- ندوات تلفزيونية
- /
- ٠31برنامج الإيمان هو الخلق - قناة سوريا الفضائية
تقديم وترحيب :
أيها السادة المشاهدون ، سلام الله عليكم ورحمته وبركاته ، وأهلاً ومرحباً بكم في هذه الحلقة الجديدة من برنامجكم : الإيمان هو الخلق ، ويسعدنا أن نرحب بأستاذنا صاحب الفضل الأستاذ الدكتور محمد راتب النابلسي أستاذ مادة الإعجاز العلمي في القرآن والسنة في كليات الشريعة وأصول الدين بدمشق .
أهلاً وسهلاً بأستاذنا الكريم .
بكم أستاذ علاء ، جزاك الله خيراً .
تأذن لي سيدي ، كل فترة نحن نود أن نشرح عنوان البرنامج ، وصلة البرنامج بالموضوعات المطروحة ، وأن نذكر بأنك منذ الحلقات الأولى من البرنامج بدأت من مقومات التكليف التي وضعها الله عز وجل ليكلف ذلك الإنسان المكرم بالتكليف ، والذي ميزه عن بقية المخلوقات بالتكليف ، فكان هنالك من المقومات أشياء محددة واضحة ، منها الكون ، ومنها العقل ، ومنها الفطرة ، ومنها الشهوة ، إلى أن نأتي إلى الاختيار ، ثم الشرع ، وتحدثت في الكون ، ثم العقل ، ثم الفطرة ، وحططنا الرحال عند الشهوة ، وأوسعنا في هذه المسألة حلقات كثيرة لحساسية هذا الأمر ، ولعدم فهم واضح لدى جمهرة كثيرة من السادة المشاهدين في هذه القضية ، تحدثنا عن الجنس ، وتحدثت عن المال ، وتحدثت أن الجنس ، وأن المال هي قوى كامنة ، هذه القوة الكامنة إذا فجرت ، وإذا استخدمت في أطرها ، وفي مجاريها تحولت إلى طاقة بناءة ، وتحولت إلى النهوض ، وحالة من التقدم ، وإذا استخدمت في غير مكانها تحولت إلى حريق أحرقت ما حولها ، وأحرقت صاحبها كالوقود البنزين ، عندما ينفجر في المحرك المخصص له يسبب الانفجار ، ويتحول إلى حركة ، ويتحول إلى تقدم ، ونقل وتنقل وقوة نافعة ، أما إذا احترق البنزين خارج هذه الحجرة المخصصة تحول إلى كارثة بكل معنى الكلمة .
هل لنا أن نقف عند مسألة المال ، ونذكر السادة المشاهدين بالتسلسل كيف أن المال قوام الحياة ، وأن الإنفاق فيه حياة ، وفيه قوة ، وفيه تقدم ، والشح في النفس ، ومدافعة هذا الشح للإنفاق ، هل لنا أن نلخص حتى نصل إلى قضية ما هو الوضع الصحي للمال في المجتمع المراد بناءه ، والذي أراده الله لنا ؟ .
الدكتور راتب :
تذكيرٌ بما سبق :
بسم الله الرحمن الرحيم ، الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين .
أستاذ علاء ، جزاك الله خيراً ، نحن في موضوع المال بدأنا بأن المال قوام الحياة ، فالله عز وجل يقول :
﴿ وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَاماً ﴾
إن قيام حياتكم بالمال ، فالمال شيء أساسي جداً في حياة الإنسان ، لكننا في موضوع آخر بيّنا أن المال محبب إلى النفس .
﴿ وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبّاً جَمّاً ﴾
﴿ زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ ﴾
ولولا أن المال محبب إلى النفس لما ارتقى الإنسان بإنفاقه ، لأن في التكليف ما يتناقض مع الطبع ، طبع الإنسان يقتضي أخذ المال ، التكليف يقتضي إنفاق المال ، إذاً : المال محبب إلى النفس ، ولهذا يكون إنفاق المال سبباً لعروج الإنسان إلى رب الأرض والسماوات .
ثم تحدثنا أن المال حيادي ، ولأن الإنسان مخير ، كل شيء في حياته حيادي ، بدءاً من شهواته ، ثم إلى حظوظه ، ثم إلى خصائصه ، في خصائصه ، وفي شهواته ، وفي حظوظه الأشياء كلها هذه حيادية بالنسبة إلى الإنسان ، إما أن تكون سلماً يرقى بها إلى أعلى عليين ، أو نهوي بها إلى أسفل سافلين .
