نشكر الأستاذ الدكتور محمد راتب النابلسي ، أستاذ الإعجاز العلمي في القرآن والسنة في كليات الشريعة وأصول الدين بدمشق ، إن شاء الله نلتقي في الحلقة القادمة ، شكراً لك وسلام الله عليك ورحمته وبركاته .