وبعد ذلك تحدثنا عن أن إنفاق المال أحد أكبر وسائل التقرب إلى الله ، فالله عز وجل يقول :
﴿ لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ﴾
قال بعض المفسرين : آتى المال وهو يحب أخذه لا إنفاقه .
وقال بعضهم الآخر : آتى المال لأنه يحب الله عز وجل ، الأول على الحال والثاني على التعليل ، فصار إنفاق المال دليل محبة الله عز وجل ، من هنا ورد تعريف الزكاة في القرآن على أنها صدقة ، تؤكد صدق الإنسان في محبته لله عز وجل .
ثم بينا في حلقات سابقة أن الإنسان مسؤول مسؤولية مشددة عن كسب المال وعن إنفاقه ، لقول النبي عليه الصلاة والسلام :
(( لاَ تَزُولُ قَدَمَا عَبْدٍ يَوْمَ القِيَامَةِ حَتّى يُسْأَلَ عَنْ عُمْرِهِ فِيمَ أَفْنَاهُ ، وَعن عِلْمِهِ فِيمَ فَعَلَ ، وعن مَالِهِ ـ سؤالان ـ مِنْ أَيْنَ اكْتَسَبَهُ وَفيمَ أَنْفَقَهُ ، وعن جِسْمِهِ فِيمَ أَبْلاَهُ ))
هذا عرض سريع للموضوعات الكبرى التي عالجنها قبل أن نصل لهذا الموضوع الذي سوف نعالجه اليوم إن شاء الله تعالى ، وهذا الموضوع الذي سوف نعالجه اليوم كما تفضلت قبل قليل الوضع الصحي للمال .
الأستاذ علاء :
كيف يكون الوضع صحياً بالنسبة للمال ؟ .
الدكتور راتب :
الوضع الصحي للمال :
كلُ شيء له قيمة فهو مال :
الله عز وجل هو الخالق ، وهو الممد ، حينما خلق محبة المال في نفس الإنسان وحينما جعل المال وهو الشيء الذي له قيمة ، نحن حينما ننطق بكلمة مال يقفز إلى الذهن أنه الأموال الورقية ، أو الذهبية ، أو الفضية ، أو الأرصدة أو السندات ، لكنه في الحقيقة كل شيء له قيمة فهو مال ، فالبيت مال ، والبضاعة مال والسيارة مال ، والمزرعة مال والثروات مال ، والمواد الأولية مال ، الذي عنده مئة طن ألمنيوم هذا مال ، فالمال الشيء الذي له قيمة ، يمكن أن يباع ويشترى .
كيف يكون الوضع المالي صحيا ؟
تداولُ المال بين كل أفراد الأمة :
فالوضع الصحي للمال حينما أراده الله عز وجل أن يكون قوام الحياة ، الذي جعل الله لكم فيه قوام ، فقوام الحياة المال ، هذا المال في الأصل عند الله عز وجل ينبغي أن يكون متداولاً بين كل أفراد الأمة ، هذه الحقيقة ، الدليل :
﴿ كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ ﴾
هناك وضع صحي ، وهناك وضع مرضي ، الوضع الصحي أن يكون المال متداولاً بين أفراد الأمة ، أن يكون لكل إنسان بيته ، وأثاث بيته ، وطعامه ، وشرابه وكساءه ، وما يكفيه لمعالجة بعض الأمراض ، حينما يكون للإنسان مال يغطي حاجاته الأساسية ، وهذا مطبق في معظم طبقات الشعب ، إذاً : المال أصبح متداولاً بين أفراد الأمة هذا لا يعني أن الإنسان يأخذ ما ليس له ، ولا يعني أن الإنسان لا يعمل ، لكن كل إنسان بعمله ، إلا أن هناك حداً لا بد من أن يكون متوافراً للإنسان تحقيقاً لكرامته الإنسانية .
حينما لا يستطيع أن يعمل يكون عاجزاً ، أو حينما يكون دخله لا يكفي لحاجاته الأساسية ، لا بد من أن يكون لولي الأمر جهد لتأمين هذه الحاجات الأساسية ، فالمال قوام الحياة .
الأستاذ علاء :
يكاد الفقر أن يكون كفراً ، وأيضاً لسيدنا علي قول : << لو الفقر رجلا لقتلته بسيفي هذا >> ، هذا الفقر ينال الإنسان قدراً مقدورا ، أم له دور في هذا الفقر ؟.
الدكتور راتب :
أنواع الفقر :
الحقيقة أن العلماء قسموا الفقر إلى أنواع ثلاث :
1 – فقرُ الكسل :
النوع الأول : فقر الكسل إنسان مهمل ، مقصر ، كسول ، إرجائي ، لا يلبي حاجات الآخرين في حرفته ، وفي عمله دائماً يميل إلى الراحة ، والاسترخاء ، والاستلقاء ، ويؤجل ، ويؤخر
هذا الإنسان طبعاً سيكون فقير ، هذا فقر مذموم ، اسمه فقر الكسل ، صاحبه مذموم عند الله وعند الناس .
الذي أريد أن أقوله أن الإنسان حينما يقوم بأعماله الاعتيادية ، التعاملية ، وهو مؤمن إيمانًا بالله قويا ، ومخلصا في عبادته ، تصبح عاداته عبادات ، عادات المؤمن عبادات ، وإذا دخل الإنسان إلى محله التجاري ، أو إلى مكتبه الهندسي ، أو إلى عيادته كطبيب ، أو إلى حقله كمزارع ، إلى المعمل كعامل ، وأتقن عمله ، وكان هذا العمل في الأصل مشروعاً ، وسلك به الطرق المشروعة ، وابتغى به كفاية نفسه وأهله ، وخدمة الناس ، ولم يشغله لا عن طلب علم ، ولا عن فريضة ، ولا عن عمل صالح انقلبت حرفته إلى عبادات ، وهو في حرفته ، فما قولك بإنسان يدخل إلى محله التجاري ، وفي نيته أن يقدم للناس خدمة جليلة بربح معقول ؟ دخل إلى عيادته ، وفي نيته أن يسهم في حل مشكلة الناس الصحية ، دون أن يبتز أموالهم ، دخل إلى مكتبه في المحاماة ، وفي نيته أن يحق الحق ، و أن يبطل الباطل .
عادات المؤمن عبادات :
كل مؤمن حينما يؤمن بالله الإيمان الصحيح ، وحينما يعبد الله العبادة الخالصة ، الآن أعماله اليومية الاعتيادية ، حرفته ، ذهابه وإيابه ، تربية أولاده ، لو أخذ أهله إلى نزهة ، لأنه أراد تمتين العلاقة بينه وبين أولاده ، لو أراد أن يدخل الفرح على قلوب الصغار ، هو في عبادة .
﴿ وَلَا يَقْطَعُونَ وَادِياً ﴾
﴿ وَلَا يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلاً إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ ﴾
لذلك قال العلماء : عادات المؤمن عبادات , حتى في البضع ؟ حتى في البضع ، لأنه لو لم يكن بهذا الطريق المشروع لكان في طريق حرام يفسد فتاةً ، وينهي مستقبلها ، الفتاة حينما تتزوج لها مستقبل كبير ، لها بنات ، ولها أصهار ، ولها أولاد ، ولها زوج وفيّ ، ولو أن جمالها قد زوى في سن متأخرة ، لها مكانة من نوع ثانٍ ، مكانة الحكمة والمرجعية للأسرة ، أما حينما يخلط الإنسان بين قضاء شهوته وبين الزواج ، يخلط بينهما هذه الفتاة فسدت ، ما دام فيها فسحة من جمال تعيش عن طريق الغير مشروع ، أما حينما يكون هناك زواج فهناك مستقبل كبير للفتاة .
(( وَفِي بُضْعِ أَحَدِكُمْ صَدَقَةٌ ))
هذا الحديث الذي قاله النبي الكريم ، إذاً : المؤمن حينما يقوم بأعماله الاعتيادية ، لأنه سبق هذه الأعمال إيمان بالله ، ومعرفة به ، واستقامة على أمره ، وعبادة خالصة له ، إذاً : كل أعماله تصب في خانة واحدة ، وهي الخير .
لذلك أعمال المؤمن عبادات ، وعبادات المنافق سيئات ، العبادات الخالصة الصلاة ، والصوم ، والحج هذه العبادات الشعائرية الخالصة يقوم بها مراءاة ونفاقاً ، لانتزاع إعجاب الناس .
إذاً : النقطة الدقيقة جداً : أن الفقر أنوع ، فقر الكسل ، وهو فقر مذموم عند الله وعند العباد .
2 – فقرُ القَدَر :
عندنا فقر القدر ، إنسان معه عاهة تمنعه أن يكسب المال ، إنسان لا يجد عملا يقوم به ، هو فقير ، هذا فقر القدر وصاحبه معذور ، والمجتمع متكفل به ، على أساس الضمان الاجتماعي ، المجموع يجب أن يحمل الفرد ، وأن يقدم له الحاجات التي تليق بكرامته .
3 – فقرُ الإنفاق :
لكن وسام الشرف الأكبر هو فقر الإنفاق .
(( يا أبا بكر ماذا أبقيت لنفسك ؟ قال : الله ورسوله ))
فهناك فقر الإنفاق ، وفقر الكسل ، وفقر القدر ، إذاً المال قوام الحياة .
الأستاذ علاء :
سيدي ، هل يقال في هذا : إنه حالة خاصة لسيدنا أبي بكر الصديق ؟ أم ممكن أن يتشبه به أي إنسان ؟.
الدكتور راتب :
كل إنسان معه مال ، وحوله أناس فقراء ، وصادقون ، وفي قلبه رحمة ، ويبتغي الله والدار الآخرة ، إذاً لا بد من أن ينفق ماله ، الأموال المكدسة بالمليارات هذه لا تكون مع الإنفاق ، لا بد من أن تنفق من هذا المال ، لكن :
﴿ وَرَحْمَةُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ ﴾
الحديث عن جمع الأموال ، فقد يتباهى الأغنياء الذين ما عرفوا الله ، يتباهون بثرواتهم النقدية ، فلذلك :
﴿ وَرَحْمَتُ رَبِّكَ ﴾
إذا تجلى الله على قلبك ، إذا كان في قلبك رحمة ورحمت الناس ، وأنفقت من أموالك في حل مشكلاتهم ، يأتيك من الله رحمة لا تقدر بثمن ، هذه الرحمة تسعد بها في الدنيا والآخرة .
(( إن كنتم ترجون رحمتي فارحموا خلقي ))
إذاً : المال قوام الحياة ، وأراده الله أن يكون متداولاً بين أفراد الأمة .
الأستاذ علاء :
اسمح لي سيدي ، هذه إرادة إن خالفها الإنسان تستحيل إلى فقر للمجتمع ، لذلك هل نستطيع الإضافة إلى فقر الكسل ، فقر القدر ، فقر الإنفاق ، هنالك الفقر الذي يكون من خلال حجب طبقة ضيقة للمال عن أبناء المجتمع .
الدكتور راتب :
طبعاً ، لذلك مشروعية فرض الزكاة هذا المال إن لم تستثمره في حقل نافع ، في تجارة ، أو في صناعة ، أو في زراعة إن الزكاة تأكله ، تأكله الزكاة ، قال عليه الصلاة والسلام :
(( اتجروا في أموال اليتامى لا تأكلها الزكاة ))
أحد أحكام فريضة الزكاة أن هذا المال إن لم تستثمره في مجال صناعي ، أو زراعي ، أو تجاري فإن الزكاة وحدها تستهلكه في أربعين عاماً ، لهذا كانت الزكاة دافعاً إلى استهلاك المال ، ولهذا أراد النبي عليه الصلاة والسلام أن نطعم اليتيم لا من أصل ماله ، بل من ريع ماله .
﴿ وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا ﴾
فرق كبير بين :
﴿ فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ ﴾
وبين
﴿ وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا ﴾
يجب أن تطعم اليتيم من ريع ماله ، لا من أصل ماله ، هذا من حكمة الله عز وجل ، ومن أن الاستثمار هو من أفضل أساليب التعاون بين الناس .
هناك طرق مشروعة لاستثمر المال :
الحقيقة حينما يثمر المال عن طريق الربا ، البديل له الشرعي المضاربة ، كإنسان معه مال ، وهو كبير في السن ، لا يحسن استثمار المال ، طفل يتيم معه مال ، إنسان لا يعرف كيف ينمي هذا المال ، إنسان آخر كتلة من النشاط والحيوية والخبرة ، وما معه مال ، فإذا تعاون أصحاب الأموال مع أصحاب الخبرات ، وكان الربح بينهما هذا هو البديل ، الاستثمار المال فيه راحة ، وصاحب المال ليس عبئاً على الخبير ، يجب أن يأخذ الربح الثابت وهو الربا ، أبداً ، يأخذ الربح إذا ربح ، فإن لم يربح لا يأخذ شيئا .لذلك ما من شيء حرمه الله إلا وجعل له قناة نظيفة رائعة ، لكن الطرف الآخر يشوه هذه القناة النظيفة الرائعة ، لمصالح ولأهواء لا تتماشى مع تطبيق منهج الله عز وجل .
بذخ طائفة تكون على حساب فقر طائفة أخرى :
إذاً : المال قوام الحياة ، وأراده الله أن يكون متداولاً بين أفراد الأمة .
هذا مثل دقيق :
لو أن إنسانًا جاء إلى البيت بكيس كبير من البرتقال ، فيه مئة برتقالة فرضاً ، وعنده خمسة أولاد ، كيفما أكلوا فالوضع ضبابي ، أما لو أتى بعشر برتقالات مثلاً ، كل ولد له برتقالتان ، فإذا أكل أحد الأولاد ثلاث برتقالات فقد جعل لبعض إخوته برتقالة واحدة ، وإذا أكل أربع برتقالات حرم أحد إخوته من البرتقال .
هناك تصميم إلهي عجيب ، أن أمة إذا بذخت على حساب أمة تموت من الجوع ، وأن الغني إذا اتخم فعلى حساب جوع الفقير ، لأن هذه الدنيا دار ابتلاء ، أنت حينما تنفق الأموال الطائلة في شهوات ، وفي مسالك لا ترضي الله عز وجل ، يقابل هذا البذخ والترف أناس يموتون من الجوع ، يكون أثرُ عمل هذا الإنسان المتفلت من منهج الله واضحا عند الناس .
الأستاذ علاء :
كمية الماء الثابتة تمطر في مكان ، بالمقابل تمحل في مكان آخر .
الدكتور راتب :
هناك حكمة إلهية ، أن الإنسان إذا خالف منهج الله سيكون لعمله أثر سيء ، ويحاسب عليه يوم القيامة ، لذلك ما اُتخم غني إلا من جوع فقير ، ولا اغتنت أمة معتدية ، ونهبت ثرواتها أمم أخرى إلا على حساب أمم تموت من الجوع ، هذه حكمة الله عز وجل .
إذاً : المال قوام الحياة ، ويجب أن يكون متداولاً بين أفراد الأمة ، الوضع الصحي ، الوضع الإيماني ، الوضع الحضاري أن يكون معظم الناس في مستوى معيشي متقارب ، بيت مأوى ، مركبة متواضعة ، مستوصف ، مستشفى ، طرق معبدة ، شيء يستمتعوا به كل الناس ، أما بأي مكان بالعالم في أناس يتخمون ، وينفقون أموالاً بغير حساب ، مقابل الوضع هناك أناس قد حُرموا من كل شيء .
الأستاذ علاء :
سيدي الكريم ، من هذا المنطلق جاء الحديث النبوي :
(( الْمُسْلِمُونَ شُرَكَاءُ فِي ثَلَاثٍ : فِي الْكَلَإِ وَالْمَاءِ وَالنَّارِ ))
الموارد الأساسية للمجتمع يجب أن تكون دولة مجتمعية .
الدكتور راتب :
هذا من مهمات أولي الأمر ، الماء مرفق أساسي جداً ، حتى إن الله عز وجل حينما أهلك بلدة وصفها وصفاً جامعاً مانعاً دقيقاً فقال :
﴿ وَبِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ وَقَصْرٍ مَشِيدٍ ﴾
المرفق الأساسي لكل الناس معطل ، وأناس أغنياء غارقون في النعيم في قصورهم ،
﴿ وَبِئْرٍ مُّعَطَّلَةٍ وَقَصْرٍ مَّشِيدٍ ﴾
التفاوت الطبقي ، أنا أرى أنه وراء شيوع الدعارة في المجتمع ، شيوع الاحتيال ، السرقة ، النهب ، والله هناك أمراض لا تعد ولا تحصى أساسها الفقر ، أو أساسها التفاوت الطبقي ، لو أن المجتمع كله فقير فهناك تفسير ، أما أناس يترفون ترفا غير معقول أمام أناس تحت سمعهم وبصرهم فقراء ، محرومون من كل شيء ، هذا المجتمع لا بد من أن ينفجر .
فلذلك الوضع الصحي أن يكون المال متداولاً بين أفراد الأمة ، لأن الله عز وجل يقول :
﴿ كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاء مِنكُمْ ﴾
الأستاذ علاء :
سيدي ، الآن الوقت المتبقي للفقرة العلمية ماذا أعددت لنا :
الدكتور راتب :
الموضوع العلمي : النحل :
1 – النحل المعماري الماهر :
الحقيقة أن هناك في عالم الحشرات النحل ، وهو من المعماريين المهرة ، فعند خروجنا إلى المروج في يوم مشمس يشد انتباهنا الجمال الأخاذ للأزهار ، وحينما ندقق في هذه الأزهار عن قرب أكثر نشاهد كائناً عجيباً آخر هو النحل ، والنحل أمهر المعماريين نظاماً في الطبيعة .
2 – من أعاجيب خلايا النحل :
تعيش النحل على شكل مستعمرات ، وتنتج العسل الذي هو واحد من أكبر الأغذية على وجه الأرض ، أما العسل الذي تنتجه فتخبئه في الخلايا التي تبنيها في نفسها بأشكال سداسية ، هل فكرنا لماذا أنشأ النحل الخلايا بشكل سداسي حصراً ؟
بحث علماء الرياضيات عن جواب هذا السؤال ، ووصلوا إلى نهاية عجيبة بعد حسابات طويلة ، الطريقة المثلى لإنشاء خزان يستهلك أقل المواد ، ويستوعب أكبر حجم تخزيني ، هو أن تبنى جدرانه بشكل سداسي ليقاوم بالأشكال الأخرى ، لو أنشأنا خلايا بدلاً عن السداسي بشكل أسطواني أو خماسي لظهرت فراغات بينية ، ولو أردنا أن نلغي الفراغات البينية فأنشأنا مربعات المسدسات ، ما الذي يحصل ؟ تخزين العسل في أقراص مثلثة أو مربعة يمكن دون أن يبقى فراغ بينها ، لكن هناك مغزى أدركه علماء الرياضيات ، فالشكل المسدس أقصر محيطاً من بين أشكال الهندسية المحيطة ولذلك رغم كونها بالأحجام نفسها ستكون المواد الأساسية المطلوبة في الأقراص المسدية أقلّ من المطلوب من المسدس والمربع ، وباختصار الخليلة السداسية الشكل تؤمن أكبر مكان لتخزين ، وبأقل شمع ، فالنحلة تستخدم أمثل شكل ممكن .
لكن هناك شيء لا يصدق : أما الخصائص المحيرة الأخرى للنحلات تتجسد في ذلك التعاون الرائع في أثناء بناء الخلايا ، عندما يرى الإنسان خلية أُنهي بناؤها ، يظن أنها أنشأت كقطعة واحدة ، نحن في عالمنا ليس هناك إنسان يبدأ بتبليط غرفة من جهة ، وإنسان من جهة ، ثم يلتقيان على بطاقة نظامية ، هذا مستحيل ، أما عند النحل فهناك مجموعة من النحلات تبدأ من كل الجهات ، وتصل إلى الوسط بمسدس ، لا يزيد ولا ينقص ميليمترا ، هذا شيء فوق طاقة البشر .
تبدأ النحلة ببناء الخلايا من زوايا مختلفة ، تبدأ مئات النحل من ثلاثة أو أربعة أماكن متفرقة لإنشاء الخلية ، وباستمرار بناء الخلية تجتمع في النهاية في الوسط ، ليس هناك أي خطأ أو عدم تناسق في نقطة الالتقاط ، تحسب النحل في أثناء نسج الخلايا الزوايا بين فتحات الخلية أيضاً ، فتحات الخلية التي تبقى ظهراً لظهر تنشأ حتماً بزاوية مائلة 13 درجة نحو الأرض ، هذا الميل يمنع سيلان العسل وانزلاقه على الأرض ، مع أن هذه الخلايا تبنى غالياً في أماكن مظلمة لا يدخل إليها الضوء إطلاقاً هناك حقيقة مدهشة أيضاً تظهر أن النحل بهذه الخصائص الفائقة تعرفها منذ ولادتها ، ولا تتعلم صنع الخلية أو تعيين الجهة تدريجاً بل تكون على استعداد للقيام بهذه الأعمال بمجرد ولادتها ، لذلك الله عز وجل يقول :
﴿ وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتاً وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ * ثُمَّ كُلِي مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلاً يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِهَا شَرَابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ فِيهِ شِفَاءٌ لِلنَّاسِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ ﴾
الأستاذ علاء :
في الحقيقة كنا نود أن نستمر ، وأن نستمتع ، لكن الوقت يداهمنا دائماً ، لا يسعني في نهاية هذه الحلقة إلا أن أشكر أستاذنا الدكتور محمد راتب النابلسي أستاذ مادة الإعجاز العلمي في القرآن والسنة في كليات الشريعة وأصول الدين .
شكراً جزيلاً وإلى اللقاء .